تساءل طيراس وباصي منذ  1925 لماذا بنى عبد المؤمن مسجدا أول (وقد خرب)، ثم بنى مسجدا آخر شبيها به ، مع أن الإسلام لا يحث على التكثير من المساجد الجامعة في المدينة الواحدة. لقد كان المسجدان الجامعان متشابهين فى خطتهما ، لكنهما مختلفان في أعين المصلين ، لأن توجيه القبلة على سمت مكة فيهما ليس سواء ، إذ كانت وجهة المحراب أكثر تشريقا منها في المحراب الباقي إلى اليوم، وعلى هذا الذي ذكرناه يقوم الجواب في معظمه: فقد بني المسجد الجديد لأن الأول - زعموا - على غير سمت القبلة، إلا أن العجب كل العجب في أن الموحدين - وكانوا على صلة من قديم بالأندلس ، أي بالحضارة ، وبإفريقية أيضا - قد بنوا مسجدهم الثاني - القائم إلى اليوم - فجعلوا قبلته أكثر انحرافا وتشريقا من قبلة المسجد الأول، فلم يحصل تقدم ، بل على العكس. وقد سأل مونيي مثل هذه الأسئلة بهذا الصدد أيضا ، فذكر أن نص "الاستبصار" يتحدث بصريح العبارة عن إقامة أحد المسجدين مقام الآخر ، بل ذكر عبد المؤمن وقال: "ثم زاد فيه"، ويستفاد منه أن الجامعين كانا قائمين معا، وظلا قائمين معا إلى الزمن الذي كان يكتب فيه صاحب الاستبصار وهو سنة 587هـ/1191م، وأضاف البحاثة المذكور أن الجامع الأول لو كانت النية على أن يهدم فيما بعد لما كان صاحب "الاستبصا‌ر" ذكره مثلما ذكر الجامع الجديد، سواء بسواء في قوله :"ووقع بينهما (يعني الجامعين) المنار العظيم "، ثم هل كانوا يكلفون أنفسهم وصل الجامعين معا لو كان الأول على وشك أن يهدم؟ ويمكن أن يضاف إلى ذلك كله أنهم لم يهملوا المسجد الأول عندما كانوا يبنون المئذنة ، لأن المئذنة يبدو على واجهتها الشمالية ، فوق حائط القبلة ، نتوء كبير مشين ، كانت نية المهندس أصلا أن يصله بقبة المسجد الأول . ويرى مونيي أن بناء الجامع الثاني وإهمال الجامع الأول كانا رهينين - في زعمه - بالزيادة أو النقصان في ساكنة مراكش. ولكن لو كان الغرض إنما هو الزيادة في الجامع، فهل كانوا يبنون جامعا آخر؟ لقد كان يكنيهم أن يهدموا حائط القبلة. ويضاف إلى السبب الديني الداعي إلى بناء الكتبية الأولى وهو أوجه الأسباب من الناحية العلمية - وإلى السبب الديمغرافي الذي يراه مونيي ، سبب آخر عاطفي: فعند قراءة ما قال ابن بشكوال يخال المرء أن مجيء مصحف قرطبة إلى مراكش هو الذي أوحى إلى عبد المؤمن بفكره بناء الجامع أو توسيعه. أفنرى إذن في فعله ذاك زلفى قدمها بين يدي ربه، ولم لا يكون كذلك، وسأضيف إلى كل ما تقدم أمرا آخر: وهو أن كبار ملوك المغرب كانوا جميعا من أعظم البناة هذا واقع لا مراء فيه، ولئن كانت رغبتهم ظاهرة جلية في تمييز مدن ملكهم ببنايات تشيد بمفاخرهم على مدى الأيام، فإن الملاحظ في الأغلب الأعم أن ما شيدوه من المباني لا نفع فيه ولا طائل، فبعد أن بنى عبد المؤمن جامع الكتبية ، ثم مسجد تينمل ، ثم قصرا - لأنه كان ينوي هدم قصر علي بن يوسف، وهذا لم تصرح به النصوص، ولكنه يستنتج من نص الاستبصار المذكور قبل(ماذا كان عليه أن يصنع بأمواله الطائلة: هل كان عليه أن يكل لغيره أمر استعمال ذلك الحشد من الفنانين والصناع الذين جمعهم حول شخصه، ما كان عليه إلا أن يستمر في البناء . فلنشكر له إذن تشييده جامع الكتبية القائم اليوم ، وأسفنا على اندثار الكتبية الأولى، وكانت من غير شك أجمل وأكثر توازنا وأقوم تأسيس قبلة، وبالجملة كانت أجل وأشرف قدرا . ولا نعلم متى قطعت الصلاة في الجامع الأول، ونرى - وفي نفسنا بقية من تحفظ - أن ذلك ربما كان بعد أن بنى يعقوب المنصور مسجد القصبة. فلاشك أن هذا المسجد قد استقطب المخزن الموحدي أجمع ، وبطانة الخليفة، وعماله ومن تحتهم ، وأمراء الجيش وغيرهم ، مع من انضاف إليهم من أهل مراكش الظرفاء وهم الذين لا يفوتهم جديد أبدا، فسقطت لذلك منفعة الجزء الأقدم من الكتبية، بل نرى أن الموحدين على عهد المنصور قرروا هم أنفسهم أن يستعملوا مواد بناء هذا الجزء من خشب ورخام وغيره، وقد كشفت التنقيبات عن مبلغ ما أخذوا من هذا المسجد - وهو كثير - ليستعملوه في غيره ء سواء أكان ذلك من تلقاء أنفسهم ، أم بأمر رسمي .

 

 

أثبت باصي وطيراس بما لا يدع مجالا للشك أن الكتبيتن الأولى والثانية بناهما عبد المؤمن الخليفة العظيم الذي ملك من سنة 541هـ/1147م إلى سنة 552هـ/1157م. ومن البين أن الشروع في بناء الكتبية الأولى كان بعيد فتح مراكش فى سنة 552هـ/1157م ، وأن مصحف عثمان وصل إليها في سلخ سنة 552هـ/1157م، أما الكتبية الثانية فلم يكن لنا عنها أي خبر يقيني ثابت . والظاهر - مع ذلك - أن هاهنا نصا يمكن الاعتماد عليه: فالمقري نقل عن ابن بشكوال قصة اجتلاب مصحف عثمان من قرطبة إلى مراكش سنة 552هـ/1157م، ثم أضاف ابن بشكوال  قائلا: وفي خلال الاشتغال بهذه الأعمال ، أمروا -أدام الله تعالى تأييدهم - ببناء المسجد الجامع بحضرة مراكش - حرسها الله تعالى، فبدئ ببنيانه وتأسيس قبلته في العشر الأول من شهر ربيع الآخر سنة 553هـ/2-10 مايو 1158م، وكمل منتصف شعبان من العام المذكور 11 شتنبر 1158م، فإذا كان مصحف عثمان رضي الله عنه شاهدا على وجود الكتبية الأولى في هذا التاريخ لأنه فيها وضع ، فالمسجد المذكور في النص المتقدم لا يمكن أن يكون إلا الكتبية الثانية، وقد شرع في الصلاة فيه بعد بنائه في مدة وجيزة جدا .
وخلاصة هذا كله ثلاثة أمور: الأول ، أن الكتبية الأولى بنيت بين سنة 541/1147 وسنة 552/1557 ، ومقصورتها أيضا ، لكن بعد بناء المسجد . والثاني أن أول جمعة أقيمت في الكتبية الثانية كانت في شتنبر 1158 منتصف شعبان 533، ويستنتج منه أحد أمرين: إما أن العمل بدئ فيه قبل شهر مايو 1158 ربيع الآخر 533 ، وإما أن أشغال التنعيم قد اتصلت مدة طويلة بعد بنائه، ولعل هذا الاحتمال الأخير أوجه الاثنين، ومثاله التوسعة الأولى لمسجد قرطبة في سنة 848 م/233هـ: فقد فرغ من بنائه ، ثم أقيمت الصلاة في محرابه شهرين قبل فتحه للعامة، ولكن بعد ذلك اتصلت فيه الأعمال أكثر من أربعة أعوام، لتهيئ بعض مرافقه . والأمر الثالث أن مسجد تينمل بني في سنة 548/1154، فيكون بناؤه واقعا بعد الكتبية الأولى وقبل الكتبية الثانية .

 

 

 

تختلف خطة الكتبية الثانية عن خطة الأولى في بعض التفاصيل: فالثانية - مع التغير الحاصل في تأسيس قبلتها - أعرض قليلا من الأولى، ومساحتها إذن أكبر من الأولى، ففي الجامع الأول كان البلاط المعترض الملاصق للقبلة، والبلاط الأوسط، والبلاطان اللذان عن يمينه وشماله، أعرض من البلاطات الأخرى، أما في الكتبية الثانية، فالستة عشر بلاطا المتوازية المسامتة للقبلة متساوية كلها في العرض ، والبلاط الأوسط وحده أعرض منها: أما السقائف المعترضة فعددها سبعة في كل مسجد منهما. فالعناية إذن منصبة على جناحي حرف التاء اللاتينية وعلى إقامة قبة عند ملتقاهما، أما أبواب الواجهة الشرقية فهي المستعملة أكثر من غيرها منذ قرون ، لأنها مشرعة على المدينة، وقد رممت مرارا كثيرة . والحفائر الأثرية والتنقييات وحدها من شأنها أن تكثف لنا هل كان صف العقود في الكتبية الأولى ممتدا إلى جهة الجنوب أمام هذه الواجهة الشرقية من الكتبية الجديدة أم لا، ولا نرجح ذلك ، لأن هذه العقود موجودة ، لكن في داخل هذه الواجهة. فهل ضحوا بكل شيء للحصول على مساحة أوسع للمصلين؟ أما الصحن ، فعمقه فيها ضعيف ، وهو أعرض قليلا من صحن الكتبية الأولى، وقد زادوا فيه ليستقيم شكله الهندسي رواقا على هيئة مثلث مستطيل في واجهته الشمالية. ويستنتج من وجود حوض دائري في وسط الصحن أن الكتبية الثانية لم يكن صحنها صهريج.

 

 

لقد استعملوا منذ البداية الحجر والآجر مخالفسن بذلك منطق الأشياء. فالأبواب على الجهة الشرقية كلها من آجر، أما الجهة الغربية فيمتزج فيها  بالآجر . والظاهر أن خيال البنائين وأهواءهم دفعتهم إلى ابتكارات غيرمتوقعة، وإلى خلط أشياء مع بعضها خلطا عشوائيا، إلا أن ذلك - لحسن الحظ- لم ينل من متانة الحيطان، أما الأعمدة التي تبرز الخطوط الكبرى لهذا البنيان، إما صليبية الشكل أو نصف صليبية ، وكلها من آجر مطلى بغشاء غليظ من جبص، وعلى جوانبها أعمدة للزينة، تخفف ثقل منظرها وتساهم في الزخرفة بتيجانها الزهرية، وزهورها على غير مثال واقعي ، لكنها مرنة حسنة .

 

 

جامع الكتبية من أكبر جوامع الغرب الإسلامي، ولعله أجملها وأحسنها لوحدة عناصره وتجانسها، وهو شاهد ناطق إلى اليوم بتميز هذه المرحلة الموحدية الفن الأندلسي المغربي ، إذ استطاعت أن  تجمع إلى البساطة الظاهرة مهارة عجيبة وفخامة خفية.

 

 

 

يقع المحراب في قاع البلاط الأوسط، وتعلو فرجته قوس حدوية تكتنفها قوسان متحدتا المركز ، رسمتا بخطين دقيقين، أما الزخرفة، فلا تبدأ - كما هي العادة - إلا عند التيجان الأموية التي تحمل قوس المحراب فوق أربعة أعمدة صغار من جزع ، فتزيد القواعد المخروطة إبرازا لحسن الأجزاء العلوية وجمالها: فالركنيات مزينة بقبيبة، ويحيط بها مساحة عريضة مزخرفة بشبكة من أشكال متعددة الزوايا ، تحل ما يحله في المعتاد إفريز منقوش بالكتابة. وتعلو ذلك خمسة طيقان ، تارة ملساء وتارة ناتئة ، تصل الشبكة الزخرفية السفلى بإفريز أعلى مزخرف بالأشكال نفسها . وهذا المحراب أشبه، من حيث حجمه وقوسه المرتفع بمحراب مسجد تينمل منه بمحراب الكتبية الأولى . ولا عجب في ذلك ، لأن الصناع الذين صنعوا هذا هم الذين لاشك صنعوا ذاك . وفي هذه المحاريب البديعة تتجلى اتجاهات الفن الجديد ، إذ " حلت فيه نقاوة الزخرفة العريضة محل الغزارة الزخرفية التي كانت جارية " قاله طيراس .

 

 

اكتشف باصي وطيراس في الأرض أمام المحراب آثار قطعتين خشبيتن بينهما فاصل، يستبين من سعته أنهما كانتا مزلاقا ينزلق فيه حاجز متحرك: فالمقصورة إذن كانت موجودة حقا، ثم إن نص ابن بشكوال صريح بصددها، لكننا لا نعلم متى تعطلت عن العمل .

 

 

 

يتميز البلاط المعترض الذي فى جوف المسجد عن البلاطات الأخرى بقباب خمس، وبحسن لا نظير له في عقوده الكبرى ذوات المقرصنات المحمولة على أعمدة غير مزخرفة، أما البلاط الأوسط - وهو أعرض من البلاطات الأخرى - ففي منظره جلال وعظمة ، وآخر عقوده مزدوج بعقد ذي مقرنصات ، كأنه مقدمة بين يدي روعة المحراب وسحره، أما باقي بيت الصلاة، فجميع عقوده الملساء حدوية ظاهرة الانكسار . ولما كانت هذه العقود مرتفعة عالية ، فقد زادت في سمو المسجد كله. وقد زينت الأعمدة المربعة المصنوعة من آجر بأعمدة نصفية داخلة فيها . وإذا سامته الناظر طولا رأى المحراب يتلألأ في الظلمة هناك ، والصحن يشع نورا هنا . ويستنتج من وصف الوزان أن الأعمدة كلها كانت في الأصل مكسرة بالخشب ، أما القباب الموحدية، فبسيطة في هيئتها ، لكنها تنم عن تأنق بالغ وحكمة، وعن مهارة وحذق ، وتكسو مساحتها الزخرفية جميع أنواع التشجير والتوريق . ولئن كانت هذه القباب ذوات المقرنصات في بعض ملامحها سليلة القباب المضلعة، فإن مقرنصاتها من أصل شرقي، أثبت ذلك طيراس. وبالجملة ، فأعمدة الجامع ، وكل ما يقوم عليه بسيط، لكن أشرف أجزاء بيت الصلاة تعلوها بضعة سقوف خشبية بديعة مكونة من مربعات عظام، من هذه التي تسمى بالأسبانية: أرطسونادسArtesonados ، وهي مثال للسقف الأندلسي المغربي الأصيل، ومن أقدم ما نسج على منواله.

 

 

 

النقوش قليلة في هذا الجامع ، كما هي العادة في المساجد الموحدية، وإنما هي بضع إشادات نقشت على أفاريز التيجان. وبداخل المحراب نقش طويل مختوم بآية قرآنية بخط عادي جار ، يمتد على طول الإفريز ذي الربعية، ولم يكن استعمال الخط الجاري ولا استعمال الزخرف الغصني والخوص العريض الأملس بالشيء الجديد في مراكش ، بل لعل المثال المحتذى هو النقش المحفور في قبة مسجد علي بن يوسف المرابطي . ولا توجد نقوش كوفية في بيت الصلاة بالكتبية الثانية إلا على بعض التيجان ، وتتسم بعتاقة خطها .

 

 

 

لا حاجة إلى تكرار ما أثبته غيرنا قبلنا من أن بناء مئذنة الكتبية متقدم على بناء مئذنة إشبيلية، وأن هذه الأخيرة بنيت قبل بناء صومعة حسان بالرباط . وكل ما ينبغي التذكير به أن أقوال "القرطاس"  غير موثوق بها حيثما تحدث صاحبه عن مراكش، وأن نص ‌"الاستبصار" يستخلص منه أن مئذنة الكتبية بدئ في بنيانها قبل بناء الكتبية الثانية، وقد أقيمت فيها أول صلاة في سنة 553هـ/1158م . فهذه المئذنة بالضرورة من عمل الخليفة عبد المؤمن المتوفى سنة 558، على الأقل في تصورها وتصميمها؛ فما هو النصيب الذي نسبه إلى حفيده "القرطاس"،  و"السعادة"، في قولهما معا:"وفي سنة إحدى وتسعين وخمسمائة 1195 شيد حفيده السلطان المشهور يعقوب المنصور، منار هذا الجامع العجيب، يمكن التوفيق بين النصين، ونسبة القبة فوق المئذنة إلى الخليفة الموحدي الثالث، لكنه احتمال نستبعده، على الرغم مما قاله الحسن الوزان0 ويستفاد منه أن ما عمله المنصور أكبر بكثير مما ذكرنا .

 

 

 

ذرع هذه المئذنة غالوطي وحده ، ومونيي وألان توصلا إلى جميعا :
. عرض المئذنة المربعة : 12.80م ،
. عرض الفحل فوق المئذنة : 6.80 م،
. ارتفاع المئذنة (في الجهة الشرقية الموالية لبيت الصلاة):
.إلى حدود كتف الشرفة : 56.40م ،
. إلى قلة الفحل فوق المئذنة: 69.50 م ،
. إلى رأس الجامور: 77 م بالتقريب.
ومن أعلى المئذنة ، في موقف المؤذن، يمكن رؤية ما رآه الوزان ، وهو "جبل آسفي الذي يبعد ثلاثين ميلا بالتقريب، وجميع البسائط المحيطة بالمدينة إلى حدود الخمسين ميلا".
وقد أكد هذه المسافة الأخيرة الجفرافي دي فلوط ، وكان صعد إلى جبل إيغود بين آسفي ومراكش ، فكم هشت نفسه وبشت حين رآى في وقت الشفق مئذنة الكتبية الشاهقة تكاد تغطيها زرقة ضباب الحوز . وقد بين طيراس أن نسبة واحد إلى خمسة أضعافه التي اتخذت لعرض المئذنة وارتفاعها لمن أحسن النسب ملاءمة للزخرفة الهندسية التي تنقسم إلى خمسة أقسام ، أعلاها هو الفحل فوق المئذنة، وأسفلها ترك خاليا من الزخرفة على ثلاث واجهات . واعتدال أجرام هذه المئذنة ، بشرافاتها المسننة التي تخترق نور الفضاء الساطع ، يخيلها للناظر "سَوْرة جموحا بديعة الحسن منعدمة النظير"،كذا قال طيراس . أما مئذنة إشبيلية بعد ترميمها، وصومعة حسان بالرباط – والتي لم تتم ، فهما أُخَيَّتا   الكتبية المشهورتان . ومع الإعجاب الذي يحس به العامة والخاصة من أهل الاختصاص في العمارة الإسلامية ، فما أبعدهما عن أبهتها القاهرة الساكنة .

 

 

 

بنيت المئذنة مما بني منه جزء من المسجد نفسه، أي من "حجارة كبار منجدة ، كتلك التى منها الكوليزي بروما، قاله (الوزان) ، هي حجارة دبش ضخام شديدة الشبه بالحجارة التي منها مسجد علي بن يوسف، ويأتي الصلصال النضيد الصلب من مقالع بجبل إيجيليز ، ومنه نوع مطواع جدا للتنجيد والنحت. وبقدر ما ترتفع المئذنة تتدنى جودة القوام: ففي الفحل فوق الحذنة يختلط الآجر بالحجارة . و ما كانت هذه العيوب في قوامها بشائنتها في عيون الناس ، لأن المئذنة كانت في الأصل مكسرة بطبقة من الملاط . وفوق قواعد الحجارة المتراصة كيفما اتفق سلسلة منتظمة من أشباه مفاصل .

 

 

الظاهر أن المهندسين سرعان ما وثقوا من متانة أساسها، وكان لابد لهم من احتبار ذلك قبل بدء الأشغال في أي بناء . ولا نعلم كيف اختبر المهندسون الأندلسيون هذه الأرض الغرينية، وقد كانت حنكتهم بالغة، إذ سمحت لهم بإقامة هذا البنيان العظيم على أساس ضعيف . وفي "رحلة مرابط تاسَّافات" خبر خليق بأن نذكره هنا ، قال: " أخبرني من يوثق بقوله أن اسم الرجل المعلم الباني لهذا المنار الأعظم بمراكش اسمه علي بن عطية ، قد بنى نصفها ، وتركها عاما كاملا لئلا تحدث بها الشقوق ، أو تزلزل السماء ، أو نحو ذلك بعد أن بلغ بأساسها الماء، وعلى الصحة أسس قواعد بنائها، ثم كملها على ما هي عليه الآن، سالمة من آفات شقوق البناء وتزلزله ، التي لا يخلو منه غالبا"، . وهذه التفاصيل شبيهة بتلك التي قدمنا ذكرها عن بناء مئذنة جامع على بن يوسف. وقال فيما بعد صاحب "الاستبصار " : "وهي مدينة صلبة " التربة، كأنها غطاء من حجر على حجر"،

 

 

 

خطتها بسيطة ، شأن مآذن الموحدين جميعا . فبين الحائط الحجري وعرضه متران) والعمود المحوري (وعرضه متر ونصف) مصعد بغير درج ، يبدأ عند الواجهة الشرقية ويرتفع فيدور حول ست غرف بعضها فوق بعض، وعرض هذا المصعد متر ونصف ، وانحداره على غير قياس واحد، تغطيه طيقان زاحفة ، يتصل بعضها ببعض فى زوايا قائمة  وتقوم على عرائش مسننة . وذكر المراكشي- ولا نرى داعيا إلى تكذيبه - أن هذا المصعد عمل لكي تصعد فيه الدواب بالآجر والطين والجيار والحجارة إلى أعلى المئذنة . وعلى مسافات معلومة فتحت نوافذ في حيطان الجهات الأربع للاستصباح والتهوية ودخول الطير وخروجهن، وينتهي المصعد قبل قمة المئذنة ، فيستحيل سلما مستقيما تؤدي درجاته إلى السطح ، حيث فحل المئذنة . وينبغي الصعود إلى ممشى يدور بالسطح للوصول إلى الدرابزين المسنن، وحجارته ضخام ترتفع أكثر من مترين، وبذلك يكون أساس الفحل نازلا بأكثر من ثلاثة أمتار . أما الغرف التي بعضها فوق بعض ، فعليها طيقان وقباب، وأكثرها زخرفة وأبهة أعلاها . وهذه العناية بالأبهة والزخرفة المتنوعة شيء عجيب في هذه الغرف المظلمة الخالية، ولعلها بدع ابتدعها صناع لا يحتسبون الزمن .

 

استطاع طيراس أن يقف على السمات التي نقلت إلى مئذنة الكتبية الرائعة من مئذنتي قرطبة وقلعة بني حماد، لكن هذه التأثيرات أعيد ترتيبها بعد تمحيصها وتهذيبها . والذي يبدو بدعا جوهريا - وسوف يكتب له عمر طويل - هو الشريط الأعلى: فقد كان دقيقا في المآذن الأخرى التي بنيت في الغرب الإسلامي ، وصار أشبه شيء بتاج من الخزف الصيني ، بأشرطة بيض عراض على سطح أزرق فيروزي مكون من مربعات ومسدسات مستطيلة .
ولا يخفى أن منظر كل واجهة مختلف عن الأخرى: فقد عمل المهندس، على ارتفاعات مختلفة، أطرا كبارا جعل فيها طيقانا متشابكة معقدة فخمة ، تتصل فيها الأقواس والتشبيكات الزهرية في صور متجددة على الدوام، وعلى الطلاء في تجاويف الزخارف البارزة يرى الناظر رسوما نباتية عجيية متجانسة الألوان ، وبضع نقوش قصار بخط كوفي: "في أماكن عالية قلما ينفذ إليها البصر تنتشر هذه النباتات الرخصة المتينة، كأن الحياة تدب فيها " . وقد وقف طيراس في هذه الزخرفة على عيوب ونقائص ، لاسيما في الواجهة الشمالية، حيث تنحرف الطيقان إلى الأعلى انحرافا شديدا، إلا أن هذه المآخذ لم تكن بمانعة إياه من أن "يسحره سمو هذه الأحجام ، وعظمة هذه الأجرام ، وأن يعجب بلون هذه المئذنة، فتببن له أن " صناع القرن 6هـ/12م كانوا مدركين أن البنيان العظيم لابد فيه من مقابلات واضحة، وبساطة شديدة في اللون ، وشهد أن "الزخرفة لم تسيطر عليها الهندسة بعد، فهي امتداد للتقاليد الفنية الإسلامية الأندلسية والتقاليد المسيحية الهلينية والتقاليد البيزنطية على حد سواء .

 

 

 

فحل مئذنة الكتبية هذه عريض ضخم، وقد اعتنى بدراسته دراسة دقيقة غالوطي، وعلى دراسته نعتمد في كل ما سنسوقه في الكلام عليه. يبلغ ارتفاعه 15.87 م ، وارتفاع الجامور 7.80 م، وعرض كل ضلع من أضلاعه 6.80 م، فكأنه مئذنة ثانية وضعت فوق الأولى على ارتفاع خمسين مترا في الهواء! لكن انخفاض قاعدته عن سطح المئذنة شانه، بأن خفض من حجم واجهاته إذا رآها الناظر من صحن المسجد . وعلى رأس هذا الفحل شرافة أكتافها على شكل مربعات منحرفة، ولها أسنان ، وتدور بسطح تكاد تحتله بأجمعه قبة غليظة الأضلاع . وفي أعلى هذه القبة الجامور، وهو سهم من حديد ، نظمت فيه ثلاث تفافيح من نحاس مذهب ، وأخرى كالإجاصة رأسها إلى أعلى ، قيل: إنها من الذهب. أما الجهات الأربع ، فعلى عكس المئذنة، هندستها واحدة: فى كل واجهة عند منتصفها بالتقريب نافذتان على هيئة قوسين حدويتن ، بينهما عمود ، وعليهما طيقان مفصصة، وتحت أكتاف الشرافة - كما في المئذنة
يجري شريط من صفائح الخزف الصيني خضراء وبيضاء، لكن لم يبق منه شيء كثير . ويصعد إلى فحل المئذنة بدرج مستقيم من آجر يؤدي إلى غرفة مربعة في الطبقة الأولى ، أرضها عند قاعدة النوافذ ، ومنها تستصبح الغرفة نورا كافيا ، ومنها تشرف العين على مناظر فيحاء،  وتغطي هذه الغرفة قبة يمكن الصعود إليها بسلم وحبل من ثقب عمل في القبة، فيجد المرء نفسه في الطبقة الثانية داخل القبة ذات الأضلاع ، ومنها يمكن النفاذ من كوة إلى السطح الأعلى، ولا يمكن المشي فيه. ولتمكين أصل الجامور من الثبات بنيت تحت القبة الظاهرة قبة داخلية . والجامور مصنوع من حديد ، وقطره خمسة عشر سنتمترا ، وهو مغشى بغشاء من نحاس، وفيه من أسفل إلى أعلى تفاحة صغيرة لا ترى من الأرض ثم تفاحة ضخمة يكاد قطرها يبلغ المترين، ثم ثالثة ورابعة يتناقص قطراهما، وهذه التفافيح من صفائح النحاس وصلت فيما بينها بدسر . وفي رأس الجامور سن لا يظهر منه، بخلاف التفافيح التي يعلوها ، إلا سطح ذهبي صقيل . وختام هذا الوصف أن نذكر أن إلى يسار كوة الطبقة الثانية خشبة كالمشنقة هي الصاري ، يعلق عليها المؤذن ، من قرون خلت ، في أوقات الصلاة علما يرفعه بخيط مزدوج ، يمر ببكرة وينزل إلى سطح المئذنة الكبيرة .

 

 

ذكر العمري - والعهدة عليه - أن ساعة (منجانة) كانت في الكتبية، "ارتفاعها في الهواء خمسون ذراعا". فقد كانت إذن على المئذنة، لأنها البناء الوحيد البالغ هذا الارتفاع . ووصف كيفيتها قائلا: "ينزل عند انقضاء كل ساعة صنجة وزنها مائة درهم ، يتحرك بنزولها أجراس يسمع وقعها من بعيد"، ثم قال - وقد كان يكتب بين سنتي 742هـ/1342م و749هـ/1349م : "وهي الآن بطالة لا تدور ". إنه النص الوحيد الذي يشير إلى هذه الساعة، ولم يبق منها أثر، فهل وجدت حقا؟

 

 

 

مجموعة الكتبية شاهد بديع على إيمان راسخ ، وعلى علو همة الإنسان: فبيت صلاتها يثير في النفس الخشرع ، ومئذنتها توحي أيما إيحاء بالدوام والخلود، وفحلها يسحر الألباب، وستظل أعظم مفاخر دولة عظيمة أبادها الحدثان . في خطتها طمأنينة عظيمة، وفي شكلها بساطة ومتانة، وفي قوامها أناقة ورشاقة، وفي زخرفتها المطهرة حشمة ووقار، وفي اختلاف نورها وظلامها سحر ساحر، وبذلك كله صارت الكتبية أبدع مآثر أفريقيا الشمالية وأجملها . فما أسعد هؤلاء الموحدين الذين طلعت في سمائهم هذه التحفة، فتملوا بالنظر إليها في غضارتها . أما المتولي لصنعتها ، سواء أكان جابرا ، أم الحاج يعيش ، أم ابن عطية ، فبأية روح مرحة جذابة خطط هذه الأندلسية وبناها !