واد الساقية الحمراء
إن الحديث عن «واد الساقية الحمراء» هو في آن واحد الحديث عن كل المجال الصحراوي الذي حمل منذ العصور القديمة اسم هذا الواد، بل تعدت شهرة وصيت هذه المنطقة جل الأقطار العربية والإفريقية على السواء، فهذا الاسم له مكانة ووقع في ذاكرة المجتمع الصحراوي، لا من حيث أصول القبائل جمعاء التي تعتبر «الساقية الحمراء» موطنها الأصلي، ولا من ناحية أهميتها الاقتصادية كمنطقة توفر الكلأ والماء والزراعة للبدو الرحل، وكونها كذلك منطقة جهادية تحمي وتستقطب المجاهدين المرابطين ضد الغزاة الأجانب.
فالحدود الجغرافيا لهذه المنطقة حسب المؤرخين والجغرافيين المغاربة القدماء مجال يمتد من «واد درعة» شمالا إلى مشارف «بلاد شنقيط» جنوبا، مرورا بمنطقة «تيرس» أي «واد الذهب» حاليا، ومن هؤلاء نذكر: أبو عبيد الله البكري الذي ذكرها بـ«تارجا» أو «تاركا» أي الساقية بالعربية فقال: «من «وادي درعة» خمس مراحل إلى «وادي تارجا»، وهو أول الصحراء، ثم نمشي في الصحراء، فتجد الماء على اليومين والثلاثة حتى تصل إلى رأس المجابة إلى البئر المسماة «تزامت» بئر معينة غير عذبة، وهي إلى الملوحة أقرب قد أنبطت ...، وفي الشرق منها تسمى «بئر الجمالين»، وعلى مقربة منها أيضا بئر تسمى «ناللي» كلها عذبة (...) ومنها إلى جبل يسمى بالبربرية «أدراران»، وزال تفسيره...».
أما الجغرافي الشريف الإدريسي في كتابه «نزهة المشتاق في اختراق الآفاق»، فأشار لهذا المجال أو الواد ب «تازكغت»، فقال: «في هذا الجزء من بلاد الصحراء «نول لمطة» و«تازكغت» ...»
(
1) .
كما أضاف: «فأما «بلاد نول» الأقصى و«تازكغت» فهي بلاد «لمتونة» الصحراء، و«لمتونة» قبيل من «صنهاجة»، و«صنهاجة» و«لمطة» أخوان لأب واحد وأم واحدة وأبوهم لمط بن زعزاع من أولاد حمير وأمهم تازكاى العرجاء ...»
(
2) .
وهناك من حدد هذا المجال من «واد نون» شمالا إلى مشارف «بلاد شنقيط» جنوبا، وهذا ما جاء به أحمد بن الأمين الشنقيطي في كتابه «الوسيط فى تراجم أدباء شنقيط»،
حيث قال: «الكلام على الساقية الحمراء: هي أرض مشهورة، وهي آخر «شنقيط» من جهة «واد نون»، تبعد عن «شنقيط» عشرين يوما بالسير الحثيت، وتقدمت أبيات ابن الشيخ سيدي، التي صرح فيها أن مسافتها شهر بسير الإبل، من الصباح إلى المساء، وبذلك يتضح ما قلت، لأن أرضه تبعد عن «شنقيط» بنحو عشرة أيام، ...»
(
3) .
بينما في فترة المستكشفين الأجانب والاستعمارين الفرنسي والإسباني على السواء، حصرت حدود الساقية الحمراء في مجرى الواد والأراضي المحاذية له، أي المنطقة الممتدة من منبع «واد الساقية الحمراء» شرقا مرورا بمدينة «السمارة» إلى مصبه بـ«فم الواد» بـ«المحيط الأطلنتي» غرب مدينة «العيون»، ومن الشمال تمتد إلى «الكعدة»، وجنوبا إلى حدود «لمسيد» شمال «بوجدور». وهذه المنطقة التاريخية لم يحتلها المعمر الإسباني احتلالا كاملا إلا في حدود سنة 1934م.
وقد ورد كذلك عند أحمد بن الأمين الشنقيطي بأن هذه الأرض هي في الأصل في ملكية «قبيلة الركيبات»، بقوله: «وهي في الأصل لـ«لركيبات»، قبيلة أصلهم من الزوايا، إلا أنهم يحملون السلاح في أكثر أوقاتهم ...»
(
4) .
وأضاف: «وكانت «الساقية الحمراء»، خالية لا أنيس بها لشدة الخوف، ولقحولتها دائما، حتى عمرها الشيخ ماء العينين، وبنى فيها الدور، وغرس النخل فسهلت المواصلة بين شنقيط وغيرها من المواضع المغربية، أعني التابعة للمخزنلمطة ...»
(
5) .
إلا أن منطقة «الساقية الحمراء» لم تكن خلاء لا أنيس فيها، بل كانت عمارة وخلوة لأهم أولياء الصحراء قبل مجيء الشيخ ماء العينين بقرون. هذه الأرض المقدسة بأوليائها تضم آباء وأجداد بعض القبائل كـ: الشيخ سيدي أحمد الركيبي، دفين «واد الحبشي» شمال شرق «الساقية الحمراء»، الذي يذكره الحسن البعقيلي قائلا : «... أحمد الركيبي شبل عبد الواحد ولد عبد الكريم بن محمد (...) فأصل الركيبي «درعة»، تملك فيها نخلا كثيرا ومواشي وأصولا كثيرة، فانتقل (...) إلى أرض «لخنيكات»، واشتراها
بساحل البحر بـ«الشبيكة» بستين قنطارا من الذهب من أربابها «بني حفيان» ...».
ومن بين الأولياء الذين سكنوها: شهداء أولاد أبي السباع السبعة المدفونين بـ«الطويحل»، «جماعة سيد أحمد العروسي»، «إقليم السمارة»، و هم: محمد البكار بن الحاج، ومحمد المختار، وعيسى، وإبراهيم بوعنكة، وعبد المولى، والعباس، ومحمد المعروف بأكلش، وهم من القرن العاشر الهجري، وقد ذهب دي لاشابيل «De La Chapelle» إلى أن طرد البرتغاليين عن السواحل الصحراوية راجع إلى السباعيين كما أن هؤلاء السباعيين السبعة سقطوا في معركة مع الضابط البرتغالي المسمى بـ«الشمصعي» وفي الكتابات الغربية يسمى Somida.
إلى جانبهم نجد الشيخ سيدي أحمد العروسي الجد الجامع لـ«قبيلة العروسيين»، دفين «الطويحل»، «جماعة سيدي أحمد العروسي» على الضفة اليسرى لـ«لساقية الحمراء»، ومن صلحاء الساقية الحمراء نذكر: سيدي الحاج أحمر اللحية جد فخذة «أولاد الشيخ» من «الركيبات»، والجد الجامع لـ«أولاد الدليم» بويا علي الدليمي على «واد وين تركت»، والشيخ مربيه ربه بـ«واد تافودارت» أحد روافد «واد الساقية الحمراء» وهو من أولاد الشيخ ماء العينين. ثم في أسفل الواد قرب مدينة «العيون» وبالضبط بـ«فم الواد» نجد مزار الولية الصالحة العيافة. ومقابر رجالات معينية السباعيين بـ«تافودارت». وجل أولياء «الساقية الحمراء» هم شرفاء أدارسة ينحدرون من إدريس الأول، مؤسس دولة الأدارسة.
ونظرا لأهمية هذه المنطقة الاستراتيجية والاقتصادية والروحية بحكم أنها تربط بين شمال المغرب وجنوب الصحراء عبر القوافل التجارية، وكونها تبعد عن البحر بأكثر من 240 كلم في اتجاه العيون، هذا البحر الذي جلب للمنطقة أطماع أجنبية، وباعتبارها كذلك أرض خلوة لأولياء الله وصلحائه، كل هذه العوامل تفاعلت فيما بينها ليتخذ منها الشيخ ماء العينين قاعدة له في مواجهة التوغل الاستعماري.
ففي سنة 1902م بنى الشيخ ماء العينين زاويته بـ«السمارة» على الضفة اليمنى لـ«واد سلوان» أحد روافد «واد الساقية الحمراء». وكانت مركزا متقدما لمواجهة الاستعمار الأجنبي، الذي لم يتحكم في هذه المنطقة إلا في سنة 1934م.
مورفلوجية واد الساقية الحمراء:
فبخصوص مورفلوجية «واد الساقية الحمراء» يجب أن نشرح بادء ذي بدء اسم هذا الواد التاريخي، فلقد سمي بـ«الساقية» لأنه يوصل الماء في فترات فيضانه وجريانه إلى البدو الرحل بدون تقطع أو انحباس، فهو كما أشرنا في المقدمة من الأودية ذات الصرف الخارج؛ أي التي يصل جريانها إلى البحر عكس الأودية الحبيسة ذات الصرف الداخلي. ولهذا نعتوه بالساقية لأنه يسوق الماء إلى الأراضي العجفاء أو العطشانة، كما يسقي الأرض ويرويها ليتمكن البدو الرحل من زرعها والانتفاع من الكلأ الذي توفره أرضه بعد مرور الفيضان.أما «الحمراء»: فنعت يوحي بثلاث احتمالات:
ـ الاحتمال الأول: من حيث التربة، ذلك بأن أحد أهم روافد «واد الساقية الحمراء» يدعى «إريقي» أي باللغة الأمازيغية: الوحل أو الطين المبلل، وهذا الطين أو الطمي يحمله هذا الرافد ليصبه فى «واد الساقية الحمراء» الذي يرسبه بدوره في قعوره، فيعطينا ذلك الإحمرار الطيني ـ الرملي، الذي يستغله البدو في زراعة الشعير؛ نظرا لخصوبة أتربته. وهناك من يرجع أصول هذه التربة الرملية المحمرة إلى زمن الفترات الرباعية الرطبة.
ـ الاحتمال الثاني: من حيث النبات، فذاك الطمي المرسب في قعور الواد تحتله نباتات شوكية من نوع «العناب» أو ما يطلق عليه محليا «النبكة» Jujubier، وهذه النبتة تتسم في بداية نموها باحمرار براعمها قبل أن تتحول بعد نضجها إلى اللون البني .
ـ الاحتمال الثالث: ناتج عن التعرية الهيدروالكيماوية، فـ«واد الساقية الحمراء» ينبع من «حمادة تندوف»، وهذه الأخيرة من أغنى الهضاب الصحراوية بمعدن الحديد، وعندما تتجمع المياه في قلب هذه «الحمادة» يتم تأكسد الحديد الموجود في صخورها فتؤدي إلى احمرار المياه الجارية في الواد، ولشدة هذا الاحمرار أطلق عليه السكان الأصليون «واد الساقية الحمراء»، وهذا الاحتمال الثالث هو الأرجح والأقرب إلى الصواب.
و«واد الساقية الحمراء» هو أكبر الأودية في الصحراء بعد «واد درعة»، يمتد على طول 450 كلم من «حمادة تندوف» شرقا إلى مصبه عند «فم الواد» بـ«المحيط الأطلنتي» غربا، على بعد 25 كلم من مدينة «العيون،» وأول من رسم مجراه هو العقيد الفرنسي ييجو Lieutenant Pigeot، ثم أخذه عنه كلا من دي لاشابيل ودولاي Delaye في الخريطتين التي وضعوها للمنطقة سنة 1930م، فقد جاء عن بيجو ما يلي: «... ففي الجنوب ـ الغربي لـ«تندوف» يبدأ «حوض الساقية الحمراء»، منطقة مكتضة بالسكان...، لكن هذا الحوض يقع في أراضي «واد الذهب» التابعة للإسبان».
المنبع إذا هو من «حمادة تندوف» كما أكدها المستكشف الفرنسي بيجو، بينما حاليا هناك من يرجع منبعه إلى جبال «كلتة زمور»، وهذا من الخطأ لأنهم لا يفرقون بين رافده «واد الخط» الذي يأتي من هذه الجبال، وبين مسار «واد الساقية الحمراء» الذي يستمر سيره في «الحمادة» شرقا.
طبوغرافية واد الساقية الحمراء:
تنطلق من الأعلى إلى الأسفل، أي من «حمادة تندوف» منبع الواد، حيث حفر فيها أخاديد عميقة جعلت الواد ينحدر بميلان شديد إلى مستوى ما بين 200 و500 م، وعند مخرجه من الحمادة على بعد 100 كلم من المنبع، يتسع قطره عرضا، وتظهر في قعره كومات الإرساب متناثرة في سرير الواد تتخللها بعض البقع البيضاء على شكل سبخات صغيرة الحجم ثم يستمر في رسم مجراه في «سهل الفريرينات» عند «حاسي الحوصة» و«حاسي الفوار». ثم يسير «واد الساقية الحمراء» على مسافة 70 كلم في منطقة تكسوها الرمال والأنقاض الحمراء، ثم يضيق من جديد على 25 كلم من مدينة «السمارة»، حيث يشكل خنقا بين جبلين ثليين قليلا الارتفاع هما لرموز 400 م، و«جبل البطينة الثلية» 460 م، وبعد هذا يدخل الواد في خوانق يلتوي حولها حتى تصبح طبوغرافيته محدبة. وقبل وصوله إلى مستواه السفلي أو الأدنى يلتقي بـ«سبخة إكطيان» التي تتغذى هي الأخرى من مياهه في فترات الفيضانات وفي هذا المستوى الأدنى حيث السهول المنخفضة يفقد «واد الساقية الحمراء» طاقته فيشكل مستنقعات كبيرة عند مشارف مدينة «العيون»، ثم يستمر سيره وسط صخور صلبة وكثبان رملية ليصل إلى البحر، حيث مصبه الذي يدعى «فم الواد».جيولوجية واد الساقية الحمراء:
كما أشرنا فالواد ينطلق من «حمادة تندوف»، حيث منبعه، وتتألف هذه الأخيرة من الصخور الكريتاسية وتكونات البليوسين الأوسط البحرية، ثم يعبر منخفضا إفراغيا، مشكلا في صخور القاعدة الأولية الديفونية، على شكل بهرة شاسعة، يرسم فيها الواد حوضه الأوسط، وفي اتجاه الغرب تختفي القاعدة الأولية تحت هضاب مكونة من رواسب متوجة بدكات حثية بحرية وكثيبية بليورباعية، وينتهي غربا عند مصبه بـ«فم الواد» بـ«الساحل الأطلنتي»، حين يتجسد هناك في الرصيف البري، ويشرف مباشرة على البحر بواسطة جرف حي، يتشكل في رواسب لوماشيلية رصيصية تعلو مستوى البحر الحالي بـ 2 م ممثلة رواسب غمرية هولوسينية.روافد واد الساقية الحمراء:
«واد الديرت»، و«وين سلوان»، و«وادالحبشي»، و«وين تركت»، و«واد الخشيبي»، و«واد تغزرت»، و«واد اجديرية»، و«واد بوعنكة»، و«واد مزوار»، و«واد سكيكيم»، و«واد اكسات»، و«واد خنك»، و«واد السكوم»، و«واد العصلي»، و«واد اتقي»، و«واد الخط»، و«واد تازوا»، و«واد آيتغي»، و«واد أوليتس»، و«واد الجفال»، و«واد الزويزل»، و«واد العامر»، و«واد لبيض»، و«واد لكراد»، و«واد ميران»، و«واد اميزرات»، و«واد أوركانات»، و«واد الجمال»، و«واد التواغد»، و«واد بن داكة»، و«واد بن زكا»، و«واد الفرنان»، و«واد ادميري»، و«واد أوزيريفت»، و«واد أباكي»، هذه الروافد تحوم على «واد الساقية الحمراء» كشريان تمده بالمياه وتزيد من حمولته في وقت الفيضانات، وتكون جزء منه من حيث بنيته الجيولوجية والهيدروغرافية. وأهم هذه الروافد حجما بعد «واد الساقية الحمراء»، «واد الخط» الذي ينبع من «جبال كلتة زمور»، ويصل طوله إلى حوالي 240 كلم، ويلتقي مع «واد الساقية الحمراء» على بعد 40 كلم من مدينة «العيون».وهناك أودية خارج الشبكة الهيدروغرافية لـ«لساقية الحمراء»، كـ: «الواد الوعر»، و«واد أودري»، و«وادالشبيكة»، و«واد أم فاطمة» شمالا، وجنوبا نجد «واد لكراع» في «إقليم بوجدور» وبالضبط عند «رأس أوفيست». وتوجد عيون متناثرة خاصة بـ«واد إتقي» كـ: «عوينات لكروف»، و«عين لمليحس»، و«عيون لكصيبات»، بالإضافة إلى «شلالات واد بن حمادو»وتكون جزء منه من ميث بنيته الجيولوجية والهيدروغرافية.
ويتبين أن «واد الساقية الحمراء» وروافده أكثر أهمية من حيث العدد والأهمية داخل المنطقة، فهي الشريان الحيوي الذي يغذي الفرشة المائية الباطنية. كما أن في فترات فيضان هذه الأودية تغمر مياهها جل الأراضي، وتحمل معها كذلك الطمي الذي ترسبه في «قعور لكراير»، التي تعد أخصب البقع الزراعية البورية بالصحراء ( 6) .