عزل اليهود وبناء الملاح

أخبر طوريس بأن المولى عبد الله"أمر أيضا أن يبنى في المدينة ملاح عليه سور في ساحة واسعة على مقربة من الباب الذي منه يخرجون إلى فاس (وهو باب اغمات في ذلك العهد)...ليجتمع فيه اليهود وذلك أنهم كانوا، لعهدي بهم، سيكنون ملاليح متفرقة"، ولا مراء أن السلطان دعته دواع قاهرة إلى نقل جميع يهود المدينة داخل حارة مسورة واحدة؛ ولعله جرى في ذلك على مثال فاس، وأيضا إلى بناء المسجد الذي كان ينوي إقامته في وسط المدينة، في الموضع عينه الذي كان حارة من حارات اليهود؛ لكن لاشك أن السبب الأهم هو تكاثر اليهود، وقد كانوا قلة قليلة على عهد بني مرين، ولعل طائفتهم هاجرت من فاس إلى مراكش عندما صارت حاضرة الدولة الجديدة، وعندما شرع المولى عبد الله في التشييد في البلاد كلها في وقت واحد. وسوف نرى ان المساحة التي خص بها اليهود كانت واسعة.
أخبر الإفراني أن أشغال البناء بدأت سنة (970هـ/1563-62م) غير أنه تواتر عن يهود المدينة أنه في سنة 5317 من تاريخهم (965هـ/1558-57)، كلف السلطان الجديد الحاخام مردخاي بن عطار بالقيام على هذا البناء، وبتدبير الأموال التي ‏سلمت إليه ولما ‏كان الإفرإني قد أرخ بسنة 970هـ لبدء أشغال بناء مسجد المواسين، وأنه لم تبدأ إلا بعد أن خرج اليهود عن الموضع الذي كان مزمعا إقامة المسجد عليه، أي عندما فرغ من بناء الملاح، فإني أرجح التاريخ المذكور في الخبر اليهودي على التاريخ الذي ذكره صاحب (نزهة الحادي)، ومع هذا كله، ما يزال تاريخ نقل اليهود من المدينة القديمة إلى الملاح الجديد أمرا مشكلا، سواء أكان ذلك في سنة (965هـ/1558-57م)، أم في سنة (970هـ/1563-62م)، لأن ابن المولى عبد الله نهب اليهود، في شهر مارس من سنة 1577 9 ذي القعدة 984-10 محرم 985هـ وهم ما يزالون مقيمين في المدينة، وأنه يحكى أنه في سنة 5358 من تاريخهم 1066هـ/1598م دفن يهودي في وسط المدينة، مع أنهم كانوا يدفنون في المقبرة اليهودية القائمة اليوم منذ سنة 1002هـ/1594م.

اسم الملاح

‏لقد بين غودفري دممين أن هذا اللفظ لم يكن أصل معناه - كما زعموا من حارة اليهود الذين كان عليهم أن يملحوا (من لفظة "الملح" العربية) رؤوس الثوار لعرضها على الملأ، وإنما الملاح اسم موضع بعينه كان بفاس الجديد، لعل اليهود استقروا فيه مع مطلع القرن 9هـ/15م ثم صار اسما مشتركا، وانتقل من فاس إلى غيرها من مدن المغرب، للدلالة على الحارة الخاصة باليهود. أما مراكش، فلم يظهر لفظ الملاح بها إلا في سنة (1048هـ/1639م) في وثائق يهودية، وفي النصف الثاني من القرن 11هـ/17م في نص عربي ولم يقع في المصادر الفرنسية إلا في سنة 1173هـ/1767م غير أن القنصل الدنمركي هست، وكان مقيما بمراكش بين سنة 1173هـ/1760م وسنة 1181هـ/1768م، كان يعرفه. أما قبل ذلك، فكان الكتاب الأوربيون يسمون الملاح بالاسم الدال على حارة اليهود في لغاتهم.

خطته:

‏الظاهر أن الملاح السعدي كان على صورة مستطيل منتظم كبير جدا (ذرعه 700×250م بالتقريب)، مساحته قريب من ثمانية عشر هكتارا، على الجانب الشرقي منه قطعة أرض من ثمانية هكتارات، رصدت لتكون مقبرة، وربما أيضا بحيرة ريثما تغطيها القبور. وقد أدهش حجمه جان موكي: "فقد وصل إلى مراكش سنة 1014م/1606هـ"، وذكر أنه "يمكن أن يكون على قدر مو  Meauxفي السعة، وأيضا طوماس لوجندر فقد زار مراكش بين سنتي(1027-1034هـ) (1618-1625م). وذكر أن "المساحة العظيمة المسورة بأسوار عالية على قدر ماني Magny في السعة"، (وماني مدينة صغيرة في الفكسان Vexin على الطريق من باريس إلى روان)، وتيسر لنا الخريطة البرتغالية المؤرخة بسنة 993هـ/1585م. وتصميم لمبير المؤرخ بسنة (1284هـ/1867م)، تعيين حدوده إلا من جهة الشرق. فحده من جهة الغرب سور القصبة الموحدي السعدي، وقد اندثرت اليوم أبراجه كلها، إلا ربما واحدا؛ لكن السجف فيه واقع جهة باب شكيرور في تصميم لاراس المؤرخ بسنة 1317هـ/1899م. ومن جهة الشمال يستطيل في الخريطة البرتغالية وصورة ماطام، بجدار عليه شرافات ذات هريمات (وما تزال قاعدتا شرافتين ماثلتين في أحد سطوح الملاح القائم اليوم). ولكي يلتقي هذا الجدار بباب الملاح القديم الذي كان يشرع على الغرب، تراه ينعطف عطفتين، لا تدرك الغاية منهما اليوم. والباب والعطفتان ظاهران بارزان في الخريطة البرتغالية، وفي صورة ماطام أيضا إلى اليمين لم. ومن جهة الجنوب، تؤكد الخريطة والصورة وجود سور مدعم مقوى، يبدأ من الركن الجنوبي الشرقي من القصبة الموحدية السعدية، ويتجه إلى الشرق. أما في جهة الشمال، فبما أن جزءا من السور المرابطي قد اندثر، فالظاهر أن سور الملاح كان هو السور الماثل اليوم، إلا أنه يستطيل في اتجاه الشرق، كما يؤكد ذلك تصميم لمبير، وينتهي عند التقائه بالسور الشرقي من الملاح. أما في جهة الشرق، فالسور البديع الذي يفصل حومة بريما عن جنان العافية مشهور النسبة إلى السعديين، ولاشك أنه لم يبنه غيرهم، ولعله من الشاذ أن يتوقف حيث نجد اليوم طرفه الشمالي: فالراجح أنه كان يستطيل إلى أن يتصل بالسور الشمالي من الملاح. وقد اندثر من طوله نصفه، ولعل سبب :لك الفيضانات المدمرة التي كثيرا ما أتت على هذا الجزء من مراكش، في القرنين (10و11 هـ) 16 و17 م .

‏إذن كان الملاح السعدي يمتد على مساحة الملاح القائم اليوم كلها ‏وعلى جميع مساحة حومة بريما. لكنه يستفاد من صورة ماطام أنه لم يكن يحتل جميع المساحة الواقعة بين الحدود المذكورة. وفي نهاية عهد السعديين لم يبق منه وسط هذا الفضاء الواسع سوى مجموعة صغيرة من البنايات تحميها أسوار، لعلها - في الجهة الشرقية - هي بقايا السور المرابطي القديم، وذلك أنه من البين أن الملاح قد بني على جانبي هذا السور. أما الجدار الذي يحمي مقبرة الملاح من جهة الشرق، فالظاهر أنه ‏أصلي : فأقدم القبور بين يديه واقعة عند أساسه. والظاهر أنه كان يحده من جهة الجنوب قطعة بديعة من جدار عتيق، لا يعلم أحد عنها شيئا، تنطلق في انحراف من الركن الجنوبي الشرقي فتصير بها المقبرة على هيئة مربع شبه منحرف، ما تزال هيئتها شبيهة به إلى اليوم.

الباب القديم:

‏ما يزال ماثلا إلى اليوم، إلى اليسار في قاع الطريق العريض المؤدي إلى الملاح القائم اليوم وقد سقط عنه البرجان اللذان ‏كانا يحميانه في الخريطة البرتغالية. ومن المأثور عند القوم أن الباب كان ‏له اسم خاص إلا أنه استحال العثور عليه. ويروي خبر آخر سمعه الفقيد جان فلاس (هو جوزي بنيش josé benech ) أن كبير حاخامات الطائفة دفن في الباب وقت بنائه، مخطوطا قيد فيه دعاء لهم، وتبنت الثقافة الشعبية هذا الحادث، فزعمت أن الحاخام مردخاي بن عطار دفن في أحد الأعمدة جرة ‏زيت، لا مخطوطا راجيا من الله أن يدفع عن الملاح هجوم الأعادي، وأن يقيه النهب. ولاشك أن الباب قد اضطلع بهذا الدور، لأن الباب القديم، إلى يومنا هذا، تعظمه بنو إسرائيل بمراكش.

 

 

كان ملاح مراكش النظير اليهودي للقبة الإسلامية. كان مدينة قائمة الذات، ببيعها، ومقبرتها، وأزقتها التجارية، وأحيائها السكنية، وبحيرتها، وسقاياتها، وفنادقها، وأبوابها، وأعيانها، وصناعها، وفقرائها، تعلو ذلك كله طبقة الحاخامات والمترفين من حديثي النعمة.

 

 

لامبريير هو الوحيد الذي يحدثنا بشي من الإسهاب عن ملاح مراكش على عهد سيدي محمد. فربما كان عدد اليهود كبيرا، وتفيد لوحة هست 1760 ‏أن توسعته نحو الجنوب لم تبدأ بعد في ذلك التاريخ. وأما دروبه الثانوية الضيقة جدا ورائحته التي يتعذر على المرء تحديد طبيعتها أو تحملها ومنازله المحكمة الإغلاق العاجة بالسكان ، فهي ما تزال كما وصفها بدقة كل أولئك الذين زاروا الملاح بين القرنين الثامن عشر والعشرين .
‏وأما اليوم فهناك ميزة في الملاح تستحق الذك، وهي تصميمه الذي جاء على هيئة الصليب المعقوف (السفاستيكا). فالساحة المركزية تنطلق منها ‏أربعة أزقة رئيسية. ونحن نجهل اليوم صاحب هذا التصميم، ولعله صاموئيل ‏سبل يهودي من أصل فرنسي أو ألماني، وهو أحد رجال الملك، وكان يحظى بثقته، ولم يكن وزيرا وقد ترك بصماته بالمدينة.

‏ولئن كنا نجهل تاريخ إخضاع أشغال البناء لقوانين هذه التجزئة الجديدة فنحن نعلم أن السكان اليهود يحبون السلم والعمل، وكانوا قد يشعرون بالأمن بجوار إقامة السلطان، وليس بعيدا عنها. ومعلوم أن سيدي محمدا قد أعاد الأمن إلى المدينة كلها  تلك الأزمات التي سبقت مجيئه إلى مراكش. فأعاد الحاشية إليها وشيد بها بنايات عظيمة: لنا أن نتصور إذن النتائج الحميدة التي ترتبت على ذلك كله ومنها نمو عدد اليهود بالعاصمة ولا نجازف إن استنتجنا أن الملاح قد استعاد في نهاية دولة سيدي محمد الأكبر جزءا من الأهمية والازدهار اللذين عرفهما على عهد السعديين وما يرجح هذا الرأي هو أن صليب ملاح مراكش المعقوف تتكرر بمكناس في تصميم مراحيض مسجد بني في عهد المولى إسماعيل، جد السلطان سيدي محمد.

 

قدر طوريوس أن ملاح المولى عبد الله يمكن أن يسع ألفي نفر، وقدر موكي، بعد ذلك بمدة طويلة، أنه وسع ضعف ذلك. وجاء في "البعثة التاريخية" أنهم ستة آلاف: ففيه أن لهم كثير من البيع والظاهر أن هذه لم تكن بالكثيرة فيما بعد: فبعد طوماس لوجندر بيعتين وفي سنة (1049هـ/1640م)، أكد هذا العدد ماطام في صورته، وألحق أنهما كبيرتان، على ما يظهر في الصورة، وهندستها تذكر بهندسة البيع اليوم: بنايات مربعة، ربما كان عليها أروقة، وبها فحل ثماني الأضلاع، رأسه كالشوكة، ونوافذ عالية كثيرة، وفي النصوص اليهودية رقة كبيرة عندما تتحدث عن بيعهم، لأنهم كانوا يرون فيها رمز طائفتهم: فهي بيوت صلوا ودراساتهم واجتماعاتهم، ومقر تدبير شؤونهم الاجتماعية والدينية، وفيها كانت تشرع القوانين ويعلن عنها؟ وفيها كان يعلن عن التحريمات وعن إلغائها. كانت البيعة قرينة أفراح أهل الطائفة وأتراحها جميعا أضف إلى ذلك أن اليهود عاشوا في ظل الإسلام، إلا أنهم اكتسبوا ضربا من الحضارة´تحصل لهم من الخارج، لاسيما من يهود أسبانيا، لأن مقدمهم لاشك بعث الحياة في الطوائف الحضرية .
أما يهود الأندلس، فكانوا من أهل العلم، وعلى بينة من التجارة الأوربية، فكان لهم نصيب وافر في رخا، السعديين. وسرعان ما ترقوا إلى أعلى مراتب التجارة ، فحسدهم على ذلك رجال الأعمال الأوربيون وحقدوا عليهم، إلا الأنجليز فإنهم قاوموا نفوذهم أحيانا .
وقد كان يهود البرتغال بأستردام يحتكرون التجارة مع المغرب ، باعتمادهم على أهل ملتهم المقيمين في المرافئ المغربية. واشتهر اسم آل فلاخ Pallach وهم من أصل مجهول لوقوعه في عدد كبير من الوثائق ، مما نشر في "‏الوثائق الغميسة في تاريخ المغرب" كان لهم نفوذ كبير، لاسيما في مدة المولى زيدان، فهذا السلطان قد تسبب لخصومه من المسلمين في خسارة كبرى عندما لم يتردد في تكليف آل فلاخ وبضع آخرين بمسؤوليات جسام (أوكل لهم بيت المال)، وببعثات إلى الخارج (إلى هولندة وأنجلترة)؟ فأبانوا فيها جميعا عن ذكاء ودهاء . والدول الإسلامية كانت دائما تثق باليهود أكثر من ثقتها بالنصارى، لنزوع هؤلاء دوما إلى خدمة مصالح أوربا . ونضيف إلى ذلك أن النصارى لم يكونوا يكلفون أنفسهم عناء تعلم اللغة العربية، فكانوا دائما في حاجة إلى اليهود، سماسرة ومترجمين. وكانت العلاقات بين الطائفتين جيدة، لاسيما الأسارى، لأنهم كثيرا ما صادفوا يهودا مشفقين داووهم أو ساعدوا على الفرار. ونشير مع ذلك إلى أن اليهود كانوا كالمسلمين، يملكون عبيدا من النصارى.
أما العامة فكانت في ضنك من العيش، تحترف التجارة وصناعة المعادن، وهي حرفة قديمة فيهم، قال مرمول: "أكثر اليهود صاغة" ثم أضاف: "لكن أكثرهم أموالا أولئك الذين يتعهدون مداخيل أبناء السلطان والولاة، لأن هذه الأمة تحرص على أن يدبر أموالها اليهود، وتتحصل لها الأرباح من ذلك". ولم تمنع الخدمات المسداة اليهود من الخصوع لقواعد التمييز العنصري – وعليها وجدناهم في سنة (1912م) ومن أن ينتبهوا أحيانا دون أن يقتلوا، وقد اشتهر ما حدث، في سنة (1578م/986هـ)، من نهب فيهم ما يزال التاريخ يحفظ ذكراه. غير أن يهود مراكش كانوا أقل معاناة على عهد السعديين من إخوانهم بفاس. وعرف الملاح بمراكش في ذلك العهد أمجد فترات تاريخه. لقد كان حقا حاضرة اليهود بالجنوب المغربي.