وحدة الإحياء

ملتقى الإحياء 8: “الاختلاف والغيرية في الإسلام”

نظمت الوحدة البحثية لمجلة الإحياء ملتقاها الثامن حول موضوع: “الاختلاف والغيرية في الإسلام” انطلاقا من منظورات معرفية ومنهاجية ومتكاملة؛ فقهية شرعية، ومقاصدية أصولية، وفلسفية عرفانية، وقانونية دستورية وسياسية. بمشاركة كل من الأساتذة: د. محمد الناصري (أستاذ باحث، كلية الآداب/بني ملال). ود. محمد المنتار (رئيس مركز الدراسات القرآنية، أكدال-الرباط). ود. عبدالصمد غازي (مدير موقع مسارات للأبحاث والدراسات الاستشرافية والإعلامية بالرابطة المحمدية للعلماء). ود. الحسان شهيد (باحث وكاتب في الدراسات الإسلامية والمعرفية). ود. عبدالسلام طويل (رئيس الوحدة البحثية لمجلة الإحياء، أستاذ زائر بكلية الحقوق، جامعة محمد الخامس/السويسي/سلا). وذلك يوم الثلاثاء 28 شوال 1437ﻫ الموافق لـ2 غشت 2016م بمقر الرابطة المحمدية للعلماء، ساحة الشهداء، الرباط.

استهل الأستاذ عبدالسلام طويل هذا الملتقى بالإشارة إلى أن السياق الاجتماعي والسياسي الذي باتت تعيشه أمتنا، وتُخيِّم عليه حالة عبثية من الاقتتال والاحتراب الطائفي والمذهبي والإيديولوجي، يفرض علينا طرح موضوع الاختلاف والغيرية بالجدية اللازمة. خاصة وأن هذا السياق التاريخي المأزوم قد ترتبت عليه حالة من التوتر المتصاعد في علاقة المسلمين فيما بينهم، وفي علاقتهم بالعالم من حولهم.

داعيا إلى تناول الموضوع واستشكاله بنفس تأملي موضوعي، وهو الأمر الذي تتيحه الطبيعة التنظيمية لصيغة الملتقى من خلال التحلق حول هذه المائدة المباركة بعيدا عن كل المؤثرات الجانبية مع ما يمكن أن ينتج عنها من تشويش. الأمر الذي يسمح بتبلور عملية عصف فكري تأملي بكيفية انسيابية توليدية مثمرة. وهو الأمر الذي لا تتيحه، في كثير من الأحيان، الصيغة الكلاسيكية للندوات العلمية المحكومة بالكثير من “الشكلانية” التنظيمية والتدبير الضاغط لزمن الجلسات الذي غالبا ما يجور على حيز المناقشة والتفكر والتأمل. خاصة ونحن نعلم أن التأمل، في سعيه الحثيث للبحث الجواني العميق على المعنى، يميز الفعل الثقافي مقابل الحضارة التي تقوم على العلم في بعده المادي القائم على التجريب، وعلى المعرفة الموضوعية..

بعد ذلك، تناول الكلمة الأستاذ محمد الناصري مستشكلا طرحه لقضية الاختلاف من خلال محاولة الإجابة عن الأسئلة التالية: “كيف كانت مواقف المدونة التفسيرية والفقهية من الآخر المختلف أو المناقض؟ كيف تعاملوا فقهيا مع الآخر؟ وهل جاءت المدونة الفقهية والمدونة الأصولية معززة لموقف القرآن الكريم والسنة النبوية القاضي باحترام الآخر والاعتراف بحقه في الاختلاف أم إن مواقف الفقهاء والمفسرين أسهمت في إفقار روح التسامح التي اتسم بها الخطاب القرآني؟”

مبرزا أن هناك نوعان من الاختلاف؛ الاختلاف ضمن المعتقد الواحد؛ حيث يكون الاختلاف في مستوى التأويل بناء عليه تكونت مذاهب الفقهاء وفرق المتكلمين، إلا أن اهتمام المتدخل سوف ينصب على نوع آخر من الاختلاف هو اختلاف فقهاء ومفسري الإسلام مع الأطراف المناقضة لهم، وهكذا تتلخص الأطروحة الأساسية لهذه الورقة في التأكيد بأن القرآن الكريم والسنة النبوية يؤصلان لعلاقة سلمية بين المسلمين وبين غيرهم. وعندما يقول السلمية؛ فالسلم، هنا، يأتي مستوعبا لكل معاني القبول بالاختلاف، واحترام المخالف في خصوصيته العقدية والثقافية والحضارية.

 بعد ذلك، ينطلق الأستاذ الناصري، في سبيل إثبات صحة هذا الطرح، من القول بأن الإسلام قد ظهر في زمن عدم الاعتراف بالآخر دينيا وحضاريا؛ فالحضارات التي سبقت الإسلام: (الفرعونية والإغريقية الرومانية) بقدر ما قدمت من نفع للإنسانية، بقدر ما أكدت في المجال الاجتماعي على مبادئ الاستعباد التي حكمت على الآخر بالدونية والاحتقار والإلغاء والإقصاء.

 ولأن المجتمعات السابقة تاريخيا على الإسلام مجتمعات حروب وعنف فقد وجه الإسلام أول نداء عالمي للسلام إلى كافة البشر، مخاطبا الأسرة العالمية بقوله: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً” (البقرة: 206)، نداء تحتمه وتقتضيه الخصائص الذاتية والسمات الكلية التي تتصف بها الأمة الإسلامية والتي تتحصل في كونها أمة الشهادة والوسطية والعالمية..

 بناء على هذه المسلمة أوضح الباحث كيف جاءت نصوص القرآن الكريم متضمنة لمجموعة من المبادئ والأصول باعتبارها محددات منهاجية يقوم عليها بناء علاقة المسلم بغيره، وتنظم هذه العلاقة وتضبط حركة هذه العلاقة وتوجه مسار هذه العلاقة نحو تحقيق معاني الإخاء والعدل والمساواة في العلاقة الإنسانية والاعتراف بالآخر. ليثور التساؤل حول ماهية هذه المبادئ التي تشكل الأطر المرجعية، والوحدة القياسية التي يتم الاحتكام إليها بصدد عملية التقييم؟

باستقراء آيات القرآن الكريم، وأحاديث السنة النبوية المتعلقة بأصول الرؤية القرآنية للعالم، والمبادئ الحاكمة لعلاقة المسلمين بغيرهم، دلل الأستاذ الناصري على أن تلك الأصول والمبادئ تنسجم وخصائص الأمة الإسلامية؛ إذ تتحصل في مبدأ التوحيد وما يفترضه من نبذ للتجزئة والصراع، وما يقتضيه من إيمان واعتراف بالديانات السابقة، وفي مبدأ العالمية وما يقتضيه من دعوة بالتي هي أحسن، وحوار بناء وانفتاح على الآخر مما يدعم علاقة التعاون والتعايش السلمي بين الشعوب والأمم، وفي مبادئ المساواة والعدل والحرية، باعتبارها الشروط الأساسية والضمانات الحقيقية لقيام علاقات التعارف والتعاون الموصوف بالبر والتقوى بين الأفراد والجماعات والأمم.

بعد ذلك تساءل: كيف يستقيم القول بسلمية العلاقة بين المسلمين وغيرهم، وباعتراف الإسلام بالآخر المخالف دينيا، مع وجود العديد من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة الداعية إلى المواجهة وإعمال السيف؟

من خلال تتبعه لسياق ورود آيات القتال الواردة في سورة التوبة بما فيها آية السيف تبين له عدم وجد أية آية في القرآن المجيد تشير إلى أن القتال في الإسلام ابتدائي، وأنه شرع لحمل الناس على الإسلام بإخراجهم من الكفر، بل إن آيات القتال في القرآن تؤكد أنه إنما شرع لرفع الظلم، وصد العدوان، والدفاع عن الأرض والنفس، ونجدة المستضعفين، ونشر السلم والسلام.

مبرزا كيف أن تتبع دلالات آيات القتال الواردة في سورة التوبة، بما فيها آية السيف، يبين أنه لا تعارض حاصل بينها وبين الآيات القرآنية الداعية إلى السلم والموادعة والمهادنة والصفح والتسامح مع الآخر المخالف دينيا، والاعتراف به وبحقه في الاختلاف، وإنما لآيات القتال مقاصد سامية لا علاقة لها بحرب ابتدائية، وبانتفاء التعارض بين آيات القتال والآيات التي ادعي نسخها بها يتم إبطال أهم شرط من شروط النسخ ألا وهو التعارض، إنما نقطع في حسم أنه لا تعارض في كلام الشارع..

ليخلص إلى استحالة نسخ آية السيف لآيات قرآنية من قبيل: “لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ” (البقرة: 255)، مشدّدا على أن الغاية من آية السيف ليست البدء بالقتال والإكراه على الدخول في الإسلام بقوة السيف ولا أدل على هذا من قول الله عز وجل لنبيه في الآية التي تلي آية السيف مباشرة: “وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ” (التوبة: 6).

ليخلص إلى أن القول بآية السيف يعطل العمل بآيات قرآنية هي من القواعد الكلية والمبادئ العامة في الدين الإسلامي، من ذلك: “لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ” (البقرة: 255)، “وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا” (يونس: 99)، “فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ” (الحجر: 85)، وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ” (فصلت: 33).

كما خلص الباحث إلى أن دعوى النسخ بآية السيف لا تستند على دليل واحد قطعي الدلالة مما جعله يقرر أن القرآن الكريم وسنة النبي، صلى الله عليه وسلم، يؤكد أن السلم هو الأصل في العلاقات الخارجية للمسلمين، فهو بهذا يمثل الحالة العادية لهذه العلاقات، وأن الحرب لا تعدوا أن تكون حالة استثنائية على هذا الأصل العام، لا يتم اللجوء إليها إلا لأسباب تقتضيها ودواعي تحتمها، وكلها أسباب ودواع لا تنطوي على ما يفيد أو يجيز مقاتلة غير المسلمين لمجرد بقائهم على غير ديانة الإسلام.

ومن جانبه، فقد أبرز الدكتور عبد الصمد غازي أن مدخل الأستاذ محمد الناصري يمثل تأصيلا فقهيا وشرعيا للاختلاف والغيرية في الإسلام، ولمبدإ من المبادئ السامية الذي به يتأسس الاختلاف وهو مبدأ الحرية، خصوصا في جانب من أخطر الجوانب المتصل بالاعتقاد، حرية الاعتقاد وحرية التصرفات، فتأصيل السلم في ديننا الحنيف وفي المنظومة القرآنية يؤكده منهج الاعتراف أو التعارف: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ” (الحجرات: 13).

 فالتعارف متصل بالسلم، والحرب منهجها التسلط، وتأملنا في كتاب الله العزيز يحيلنا إلى مرجعية المعرفة والتعارف والاعتراف من غير إكراه أو تسلط أو تسيد على بني البشر. وقد عمل على التأصيل لهذا الأمر من خلال ما يعرف في منظومة كتاب الله العزيز بـ”العهد الميثاقي”، ليعود بنا إلى ما يمكن اعتباره؛ ما قبل التاريخ، وما قبل الشهود، وما قبل عالم الحواس، وهو أصل يبرزه القرآن في الآية الكريمة: “وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى” (الأعراف: 172).

ليخلص إلى أن المنظومة القرآنية تؤصل أولا للتسوية بين بني البشر في درجة العبدية أمام الحق، عز وجل، وهذا في غاية الأهمية والمحورية. كما تؤصل ثانيا لمبدأ المشترك الإنساني، ومصداق ذلك أن المنظومة القرآنية أتت بقيم عالمية كونية يمكن اعتبارها بمثابة قواعد عامة من شأنها أن تشكل فضاء تشترك فيه الإنسانية جمعاء.

ويعد بمثابة أرضية راسخة للحوار والتنوع والتعدد، فإذا كان هناك اشتراك من حيث أساس الخلقة، وتسوية البشر من الناحية الفيزيولوجية، فقد أوضح الأستاذ غازي أن هناك مشتركات خلقية يحتكم إليها الناس من خلال قيم الخير والعدالة والحرية والكرامة التي أجمع عليها الناس، فهذا الاختلاف والتنوع والتعدد الذي له مظهر كوني في اختلاف الآيات، له كذلك مظهر إنساني من خلال تنوع وتعدد الشعوب والقبائل والأعراق والأديان.

فالأمر يتعلق بـ”سنن كونية وبشرية أصل لها مبدأ التعارف المنبني على مبدأ الاعتراف بالربوبية لله، سبحانه وتعالى، ولذلك فمنطق الواحدية والشمولية أو أي منظومة تحاول أن تقهر الخلق من أجل أن تجعله شبيها أو مطابقا لغيره لا أصل لها في التصور القرآني” مشيدا بربط هذا الملتقى للاختلاف بمبدأ الغيرية؛ لأن “الغيرية ليست هي الاختلاف؛ فالغيرية هي منحى السعي نحو المطابقة أو نحو الوحدة بدون المشابهة والمطابقة التي تلغي الآخر، كقوله تعالى: “لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ” (الكافرون: 6)، فهنا أسس سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لمبدأ الغيرية مع الاعتراف بالمخالف دون سعي للتطابق معه مراعاة لضوابط تشريعية وقانونية يعلمها أهل الاختصاص”. مدللا على أن ترسيخ الواحدية، والسعي نحو التنميط والمماثلة عادة ما يؤسس للعنف.

وتمييزا بين المعيارية والتاريخية؛ يؤكد الأستاذ عبد الصمد غازي أن “هناك أخطاء، وهناك منزلقات في التاريخ الإسلامي نجد رصدها بكل تفصيل عند ابن خلدون وغيره من المؤرخين، وهي أخطاء يمكن أن نتدارسها بكل موضوعية، وبكل تجرد. غير أنه يشدد، في الوقت عينه، أن هذه المنزلقات لا علاقة لها بالمنظومة القرآنية المنزلة وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم”.

مشددا على ضرورة قراءة تاريخنا المعاصر وتحدياته بالرجوع إلى المنظومة القرآنية واستنطاقها وفق التحديات الراهنة. كاشفا أن “هناك سياقات تاريخية تحكمها مقتضيات ينبغي أن نفحصها ونتفهمها ونرتبط بالنصوص الأصلية المؤسسة للتشريع حتى يمكن أن نخرج بأجوبة مقنعة تؤسس لمبدأ السلم والتنوع والتعدد والاختلاف في الإسلام”.

ومع أن الأستاذ عبد الصمد غازي انتقد الفلسفة الهيغيلية من خلال النقد الذي وجهه لها جيل دولوز (Gilles Deleuze)؛ وبوجه خاص نزوعها إلى وضع حركة للمفهوم المجرد بدلا من حركة الطبيعة والناس، وإجهازها، وهي تنحو منحى الكلية والتجريد والإطلاق، على مظاهر الخصوصية والفرادة الإنسانية، إلا أنه يعود ليعبر عن مدى تقصير العقل الإسلامي في الصياغة الفلسفية للخطاب القرآني؛ بحيث أننا لم نستطع أن نفلسف مفاهيمنا القرآنية انطلاقا من منظور منهاجي نسقي، يضاهي ما عند غيرنا من تنظيرات فلسفية كالذي نجده عند هيغل (Georg Wilhelm Friedrich Hegel)”.

كما أشار إلى أننا عادة ما نفهم المختلف على أنه النقيض في حين ان المختلف لا يعد بالضرورة نقيضا، إنه مختلف بحكم الطبيعة. مبرزا أن علاقة التناقض ليست علاقة مؤسسة للاختلاف، لأن الاختلاف مفهوم يؤمن بالتنوع والكثرة والتعدد وليس بالتناقض.

ومن جهته فقد أوضح الأستاذ عبد السلام طويل كيف أن الفلسفة الهيغيلية تعد فلسفة مؤسسة للفكر الغربي الحديث، وبالتالي للفكر الكوني، وفيما يتصل بالحديث حول الاختلاف والغيرية فإن جوهر الفلسفة الهيغيلية مبني على المطلق والكلي، من خلال تمثل العالم، وتمثل الكون، وتمثل المعرفة تمثلا كليا، تمثلا مطلقا، ولهذا فإن موقف هيغل من نابليون يتصادى مع موقفه من نموذج الدولة البيسماركية التي تمثل التجلي الأسمى والأجلى للدولة القومية، بما هي تجسيد تاريخي عيني موضوعي للفكرة المطلقة والكلية.

غير أن هذه الكلية وهذا النزوع إلى الإطلاق لم يكن إلا تعبيرا عن حالة التشرذم والفوضى والاحتراب والتمزق التي عرفتها المجتمعات الأوروبية من جراء الحروب الدينية، والصراعات المذهبية والطائفية؛ بحيث لا يمكن فهم نزوع هيغل إلى المطلق وإلى الكلي ، بل ولا يمكن فهم حتى الفلسفات الشمولية سواء كانت نازية أو فاشية أو ماركسية إلا كرد فعل على ما عرفته المجتمعات الأوروبية من اقتتال ومن احتراب طائفي ومذهبي وديني ومن تناقضات اجتماعية حادة..

ومعلوم أنه قد ترتب على هذا النزوع موقفين أو الأحرى عرضين جانبيين: أولهما؛ تمثل في النزعة الفوضوية، وثانيهما؛ تجسد في النزعة العدمية أو العبثية. وأعتقد أن هذا ملمح أساسي جدا في فهم السياق التاريخي والحضاري الذي حكم وأطر إشكالية الاختلاف والغيرية في السياق الغربي المعاصر.

وتفاعلا مع ما تفضل الأستاذ غازي بطرحه وهو يتحدث عن القيم الأخلاقية الأساسية باعتبارها قيما ثابتة، فقد أوضح الأستاذ عبد السلام طويل أن الجوهر القيمي الإنساني الصميم مرتبط بالثقافة في حين أن العلم والتعلم مرتبط بالحضارة؛ إذ لا حضارة بدون علم وتعلم، ولا ثقافة بدون تنوير وتأمل.

فالتأمل طاقة باطنية جوانية للتعرف على الذات وعلى موقع الإنسان في العالم وعلاقته الصميمة بالناس من حوله؛ فهو فعالية إنسانية مختلفة عن العلم والتعلم؛ إذ بينما يفضي التأمل إلى الحكمة والسكينة الروحية والكياسة في التعامل مع الآخر، وإلى نوع من “التطهير الجواني” من خلال الاستغراق العميق في الذات سبرا لأغوارها الدفينة وأسرار الوجود من حولها، فإن العلم ينصب على الطبيعة لمعرفتها وتغيير ظروف الوجود في كنفها، وبينما يتوسل العلم بالملاحظة والتحليل والتقسيم والتجريب والاختبار، فإن التأمل يُعنى بالفهم الخالص. وإذا كان التأمل يجعلنا نتحكم في النفس فإن العلم يسعفنا في التحكم والسيطرة على الطبيعة. ولا ريب أن العلاقة السوية بالآخر تتحقق من خلال التحكم المستبصر في النفس.

ولما كانت الحضارة مرتبطة بالعلم فهي متغيرة ونسبية؛ لأن النظرية العلمية هي تلكم النظرية التي تعد بالتعريف قابلة للتجاوز، أما القيم والأخلاق فتحوز على درجة معتبرة من الثبات.

ولذلك فهناك قيم إنسانية أساسية لا يمكن الاختلاف حولها، وهو ما يجعلها تتميز بدرجة من الرسوخ. طبعا البارادايم يختلف، والنسق يختلف، لكن القيم الأخلاقية بطبيعتها تتميز بدرجة من الثبات تختلف عن الحقيقة العلمية المتغيرة والنسبية.

وفي سياق إشارة الأخوين غازي والناصري إلى مركزية الحرية في صلتها بالدين، أشار عبد السلام طويل إلى أن الدين بدون حرية يغدو محض أخلاق للعبيد، ويغدو وعيا زائفا. في حين أن الدين في جوهره يعد بمثابة نزوع للتحرر من كل أشكال القسر والإصر والأغلال والاستلاب والوعي الزائف، فما أن يصير خلاف ذلك حتى يفقد حقيقته وجوهره وماهيته ومغزاه؛ لأن جوهر الدين قائم على الحرية وقائم على التحرر.

كما شدد على أن مسافة الخلف بين الفقه الإسلامي وبين منظومة القيم القرآنية تبدو عميقة وعبثية؛ فحرية الاعتقاد تعد من المقومات الأساسية للتصور القرآني للوجود الإنساني والحقيقة الإنسانية: “وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ” (الكهف: 29)، لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ” (البقرة: 256)، “إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ” (القصص: 56).

مبرزا أن المنطق الفقهي الذي “طَبَّعَ” مع أحكام الردة، في انحراف بين عن روح النص ومقاصده الكلية، يزعزع الثقة الواجبة في القوة الإقناعية لمنظومة القيم الإسلامية الحاكمة، ويسهم في إنتاج مجتمع من المنافقين؛ بحيث إذا زاع الدين عن جوهره التحرري والتحريري فإنه سرعان ما ينتج كتلا من المنافقين والعبيد.

 وفي هذا الإطار يعود الأستاذ عبد السلام ليذكر بأن الحضارة تنحو دائما منحى التنميط والمماثلة لأنها قائمة على العلم وقائمة على التقنية وعلى الإنتاج المادي وهو ما يجعلها تنحو نحو التعميم، الأمر الذي يفسر النزعة الإطلاقية والكلية عند هيغل. إن هذا التمييز بين الحضارة والثقافة أساسي؛ فكلما هيمنت الحضارة، كلما ساد التنميط والتماثل وضعف هامش الاختلاف والغيرية، الأمر الذي يقتضي الوعي بحيوية تطعيم الحضارة بالثقافة، باعتبار أن الثقافة تمثل نزوعا باطنيا جوانيا للتأمل والفَرادة والاختلاف وإبراز القيم الإنسانية المشتركة.. مثلما أن نزوع الإنسان للتمرد على طبيعته الحيوانية هو الذي يشكل شرط إنسانيته الصميم؛ بحيث كلما تحقق هذا الشرط كلما تحققت منظومة القيم الأخرى في الاختلاف والغيرية والمآخاة..

أما الأستاذ الحسان شهيد فقد اعتبر أن موضوع الاختلاف والغيرية يمكن تناوله بمقاربات متعددة، منها ما هو تربوي، ومنها ما هو أنثروبولوجي، ومنها ما هو حضاري، وثقافي ونفسي. ليتساءل: كيف يمكن للثقافة و كيف يمكن لهوية ما أن تستصحب في تفكيرها أن هناك وجودا مغايرا لها؟

ليجيب: “أعتقد والله أعلم أن هاته القدرة لا يمكن أن تكون إلا نابعة من اعتقاد وعقيدة، لأن الاعتراف بوجود الآخر هي مسألة عقيدية بمعنى مسألة نفسية ثقافية أصيلة، لا يمكن اعتبار هذا الأمر دون أن تكون له مرجعية أساسية قانونية أو عقيدية أو دينية كيفما كانت حتى يكون هذا الإنسان أو هاته الثقافة ككل لها خطاب مغاير، ولها خطاب معترف، ولها خطاب تعايشي مع الآخر”.

يصدر الأستاذ الحسان عن تصور للإنسان يتشكل من ثنائية الروح والجسد وثنائية العقل والنفس، كاشفا أن “هذا التقسيم يحمل في طياته اتفاقا طبيعيا، مثلما يحمل في ذاته اختلافا ثقافيا؛ فبالنسبة لثنائية الروح والجسد عادة ما يعجز الإنسان عن تدبير الاختلاف الثقافي؛ لأن الخطاب المشكل لهذه الثنائية يعد خطابا تكوينيا كما يقول الإمام الشاطبي في موافقاته، فالخطاب التكويني كالخطاب التشريعي يستحيل أن يعرف أي ضرب من الاختلاف. في حين أن العقل والنفس يمكن استثمارهما في تدبير الاختلاف والوعي به..”.

كما أشار إلى أن العلماء عبر التاريخ لهم مواقف متباينة في تقييمهم وفهمهم للأحداث التاريخية والسياسية، والتحولات الاجتماعية، وكيف أن الواقع السياسي والحضاري قد كرس اختلافا في الآراء عبر التاريخ بين العلماء وذلك استجابة لما درج المؤرخون على تسميته بـ: الظهور، والتمكين، والتراجع؛ فالفقه السياسي الإسلامي في حالة التراجع ليس هو الفقه السياسي في حالات الظهور والتمكين..

حينما نجد تضافر نصوص قرآنية كثيرة تدعوا إلى السلم، وإلى التعايش، وإلى الرحمة، وحينما نجد أفعالا وأقوالا للنبي، صلى الله عليه وسلم، تدعو إلى الرحمة في الجهاد، وتدعو إلى خفض الجناح، وتدعو إلى اللين والرحمة، وتدعو إلى إحياء النفوس من جانب الوجود، ومن جانب العدم، حينما نجد هذه النصوص كلها متضافرة على معنى السلم وعلى معنى التعايش وعلى الرحمة، فإن ورود بعض النصوص التي قد تفيد ظاهريا خلاف ذلك، لا يقدح في هذا المعنى الكلي.

ومن جانبه فقد انطلق الأستاذ محمد المنتار من التشديد على أننا حينما نتحدث عن الاختلاف فإننا نتحدث أولا عن قضية التعارف، نتحدث عن الآخر، نتحدث عن القيم من قبيل: العدل، المساواة والحرية. موضحا كيف أننا نجد ورودا لهذا المصطلح، مادة اختلف وجذرها وما ينتمي إليها في القرآن الكريم تجاوزت الخمسين موردا، بصيغ مختلفة؛ صيغة الفعل المضارع، وصيغة الاسم، وصيغة المصدر.

من قبيل قوله تعالى: “وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ. إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ” (هود: 117-118)، وقوله: “ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة مستخلصا أن هذه الآيات وغيرها تستبطن شرعية للاختلاف وبالتبع شرعية للغيرية. ومبرزا كيف أن المفسرين يركزون كثيرا عند تفسيرهم لهذه الآية على قوله عز وجل: “ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك”، وكذا قوله: “ولذلك خلقهم”، فهل المقصود وجوبية الاختلاف، وأنه مقصد من المقاصد، وبأنه لا تستقيم الحياة إلا به؟

 وهنا يتحدث العلماء خصوصا منهم القدامى عن الاختلاف في المجال الكوني ويؤصلون له بالاختلاف في الآيات، والاختلاف بين الليل والنهار وآيات الاختلاف كلها، ثم يمرون مباشرة إلى الاختلاف في المجال الإنساني. وحينما نتحدث عن الاختلاف في المجال الإنساني نجد أن العلماء خصوصا المهتمين فيهم بفقه التنزيلات والتأصيلات، يتحدثون عن مسار تشكل الفهوم التي أنتجت حول النصوص القرآنية والحديثية، ويتحدثون عن مسيرة الفقه وما تبعها من تأصيل للأدلة وما تبع تأصيل الأدلة من تبلور جملة من الضوابط.

وفي سياق آخر عاد الأستاذ عبد السلام طويل ليؤكد أن الخبرة الحضارية للأمة العربية الإسلامية في تدبير الاختلاف كانت في عمومها إيجابية. والدليل على ذلك؛ هذا التراث الضخم حول أدبيات “الملل والنحل”، خاصة في مراحل الرخاء والتقدم الحضاري للأمة حيث تم استيعاب كل المكونات الحضارية للأمة بمختلف مللها ونحلها وعقائدها. والدليل على ذلك أن المسيحيين واليهود العرب ظلوا يعتبرون أنفسهم مسلمين حضاريا.

وهنا وجب التمييز بين تدبير الاختلاف حضاريا واجتماعيا بين مختلف مكونات الأمة، وبين التدبير السياسي للاختلاف، وهو التدبير الذي شهد ردة حقيقية عن روح ومعيارية القيم القرآنية كما ترجمتها صحيفة المدينة. وهكذا فبينما نجحت الأمة في تدبير اختلافها حضاريا وعقديا واجتماعيا فشلت في تدبير هذا الاختلاف سياسيا بفعل هيمنة منطق العصبية والبنيات القبلية والعشائرية والطائفية. رغم ما كان في مكنتها من مقومات من قبيل؛ مركزية الحرية في منظومة القيم الإسلامية؛ بحيث لا دين بدون حرية، وكذا مركزية المنظور المقاصدي في القيام بعملية الاجتهاد، وغياب أي شكل من أشكال النظام الكهنوتي، والطبيعة المدنية التعاقدية لنظام الحكم في الإسلام وهو النظام الذي يستلهم معياريا قيم العدل والمساواة والتعارف والمآخاة.. بحيث كلما ارتقى مستوى التطور الاجتماعي والاقتصادي والحضاري في المجتمعات الإسلامية كلما تمثل المسلمون دينهم ونزَّلوه بطريقة حضارية، وبالتالي استحضروا قيم الاختلاف والغيرية وتسامحوا مع غيرهم.

كما أشار الأستاذ طويل إلى أن المجتمعات الأوروبية الحديثة في تدبيرها للاختلاف من خلال المدخل الديمقراطي كنظام دستوري لتدبير الشأن العام، والتداول السلمي على السلطة، وتوزيع الموارد المادية والرمزية في المجتمعات، بحيث لا يقع احتراب ولا اقتتال، ثم التمييز الوظيفي بين ما هو ديني وما هو سياسي، وكذا النزعة الإنسانية التي قامت على إعادة الاعتبار إلى الإنسان/الفرد وإلى العقل كمصدر للتشريع، كرد فعل على هيمنة الكنيسة وهيمنة الدين في نسخته المحرفة، وهو ما جعله بحق، أفيونا للشعوب وعامل استلاب واستغلال لها.

وقد أوضح كيف أن الدولة الوطنية الحديثة وهي تقوم بكل ذلك، إنما ظلت تقوم به انطلاقا من تأسيسها وبلورتها لبرادايم قائم على فكرة المواطن الفرد، وعلى منظور فردي للحقوق والوجبات الخاصة، وهذا المواطن الفرد يخضع لتنشئة موحدة من خلال مدرسة وطنية عمومية، فحينما نتحدث عن التنشئة فإننا نتحدث عن الثقافة الجماهيرية، وبالتالي فإننا نتحدث عن التماثل، وبالتالي نتمثل المواطنة في بعدها الفردي..

 غير أن هذا المنظور بات يواجه تحديات حقيقية بفعل التغير العميق في طبيعة الحقوق التي لم تعد حقوقا فردية وإنما حقوقا جماعية ذات طبيعة ثقافية ودينية بفعل ظاهرة الهجرة؛ حيث لم تعد المطالب والحقوق والواجبات فردية مرتبطة بالمواطن الفرد، الذي يخضع لنفس التنشئة ولنفس النظام الثقافي، بل أصبحت هناك مطالب نوعية لجماعات فرعية، وهذه المطالب أصبحت جماعية ذات طبيعة دينية وثقافية، وهو ما كشف محدودية النموذج القديم، القائم على الدولة الوطنية والمواطنة الفردية، وفرض على الفكر السياسي الغربي الحديث التفكير في نمط جديد لاستيعاب هذا الشكل الجديد من المواطنة..

 وهذا النمط الجديد من الحقوق الجماعية الثقافية والدينية، وهو ما حاولت أن تبلوره نظرية التعددية الثقافية التي تمثل أحد أرقى أشكال التفكير في تدبير الاختلاف في المجتمعات الغربية. ولا ريب أن الوجود الإسلامي في المجتمعات الغربية محدد موضوعي أساسي في تطوير هذه النظرية نظرية التعددية الثقافية، بحيث ينطرح الإشكال على الصيغة التالية: كيف نحمي النسيج الثقافي والحضاري في المجتمعات الغربية مع ضمان الحقوق الجماعية ذات الطبيعة الثقافية والدينية لمختلف الأقليات باعتبارها جماعات فرعية، وهذه المسألة إذا لم يتم النجاح في تدبيرها بشكل وظيفي ناجع في إطار عقلانية دستورية مرنة ومستوعبة، وفي إطار ثورة ثقافية وقيمية قد تشكل بداية تصدع وتوتر تاريخي في المجتمعات الديمقراطية المعاصرة.

ومن جهته، فقد ذهب الأستاذ محمد الناصري إلى أن “مسألة تدبير الاختلاف في التاريخ الإسلامي لم يكن تدبيرا إيجابيا”؛ وفي هذا السياق يتساءل: صحيح أن الاختلاف منصوص عليه في نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية، ولكن هل التجربة التاريخية أسهمت في تعزيز هذا الأمر أم أنها أسهمت في إفقار روح التسامح والاختلاف التي اتسم بها الخطاب القرآني؟

ليتفاعل الأستاذ عبد السلام طويل موضحا أننا “حينما نقارن الخبرة الحضارية العربية الإسلامية في مجملها فإنه لا يمكننا أن نصدر حكما موضوعيا بشأنها إلا بالنظر إلى أمرين أساسيين؛ أولا مقارنة هذه الخبرة بالتجارب الحضارية المساوقة لها زمنيا. ولا ريب أن التجربة الحضارية بهذا المنطق المقارن تبدو في غاية التميز. وثانيا تقييم هذه الخبرة بالنظر إلى مدى تمثلها واحتكامها للمرجعية التصورية والقيمية الإسلامية. وقد سبق أن أشرت إلى أن الفقه الإسلامي لم يرق إلى مستوى معيارية المنظومة القيمية القرآنية. بل ذهبت إلى حد القول بأن الفقه الإسلامي “طبَّع” مع العبودية حينما لم يعط لقيمة الحرية المكانة المركزية التي تحتلها في النظام القيمي المعياري للإسلام؛ بحيث أن الحرية تمثل جوهر الدين بتحققها يتحقق وبغيابها يضمحل ويغيب بل ويتحول إلى نقيضه”.

ومرد ذلك، من وجهة نظر عبد السلام طويل، يعود إلى استحكام البنية العشائرية والقبلية والطائفية والقيم البدوية، مشددا على أن الإسلام لا يتحقق كمال التحقق إلا في بيئة مدنية مدينية، ومن هنا نستوعب مغزى الحديث النبوي: “من بدا فقد جفا”، وكذا الأثر الذي يعتبر أكثر من ذلك: “من بدا فقد كفر”. كما يعود إلى التأثير السلبي لما ورثه المسلمون من أجهزة الدولتين البيزنطية والفارسية؛ حيث نشأت الدولة التاريخية في آسيا الغربية مبنية على الحق الإلهي وسلطة فردية مطلقة مستهدفة الشهرة والقهر والرفاهية في تناقض صارخ مع المعيارية الإسلامية في تدبير الأمة لشؤونها العامة.

أما الأستاذ محمد المنتار فقد عاد ليعبر عن تخوفه من هيمنة النزعة النرجسية في مقاربتنا لقضايا القيم الإسلامية والمقاصد الحافظة للحقوق والحريات؛ الأمر الذي يحدث مفارقة حقيقية بين الواقع والمثال. وهو ما يستدعي مقاربة نقدية تقوم على “غربلة التراث غربلة دقيقة جدا”.

كما أشار إلى مسألة بالغة الأهمية تتصل بضرورة الحسم بصدد الأحاديث التي تتعارض مع روح القيم القرآنية ومقاصده. مؤكدا أن علماء الإسلام اليوم لديهم كل الشروط العلمية للحكم على مدى مواءمة الحديث لروح النص ومقاصده الكلية سندا ومتنا. وتشديدا على هذا الأمر يقول: “لذلك فأنا لا أسمح لنفسي كباحث أن أتحدث في قضية يتوفر لدي إمكان الحسم فيها وأكرر خطابا (تاريخيا) حولها”.

كما أشار إلى أن “تجارب الاختلاف التي شهدها الغرب الإسلامي تعد متقدمة جدا على تجربة الشرق الإسلامي”، ووقف بشكل خاص على كيفية إسهام المذهب المالكي والمنزع المقاصدي في تدبير الاختلاف مع الظاهرية؛ من خلال الرجوع إلى “أجوبة الباجي على قضايا ابن حزم وانتقاده لعمل أهل المدينة، وإلى أجوبة ابن عربي المعافري (543ﻫ) في تعامله مع الظاهرية”. وفي هذا السياق دعا لاستحضار “فقه النوازل كباب وكنافذة تمكننا من أن نرى من خلالها أدب الاختلاف كما سماه الدكتور طه جابر العلواني رحمة الله عليه”.

وبعد أن أشاد الأستاذ طويل بفكرة الحسم كما طرحها الأستاذ المنتار شدد على أن عملية الحسم ستظل قليلة الفاعلية إذا ما بقيت نخبوية مفتقرة إلى حامل اجتماعي وحضاري يفعلها في التاريخ من خلال التوسل بشتى آليات التربية والتعليم والتوعية والتنوير والتأطير الاجتماعي..

ليخلص إلى أن مسألة الاختلاف والغيرية في الإسلام تستبطن بعدين؛ بعد تمثلي وبعد تدبيري. فبالنسبة للبعد الأول فإنه ما لم يتحول الإسلام إلى نظام سلوكي نتمثل منظومة قيمه ونتحرك بها تلقائيا بوعينا ولاوعينا، فإنه لن يكون فاعلا ولا مؤثرا في التاريخ، فعالية تسعفنا في النهوض بواجب الشهود الحضاري، وبواجب الاستخلاف والتعمير.

مبرزا في هذا السياق مدى الحاجة الماسة لحركة إصلاح ديني حقيقية تبعث دماء الحياة والحيوية في منظومة القيم القرآنية حتى نتمثلها بإيجابية وفاعلية عبر مختلف مؤسسات التنشئة الاجتماعية، خاصة ونحن نعلم أن العطب الكبير الذي باتت تعانيه معظم مجتمعاتنا العربية الإسلامية هو التعليم من خلال تأزم وعدم فاعلية جل الأنظمة التعليمية المعتمدة في عالمنا الإسلامي، فأنت لا يمكن أن تتمثل منظومة القيم الإسلامية التي تشكل الإسمنت الاجتماعي الحافظ لوحدة الجماعات الوطنية وتماسكها، والكافل لنهضتها وتقدمها، في حين أن منظومتك التعليمية والتربوية مأزومة.

أما بالنسبة للبعد التدبيري؛ فقد أبرز كيف أن التدبير المؤسسي الدستوري العقلاني يظل شديد الارتباط بالتدبير والتمثل التربوي التعليمي؛ لأن مخرجات النظام الاجتماعي كلها مرتبطة بالتعليم، بحيث لا يمكن الانتقال من مستوى التمثل إلى مستوى التدبير إلا إذا نجحنا في بناء منظومة تربوية وتعليمية حقيقية. علما أن التدبير بدوره له بعدان؛ بعد لغوي وثقافي ينصب حول كيفية تدبير الاختلاف الثقافي واللغوي بين الناس في كنف الجماعة الوطنية أو الأمة. وبعد سياسي من خلال المنظومة الديمقراطية التي أمست كسبا كونيا.

فمع أننا خطونا خطوة مهمة والحمد لله في بلدنا من خلال دسترة مبدأ التعددية اللغوية والتعددية الثقافية بمكوناتها؛ العربية، والأمازيغية، والحسانية، والأندلسية، والحسانية، والعبرية، إلا أن هناك دائما مسافة خلف بين الدسترة؛ أي بين العقلانية الدستورية وبين التطور الاجتماعي والثقافي والسياسي الفعلي، وهي مسافة الخلف التي تُحدث توترا إيجابيا محفزا على الإبداع والاجتهاد والتجديد رفعا لهذه المسافة حتى يقترب الواقع من مثاله.

أما الأستاذ عبد الصمد غازي فقد نبه على أن “المنظومة القرآنية ليست مرتبطة بزمن التمكين وزمن الخنوع؛ فزمن التمكين وزمن الخنوع مرتبط بسياقك الحضاري أنت أيها المسلم المتخلف، أما القرآن فهو خطاب متعال عن الزمن والمكان خطاب مطلق، ولذلك هناك إشكال آخر مفاده أن القرآن تعرب، في حين أن القرآن ليس للعرب وإنما للناس كافة..”.

 مشددا على أننا معنيون بمعرفة كيفية تمثل وتنزل القرآن في مختلف بقاع العالم وفي مختلف الشعوب والأمم. ومؤكدا وجود منظومة قيمية إسلامية حية؛ بحيث “لم يكن دائما التاريخ مظلما، لقد مرت التجربة الأندلسية في غاية التسامح، ومرت التجارب المغربية في غاية الروعة، وكذلك الأمر في المشرق، لقد تعاقبت الأمم والأجناس، وجاء الأتراك، وجاء الفرس، وجاء السلاجقة، وجاء حتى العبيد وحكموا الدولة الأيوبية”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق