الرابطة المحمدية للعلماء

مصادر التكوين العلمي المنهجي في حياة الطالب (الجزء الأخير)

خصص الدكتور المحاضر إدريس نغش الجابري اللقاء الثالث والأخير من الدورة التكوينية للحديث حول موضوع المصدر الثالث من مصادر التكوين المنهجي في حياة الطالب، ألا هو الذات المبدعة، وذلك من خلال طرح الإشكال التالي “كيف تكون الذات مصدرا لتكوين ذاتها؟” وتبيين الشروط المطلوب توفرها في الذات لتكون مصدرا إيجابيا في عملية التكوين.

   قسم الأستاذ هذه الشروط قسمين اثنين:

1-     شروط تتعلق بسلامة جهاز الاستقبال: فبقدر سلامة جهاز الاستقبال بقدر ما تتم الاستفادة من الموجه ومن الكتاب (وهما موضوعا الجزء الأول والثاني من الدورة).
2-    جودة استعمال المعلومة: أي التعرف على كيفية استعمال هذا الجهاز الذي زُودنا به فطريا للتعامل مع المعلومات المستقاة من الواقع الخارجي.
أجاب الأستاذ عن السؤال السابق، “كيف تكون الذات مصدرا لتكوين ذاتها؟” من جهتين:
أ‌-    أنها تحقق شروط التكوين، وهي بدورها تتلخص في أمرين اثنين: أولهما سلامة جهاز الاستقبال وثانيهما فاعلية الاستعمال، وإذا تححقا هذان الشرطان صارت الذات قادرة على أن تفيد وتستفيد.

ب‌-     ممارسة الإبداع: وتتجلى في أمرين اثنين أولهما: حسن التوظيف، أي كيف توظف المعلومة التي تستقبلها استقبالا جيدا، وثانيهما الإبداع في التأليف.

كما بين الأستاذ أن سلامة جهاز الاستقبال عند الطالب تكون باشتراط أمرين اثنين: أولهما التخلية، أي تجاوز العوائق الموضوعية والذاتية التي تحول بين الطالب وبين حسن الاستفادة مما يقرأ، ثانيهما التحلية، أي استكمال الموجبات النفسية والعلمية التي بدونها لا يستطيع الطالب أن يتعامل مع المعرفة المستقاة من الواقع الخارجي تعاملا نافعا.

المحور الأول: فاعلية الإستعمال

 تتجلى فاعلية الاستعمال في ثلاث معايير أساسية أصل ومبدأ وقانون؛ أما الأصل فهو أنَّ تثبيت العلم إنما يكون بالعمل، وثانيهما مبدأ يُعرَف في تاريخ الفلسفة بمصطلح التموضع، وثالثها قانون يعرف في البيولوجيا بقانون الاستعمال والإهمال. تنفع  كلها في تحرير فكرة تجويد فاعلية الاستعمال، أي إستعمال جهازنا في التلقي إستعمالا جيدا. إذن، كيف تكون سلامة الجهاز؛ وكيف تكون الفاعلية؟ يتمثل هذا في أمرين مهمين:

1-    تجاوز العوائق التي تنقسم بدورها إلى قسمين اثنين: أولا العوائق الموضوعية وهي عموما عند المشتغلين بمجال تاريخ العلم وعلوم التربية تتقسم إلى نوعين اثنين: أولهما المحيط التربوي والإيديولوجي إذ أن طريقة تعامل الناس مع المعلومة تتأثر ببيئتهم. وثانيهما: لا بد أن يكون للطالب علم بمرجعيات المقروءات، فكل ما يقرؤه الطالب يؤول إلى خلفيات فلسفية ومذهبية علمية، فالدراية بهذه الخلفيات ينير الطريق أمام الباحث والطالب والمتعلم للاستفادة من المراجع والمصادر التي يطالعها بشكل أفضل، ويدرك بذلك الأبعاد الخفية الكامنة وراء الأسطر.

2-     العوائق الذاتية التي تنقسم بدورها إلى قسمين: إما عوائق نفسية، وقد تقدم ذكرها في مصدر الكتاب، ألا وهي العجز والكسل الخجل، التكبر، حب الشهرة، مجالسة السفهاء. فبقدر ما يتحرر منها الإنسان بقدر ما ينمي قدراته الذاتية ويطور جهاز الاستقبال العلمي لديه، أما العوائق العلمية فمنها مثلا: دخول العلم من غير بابه؛ فالذي يدخل العلم من باب المُلح والمكملات يفسد على نفسه الاستفادة بشكل جيد مما يقرأ فلابد للذات أن تكون على علم ودراية بالمداخل المطلوبة في كل علم فتدخل من أبوابها لا من سطوحها. ينضاف إلى ذلك سوء الاستدراك وهو الظن أن الإنسان إذا ما فاته علم لا يقدر على استدراكه.

وفيما يخص استكمال الموجبات فقد قسمها الأستاذ إلى نوعين: موجبات نفسية وموجبات علمية، أما الموجبات النفسية فأولها إخلاص النية في طلب العلم، أي أنك تطلب العلم لذاته لا لأغراض منفعية مادية، ثانيها الشروط الخلقية للتلمذة وثالثها حب الكتاب وحمل هم العلم. أما الموجبات العلمية فهي ثلاثة أيضا: أولها الدخول في قِلد العلماء والاستفادة من خبرتهم في العلم وطرقهم في التعلم لتحسين جهاز الاستقبال لدى الطالب، وثانيا كثرة السؤال العلمي وأخيرا ممارسة الكتابة، لأن الممارسة تنمي القدرات بشكل جيد.

  كما أشار الأستاذ إلى فاعلية الاستعمال التي تتقوى بكثرة الممارسة ودليل ذلك ثلاثة أمور:

1-    أصل أصيل: وهو موجود في العلوم الشرعية الإسلامية كما هو موجود في جل العلوم الدنيوية، ويقول بأن العمل هو تثبيت للعلم، ويقصد بالعمل ثلاث مراتب: أولا العمل بالعلم من خلال تنزيله في أرض الواقع أي العمل به شخصيا، والمرتبة الثانية تعليمه للناس، أما المرتبة الثالثة فهي نشره من خلال التأليف فيه. والعلم باعتباره شيئا مكتسبا سيموت إن لم يوظف.

2-     المبدأ: المقصود هنا مفهوم فلسفي لكن له قيمة في تاريخ العلم وفي علوم التربية وله حضور قوي فيهما، وهو مبدأ التموضعobjectivation  ويعبر عن عملية التفاعل التي تحدث بين الذات والموضوع، فبقدر تفاعل الذات مع الواقع الخارجي بقدر ما تكتشف الذات مهاراتها وتعمل على تنمية هذه المهارات كما بدورها تساهم في تغيير الواقع الخارجي.

3-    قانون الاهمال والاستعمال: قانون علمي معروف في مجال البيولوجيا لكن يمكن استعماله حتى في مجال علم النفس، وما يقصد بمجال علم النفس هنا هو تطوير المهارات النفسية للتعامل مع العلم والمعرفة، ويشير هذا القانون إلى أنه بقد ما تستعمل أعضاءك الفيزيزلوجية بقدر ما تنميها، فالذي يتدرب على مهارة الفهم باستمرار تنمو عنده هذه المهارة بشكل جيد، أما الذي يهملها فمصيرها التضاءل حتى تتبلد عنده كل القدرات؛ فبقدر ما نكتب ونبدع فإننا نقوي بذلك جهاز الاستقبال عندنا وننمي فاعلية استعماله.

المحور الثاني: ممارسة الإبداع

 

أشار الأستاذ في هذا المحور إلى شكلين من ممارسة الإبداع أولهما: حسن التوظيف وثانيهما الإبداع في التأليف.

أ‌-    حسن التوظيف: يعني به الأستاذ كيفية توظيف المقروءات في البحث العلمي، ويكون ذلك عبر مسلكين: أولهما توظيف الكتاب كوسيلة في دراسة تاريخ الأفكار، وثانيهما أن يكون الكتاب نفسه غاية، أي أن تجعل النص الذي تقرؤه موضوعا للبحث للدراسة.

وفصل الأستاذ أولا في نقطة النص باعتباره وسيلة لدراسة تاريخ الأفكار عبر طرحه للسؤال التالي “لماذا ينبغي أن يكون مدخل النص أساسيا في عمل الجماعات العلمية؟” وكان جوابه هو أن هوية الأمة من هوية الكتاب الذي يشكل عقلها، فلكل أمة نمط من التفكير النصي الذي يهيمن على ثقافتها هذا من جهة، ومن جهة أخرى لأن من بين معضلات نهضة الأمة الأساسية معضلة النص المهيمن، في العالم الإسلامي ويكون النص معضلة نظرا لأننا نعاني من مشكلة الترديد وغياب الاجتهاد والابداع إضافة إلى جهلنا بالنصوص الإسلامية الأساسية،  وبذلك تكون النتيجة أنه لا غنى لتاريخ الفكر عن تاريخ النص، فعندما تقع القطيعة بين تاريخ الفكر وتاريخ النص الذي شكَّل هذا الفكر نفسه تكون المعضلة الكبرى التي نواجهها في حياتنا الثقافية.

وللمقروءات من حيث هي وسائل في البحث العلمي ثلاث وظائف:

1-    الوظيفة التأسيسة: لأننا من خلال النص نطلع على المعرفة من مصادرها المؤسسة، فالذي يقرأ الكتب المؤسسة في العلم يستطيع أن يطور قدراته المنهجية بشكل أكبر مما لو اقتصر على غيرها من الكتب والدراسات.

2-    الوظيفة التوثيقية: إن الذي يتعامل مع الكتاب يحسن كتابته بالشواهد التي يستقيها منه، فكل فكرة إذا لم تكن مؤيدة بنص مناسب لها تظل فكرة شخصية ذاتية، لذا فالنصوص تقيد الأقوال والأفكار وتعصم من جموح التعميمات والأحكام المتسرعة. إذن، من خلال وظيفة التوثيق يكون كلام الانسان موزونا ومتواضعا ومُدَقَقَا.

3-    وظيفة التمامية: معناها أن جودة البحث من جودة المراجع التي تسنده، وتمكن هذه الوظيفة الباحث من القيام بمجموعة من الأنشطة الذهنية، فعندما تريد أن تؤكد فكرة نص ما فلابد أن تفهمها أولا، ولابد كذلك أن تختار أفكارا جيدة وقيمة، ثم تعلق عليها فيما بعد.

وخلص الأستاذ إلى أنه انطلاقا من هذه الأسباب وجب جعل الكتاب في الممارسة الإبداعية غاية و وسيلة في الآن نفسه.

أما فيما يخص القواعد التي تتصل بإعداد النصوص المرجعية فهناك أربع قواعد :

1-    قراءة ما كتب بدوائر المعارف العالمية التي تتضمن معلومات محكمة للغاية، إذ تزودك بآخر ما استجد في الساحة العلمية، أو تمدك بلائحة المصادر والكتب أو الدراسات الأساسية المتعلقة بموضوع أو علم معين.

2-    فهارس المكتبات
3-    الكتب العلمية والأكاديمية وأبحاث المجلات المحكمة
4-    استشارة السابقين بالعلم في ميدان الدراسة
أما فيما يتعلق بمحور تقويم النصوص المرجعية فهناك أربع قواعد أساسية:
1-     مدى الثقة بالمؤلف والجهة الناشرة.
2-    مدى أصالة المؤلف من حيث قربه من زمان ومكان الإشكال أو الكتاب موضوع الدراسة.
3-    مدى شمول المرجع وتغطيته للمادة العلمية التي يدرسها.
4-    دقة المنهاج والأسلوب والعرض.
ومن حيث ضوابط النقل من النصوص نجد ست قواعد:

1-    الرجوع في كل علم إلى أهله، فإذا أردت أن توثق معلومة مثلا في العقيدة فعليك أن تأخذها من كتب العقيدة لا أن تعتمد على كتب من غير هذا التخصص.

2-    الرجوع النقدي للمصادر والمراجع.
3-    النظر في السياق قبل أخذ الشواهد، فلابد من تدبر السياق قبل أن تقتطع منه فكرة أو عبارة مهما قصرت.
4-    تجنب النقل بالواسطة إذا توفر الأصل.
5-    الإختصار في النقول.
6-    توثيق المنقولات باللفظ والمعنى.
هذه جملة من القواعد العامة الواجب احترامها في عملية الاستفادة من النصوص حينما تكون وسائل لا غايات.
ثانيا الكتاب من حيث هو غاية أي حينما يكون هو نفسه موضوعا للدراسة ونجد هنا ثلاث أنماط إبداعية ترتبط بالنصوص من حيث هي غايات:
1-    التحقيق: يتعلق بإخراج نص من حالته المخطوطة إلى حالته العلمية الموثقة ولهذه الطريقة شروط  عدة منها:

*أن يكون اختيارك خاضعا لإستراتيجية معينة في اختيار ما يُحقق.
*ضبط مناهج التحقيق والدراسة التقديمية للنص، أي كيف تخرج الكتاب إخراجا علميا دقيقا وكيفية  تقديمه للقارئ.
     2-  دراسة الموضوعات والمناهج والنظريات، وأبرز ضوابطها:
     * الإعتماد على التحليل التكاملي الذي يراعي الوظيفة المهيمنة في النص، أي الوظيفة المرجعية.
     * ضرورة الارتقاء في الدراسة إلى منزلة فقيه العلم، وهي منزلة الشخص الذي يدرك موقع النص من تاريخ العلم الذي يتحدث عنه فالذي له دراية بتاريخ علم معين فقد حصَّل شطرا مهما جدا من منزلة فقيه العلم أما الذي يدرس العلم كما يعطى له في الكتاب فهو مجرد طالب علم.

    3-  دراسة المفاهيم: بمعنى أن تأخذ نصا وتدرس مفهوما فيه، فهنا لابد من استحضار منهجية علم اصطلاح النص لتبين مفاهيم المصطلحات من نصوصها، وامتدادات المصطلح  داخل النسيج  المفهومي للنص.
ب‌-     الإبداع في التأليف: وهنا يتساءل الأستاذ ما حقيقة الإبداع؟ وقد أجاب عنه من ثلاث زوايا: أولا من حيث الأصل، وعنوانه التكافؤ النسبي وصيغته “أن الإبداع أفضل الأشياء قسمة بين الناس”. وثانيا مبدأ التعلم أو الجهد، فالإبداع بقدر ما هو فطرة فهو أيضا تعلم، فعلى الإنسان بعد أن يكتشف المجال الذي يبدع فيه أن يعمل على تنمية قدراته الإبداعية والعمل على تحسينها، ثالثا قانون خيرية الخطأ، فالناس يخشون الإبداع لأنهم يخافون الوقوع في الخطأ، مع العلم أن الخطأ ليس شرا أبدا فأصل القوانين الصائبة هي نتاج اختبارات خاطئة؛ وبذلك وجب حسب تعبير الأستاذ جعل لحظة الكتابة كتابا موقوتا، بمعنى أن تجعل لك لحظة مقدسة للكتابة لا تغفل عنها أبدا.

وقد أشار الأستاذ في الأخير إلى مسالك الإبداع حاصرا إياها في نوعين:
1-    مسالك الإبداع الفردي الحر: أي التعليقات العابرة المركزة والكتابة التلقائية المنظمة أو الكتابة التخصصية.
2-    الإبداع الجماعي المنظم: يكون ذلك ضمن جمعيات ذات أنشطة ثقافية، تشارك فيها بتعليقات أو بعروض، فالإقبال على المشاركات العلمية يطور القدرات الإبداعية، وطريقة الحوار والمناظرة مع المبدعين تعد من الطرق النافعة جدا في تقوية الإبداع الجماعي، وأخيرا الانضمام إلى فِرَق البحث العلمي.
كما أشار الأستاذ إلى مجموعة من القواعد المهمة في عملية الإبداع، منها:
•    لا تسأل لمن تكتب في البداية لكن اسأل ما طبيعة الموضوع الذي تريد.
•    ضع الخطة المفترضة مراعيا طبيعة اختيارك الأول.
•    ابدأ التنفيذ بحصر المواد والوسائل وجمعها.
•    احترم أصول الكتابة مراعيا طبيعة اختيارك الأول.
•    استحضر مفهوما يفهمك لا مخاطبا يرعبك.
•    قلد المبدعين لا المرددين.
•    كرر التدريب على الكتابة كل يوم.
•    ليكن الذوق الرفيع والفهم الدقيق مصاحبان لك.
•    افرح بالنقد، فلابد أن تتعرض لذا لا تيأس.

ختم الأستاذ المحاضرة بطرح الإشكالية التالية: هل مازال من حقنا أن نحلم بعقل منهجي في مجتمع فَقَدَ الاهتداء إلى مصادر تنميته؟ مجيبا بالتأكيد، لكن لابد من ثورة مزدوجة تبدأ مشروع التدبير العلمي الحضاري للأمة في التفكير المنهجي وفي منهجية التفكير.

إعداد: كنزة فتحي 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق