مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبية

محاضرة مُفرغة للدكتور محمد مفتاح رحمه الله، بعنوان: «نظرات في مناهج التحقيق» ألقاها بمركز ابن أبي الربيع السبتي يوم الثلاثاء 19/02/2019

فبراير 19, 2019

هذا نص فريد وعجيب جدا جامع لكل ما يمكن أن يهم التحقيق، وهذا هو النص الجامع المانع الذي ينبني عليه التحقيق وما يجب أن يكون عليه التحقيق.

فقوله: النسخة الوحيدة، سنبدأ بكيفية اختيار النسخ أو النسخة التي ستُحقق.

اختيار النسخ يتم عبر مراحل:

أولا: جمع النسخ المخطوطة، ثم التمييز بينها، وهذه النسخ إما أن تكون نسخة المؤلف، وإما أن تكون نسخة نُسخت عن المؤلف، وإما أن تكون نسخة أخرى نُسخت عن نُسخ المؤلف. فإذا كانت هناك نسخة المؤلف، أي: النسخة التي يسميها المعاصرون النسخة الأم- ويسميها الجاحظ النسخة المنصوبة(24)، والجاحظ له مصطلح دقيق في هذا الأمر.

فإن النسخة التي يكتبها صاحبها بخط يده ويحتفظ بها لكي لا تزور تسمى النسخة المنصوبة، وهذه النسخة المنصوبة هي أعلى مراتب النسخ- ولذلك فإذا وجدت هذه النسخة لا نحتاج إلى نسخ أخرى لنحققها، وهي النسخة المنصوبة، إذا لم نجد هذه النسخة ووجدنا نسخة نسخها أحد تلامذته توضع هذه النسخة ثانية، إذا لم توجد فإننا ننتقل إلى نسخة أخرى، ولكن التفاضل يكون بين النسخة المعتمدة التي نسخها عالم، والتي نسخها غير عالم، فالتي نسخها عالم وكانت مقروءة على عالم أو كذا، فهي تُفضّل، وإذا لم تكن مقروءة على عالم تُزاح.

إذن، فالتفاضل بين النسخ ليس بالقِدم فقط، وإنما بالنَّسخ وبصحة النَّسخ وبدقة النَّسخ وبالاهتمام بالنَّسخ، يقول بعضهم: «يجب مراعاة المبدأ العام، وهو الاعتماد على قِدم التاريخ في النسخ المعدة للتحقيق ما لم يعارض ذلك اعتبارات أخرى تجعل بعض النسخ أولى من بعض»(25).

وهذه المعارضة يعتبرها المحقق، فإذا كانت النسخة فيها سقط، لا يمكن أن تُتخذ والأخرى كاملة حتى ولو كانت قديمة، فإننا نتخذ النسخة التي هي أتم من النسخة التي هي أقل من التمام، وفحص هذه النسخ لابد أن يتم؛ لأن كثيرا من النسخ المخطوطة تتداخل أوراقها. فالقدماء أو المحدَثون كانوا يضعون الكتاب فتتداخل فيه الأوراق، فهنا يجب أن نعتمد على ما يعرف عند القدماء بـ«التعقيبة»، والتعقيبة هي تلك الكلمة التي توضع في أسفل الورقة وتوضع في أعلاها، وهذه التعقيبة هي الأرقام المعاصرة، إذن الكلمة السفلى والكلمة في الأعلى هي ترتيب الورقة.

وقد وقع كثير من المحققين في هذه النسخ المخلوطة التي فيها خلط في الأوراق، وأذكر أن كتاب «السحر والشعر» المطبوع الآن والمتداول، طُبع في السعودية(26)، اعتمدوا على نسخة الرباط التي أوراقها متداخلة، فتداخل باب النسيب مع باب المدح، وباب الرثاء مع باب كذا؛ لأنهم لم يفحصوا، لأن فحص النسخة أمر ضروري بالنسبة للمحقق، فحص النسخة الداخلي، أو ما نسميه «الفحص الداخلي»، ثم التمييز بين النسخ كما قلنا.

هذا بالنسبة للمفاضلة بين النسخ.

 ننتقل إلى النقطة الثانية، وهي تحقيق العنوان واسم المؤلف ونسبته، هذا أمر ضروري؛ لأن كثيرا من الكتب والأسماء تتداخل، فكثير من الكتب لها عناوين متعددة، ثم إن هناك كتبا ليس لها عنوان، وقد نشر المرحوم محمد بن شريفة مقالا حول الكتب غير المنسوبة لمؤلف ونشرها في مؤسسة الفرقان في كتاب جماعي حول المؤلفات الخالية من العنوان(27)، وكيف نستطيع أن نستخرج عنوان الكتاب بعد المقارنة وبعد دراسة أسلوب المؤلف وبعد دراسة النصوص داخليا، يعني قراءة المتن، متن الكتاب أو متن المخطوط قراءة فاحصة حتى نتمكن من معرفة المؤلف ونسبة الكتاب إلى صاحبه.

 ننتقل بعد النسخ وبعد المفاضلة وبعد هذه العملية إلى عملية أخرى، وهي: ما هي الخطوات التي نسلكها في تحقيق النص؟

الخطوات الأساس التي تُسلك هي -في رأيي على كل حال- ضبطُ النص، يعني: كيف نضبط النص ضبطا صحيحا؟

الضبط الحقيقي للنص هو قراءته قراءة متأنية، قراءةً فاحصة، وضبطُه ضبطا سليما؛ لأن الهدف من التحقيق ليس هو كثرة التعليقات أو كثرة الهوامش، وإنما هو إخراج نص سليم مضبوط، هذا هو الهدف. ولذلك يجب أن نركز على متن النص وعلى متن المخطوط حتى نتمكن من إخراجه إخراجا سليما، وهذا الضبط لن يتم إلا إذا كانت للمحقق معارف قَبْلية، منها: علم اللغة، وعلم النحو، والعروض، والثقافة الإسلامية المتنوعة.

 ثم هناك نقطة أساس أخرى، وهي أن يتصدى كل من أراد أن يحقق نصا، أن يتصدى له المختص في العلم الذي يسلكه، وهذه مهمة جدا، فإن الأديب لا يمكنه أن يحقق الحديث، [و]المُحَدِّث لا يمكنه أن يحققه الأديب، [و]الأديب لا يمكنه أن يحقق كتاب الطب، [و]الطبيب لا يمكنه أن يحقق الفَلَك، إذن، فهناك تخصص في علم من العلوم، وهذه التخصصات أساسية، حتى نستطيع أن نُخرج النصوص إخراجا صحيحا. وهناك قضية أخرى: يمكن أن تجتمع مجموعة من الأساتذة من أجل تحقيق نص، كل واحد في تخصصه، وهذا هو ما يسمى بـ«المنهج التكاملي»، يعني تكامل المعارف، لا بد أن تتكامل المعارف من أجل إخراج النصوص، وهذه المعارف يجب أن تكون متوازنة ومتوازية، إذا ورد نص حديثيٌّ في كتاب الأدب، فعلينا أن نعطيه لصاحب الحديث.

هناك جانب آخر، وهو أننا نهتم بالكتب الأدبية، ولكن ننسى أن هناك جانبا مهما في التراث العربي الإسلامي وهو الجانب العلمي، والتراث العلمي في تراثنا الإسلامي تراثٌ مهم جدا، اهتم به الغربيون والمستشرقون أكثر منا اهتماما كبيرا، وألفوا وحققوا كثيرا من الكتب العلمية ككتب الطب، وكتب الهندسة، وكتب الميكانيكا، وكتب الفلسفة، وكتب الجانب العلمي، وهذا مُغيب، ولا أقول مغيب تماما، ولكن لا يهتم به العرب كثيرا، اهتم به المستشرقون والغرب أكثر منا، بل إنني أعلم أن في برشلونة مدرسةً خاصة أسسها عالم إسباني مستعرب هو «خوان بيرنيت» مترجم القرآن الكريم، وأحسن ترجمة هي ترجمة خوان بيرنيت بالإسبانية، هذه المدرسة لا تهتم إلا بعلم الفَلَك، وقد أخذ كرسيَّه «خوليو سامسو»، ولهم مجلة اسمها «مجلة سهيل»، هذه لا ينشرون فيها ولا يكتبون فيها ولا يهتمون إلا بالجانب العلمي وبالفريق خاصة، هناك من يهتم بالطب قليلا، ولكنهم متخصصون في علم الفلك في الغرب الإسلامي وفي المشرق، ويكتبون غالبا باللغة الإنجليزية رغم أنهم إسبان، وأردت أن أشير إلى هذه القضية لأنّا نحن المغاربة لم نهتم [بذلك]، طبعا كان المرحوم محمد العربي الخطابي يهتم بعلم الطب، وقد نشر في ذلك مجموعة كبيرة(28)، ولما توفي توقف مشروعه، فليس هناك من يهتم بعلم الطب الآن في المغرب، وهناك مؤلفات أندلسية كبيرة منها: مؤلف لابن هذيل شيخ ابن الخطيب، مؤلَّف نفيس جدا(29)، ومؤلفات عديدة في الطب وفي الفلك وفي الهندسة وفي الميكانيك وفي غيرها، ولن نهتم بها اهتماما كثيرا.

قلت: بعد اختيار النسخ وبعد جمعها وبعد التثبت من المؤلِّف والمؤلَّف نأخذ النص فنضبطه، وضبط النص يتم عبر مستويات:

 مستوى اللغة: لا بد أن يضبط لغويا، وهناك مدرستان في ضبط النص: هناك من يرى أنه يجب أن يُضبط ما يُشكل، ما يكون ملتبِسا نضبطه، وما لا يكون ملتبسا لا نضبطه. ومدرسة أخرى تقول: يجب أن نضبط كل شيء، يعني: كل النص يجب أن نضبطه وأن نقدمه للمتلقي أو للقارئ، ولكل في ذلك وجهة نظر في هذه القضية.

ليس فقط ضبط اللغة والنحو والعروض، هناك ضبط آخر وهو ضبط النصوص الحديثية، وضبط القراءات القرآنية، وضبط الأعلام، وهو أهم شيء؛ لأن الأعلام ليس لها قياس، وليس لها ما يُفْهِمُ ما بعدها وما قبلها. فإذن، الأعلام ضرورية ومهمة، وقد ألّف القدماء كثيرا من الكتب في هذه القضية، وتسمى: كتب المؤتلف والمختلف، أو كتب المشتبه، وهي كتب كثيرة ومتعددة، تصل إلى خمسين كتابا أحصيتها، وقد تزيد، سواء في الأسماء أو في الأدب أو الشعر وبالنسبة للحديث والقرآن، فكتب المؤتلف والمختلف منها نضبط النصوص ونضبط الأعلام ضبطا دقيقا؛ لأن الأعلام يقع فيها كثير، وهذا ابن باطيش له كتاب «ما اتفق لفظه واختلف معناه»(30).

ولعل أهم كتاب في هذا المجال هو كتاب «الإكمال»(31) لابن ماكولا في ضبط الأسماء، هذا بالإضافة إلى كتب التراجم المعروفة كوفيات الأعيان وفوات الوفيات والوافي بالوفيات للصفدي إلى غير ذلك، هذه كتب المؤتلف والمختلف وحدها، وكتب الوفيات وكتب التراجم في المشرق والمغرب وهي كثيرة، وكتب الصلات كما يسميها الأندلسيون ومنها: الصلة، وصلة الصلة، والتكملة، والذيل والتكملة، وعائد الصلة، إلى غير ذلك.

 هذا بالنسبة للأعلام، يجب أن نضبطها ضبطا دقيقا؛ لأن الأعلام يقع فيها الخلط، والأعلام كثيرة، مثلا النابغة، تجد عشرين نابغة، وتجد حيوس وحبوس وحيوش، يعني هذه ثلاثة أسماء لها نفس الصيغة. تجد سالم وسليم وسلمان إلى غير ذلك، فإذن، فالأسماء هي مشكلة بالنسبة للنص أو ما يُسمى: الأعلام، فلذلك يجب أن يُعتنى بها اعتناء كبيرا. وكان العلماء يعتنون بهذه، وخاصة علماء الحديث، حتى لا يشتبه شخص بشخص.

الصفحة السابقة 1 2 3 4 5الصفحة التالية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق