الرابطة المحمدية للعلماء

مستقبل التراث: المشروع والمشروعية وسؤال التجديد

تفعيلا لاتفاقية الشراكة العلمية التي تجمع الرابطة المحمدية للعلماء بالمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم إيليسكو، من خلال معهد المخطوطات العربية/ جامعة الدول العربية، نظمت مجلة “الإحياء” بالتعاون مع هذا المعهد ندوة علمية دولية حول موضوع: “مستقبل التراث: المشروع والمشروعية وسؤال التجديد“، بمشاركة نخبة متميزة من المفكرين والباحثين من السعودية، والكويت، ولبنان، وسوريا، ومصر، وموريتانيا، والبلد المضيف المغرب. وذلك يومي الثلاثاء والأربعاء 4-5 صفر 1434ﻫ، الموافق لـ 18-19 ديسمبر 2012م، بفندق شالة بعاصمة المملكة المغربية الرباط.

بعد الجلسة الافتتاحية التي ترأسها الدكتور أحمد السنوني الأستاذ بدار الحديث الحسنية، وألقى فيها كلمة بالنيابة عن فضيلة الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء الدكتور أحمد عبادي، إلى جانب كلمة الدكتور فيصل الحفيان المشرف عن معهد المخطوطات العربية، ألقى المفكر اللبناني الدكتور رضوان السيد المحاضرة الافتتاحية بعنوان: “الصراع على التراث، أي معنى، وأي مآلات؟“، أبرز فيها كيف أن الصراع على الماضي، سواء باسم الموروث أو التراث، كان صراعاً على السلطة الثقافية أو  السياسية أو  الأمرين معاً. وقد مرَّ هذا الصراع بأربع مراحل، وهو يدخل الآن في المرحلة الخامسة.

        في المرحلة الأولى، في النصف الأول من القرن التاسع عشر. بُذلت جهودٌ كبيرةٌ لإثبات أمرين: أولهما؛ أنّ الدين بصيغته السائدة كاملٌ ولا يفتقر لشيئ، وأنّ الاختلالَ ناجمٌ عن تأخر  أو  عجز المؤسسات السياسية أمام المستعمر الأوروبي؛ ولذا فإنّ الدين يدعم الإصلاحات التي قامت في مصر، وفي السلطنة العثمانية وغيرها من البلدان الإسلامية.

        وفي المرحلة الثانية، الممتدة بين منتصف القرن التاسع عشر، والثلث الأول من القرن العشرين انصبَّ الجهد على تفسير الإسلام تفسيراً تقدمياً وتنويرياً وإصلاحياً للاشتراك بقوة في مشروع الإصلاح السياسي وقيام الدولة الوطنية. وفي هذا السياق تم إطلاق فعالية الاجتهاد، و تم السعي إلى تجاوز الانقسامات المذهبية، وإعادة تفسير النصوص بما يتلاءم ومستجدات العصر.

        وفي المرحلة الثالثة؛ دار صراعٌ على تأويلين للتراث أو  الموروث الثقافي والديني: التأويل الذي يتابع النظرة التقدمية والتنويرية للتراث بما يؤدي في خُلاصاته الراديكالية إلى تحرره أو تحريره من الماضي ومن مختلف التحكمات. والتأويل الذي يصطنع صورةً للموروث كما كان في الماضي، وهي صورةٌ يريد تأبيدها في الحاضر والمستقبل تحت اسم الحضارة الإسلامية، والدولة الإسلامية.

        وفي المرحلة الرابعة؛ صار الصراع على التراث،صراعاً على مشروعٍ للدولة باسم المشروع الإسلامي أو  حُكْم الله.   

        ثم انفجرت المرحلة الخامسة؛ وتتمثل في سعي المشروع الحزبي الإسلامي للاستيلاء على الدولة بدعوى تطبيق الشريعة، ورفع شعار الإسلام هو الحلّ. وهكذا فإن الصراع اليومَ يعد من وجهة نظر رضوان السيد صراعا على امتلاك الموروث والاستيلاء باسمه على الدين وعلى إدارة الشأن العام. والخطر يكمن في عدم اهتمام القوى المدنية بدعاوى الإسلاميين المتصلة بتأويل الإسلام بوصفه يتيح لهم سلطةً مجردة من أيّ قيد. بل قصر اهتمامهم على منع الإسلاميين من السيطرة على إدارة الدولة ماديا وفيزيقياً. مشددا ومحذرا من أن المسائل الرمزية والتأويلية بالغة الأهمية، وستكون هي المجال الأوسع والأعمق للصراع في السنوات المقبلة.

أولا: التراث بين التحدي والاستجابة

انعقدت الجلسة العلمية الأولى التي دارت مداخلاتها حول محور: التراث بين التحدي والاستجابة”، واستأنف الحديث فيها الدكتور سيف الدين عبد الفتاح (أستاذ التعليم العالي بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة/جمهورية مصر العربية) بمداخلة بعنوان “المغلوب مولع بتقليد الغالب: المقولة الخلدونية والمسألة التراثية“. تلته مداخلة الدكتور عباس ارحيلة، (أستاذ التعليم العالي في الأدب العربي/مراكش) بعنوان: “تحديات واجهت التراث وتواجهه“. وقد سعى الأستاذ المتدخل إلى الوقوف على أخطر التحديات التي واجهها التراث الإسلامي في مساره الحضاري العام؛ باستماتته في معترك التحولات والصدامات، وما طرأ عليه من تقلبات، وأثير حوله من قضايا، وما اكتنفه من قراءات وتوجيهات؛ جعلته يتأرجح بين البقاء والتلاشي. ليتساءل: هل يعود ذلك التراث قوة حاضرة في دفع الأمة أن تصبح شريكا في الحضارة الحديثة؟

وقد تناول الكلمة بعده الدكتور محمد الشيخ؛ (أستاذ التعليم العالي بكلية الآداب جامعة بن امسيك الدار البيضاء)، حول موضوع: “مخاطر تتهدد التراث العربي الإسلامي.”   

عمل فيها على كشف المخاطر المحدقة بالتراث العربي الإسلامي سواء في الماضي أو في الحاضر. فبعد أن نبه الباحث إلى ما للتراث العربي من أهمية بالغة، سواء على مستوى الكم (بضعة ملايين مخطوطة) أو من حيث الكيف (الأوجه المشرقة للتراث العربي)، راح يحصي المخاطر التي هددت التراث العربي قديما. وقد حصرها في خطرين اثنين: 1. خطر الدس: ويتعلق الأمر بما شهدته بعض المخطوطات من دس أقوال مغرضة على أصحابها إما بسبب الصراع المذهبي أو السياسي (كتابات ابن عربي والشعراني نموذجا). 2. خطر الإحراق الذي أحدق بالعديد من الكتب العربية القديمة: إما لأسباب ذاتية (حالة أبي حيان التوحيدي) أو مذهبية (إحراق كتاب إحياء علوم الدين).

ثم انتقل الباحث بعد ذلك إلى الحديث عن المخاطر التي صارت تتربص بالتراث العربي اليوم، وقد استحال الدس وامتنع الحرق، مؤكدا على أنها تكمن في الرقابة الجديدة التي صارت تفرض على كتب التراث بمختلف الطرق البدية منها (منع نشر العديد من الكتب التراثية) أو الخفية (نشر العديد من النصوص وقد بترت منها فقرات بل وفصول: حالة كتاب ابن طيفور “بلاغات النساء” نموذجا).

وفي ختام هذه الجلسة عرضت مداخلة الدكتور خالد عزب، (مدير إدارة الإعلام بمكتبة الإسكندرية بجمهورية مصر العربية) بعنوان: “التشكيك في التراث والصلاحية لكل زمان ومكان“. ذكر فيها أن هناك تساؤلات مطروحة منذ القرن التاسع عشر إلى الآن حول تراثنا بكل أبعاده، وهو الأمر الذي جعل مشروعية هذا التراث على المحك أمام طوفان الحداثة القادم من الغرب، فحمل البعض على تبني رؤية القطعية مع الماضي والبناء على ما وصل إليه الغرب، بينما ظل البعض يعتقد أن التراث هو روح الأمة التي لا حياة لها بدونه، في حين سعى فريق ثالث إلى التوفيق بين التراث والحداثة..

ليتساءل بعد ذلك: أي نص تراثي نريد؟ أي نص تراثي ينبغي أن نستعيد؟

ليؤكد أن منطق العصر يقتضي أن نستعيد “نصوصا تراثية تدفع بفقه الواقع إلى الأمام ليواكب العصر..نصوصا تراثية تعين الأمة على النهوض من كبوتها..” من قبيل:

ـ النصوص التي ترصد تطور الفقه السياسي الإسلامي الذي يتعامل مع الواقع، ويرصد أهمية مشاركة الأمة في تدبير شأنها العام..

ـ النصوص التي تعكس دور المجتمع المدني في حفظ الحضارة الإسلامية وتطور العمارة و العمران..

ـ النصوص التي تؤكد على أن إعمار الأرض وظيفة أساسية للإنسان، وإن هذا الإعمار عبادة، وإن إيقاف الأموال على المنشآت العلمية و التعليمية يوازي إيقافها على دور العبادة..

ـ النصوص التي تسهم في إطلاق الطاقات الإبداعية للأمة في شتى المناحي الإنتاجية.. وتعزز النزعة التجريبية في العلوم والتقنيات..

ليخلص إلى أن لدينا تراثا غنيا كتب في قرون سابقة بلغة تلك القرون، ولذلك يتعين تقديم هذا التراث أو إعادة تقديمه بلغة ومفاهيم العصر الذي نعيشه..

 

ثانيا: التراث وسؤال التجديد

تمحورت مداخلات الجلسة العلمية الثانية حول إشكالية: “التراث وسؤال التجديد“، وترأسها الدكتور عباس ارحيلة، فقد توزعت إلى خمس مداخلات؛ استهلها الدكتور أحمد السنوني أحمد السنوني، (أستاذ التعليم العالي بدار الحديث الحسنية/عضو المكتب التنفيذي للرابطة المحمدية للعلماء) بمداخلة حول: “التراث الأصولي بين الوظيفية والتقليد“، تلته مداخلة الدكتور فيصل الحفيان فيصل الحفيان (المشرف على معهد المخطوطات العربية) حول موضوع: “النص التراثي بين التوثيق والدرس: نظرة جديدة في مفهوم التحقيق“.

 أما مداخلة الدكتور جمال بامي، (مدير موقع المملكة المغربية: علم وعمران بالرابطة المحمدية للعلماء)، فقد اهتمت بمعالجة “إبستيمولوجيا المعرفة الكونية: من خلال بعض نصوص التراث  العلمي الأندلسي في مجال الطب والنبات والفلاحة“. وهكذا فقد انطلقت مداخلته من التأكيد على أن  الإنسان خرج من رحم الطبيعة بالخلق، ووجب أن يعود إليها بالوعي، وعي علمي بارتباط الإنسان بالأرض ارتباطا جدليا على اعتبار التبادل الطاقي الموجود بين الإنسان والمنظومة الكونية من حوله، ووعي فلسفي بالمصير المشترك للإنسان والمحيط الحيوي…

ضمن هذه الرؤية الفلسفية المستقبلية حاول المتدخل فحص مجموعة من نصوص التراث العلمي المغربي الأندلسي في مجال الطب والنبات والفلاحة.. منها كتاب الفلاحة لابن بصال وكتاب “عمدة الطبيب” لأبي الخير الأشبيلي و”الجامع لمفردات الأدوية والأغذية” لابن البيطار وحديقة الأزهار للوزير الغساني وتحفة الأحباب للمؤلف المجهول وضياء النبراس للعبد السلام بن محمد العلمي وكشف الرموز لعبد الرزاق الجزائري؛ والغرض من هذا الفحص التوثيقي المنهجي هو اكتشاف ملامح “إبيستيمولوجيا معرفة كونية” أطرت الكتابات المغربية الأندلسية في مجال علوم الطب والفلاحة من منظور العلاقة الجدلية بين الإنسان والطبيعة من منظور كوني يراعي الإنسان والتراب على حد سواء..

وقد أثار المتدخل الانتباه إلى أن الكتابات المغربية الأندلسية في مجالي الطب  والفلاحة تنظر في مجملها إلى التطبيب والزراعة كوحدة عضوية يصعب الفصل بين مكوناتها، لذلك نجد كتب الطب تتعمق في المادة النباتية مناخا وتربة وزراعة قبل الحديث عن الأدواء والعلاج،وإذا كنا واعين تمام الوعي بالسياق الذي أنتجت فيه هذه الأعمال العلمية فإن إعادة استدعائها يندرج ضمن سياق المشاركة العلمية والعملية في اقتراح حلول للمعضلات البيئية والصحية التي يعاني منها المجتمع المعاصر..

وفي السياق نفسه تناول الكلمة الباحث محسن المحمدي (أستاذ الفلسفة والفكر الإسلامي/بني ملال) حول موضوع:  “التراث الفلكي العربي الإسلامي وسؤال الحداثة“. حيث جهد على إبراز العلاقة الوطيدة بين الثورة الفلكية الكوبيرنيكية (كوبيرنيك /ت1543) والأزمنة الحديثة؛ فالثورة الكوبيرنيكية ليست ثورة فلكية فحسب، وإنما هي ثورة خرجت عن إطارها الأصلي لتشكل بؤرة لانطلاق نظرة جديدة للعالم وتحول نحو الباراديغم المسمى حداثي، حيث أسهمت في تصدع الكوسمولوجيا التراتبية الأرسطية وخلقت تصورا موحدا للعالم لا انقسام فيه: (عالم علوي سماوي كامل وعالم سفلي أرضي فاسد).

وهو ما كانت له انعكاساته وتداعياته الواضحة على التراتبية الاجتماعية في المجتمعات الأوروبية التي ستتوج بثورة سياسية جعلت من الأمة مصدر السيادة. غير أن التأثير الأهم، من وجهة نظر المتدخل، يتمتل فيما أحدثته الثورة الكوبيرنيكية من قلب منهجي جعل البشرية تنتقل من الموضوع نحو الذات، وهو ما وجد صداه بارزا عند أب الفلسفة الحديثة ديكارت (ت1650 ) يمثل الوجه الفلسفي لكوبيرنيك، فلا احد ينكر الشكوك التي سببتها الكوبيرنيكية في نظرتنا إلى العالم،فالشمس لم تعد متحركة، مثلما أن الأرض لم تعد ثابتة كما كانت تنبؤنا حواسنا..

الأمر الذي مهد لقلب في نظرية المعرفة لتصبح الكلمة الأولى والأخيرة للذات عوض الموضوع. يقول ديكارت صاحب مذهب الشك المنهجي الشهير في رسالة موجهة للأب مرسن، ما يثبت الارتباط الوثيق بين الديكارتية والكوبيرنيكية، ” وإني لأعترف بأنه ادا كانت فكرة حركة الأرض خاطئة فان جميع أسس فلسفتي ستكون باطلة كذلك”. 

ومن جهة أخرى، حاول الأستاذ محسن المحمدي التدليل على أن المخاض الحقيقي لاكتشاف كوبيرنيك كان عربيا/إسلاميا، من خلال مدرسة مراغة (سنة 1259 بزعامة نصير الدين الطوسي /ت 1274)؛ وتفسير ذلك أن كتاب كوبيرنيك “في دوران الأجرام السماوية” يحتوي على كل من مزدوجة الطوسي، وهيئة القمر لابن الشاطر ومقدمة العرضي. وهو ما يجعل الكوبيرنيكية نتاج مخاض عسير ومحاولات ومراجعات أسهمت فيها ثورة مراغة العربية/الإسلامية.

ليخلص إلى نتيجتين رئيستين: أولهما؛ أن الإنجاز العلمي يعد نتيجة لتضافر وتراكم العديد من الجهود الفردية والجماعية. وثانيهما؛ أن الكسب العلمي كسب حضاري كوني ساهمت فيه جميع الثقافات والأمم كل بمقدار..

وفي ختام هذه الجلسة العلمية نصل إلى ورقة الدكتور عبد الصمد غازي (مدير موقع مسارات للأبحاث والدراسات الاستشرافية والإعلامية بالرابطة المحمدية للعلماء) حول: “التراث الصوفي وسؤال التحقيق والتحقق“.

بعد أن يقدم الأستاذ المتدخل تصنيفا للتراث الصوفي، يقف مليا على إشكال كتابة هذا التراث وتدوينه. وهو الإشكال الذي يجد تفسيره في كون الكثير من الصوفية كانوا يعتبرون أن تكوين الأفراد والجماعات من الوجهة الأخلاقية والسلوكية والروحية لا يضاهيه تأليف الكتب؛ فتجد عندهم مقولات من قبيل: ” كتبي أصحابي”، “تأليف القلوب أولى من تأليف الكتب”..

غير أن الباحث ينبه إلى أن هناك فئة من الصوفية ألفت بأن معاني القوم العليا من الشفوف بحيث لا يمكن لعبارة بكثافتها أن تحتوي لطائفها فآثروا الصمت أو التداول المحدود بينهم في مجالسهم. وأخرى رأت في رقائق القوم وحقائقهم العرفانية نوعا من الخطاب الذي لا يمكن أن يرقى إليه فهم عامة الناس وأنه خاص بخاصة الخاصة التي تقدر على إدراك مراميه بدون وهم واعتساف، فاختاروا الإشارة طريقا للتواصل بينهم لا يفك شفراته إلا من نزل منازلهم وذاق مذاقاتهم وأناخ في مقاماتهم من خلال تجاربهم الروحية والأخلاقية. في حين انبرت طائفة من الصوفية إلى إثبات مشروعية علم التصوف وتأصيله بالرجوع إلى الكتاب والسنة وسيرة الصحابة والتابعين مخلفة مصادر يمكن اعتبارها مؤسسة لمبادئ هذا العلم وقواعده.

ومع أن تحقيق التراث الصوفي لا ينفك عن حركة النهضة كما يرتبط بإحياء التراث الإسلامي وتجديده من أجل الخروج من حالة الانحطاط، إلا أن رواد الإصلاح والنهضة قاموا بتهميشه وإقصائه انطلاقا من اعتقادهم أن الطرق الصوفية هي من يتحمل مسؤولية هذا الانحطاط والتخلف والجمود الذي يسعون للانفكاك منه..

 فتم الاحتفاء بالمقابل بالكتب التي تذم البدع وترد على مزاعم الصوفية ككتاب الاعتصام للشاطبي وفتاوى ابن تيمية ورسائل ابن القيم الجوزية وتلبيبس إبليس لابن الجوزي وغيرها من المصادر التي تم الاعتناء بها وتحقيقها من أجل تقويض مشروعية الفكر الصوفي.

غير أن فصيلا آخر من الباحثين والمفكرين من خارج المجال التداولي الإسلامي العربي وبوجه خاص المستشرقين والمستعربين قاموا بتحقيق نصوص من التراث الصوفي ركزت بانتقائية على مشارب بعينها خدمة للإلحاق والاستتباع لفكرهم معتبرين أن الإسلام غير مؤهل لإنتاج روحانية أخلاقية، وكل ما تبدى من إشراقات روحية وأنظار عرفانية لا يمكن أن يكون مصدرها إلا الدين المسيحي أو اليهودي أو الإرث الأفلوطيني أو الديانات الشرقية القديمة… ليصبح التراث الصوفي على يد النهضويين ابتداعا وعلى يد المستشرقين انتحالا.

غير أن الأستاذ المتدخل أبرز كيف أن التراث الصوفي عرف يقظة نهضوية تأملت أخطاء الماضي وردت الاعتبار للفكر الصوفي مبينة قيمته العلمية والعملية والأخلاقية من خلال نشر نصوص الرواد من أهل التأصيل كاللمع للطوسي، والتعرف للكلاباذي، وعوارف المعارف للسهروردي، والرسالة القشيرية، والإحياء للغزالي…وكانت هذه الحركة العلمية نابعة من داخل مؤسسة الأزهر الشريف مع الشيخ عبد الحليم محمود تلتها بعد ذلك محاولات علمية مختلفة في الجامعات تباينت مقاصدها بين الحاجة الأكاديمية والتوظيف السياسي.

ليخلص الأستاذ المتدخل إلى أن الفكر الصوفي ما زال يفتقر إلى استراتيجية علمية تروم النظر الشمولي في العلوم الإسلامية وتعاود قراءة المشاريع التكاملية والاندماجية لكل من فقه الأحكام وفقه القلوب التي يعتبر الغزالي وابن تيمية والعز بن عبد السلام والشاطبي من كبار منظريها، وهي مشاريع تحتاج إلى استئناف التجديد النظري بخصوصها للخروج من الخصومات التراثية إلى بناء نوع من (المصالحة التراثية) سعيا لإرساء منظومة القيم. ويعتقد الأستاذ عبد الصمد غازي أن التصوف إذا ما تمت مدارسته بشكل علمي أن يقدم الكثير للأمة، وهو ما يفضي بنا إلى الشق المتصل بسؤال التحقق.

ثالثا: نقد التراث وسؤال المنهج

انتظمت مداخلات الجلسة العلمية الثالثة حول “نقد التراث وسؤال المنهج”، كان الدكتور محمد إقبال عروي؛ (أستاذ التفسير وبلاغة القرآن الكريم) أول المتحدثين، حيث قدم ورقة علمية بعنوان: “قواعد منهجية في التعامل مع المسألة التراثية“. وهي ورقة تندرج في سياق التأصيل لأمرين: أما الأمر الأول؛ فهو أن القرآن يقدم قواعد كلية في الاجتماع البشري والعمران الإنساني، وفي مقدمة تلك القواعد التي يمكن استخلاصها من الخطاب القرآني قاعدة: “كسبية التراث ونسبيته دليل على انتفاء قدسيته”، وتدعمها قاعدة؛ “نقد الآبائية في التفكير والسلوك” وقاعدة؛ “العلمية سبيل التبني أو الإلغاء”، ثم قاعدة “القصص القرآني شاهد على الطبيعة البشرية للتراث”. وهذه كلها قواعد تشكل أدوات خامة لرسم معالم الرؤية القرآنية للتراث.

وأما الأمر الثاني؛ فهو محاولة صياغة بعض القواعد المنهجية التي قد تمكن الباحثين والمتعاملين مع التراث من الخروج من حالة الشقاق والتجاذب إلى حال من التوافق والتعاون.

  وقد كان العرض مناسبة لبسط القول في مجموعة من تلك القواعد، من مثل:

ـ جلب وحدة التراث مقدم على انتقائية الاستدعاء..

ـ إعمال سياق إنتاج التراث أولى من إهماله..

ـ دوران أهمية التراث مع وظيفيته وجودا وعدما..

ـ تنقية التراث من الصياغات الدينية مقدم على الإلغاء أو التبني..

ـ الأصل في التراث أنه متصل بالوحيين استمدادا ومنفصل عنهما امتدادا..

ـ الموقف من التراث محكوم بإعمال السياق الثقافي العام لتلقيه من قبل الأفراد والاتجاهات والمؤسسات..

ـ قوة الموقف من التراث محكومة بدعم وحدة الأمة لا فرقتها.

وقدم الباحث محمد إقبال عروي شروحات وأمثلة تؤكد راهنية الدعوة إلى صياغة تلك القواعد وغيرها صياغة تأصيلية تسهم في إيجاد الموازين وإرساء المعايير بعيدا عن آفات الهوى والتحيز والتخندق.

بعد ذلك تدخل الدكتور عبد الله السيد ولد أباه (أستاذ الفلسفة بكلية الآداب، جامعة نواكشوط/موريتانيا) وقدم موضوعا حول: “منهجيات قراءة التراث: في نقد تأويليات القطيعة“.

تلاه الدكتور الطيب بوعزة، (أستاذ التعليم العالي بمركز تكوين المعلمين بطنجة)، حيث أسهم بمداخلة بعنوان حول: “التراث وسؤال المنهج“. استهلها بالتأكيد على أن الوعي الإسلامي المعاصر لا يزال في مرتبة القول والمناداة بوجوب التجديد ولم ينتقل بعد إلى مستوى إنجازه وتحقيقه. وتفسير ذلك يعود، من وجهة نظره، إلى عائق منهجي مفاده أن “المزلق الأكبر لمحاولات تجديد الخطاب الإسلامي أنها اقتصرت على نقد النتاج ولم تتناول نقد الآلة التي تنتج ذلك النتاج”.

فبدل نقد فكرة هنا، وترقيع أخرى هناك، يدعونا الأستاذ المتدخل إلى أن “نضع أيدينا على الآلة المنهجية التي تنتج تلك الأفكار الجامدة، التي لم تعد تتناسب مع زمننا ولا تشبع احتياجاتنا العقلية والنفسية والمجتمعية، ليتم تجديد الآلة أو إصلاحها أو تغييرها”. ومصداق ذلك آت من استقراء لحظات التحول الكبرى المنجزة في تاريخ الفكر الإنساني.

فالثقافة التي كانت سائدة في مرحلة الأسطورة/الميثوس اليونانية كانت ثقافة سردية تتلقى بالتسليم، ولما جاء طاليس حدث ما عبر عنه الباحث بـ”النقلة النوعية في التعامل مع المفاهيم والأفكار المؤسسة لتلك الثقافة، حيث دخل عامل منهجي جديد هو وجوب الاستدلال. فبدل طرح الرؤية إلى العالم طرحا أسطوريا عبر منهج السرد والحكي، الذي يتم التعامل معه بحس التلقي، أصبحت تلك الرؤية تطرح بمنهج البرهنة والحجاج”.

وفي نفس السياق اليوناني لو انتقلنا من لحظة الفلاسفة الأوائل إلى اللحظة السقراطية؛ (أي لحظة سقراط وأفلاطون وأرسطو) نلاحظ مع الطيب بوعزة “أن التحول تم في المنهج. حيث أبدع سقراط مفهوم الحد الماهوي كمطلب للتفكير بقصد الوقوف في وجه موجة الشك السوفسطائية..”.

وإذا ما انتقلنا من سياق الثقافة اليونانية إلى سياق ثقافتنا الإسلامية سنلاحظ أن النقلات الكبرى التي انبجست داخل الصيرورة التاريخية لهذه الثقافة كانت تستند إلى نقلات منهجية. بل إن الإسلام ككل هو في رسالته القرآنية أنجز تحولا نوعيا وهائلا في الجزيرة العربية، ولم يكن هذا الإنجاز راجعا إلا إلى التغيير العميق في منهج التفكير ذاته، وذلك بتأسيس مفهوم التوحيد، وتحديد الوحي كمرجعية للتفكير. فلم يشغل النبي، صلى الله عليه وسلم، نفسه بتهديم الأصنام الحجرية، بل هدم منهج التفكير الوثني الذي يؤسس لطبيعة الرؤية إلى الصنم. وهو قلب منهجي.

وبنفس المنطق ينبه المتدخل إلى أن مكانة الشافعي لم تكن راجعة إلى أفكار أو فتاوى، بل ترجع إلى تأصيله وتحديده لمنهج إنتاج الأفكار واستنباط الفتاوى، حيث مثل مشروعه المنهجي في كتاب “الرسالة” النقلة المنهجية الكبرى في سياق التفكير الإسلامي في نهاية القرن الثاني الهجري، وهو ما يمكن أن نقوله عن أبي إسحاق الشاطبي وابن خلدون وابن رشد..

كما أوضح الباحث أن الوعي الفلسفي في القرن السابع عشر الأوروبي كان يضع التفكير في مسألة المنهج في مرتبة الأولوية، وهذا ما جعله ينجز تلك النقلة الكبرى في الفلسفة والثقافة الأوروبية، ويشكّل في سياق صيرورتها مرحلة التأسيس الفلسفي للحداثة. وهذا ما يتجلى بوضوح في عناوين الكتب والمشروعات الفلسفية التي أُنتجت أثنائه. فإذا كان ديكارت كتب “قواعد لقيادة العقل” و”خطاب حول المنهج”؛ فإن فيلسوفا آخر من فلاسفة القرن السابع عشر، هو “فرنسيس بيكون” سيكتب “الأورغانون الجديد”، و”أورغانون” كلمة إغريقية تعني الآلة، وحرْص بيكون على وسم آلته المنهجية المقترحة بنعت الجديد، توكيدٌ على إدراكه بأن الثقافة الأوروبية لم تعد في حاجة إلى المنهج الأرسطي، بل لابد من تأسيس منهج جديد؛ وهو المطلب الذي سيعمل على تحقيقه بتقعيد المنهج الاستقرائي كبديل للمنهج القياسي الصوري.

كما أن فلسفة ما بعد – الحداثة ما كانت لتكون نقلة وتحوّلا إلا لكونها نقدت الأساس المنهجي للحداثة؛ (أي الكوجيتو الديكارتي)، مستبدلة إياه بمرجعيات وأسس منهجية بديلة، سواء مع الفرويدية أو البنيوية.

وفي مداخلته الموسومة: “إشكالية الحداثة والموقف من التراث“، استهل الدكتور عبد السلام طويل (رئيس تحرير مجلة الإحياء) حديثه بالتأكيد على أنه يصدر، من الناحية المنهاجية، عن مقترب علم الاجتماع السياسي وعلم السياسة من خلال ربط إشكاليته بالنظرية السياسية الإسلامية انطلاقا من مقترب تحليلي يستحضر الشروط التاريخية والموضوعية المحددة للمنتج التراثي، ومن خلال  استحضاره لأهم المؤسسات التاريخية التراثية التي أسهمت في تشكيل ورسم معالم وطبيعة الاجتماع العربي الإسلامي؛ والمتمثلة أساسا في: مؤسسة القضاء، مؤسسة الحسبة، مؤسسة الأوقاف، مؤسسة الجماعة، مؤسسة العلماء.

وفي هذا السياق يحضر تراث الأدبيات السلطانية وأدبيات السياسة الشرعية بقوة. حيث تساءل الأستاذ المتدخل، بعد تأكيده على القيمة العلمية لتحقيق ودراسة وتحليل هذا التراث، عن الجدوى الوظيفية التراكمية لهذا التراث في بناء نظرية سياسية إسلامية حديثة تسهم في بناء شكل عصري للاجتماع السياسي الإسلامي في انفتاح على الكسب الإنساني فيما يتصل بمنظومة قيم ومؤسسات الحداثة السياسية..

هذه الاستعادة لمنظومة القيم السياسية التراثية، في محاولة لتأويلها بما ينسجم مع منظومة القيم الحديثة، التي ترتبط بعملية تأصيل لهذه الأخيرة والبحث لها عن سند في المنظومة التراثية، كما أن من شأنها أن تسهم في خلق شروط التراكم العلمي والحضاري اللازم لاستنباتها العصري في بنية المجتمعات العربية والإسلامية الراهنة، فإن من شأنها كذلك أن لا تعدو كونها مجرد تأويل إيديولوجي لمنظومة القيم السياسية الغربية الحديثة.

وفي هذا الإطار تبرز مسألة “صراع التأويلات”؛ حيث تتعدد استراتيجيات التأويل بتعدد الجماعات المؤولة. وهي التأويلات التي أجملها المتدخل في أربع تأويلات كبرى: تأويل ظاهري حرفي، تأويل توفيقي يصل حد التلفيق، تأويل عرفاني وتمثله الحركات الصوفية، تأويل خروجي من الخوارج، وتمثله السلفية الجهادية..  

ليخلص المتدخل إلى أننا بهذا نكون بصدد أربع تأويلات كبرى تمثل كل منها إستراتيجية تأويلية متكاملة، وكل إستراتيجية تبشر وتدعوا لشكل مخصوص من أشكال الاجتماع السياسي العربي الإسلامي.. كما أوضح أن عملية التأويل التي يدور الحديث عنها تعد ثلاثية الأبعاد؛ تأويل أصلي للنص المؤسس كتابا وسنة، تأويل فرعي للموروث الذي تم إنتاجه بناء على التعامل مع النص المؤسس، ثم تأويل لتراث الحداثة، وهو تراث يشكل مكونا أساسيا في عملية التأويل الساعية إلى بلورة شكل الاجتماع السياسي الإسلامي المعاصر.

كما أن المتدخل أبرز كيف أن سطوة تراث الحداثة لا تقل عن سطوة الموروث السياسي الإسلامي، وتأثير منظومة الحداثة السياسية أكثر من تأثير أدبيات الأحكام السلطانية والسياسة الشرعية. وتفسير ذلك أن نموذج الحداثة السياسية بكل مقوماتها وخصائصها هو الذي يفرض على الموروث العربي الإسلامي عملية التأويل والتأصيل في إطار مقولة الغلبة وولع المغلوب بتقليد الغالب كما أوضحت ذلك مداخلة الدكتور سيف الدين عبد الفتاح.

وقد توجت فعاليات هذه الندوة العلمية بمحاضرة اختتامية ضافية لفضيلة الدكتور الشاهد البوشيخي؛ الأمين العام لمؤسسة البحوث والدراسات العلمية “مبدع” والمدير المؤسس لمعهد الدراسات المصطلحية حول موضوع: “الاهتمام بالمصطلح العلمي في التراث: الواقع والتحديات”. كما اغتنت الجلسات العلمية لهذه الندوة بمناقشات وتعقيبات علمية مهمة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق