مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبية

مجلس البلاغة السابع

انعقد يوم الثلاثاء ثاني وعشرين يناير سنة 2019 م, الموافق للرابع عشر من جمادى الأولى لسنة  1440هـ, المجلسُ السابع من مجالس البلاغة التي يعقدها الأستاذ محمد الحافظ الروسي بمركز ابن أبي الربيع السبتي.

 وقد استأنف الأستاذ في هذا المجلس حديثَه عن اللفظة تقع حشوا في الكلام، أَلَهَا معنى تفيده أم لا؟

فبدأ بذكر أن أصل الحشو يكون المقصدُ منه إصلاح الوزن أو تناسب القوافي والروي أو قصد السجع أو تأليف الفصول من غير معنى منه. ثم بيّن بأن الحشو في نفسه ليس ممدوحا ولا مذموما، لأنه لو كان كذلك لَمَا احتاجوا أن يصفوه بأنه ممدوح أو مذموم. فمن ذلك ما وقع حشوا وأدى معنى مُختارا، وهو التتميم والإيغال والاحتراس وضربٌ من الالتفات، وقد تقدمت شواهد كل ذلك في المجلس الأخير.

وقد جرى الكلام بعد ذلك في أبيات للمتنبي جاءت على ضربٍ من الحشو، قال في إحدى كافورياته:

وَتَحْتَقِرُ الدُّنْيَا احْتِقَارَ مُجَرِّبٍ /// يَرَى كُلَّ مَا فِيهَ –وَحَاشَاكَ- فَانِيَا

فإن في قوله “وحاشاك” أمورًا أفادها موضعُها من البيت، وهي الدعاء للممدوح واستثناؤه والالتفات إليه في نصف الكلام، فهي كلمة أصبح وجودها أفضلَ من إسقاطها وإن كانت حشوا، ألا تراه إذا أسقطها وقال:  “يَرَى كُلَّ مَا فِيهَ فَانِيَا”، تمّ له المعنى؟ فذلك قولهم: حشو أفاد معنى مُختارا. ولا يُلتفت في هذا إلى قول من يقول: إنما أتى بالكلمة لإصلاح الوزن. لأن لكل كلمة معنًى مختارًا تفيده، والشاعر القوي هو الذي يحوّل ذلك إلى قوة في شعره، فيحمّل الكلمة أكثر من معنى، لأن سبيل الشعر أن يكون حَمّال أوجه من المعاني، كلها يصح أن يُحمل عليه البيت.

وكذلك الأمر في جميع كافوريات المتنبي، وسيأتي الكلام في ذلك مع البيت الذي عرض له الأستاذ بالشرح والبيان، وهو قوله في كافور أيضا:

تَرَعْرَعَ المَلِكُ الأُسْتَاذُ مُكْتَهِلًا /// قَبْلَ اكْتِهَالٍ أَدِيبًا قَبْلَ تَأْدِيبِ

قال: لأن كلمة “الأستاذ” حشو كما قال بذلك البلاغيون، فإنه أتى بها بعد كلمة “الملك”، وهو ذكر للأدنى منزلةً بعد الأعلى، وإنما سبيلُ المدح تعظيمُ أحوال الممدوح وتفخيمُ أمره من حيث العقلُ والشجاعةُ والعدلُ والعفةُ، وكل أولئك تتعلق به أمور هي بسبيلٍ من ذلك، كتعلق الجود بالعدل وكونِه قسما منه كما قرر ذلك قُدامةُ بن جعفر في كتابه نقد الشعر. فعبارة المتنبي كأنها هجو في لَبوس مدح، وعلى ذلك بنى حسام زاده الرومي كتابَه الذي سماه “رسالة في قلب كافوريات المتنبي من المديح إلى الهجاء”، فجعل يحلل كل قصائده التي في مدح كافور ويبرز مواطن التصرف فيها وما قصد إليه المتنبي، فغادر الكتاب وإنه قَلَبَ كُلَّ ما ظاهرُه مدحٌ إلى هجاء أخفاه المتنبي بصنعته وتصرفه.

فالمتنبي كان يقصد ذلك في كافورياته، لأن ظاهرَها المدحُ وباطنَها التعريضُ والهجاءُ. قال ابنُ الأثير في المثل السائر  65/1عند حديثه عن المُوَجَّهِ، وهو الذي يحتمل المدح والذم معا: “وأكثر ما كان المتنبي يستعمل هذا القسم في قصائده الكافوريات”.

ثم أورد حكاية عن ابن جني -وقد كان ابنُ جني تنبه إلى ذلك-، قال: “وحكى أبو الفتح ابنُ جني، قال: قرأت على أبي الطيب ديوانه إلى أن وصلت إلى قصيدته التي أولها:

أُغَالِبُ فِيكَ الشَّوْقَ وَالشَّوْقُ أَغْلَبُ

فأتيتُ منها على هذا البيت وهو:

وَمَا طَرَبِي لَمَّا رَأَيْتُكَ بِدْعَةً /// لَقَدْ كُنْتُ أَرْجُو أَنْ أَرَاكَ فَأطْرَبُ

فقلت له: يا أبا الطيب، لم تَزِدْ على أن جعلته أبا زِنَّة، فضحك لقولي”.

وأبو زِنَّة كُنية القرد، كأنه جعل طربه لرؤية كافور كطربه لرؤية أبي زِنَّة، فهو يقصد إليها، لذلك ضحك لِمَا علم من تنبّه ابن جني إلى ذلك.

بعد ذلك انتقل الأستاذ في حديثه إلى بيت لأبي تمام يورده البلاغيون شاهدا على الحشو الذي لم يُفِدْ معنى، وهو قوله:

جَذَبْتُ نَدَاهُ غَدْوَةَ السَّبْتِ جَذْبَةً /// فَخَرَّ صَرِيعًا بَيْنَ أَيْدِي القَصَائِدِ

فإنه قيل: قوله: غدوة السبت، من الحشو الذي لا تقع فائدة بذكره. ذكر ذلك الآمديُّ في الموازنة 325/2، فقال: “وهذا وأبيه، معنى مُتَنَاهٍ في برده وغثاثته وركاكته، ولَشتيمة الممدوح عندي بالزنى أحسن وأجمل من جذب نداه حتى يخرّ صريعا، ولو لم يُعلمنا أن ذلك كان غدوة السبت، كيف كان يتم بردُ معناه؟!”.

وعابه كذلك ابنُ سِنان في سر الفصاحة فقال 163: “لأن قوله: غدوة السبت حشو لا يحتاج إليه ولا تقع فائدة بذكره ومن ذا الذي يؤثر أن يعلم اليوم الذي أعطى الممدوح فيه أبا تمام ما أعطاه وأي فرق بين أن يقع عطاؤه في يوم السبت أو الأحد أو غيرهما من الأيام وما بقي عليه شيء إلا أن يخبر بتاريخ ذلك الوقت وموقع ذلك اليوم من الشهر”.

وقد قال الأستاذ في تعقيبه على انتقادهم لبيت أبي تمام ما مُحصله أن البلاغيين ونَقَدَةَ الشعر قديما كانوا إذا تكلموا في شيء وقرروا حكمه، فإنه لا يُعاد النظرُ فيه، لسبق حسن الظن بهم عند الناس، وهو أمر يُرجع فيه إلى ثقافة ومعارف كل عصر، فإن ما كان يُستجاد قديما، قد لا يُستجاد اليوم، وما استُحسن اليوم لم تكن الناس تلتفت إليه قديما، وقد قال الجاحظ في ذلك في كتاب البرصان والعرجان 33: “وليس سوءُ الظن في الجملة بالمذموم، ولا حسنُ الظن بالمحمود. وإنما المحمود من ذلك، الصوابُ على قدر الأسباب القوية والضعيفة، والذي يتجلّى للعيون من الأمور المُقرّبة، وعلى ما جرت عليه العادة والتجربة”.اهـ

ثم وضح الأستاذ ذلك بما صنعه الباقلاني في إعجاز القرآن حينما بيّن قصور معلقة امرئ القيس عن دَرْكِ بلاغة القرآن الكريم، وقد أجمع الناس قديما وحديثا على تقدّمها وأوّليتها في الشعر العربي كله، ورَجَعَ ذلك إلى تفاوت أبياتها في البلاغة وحسن النظم، بخلاف القرآن الكريم الذي لا يَعروه شيء من ذلك، حتى قيل: “القرآن الكريم كالسورة الواحدة”.

فمن إعادة النظر في كلام من سبق، خلص الأستاذ إلى أمر، وهو أن عبارة أبي تمام في البيت الذي تقدم، وهي قوله: غدوة السبت، تُحمل على وجه يصح معناه إذا نظرنا إلى البيت على أن كل كلمة فيه تؤدي معنى مختارا قصد إليه الشاعر ولم يُرِدْ غيره، وإلا لَقد كان ذكر أي يوم آخر ولم يُعين السبت، وقد علمنا أن الملوك والأمراء كان لها يوم في السنة لا تستقبل فيه أحدا، فلا بد من أن تكون ليوم السبت دلالة عند الممدوح. ويُقوّي ذلك ما جاء في كتاب المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام لجواد علي في معنى يوم السبت عند العرب، وقد كانوا أخذوه من ثقافة اليهود لاختلاطهم بهم في يثرب قبل الإسلام، قال فيه 467/8: “وأما السبت فهو (شبت)، (شبات)، ومعناه الراحة (rest)”.

فإن كان كذلك، فما أحرى أن يكون استقبالُ الممدوح لأبي تمام في يوم راحته أصعبَ منه في سائر أيام الأسبوع! فلذلك ذكر أبو تمام اسمَ اليوم وعيّنه، فأوهم أنه حشو وقع منه لإقامة الوزن، وإنما هي عبارة لها دلالتها في ذلك الزمان والمكان.

فلأجل هذا ذكره الأستاذ ودفع الإيهام، وبيّن بذلك أنه ينبغي أن يُرجع في مثل هذه الأمور إلى سياق القصيدة وأحوال المادح والممدوح، لتُعلم عِلة ذكر بعض الأمور التي يكاد يُجمَع على أنها ليست بشيء لجفاء طبع الناظر وخفاء غرض الناطق (كما قال ابنُ جني)، وإنما هو بحث عن العلة للتوصّل إلى القصد.

وقد تعرّض ابنُ أبي الإصبع المصري لهذا البيت بالبيان ودفع الإيهام في كتابه تحرير التحبير، فقال فيه 397: “وكذلك ذكرُ أبي تمام غدوة السبت -وهو الوقت الذي وقعت فيه عطيةُ الممدوح- دليل على تعظيم العطية وتفخيم أمرها وجعلها من الغرائب التي لم يقع قبلها مثلُها، فلأجل ذلك أرَّخ يومَ وقوعها، إذ لا يُؤَرَّخُ إلا الكوائنُ العِظام والحوادث الجِسام، ولو لم يذكر وقت وقوعها معيّنا باسمه لم تحصل هذه المبالغات التي تزيد الممدوح مدحا، فدلّ على أنه قصد بها إفادةَ هذه المعاني لا إقامة الوزن، ولو قصد إقامة الوزن فحسبُ، لَمَا اقتصر على غدوة السبت دون غيرها مما يَسُدُّ مَسَدَّهَا، فإنه لو قال:

جَذَبْتُ نَدَاهُ بِالمَدَائِحِ جَذْبَةً

استقام له الوزنُ، لو لم يكن أراد ما أردت”.

فهذا تحقيق ما تقدم من كلام الأستاذ في بيت أبي تمام وغيره من الأبيات السابقة، إذ كان قد كثُر فيها الكلام لِمَا عِيبَ منها من وقوع بعض الكلمات فيها حشوا، ولكن توجيه كل ذلك يتأتى من وجه البلاغة، فكل حشو يحتمل أن يفيد معنى مختارا من إيغال وتتميم والتفات واحتراس كما مرّ معك. وبذلك خُتم هذا المجلس من مجالس البلاغة، والحمد لله أولا وآخرا، وصلى الله وسلم على نبيه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق