مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

قراءة في كتاب “نظم البرهان على صحة جزم الأذان”

ديسمبر 15, 2022

    انعقد بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة، يوم الخميس 15 دجنبر 2022م، محفل علمي احتفاء بإصدار جديد للدكتور الألمعي محمد صالح المتنوسي، وهو تحقيق لرسالة علمية للإمام العلم أبي الفضل عياض بن موسى بن عياض السبتي اليحصبي دفين مراكش (تـ 544هـ) معنونة بـ:” نظم البرهان على صحة جزم الأذان”، وبالرغم بما للرسالة من قيمة علمية مستمدة مما لصاحبها من مكانة – فهو الأديب الفقيه المحدث المفسر.. الذي طارت بسيرته وبنتاجه العلمي الركبان – ومن جهة ثانية مثارموضوعها الذي حسم في أي القيلين أرضى لرفع الأذان؛ أهو الجزم أم إعراب كلم شعار الإسلام؟ فقد ظلت حبيسة الرفوف، يتناقل بعض المهتمين نسبتها إلى القاضي عياض، دون عثور على عينها حتى في متوقع المظان، ولعلها ادُّخرت على قدر تبريزا لبعض الحب والوفاء الذي أشربه قلب الباحث في مراتع الصبا، وهو يصحب أباه صبيحة كل جمعة للترحم على مراقد أولياء الحضرة، فأسهم ذلك في تبلور معالم شخصية المحقق وهو يعرف للكبار حقهم، يزينه في ذاك اطلاعه على موروث من وسم منهم بالعلم، بل الشفوف فيه ..

       انتظم المحفل باحثي المركز و زمرةَ ضيوفٍ من بجدة الدار، وأغنى المأدبة العلمية صفوة من كبار الأساتذة المتمرسين، فجاءت مداخلاتهم كشكولا متكامل المعارف؛ منها ما اهتم بصلب الكتاب وتبريز منهج الأوائل في التصنيف، وبعضها بشخصية المحقق وما ينبغي مراعاته في التحقيق، وأخرى جولة في التاريخ لاستحضار ملابسات التأليف، مع إجماعهم بإشادات شاهدات بالأهلية المتكاملة الأركان للباحث، الذي ركب الصعب والذلول لإخراج النص على نسخة فريدة، على نحو ما توخاه منشئها الأول.

           الكلمة الأولى كانت للأستاذ الدكتور عباس أرحيلة، وبعد أن عرج على جهد المحقق وبرز الجانب الأدبي في العمل، ومظاهر الصنعة فيه، والخلفية الثقافية التي تتلمس من وراء السطور.. خلص إلى فكرة الكتاب الأساسية، وملابسات بروزها، مستدلا على حسم القاضي المسألة بما سطره في العنوان، “نظم البرهان على صحة جزم الأذان” فالكتاب انتظام لمجموع أدلة عاضدة لمنحاه، رافعة لما يشغب به المعترض في دعواه، ثم إن جزم الألفاظ واستيفاء الصوت به وتوسيع المدى له هو الذي يقع به الإعلام وينتهي به الإسماع..

       وجلى الأستاذ الدكتور بمقدرة عز نظيرها المخبوء وراء صدف جواهر الملفوظ، في عرض فنن،  حلل فيه سبك الخطاب؛ فاستنطق النص، وغاص في أغواره لاستجلاء الدوافع والأسرار، واستكناه شخصية المؤلف بما أودع تصنيفه من بنات الأفكار، مما أضفى على المداخلة سرا لامس شغاف القلوب، أفصحت عنه ملامح الرضى على  تقاسيم البِشر والوجوه.

      بعدها أعطيت المداخلة الثانية للأستاذ الدكتور أحمد عمالك، وكانت مداخلته مقاربة لما اكتنف حقبة صاحب الكتاب؛ إذ شهد مؤلفه أفول نجم المرابطين وبزوغ نجم الموحدين، وكيف أثر ذلك على ولائه لمن استتب له الأمر من بعد…فلم تشفع له أهليته في كسب الرضى الموحدي، فكانت نكبته المشهورة في التاريخ، التي لم تفصح عنها المصادر إلا بشيء من التلويح، ومنها نزع لمقاربة الحدث بوقائع التاريخ المغربي إبان الحماية، وأن تلك النهاية التي ختمت بها حياة اليحصبي أفضت بكثير من رجال الأعمال إلى توقيها؛ عبر مسلك طلب الحماية، فظهر ما يسمى وقتها بالمحميين أو المصوبرين باللسان الدارج، ويقصد به  من يمتلك جوازا أجنبيا، يقي به مهجته، ويصون به عرضه وأمواله، ويذوذ به عن مصالحه.. وأعطى مثالا بالشريف الوزاني الذي كان يحظى بحماية إنجليزية، وتحدث عن زوجته الأجنبية التي تدعى شريفة وزان، وكانت مهتمة بالشأن المغربي، ودونت في ذلك كتابا سجلت فيه كل ما يخص المغرب وقتها؛ من عادات وأعراف وأحداث، وسيرورة الوقائع والتغيرات، في جولة مقتضبة عن واقع الحال ذلك الإبان.

      وكانت المداخلة الثالثة للأستاذ الدكتور عبد الرزاق مرزوق، تحدث فيها عن دلالات الاعتناء بالموروث، فرأى فيه اعترافا بفضل الأوائل، وتعبيرا عن تمام البرور، وسعيا لامتداد ذكر العالم بعد محسوس الأفول، بما يترجمه مقول النبي صلى الله عليه وسلم: “إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث..” ، وعن الفكرة صدر في التدليل على منهجية لها ملحظها في التحقيق؛ مفادها أنه لا ينبغي للمحقق أن يجرد مصنفات العلَم إلا بعد الانتهاء من ترجمته وتوريخ إقباره، ليكون في تعداد تصانيفه استحضار لامتداده واستمرار ثاني عمره وأيامه.

       ومن ملح الفرادة في المداخلة؛ التأكيد على ضرورة خلق شجن في العمل العلمي، فلا بد أن تمتزج شخصية الباحث بالنص  المتلبس به، ذاك الشجون  الذي يعطي للعمل قيمته، ويعكس جهد المعافس له، أما الاجتزاء بالشؤون -كما أسماها الأستاذ- فيجعل العمل كيانا بلا نبض، وجسدا بلا روح، فالتهمم والاستكناه، و شحذ العزم بموفور الانتباه، محمود الغب وإن كان محفوفا بالمكاره، فلا إشراق دون احتراق.

      وختمت الجلسة العلمية بالتضرع إلى الباري في علاه، استدرار للرحمات، واستنزالا للبركات، وتوفيقا للعون على المهمات الملمات، ثم الدعاء للسدة العلية مولانا الإمام محمدا السادس، أن يسربله المولى بسربال الصحة و موفورالعافية، مكلوءا بعين الله في صحته وأهله و ولي عهده.

د.عبد الجليل الحوريشي

  • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق