وحدة الإحياء

في نقض أسس التطرف ومقولاته.. مقاربات وتجارب

في ظل سياق إقليمي ودولي مشحون بالتوتر وتصاعد وتيرة العنف والتطرف والإرهاب، التقت إرادة كل من الرابطة المحمدية للعلماء بالمملكة المغربية، ومكتبة الإسكندرية بجمهورية مصر العربية على تنظيم ندوة علمية دولية يومي 9 و10 ربيع الأول 1437ﻫ الموافق لـ21 و22 دجنبر 2015م بالرباط-المملكة المغربية، وهي الندوة التي رامت فهم وتفسير هذه الظاهرة العابرة للقارات والثقافات، والأقوام والأديان، ورصد مختلف محدداتها وأبعادها سعيا للحد من آثارها المدمرة على مختلف الصُعد السياسية والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والنفسية، والأمنية، وذلك بمشاركة مفكرين وباحثين من مملكة البحرين والمملكة العربية السعودية، والعراق، وجمهورية مصر العربية، والمغرب.

وهي الندوة التي اختير لها عنوان: “في نقض أسس التطرف ومقولاته: مقاربات وتجارب“، وانتظمت أشغالها، حول خمس جلسات:

1.  أهم محددات ومظاهر ظاهرة التطرف.

2.  في نقد الأصول الفكرية والإيديولوجية للتطرف.

3.  أصول التدبير الوقائي والعلاجي لظاهرة التطرف في الفكر الإسلامي.

4.  مقاربات متقاطعة لتفسير ونقد ظاهرة التطرف: التصوف والجماليات، والمقاصد..

5.  في مواجهة ظاهرة التطرف والإرهاب: من النقد إلى الاستشراف.

استهلت أشغال هذه الندوة الدولية بمحاضرتين افتتاحيتين؛ الأولى لفضيلة الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء الدكتور أحمد عبادي، وقد أبرز فيها على وجه الخصوص كيف أن خطاب التطرف يتأسس على “اختطاف أحلام الصفاء والوحدة والنجاة والكرامة؛ اختطاف حلم الصفاء من خلال زعم العودة إلى الدين في أصالته ونقائه الأول خالص من كل البدع. واختطاف “حلم الوحدة” من خلال ادعاء الدعوة إلى استعادة دولة الخلافة الراشدة باعتبارها رمزا لوحدة المسلمين؛ وهو الحلم الذي ظل قائما في المجتمعات التي كانت منضوية تحت حكم الإمبراطورية العثمانية التي أثر انهيارها المهول، وتزامنه مع الغزو الاستعماري، بشكل عنيف على المسلمين في هذه البلدان، موضحا أن الخطاب المتطرف يتحدث عن الخلافة انطلاقا من تشخيص خاطئ لا يأخذ بعين الاعتبار مفهوم الدولة وشروط الخلافة وتوطينها. 


أما اختطاف “حلم النجاة” فيتم من خلال تقديم التنظيمات التكفيرية المتطرفة، على غرار تنظيم “داعش”، نفسها للشباب باعتبارها “الفرقة الناجية”، وبذلك تلامس فيهم الحلم الثالث وهو حلم “النجاة”.

في حين تم اختطاف “حلم الكرامة” باعتبار الكرامة مطلبا أصيلا انخرط جلّ شباب المنطقة إثر المعاناة الطويلة، ومتعددة الأبعاد، لتحقيقه ضمن الحراك الاجتماعي السلمي القوي الذي جرى التعبير عنه بالربيع العربي، وهو الحراك الذي تراجع معه بريق المشروع التكفيري للجماعات المتطرفة، لكن ما أن بدت بوادر فشل هذا الحراك حتى عادت هذه الجماعات إلى التدليل عن صدقية خيارها العنيف، مشيعة أن الكرامة لا تتأتى ولا تنتزع إلا بقوة السلاح.

وفي هذا السياق، أبرز فضيلته أن ما ينبغي التركيز عليه هو معركة النص، وهذه المعركة هي التي أشار إليها النبي الخاتم عليه الصلاة والسلم حين قال: “يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين”؛ تحريف الغالين من خلال فصل النصوص من أماكنها ومواطنها ومواردها وبواطنها وصرفها عبر زحلقات تأويلية إلى موارد أخرى وسياقات أخرى..

مشددا فضيلته أن التأويل لا يمكن أن يكون دون اعتبار للمآل، ووعي عميق بالسياق، وتمثل راسخ لروح الدين.

وفي هذا الإطار دعا فضيلته إلى تفكيك خطاب التطرف، وكشف مختلف مظاهر زيفه وعدم شرعيته، وبلورة بدائل مضمونية بالتعاون مع سائر البلدان العربية والإسلامية، وسائر المؤسسات العلمية الأصيلة كالقرويين والأزهر والزيتونة…

وهو ما لن يتسنى إلا بما عبر عنه فضيلته ببناء “القدرات والكفايات” لتفكيك خطاب التطرف، مشيدا في هذا الإطار بجهود المملكة الرامية لمحاربة الإرهاب، مؤكدا على أن الحاجة أضحت ماسة في الوقت الراهن إلى إعادة تحليل مضامين ومحتويات ما يقدم للشباب على الشبكة العنكبوتية، بغية اقتراح البدائل الممكنة.

وتعزيز منظومة القيم، والتعاطي بشكل مختلف مع ظاهرة التطرف، باستحضار البعد الحقوقي، وكرامة الشباب، مع نهج مقاربة التمكين، والاهتمام بمراكز الأبحاث، والدورات التكوينية، وبناء القدرات والكفايات. كما شدد على ضرورة استكمال البناء الديمقراطي، وإصلاح نظم التربية والتكوين، واعتماد معايير الحكامة في التدبير..

كما أوضح فضيلته كيف أن الشأن الديني في المملكة مهيكل بتكامل وظيفي، عماده المحوري يتمثل في مؤسسة إمارة المومنين، بكل صلاحياتها الشرعية، التاريخية والدستورية مبرزا كيف أن “هذه المؤسسة، مؤسسة الإمامة العظمى، هي المشرفة على هندسة وتوجيه أضرب الأداء المتكاملة في هذا المجال”.

مشيرا إلى أوجه التكامل بين المؤسسات الدينية في المغرب، حيث أشار الى أن المجلس العلمي الأعلى يضطلع بمحور القرب من المواطنات والموطنين والحد من فوضى الفتاوى، تحت إشراف أمير المومنين، من خلال مجالسه المحلية التي تضمن  القرب من المواطنات والمواطنين، عبر آليتي الوعظ والإرشاد، والرابطة المحمدية للعلماء، باعتبارها أكاديمية للعلوم الشرعية والفكر الإسلامي، تبحث من خلال وحداتها البحثية الإحدى والعشرين على مظاهر القوة الاقتراحية، والتكييف العلمي في مجال التعاطي مع قضايانا الحارقة والضاغطة في عصرنا الراهن من خلال تكوين المثقفين النظراء، والعناية بالعلماء الوسطاء والباحثين والعلماء الرواد، وأيضا البعد الإداري والتدبيري والحكومي الذي تجسده وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، والبعد العلمي الذي تجسده جامعة القرويين في صيغتها الجديدة التي تستدمج وتضم دار الحديث، والمعاهد الملكية العاملة في المجال الديني كلها، ثم الجانب المتصل بالبنى والأنساق التواصلية التزكوية والصوفية والتي تحد من الضرر الناجم عن غياب الأسرة الممتدة وحلول الأسرة النووية.

ليخلص الدكتور أحمد عبادي الى أن التكامل الوظيفي بين هذه المؤسسات العلمية يبين أننا أمام مقاربة هندسية أصيلة ومتكاملة، جعلت التجربة المغربية في هذا المجال تجربة ملهمة للعديد من دول العالم.

أما المحاضرة الافتتاحية الثانية فقد ألقاها فضيلة الدكتور إسماعيل سراج الدين (مدير مكتبة الإسكندرية/جمهورية مصر العربية) الذي استهل مداخلته بالإشارة إلى أن اختيار موضوع مؤتمر: “نقد أسس التطرف ومقولاته”، لم يأتي من فراغ، وإنما جاء تعبيرا عن إدراك لخطر التطرف الذي داهم حياتنا وملأ كل جوانبها اليوم، وأضحى يطل علينا بوجهه القبيح في الإعلام والثقافة والمجتمع.

وذلك في تناقض مع الإسلام؛ تجربة تاريخية ونظام قيم حيث جعل الناس سواسية لأنهم أبناء العائلة الإنسانية الواحدة، وضمن لهم الحق في العيش والكرامة دون استثناء أو تمييز، مصداقا لقوله تعالى: “وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ” (الروم: 21)، وقوله تعالى: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ” (الحجرات: 13).

ثم أكد أن التطرف الذي يضلل العقول ويضيق مساحات التسامح والتراحم بين بني البشر، بل وبين المسلمين أنفسهم، فاستباح دماءهم وأموالهم لمجرد مخالفتهم في الرأي وإن لم يختلفوا في العقيدة. فكر متطرف، مخالف لقواعد الإسلام ومعاد للحضارة ورافض للإنسانية، غامض في منطلقاته ومظلم في مقصده ومآله، ناسٍ أو متناس أن التعددية في الرؤى خاصة مع اختلاف البيئات والمجتمعات هي التي تقوم على دين يلبي الاحتياجات الإنسانية لا الأيديولوجية، وأن الروابط التي تنشأ بين أفراد المجتمع هي رأس مال كل المجتمعات التي يستثمر في التنمية وتحقيق الأمان وبناء القدرات وحل الخلافات ونشر روح السكينة والطمأنينة بين الناس.

بعد ذلك شدّد على ضرورة الوعي بكل الأسباب التي تنتج مثل هذا الفكر المتطرف المظلم، والعمل الجاد على تجاوزها وبوجه خاص؛ ارتفاع نسبة الفقر ومعدلات البطالة، وارتفاع نسبة الأمية، وانتشار الجهل، وغياب العدالة الاجتماعية وهو ما يرتبط ضمنا بغياب الديمقراطية وحرية التعبير. داعيا إلى ضرورة ترشيد ثورة وسائل الاتصال والحد من الفوضى الدينية في مجال الفتاوى الفقهية، وتكاثف الجهود من أجل الحفاظ على حقيقة الإسلام المنفتحة على الآخر، وبناء مجتمع التنمية، والحريات، والمشاركة، وتحقيق مبادئ الحكم الرشيد من ديمقراطية، وشفافية، ومساءلة، وحكم القانون، والعدالة الاجتماعية، وكذا السعي إلى تطوير التعليم، وبناء العقل النقدي، والانفتاح على التقدم، وعلى منجزات العلم الحديث دون التضحية بهويتنا العربية الإسلامية التي لم تكن يوما إلا داعمة للتدين، والعلم، والاجتهاد والخلق القويم، وأن نحرص على أن نجعل من وسائط التواصل وسائل تحول عقول الأجيال الجديدة إلى عقول ناقدة واعية تدرك التطورات المذهلة.

وهو ما لن يتسنى إلا ببلورة رؤية مستقبلية ذات مصداقية تمهد الطريق لغد نحقق فيه تقدما أفضل على المستوى الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، وأن نسعى إلى إرساء مبدأ التعددية لتسود ثقافة قبول الآخر، والانفتاح عليه ليكون الجميع شركاء في صناعة المستقبل الإنساني المشترك.

حاول د. محمد بلكبير (رئيس مركز الدراسات والأبحاث في القيم/الرابطة المحمدية للعلماء) الوقوف على “المحددات السوسيولوجية والأنثروبولوجية والسيكولوجية لظاهرة العنف والتطرف“؛ كاشفا أن المفارقة التي تطرحها ظاهرة العنف والإرهاب والتطرف في ظل العولمة لعصر ما بعد الحداثة، تكمن في كيفية الحد من تنامي هذه الظاهرة بكل أنواعها، وتجلياتها، ووتيرة تناميها من جهة، وفسح المجال رحبا لإنعاش ثقافة حقوق الإنسان، وما يرتبط بها من مساواة وعدل وإنصاف… من جهة أخرى.

أما مداخلة د. الحسان شهيد (جامعة مولاي إسماعيل/مكناس) فقد بلور “مقاربة نقدية للأسس الأصولية والمقاصدية لظاهرة التطرف”؛ نافيا أن تكمن خطورة التطرف وما يتصل به من عنف وتشدد في تجلياته الظاهرية فحسب، بل في الأسس التي يقوم عليها والمسوغات الاستدلالية التي يجعل منها مداخل تبريرية في الوجود والانتشار، لذلك فإن كل مقاربة لا تبحث في تلك الأسس ومقاربتها علميا لتفكيك الظاهرة والكشف عن مرتكزاتها في المجال الإسلامي تحديدا تبدو غير كافية ولا تفي بالغرض المطلوب.

ولذلك فقد جهدت مداخلته في تقريب النظر والبحث في تلك الأسس والمبادئ عبر مداخل ثلاث من شأنها تكوين مقاربة علمية:

الأولى فقهية: وتبحث في الأسس الفقهية الاجتهادية التي تدحض الآراء والأنظار المنتجة للتطرف، والثانية أصولية: وتنظر في الأصول والقواعد المنهجية للنظر الفقهي التي تؤسس لفقه التعدد والاختلاف، والثالثة مقاصدية: وتكشف عن الخلل في النظر المقاصدي في فقه الدين لدى المقولات التطرفية.

وقد مهد لذلك بنظرية ومفاهيمية أعقبه برصد لأهم أسس ظاهرة التطرف انطلاقا من التقريب الفقهي، والتقريب الأصولي، والتقريب المقاصدي.

أما الجلسة العلمية الثانية التي انصبت على “نقد الأصول الفكرية والإيديولوجية للتطرف“، فقد استهلها د. محمد كمال الدين إمام (كلية الحقوق/جامعة الإسكندرية) بمداخلة بعنوان: “في نقد الأسس النظرية للتطرف مقولة الحاكمية -مثالا-“ مبرزاً كيف ابتلي الإسلام في النصف الثاني من القرن العشرين باتجاهين كلاهما بعيد عن حقيقة الإسلام؛ اتجاه علماني يريد أن يقصيه حيث لا مكان له في الحياة والمجتمع، واتجاه يدّعي احتكار الفهم للإسلام فيقرأ كتابه بما ليس فيه، تحت مسمى الحاكمية لله والتي أصبحت لدى تيارات التشدد والغلو من مصطلح له مفاهيمه ومرجعيته إلى “شرك” غايته السلطان ومنهجيته النظر المتفلت عن حقائق القرآن وموقفه من الألوهية والكون والإنسان، وتراجعت أسس العدل والوسطية وتكريم بني آدم، إلى قراءات لحمتها القتال المستمر، والعداء السافر، وقسمة العالم إلى محورين: محور الخير الذي يمثلونه، ومحور الشر الذي يصطف فيه أهل الأديان جميعًا باعتبارهم الإخوة الأعداء.

بعد ذلك حدّد مفهوم الحاكمية من الوجهتين اللغوية والاصطلاحية؛ موضّحا كيف أنّ الحاكمية لغة تشير إلى معان متعددة، ووجوه دلالة كثيرة وهذا من خصائص اللغة العربية.

ولأهمية مفهوم الحاكمية، ومحوريته عند دعاة التطرف العلماني ودعاة التطرف الديني، فقد تناول القضية بمنهج يقرأ المصطلح في سياقه التاريخي، وفي خرائطه في علميّ الأصول والفقه. بعيداً عن كل من المنهجين التبريري والإقصائي:

المنهج التبريري؛ الذي يُنصّب نفسه حكمًا على الدين والعقل والمجتمع من خلال عرض غير أمين لحقائق الإسلام استنادًا لأفكار ضالة، وحركات يائسة، وجماعات تستهدف المغالبة من أجل الحكم، ترفع لواء المشاركة وهي لا تعرف في أساليبها الحكمية سوى تصفية الحسابات، وتمكين أتباعها من امتلاك مفاصل الدولة والمجتمع، تحت وطأة ديمقراطية مزعومة ترفع من شأن الصندوق الصامت، وترفض ثقافة الديمقراطية الناطقة.

والمنهج الإقصائي؛ الذي يتلاعب بآيات القرآن، وأحاديث الرسول، صلى الله عليه وسلم، يفسر القرآن على هواه، ويقبل من الأحاديث ما يوافق مبتغاه، ويرفض الأحكام الإسلامية باعتبارها سلطة دينية لا تتوافق مع حرية البشر وكرامة الإنسان؛ فالحاكمية عند هؤلاء هي حاكمية كونية تؤسس على القوانين العلمية، وليست حاكمية تشريعية تضع الأوامر والنواهي في قواعد عامة، وتفاصيل جزئية، فالكون مملكة الله من مقام الربوبية، والتشريع حاكمية البشر لأن الشرائع مراحل تاريخية لها أوامر ونواهي عينية زمنية، فحاكمية الله سنن وأخلاق، وحاكمية البشر هي شعب يقرر وتشريعات تصدر.

وقد تناول الأستاذ المحاضر موضوعه انطلاقا من محورين أساسيين: محور الحاكمية من منظور التطرف العلماني من خلال “محمد شحرور، ومحمد أبو القاسم حاج حمد”. ومحور الحاكمية من منظور التطرف الديني من خلال “أبو الأعلى المودودي، وسيد قطب”.

ليخلص إلى الحاكمية من المنظور الإسلامي؛ “مفهومها، مجالاتها“.

بعد ذلك تناول الكلمة الدكتور خالد عزب (مدير إدارة الإعلام بمكتبة الإسكندرية/جمهورية مصر العربية) محاولا “نقد الأسس الفكرية لظاهرة التطرف” من خلال تجربة سيد قطب فمع أن هذا الأخير نشأ أديباً مبدعاً في جيل من المبدعين المصريين الرواد، وعرف في الأوساط الثقافية ببلاغته وفصاحته؛ إلا أن التحولات التي حدثت في حياته جعلته يندفع مع جماعة الإخوان المسلمين إلى بناء تصورات أبعد ما تكون عن الواقع؛ لذا فإن كتابه “معالم في الطريق” غلب عليه الطابع التأثيري الإنشائي في لغة سلسة تدفع الإنسان للاقتناع ولو من غير برهان.

 غير أن النظر العقلي والمنهج النقدي يقتضي أن نُعرض عن العاطفة ونُركز على تحليل مضمون نص الكتاب، والفصل بين الفعل البشري والنص المقدس، وتأكيد دور الفعل البشري: الخطأ/الصواب؛ خاصة في القرون الأولى للإسلام؛ إذ أن التقديس المطلق لحقبة محددة ولمجموعة معينة من البشر ينزع عنهم صفة البشرية ليصبحوا ملائكة. في الوقت الذي حمل فيه مجتمع المدينة المنورة في عصر الرسول كل صفات المجتمعات الإنسانية. وهذا ما تؤكده الروايات والأحاديث النبوية.

أوضح خالد عزب كيف أن سيد قطب صدر عن تصور معياري لدولة المدينة؛ حول مجتمع المدينة المنورة في الحقبة النبوية وحقبة الخلفاء الراشدين إلى مجتمع مثالي. كاشفا أن أخطر ما في معالم في الطريق هو رغبة سيد قطب في تجميد الإسلام عند حقبة من الزمن، دون إدراك منه للمتغيرات التاريخية عبر الزمن.

وهي المتغيرات التي يختزلها العرف؛ لأنه متغير ومتفاعل مع البيئة والمجتمع. مصداقا لقوله تعالى: “خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ” (الأعراف: 199). وهو ما ما تغافله سيد قطب، وتغافلته أغلب الأدبيات الإسلامية الحركية.

وغير بعيد عن هذا المنحى من التحليل تندرج مساهمة د. محمد الناصري (أستاذ باحث في الدراسات الإسلامية/بني ملال) بدراسة بعنوان: “في نقد ثقافة التطرف: قراءة في الأصول الفكرية” استهلها المتدخل بالتشديد على أن المجتمعات الإسلامية اليوم أضحت ساحة مفتوحة للصراع والاحتراب بين مختلف مكوناتها، صراع واحتراب يقف خلفه في  معظم الأحوال حركات ومنظمات أو جماعات وتيارات، يقودها أفراد يدعون الانتساب إلى الدين ويدافعون عنه. يستندون في ذلك لفهوم خاطئة للدين، وتأويلات غير منضبطة للنصوص الشرعية من الكتاب والسنة وأقوال العلماء، وتعميمات بعيدة كل البعد عن مقاصد الشريعة ومكارمها ومآلاتها.

 مبرزا كيف أن الحركات التكفيرية عادة ما تستغل أزمات الواقع العربي والإسلامي، وإخفاقاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بالإضافة إلى التحامل الغربي على الإسلام والمسلمين. لتبرير فهومها الخاطئة، فعملوا على استثمارها في تكفير المجتمع وتكفير الحكام،  وتكفير المحكومين لأنهم رضوا بهم، وتكفير العلماء، لأنهم لم يكفروا الحكام، إعمالا للقاعدة التي تزعم أن من لم يكفر الكافر فهو كافر، وتكفير كل من عرضوا عليه دعوتهم ولم يقبلها…

واستثمروا ذلك في تسويغ وتبرير القيام بالأعمال الحربية ضد غير المسلمين وشرعنتها، واعتبار أن القتال لا ينحصر بحالة العدوان على أهل الإسلام أو دعوتهم، بل شرع القتال ابتداء لإخضاع الأنظمة الكافرة لسلطان الإسلام. فاكتسبت أعمال الحركات الإسلامية الراديكالية، صفة المشروعية للكثير من علميات العنف التي يتم تنفيذها سواء على المستوى الداخلي (العربي والإسلامي) أم على المستوى الخارجي.

 الأمر الذي استدعى من الباحث تحليلا مفصلا للمرتكزات التي ينبني عليها فكر الغلو والتطرف، والكشف عن الآليات التي يشتغل وفقها هذا الفكر، لأجل نقدها وتقويمها على نحو يمكن من إبراز أزمة هذا الفكر وإظهار تهافت منطلقاته وغاياته. من قبيل مفاهيم: الحاكمية، دار الإسلام ودار الكفر، مقولة النسخ…

وهكذا نصل إلى الجلسة العلمية الثالثة التي تمحورت مساهماتها حول “أصول التدبير الوقائي والعلاجي لظاهرة التطرف في الفكر الإسلامي”. واستهلها د. عبد الحميد عشاق (عضو المكتب التنفيذي للرابطة المحمدية للعلماء، والمدير المساعد المكلف بالبحث العلمي والشراكة والتعاون مؤسسة دار الحديث الحسنية/الرباط) بدراسة بعنوان: “في نقد الأسس العقائدية للتطرف: مفهوم الجهاد، مثالا،” ملفتا النظر، وقد وضع مصطلح الجهاد على محك البحث، إلى تلكم النقلة التي ضيقت مفهومَه، وحصرت مشمولَه، فجعلته لصيقا بدلالات القتال والعنف والتخويف. وهي نقلة لا يساعد عليها منهج الجمع بين الأدلة الشرعية وأسيقتها؛ ذلك أن الجهاد أول ما ورد لفظه في التنزيل كان في سورة مكية هي سورة “الفرقان” التي تنزلت قبل الهجرة، وهي مرحلة كلها دعوة بالحسنى، والحوار، ولين القول، وطيب الكلام، من رسول الله، صلى الله عليه وسلم،  كما تشهد بذلك كتب السير والأخبار.

وقد أبدع بعض المفسرين المعاصرين في إعمالِ لاحبِ منهجِ الجمع بين الدليل الكلي والدليل الجزئي ومجال التنزيل، في التعامل مع الآيات المؤسسة لمفهوم هذا المصطلح الذي نتطارح فيه آراءنا، فأفضى بهم ذلك إلى استنتاج أن تخصيص الجهاد بمعنى القتال إنما اقتضته أسيقة استثنائية خاصة.

وفي هذا السياق يلاحظ الأستاذ عشاق أن للفقهاء تقسيما ثنائيا للجهاد، مبنيا على حصر مفهومه في نطاق القتال، فيما عبروا عنه بقسمي الجهاد دفعا وطلبا؛ وقد نجد لهذين القسمين ما يسوِّغهما عند التأمل في الحامل على الحديث عنهما، ويمكن إجماله في الواقع والتوقع؛ إذ الدفع يقتضيه واقعُ بدءِ الآخَرِ بالعدوان، وهو مناط الآيات التي قُيد فيها الأمر أو الإذن بالقتال ببدء الكافرين بالظلم والعدوان؛ والطلب يستدعيه توقع المباغتة بالحرب، حين نقضِ المعاهَدين مواثيقَ عهودهم، وعليه تحمَل الآيات التي يفهم من ظاهرها البدء بالقتال، وعلق ذلك في بعضها بشرط نكث الأيمان.

كما أوضح المحاضر كيف أن إجماع الفقهاء كاد أن ينعقد على اعتبار الحرابة علة أحكام الجهاد بالمعنى الضيق المفيد القتالَ ومناط تنزيلها وإعمالها، لولا خلاف الشافعي في ذلك، إذ أجاز في مشهور الرواية عنه القتال الابتدائي، تعليلا بالكفر من غير مراعاة الحرابة وقوعا أو توقعا.

وهو خلاف لا يبقى له أدنى اعتبار إذا عُرض على المقصد العام الذي شرع لأجله الجهاد ابتداءً وانتهاءً، وهو ما نطقت به النصوص الصريحة من أنه رد العدوان وقوعا أو توقعا، حفظا لصلاح العالم، ودرءا لاختلاله، مما عبر عنه القرآن الكريم بقوله: “وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ” (البقرة: 192)، فغاية القتال في دين الله أن يُكفَل للناس من الحرية والأمن ما يُكْفَوْن به غوائلَ الفتن.

مذكراً أن ابن جزي الغرناطي المالكي سبق له أن صرّح بأنه “إذا حميت أطراف البلاد، وسدت الثغور، سقط فرض الجهاد، وبقي نافلة” ومعناه أن الجهاد القتالي إنما تناط مشروعيته باستباحة العدو حمى البلاد، فإذا حمي الحمى والذِّمار، لم يعد وجه لتسويغ القول بفرضية جهاد القتال.

وهكذا فإن هذه النظرة الكلية لمفهوم الجهاد، تجد حجتها وسندها من حيث الواقع التاريخي في تلكم التجمعات الدينية والمذهبية واللغوية والقومية والعرقية التي تفيّأت وارفات ظلال الإسلام الراشد الذي تكفل لها من الحرية والرعاية بما مكنها من العيش آمنة على المهج والأرواح، والعقائد والأفكار، من غير أن يستباح من حرمها شيءٌ.

وهكذا استشكل الأستاذ المتدخل موضوعه على الصيغة التالية: “إذا تحرر مفهوم الجهاد وأعيد بناؤه في ضوء نقدِ مقررات أحكامه، وتأصيلِها بمنهج الجمع بين الأدلة ومراعاة نسق تكاملها، فما موقع ذلك من الواقع؟ وهل لهذا المفهوم من أثر في النظم التشريعية الحاكمة للعلاقات الدولية المعاصرة؟”.

ليخلص إلى أن لامناص من التسليم بواقع بُعد الشُّقَّةِ بين مفهوم الجهاد كما نُظِّرَ له في أدبيات الفقهاء كمعنى مرادف للقتال بدءًا أو دفاعاً، وبين ما يُرتَكَب من ممارسات الغدر والظلم والعدوان باسمه في سياق الواقع العالمي المعاصر، كما أنه لا مجال للحديث عن جهاد تناط مشروعيتُه بإذن ولي أمر المسلمين لانعدام جملة من المفاهيم المتعلقة به في السياق التاريخي الإسلامي؛ وهما جهتا افتراق الجهاد من حيث بيئة تنزيله بين التاريخ والواقع المعاصر.

كما دلّل على أنّ التغيرات التي عرفها العالم خلال القرنين الأخيرين جديرة بلفت انتباهنا إلى الأوضاع والمفاهيم الجديدة التي تكتنف العلاقات السياسية بين الدول، فالعالم أصبح اليوم محكوما بنتائجَ متراكمة من التجارب المريرة التي تمخضت عنها معاهدات واتفاقيات ملزمة للدول والحكومات.

بدءًا بمعاهدة وستفاليا التي أُنهيت بعقدها حقبةُ الحروب الدينية سنة 1648م، وبمقتضاها أصبحت الدولة القومية أو الوطنية مصدرَ السلط، ومنطلقَ الفعل السياسي، وصاحبةَ الإرادة المؤثرة في الواقع الدولي، الحريصةَ على تحقيق الاستقرار النسبي بما يضمن العيش المشترك مع مختلف الأمم والمجتمعات.

 ومرورا بمعاهدات دولية قضت بتجريم الحرب مطلقا في القرن التاسع عشر، وانتهاء باتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949، وبروتوكوليها الإضافيين لعام 1977، واتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية، وسائر قوانين الأمم المتحدة التي إليها يرجع الفضل فيما تنعم به المجتمعات المعاصرة من استقرار نسبي؛ إذ أصبحت المجتمعات آمنةً في ظل سيادة الدول من غير أن يُحوجها الخوفُ إلى أداء عسكري تحوز به حقها في شغل حيزها الجغرافي الذي تعتبره وطنا لها ومستقرا.

لذلك يخلص السيد المتدخل إلى أنه لم يعد هناك مجال للحديث عن مفاهيم الحروب الدينية، أو الفتوحات الإسلامية، أو الحملات التنصيرية، أو حروب الاسترداد، بعد أن وُضع أمن المجتمعات وسيادة الدول وحماية الحدود في عهدة المجتمع الدولي.

فضلا عن أن يكون هناك مجال للحديث عن المفهوم الضيق للجهاد، المنحصر في نطاق الحرابة والقتال، فذلك لا يعني سوى الانفصال عن الواقع.

 كما أن محاكمة مفهوم الجهاد في ضوء الممارسات التاريخية بمعايير معاهدة جنيف 1949، وقوانين حقوق الإنسان، تعني غياب الحس التاريخي، الذي يشهد بأنه لم يكن في مستوى فظاعة ما مارسه الغرب المسيحي خلال الحروب الصليبية، وما ارتكبه من مذابح وجرائم في حق المقدسيين من يهود ومسلمين.

لذلك فإن المكونات التي شكلت السياق الواقعي المعاصر تمثل الأساس والسند الذي يؤسس عليه دعوته لتحرير مفهوم الجهاد من مختلف الإسقاطات والمغالطات التي علِقت به، إن بسوء الممارسات التاريخية باسمه، وإن بسوء تصوره ثم محاكمته بمنظور قوانين العصر، وهو ما يتعارض مع مقرَّر مبدأ انتفاء الأثر الرجعي للقوانين.

الأمر الذي جعله يوصي بضرورة تجاوز المفهوم الضيق لهذا المصطلح، وفتح آفاق البحث في تحريره إرجاعا له إلى دلالته الأصلية، شرط الاجتهاد في توسيع آفاق توظيفه بما يتلاءم مع السياق العالمي المعاصر، في ظل شرعية الالتزام بما يخدم  مبادئ العدالة والسلم الدولي، لما عُلم من تشوّف الإسلام إلى إقامة مشروع السّلم الدائم بناء على فرض الوفاء بالعهود واحترام المواثيق.

على إثر ذلك تناول الكلمة الدكتور سعود بن صالح السرحان (مدير إدارة البحوث بمركز الملك فيصل بالرياض/المملكة العربية السعودية) حول موضوع: “النظرية السياسية عند أحمد بن حنبل: إعادة اكتشاف السنية التقليدية في مواجهة خطابات التطرف”؛ مبرزا كيف أن المذهب السُّنِّي قد استقرّ منذ منتصف القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي على تبنّي مبدأ الموادعة السياسية (Political Quietism)، وهو المبدأ الذي أصبح جزءاً لا يتجزأ من الفكر السياسي السُّنِّي، وجعله عرضةً للانتقاد من التيارات الإسلامية الأخرى؛ إذ وصفهم أبو محمد النوبختي، مؤرخ الفرق الشيعي، (ت 300-310ﻫ/912-922م) بأنهم “السواد الأعظم، وأهل الحشو، وأتباع الملوك، وأعوان كلّ مَن غلب” (فرق الشيعة، ص6). ومازالت هذه الاتهامات تتكرّر إلى عصرنا الحالي.

وهكذا فقد جاءت ورقته عبارة عن محاولةً لفهم الموادعة السياسية السُّنِّية من خلال دراسة الرؤية السياسية لأحد أهم الشخصيات السنية، وهو الإمام أحمد بن حنبل (ت 241ﻫ/855م)، وإعادة فحص المفاهيم السياسية التي كوّنت هذه الرؤية؛ مثل: الجماعة، والطاعة، والفتنة. مؤكداً على أن أهل السنة الذين يؤمنون بالجماعة والطاعة يرون أن الحفاظ على وحدة جماعة المسلمين وحماية الأمن المجتمعي ومصالح الناس المعيشية أهم من تحقيق أي هدف سياسي آخر؛ فعند الأخذ في الحسبان الحفاظ على الأرواح، والممتلكات، والأمن العام، فإن طاعة الوالي الفاسق أو الظالم أقل ضرراً من الفتنة والاحتراب الداخلي وانعدام الأمن.

وفي المنحى نفسه تندرج مساهمة د. عبد الله عبد المومن (أصول الفقه بكلية العلوم الشرعية، جامعة ابن زهر، السمارة/المملكة المغربية) “أصول التدبير الوقائي والعلاجي لظاهرة التطرف في الفقه النوازلي المالكي” منطلقا من فرضية مفادها أنّ غياب النظرة الشمولية للتراث الفقهي في منحاه التطبيقي والتنزيلي قد يفضي إلى إغفال جزء مهم من الحلول الناجعة للحوادق والقضايا المستجدة، علما أنه من خصائص الفكر النوازلي: الواقعية، والتكيف المستمر مع إلزامات الوحي، ومجاورته في طريقه نحو الوقوع. ولذا عدّ السبق إلى تقعيد القواعد وجمع الأشباه والنظائر ولمّ شعث المسائل حافزا حضاريا في التأريخ للفقه وقضاياه، بل لا يعزب دور هذا الفن في الإلحاق والتخريج، ودرك ما لا ينقضي وإن توالت الأيام والسنون، فكلما بدت للفقيه شاردة ردها إلى جوف الفرا، أو شردت عنه نادرة اقتنصها ولو أنها في جوف السما.

وفي هذا الإطار، أوضح كيف أنّ من خصوصيات الفقه النوازلي المالكي اعتبار المقاصد والمعاني، ومراعاة المآلات ونتائج التصرفات، وسد الذرائع ووصد أبواب الفساد، ومراعاة حال الزمان وأهله، وفقه الواقع والمتوقع، وكلها تقديرات ذهنية، وسمات اجتماعية، ولواحظ واقعية تميز بها هذا الفقه فاختص بالتنظير الاستشرافي لقضايا الأمة، تارة بتأصيل الأصول والقواعد، وأخرى بمقارعة مدلهمات النوازل والشوارد.

وكيف أنّ أهم ما ينشدُه المكلف لتحقيق مقصود الاستخلاف، والاستجابة والامتثال الطوعي لخطاب التكليف، أمن الظاهر والباطن، حتى ليمكن عدّه من المقاصد الكبرى للشريعة الإسلامية، ومن قواطعها التي لا يتخلف عنها جزئي ولا يطرأ عليها استثناء، وقد تزاحمت النصوص الشرعية في الباب، بفقهها النصي والاستنباطي، وإن المتنخل بعد استكناه النظر في قضايانا الحياتية، وما اصطبغت به من شيوع تيارات الانحراف والتطرف والشذوذ عن فكر الوسطية والاعتدال، استفادة الاستمداد من تراثنا النوازلي ومعالجاته الحُكمية فقها وقضاء لتلك الظواهر المشنوءة وبناءً عليه جاءت مداخلة الباحث، مستمدة من مدّارك النظر والفتوى والاجتهاد في المذهب المالكي بالخصوص لواقعيته واستيعابه الشمولي لمصالح الإنسان والعمران.

        وذلك انطلاقا من ثلاثة محاور:

 المحور الأول: وقد رام “مقاربة ظاهرة التطرف في الفكر النوازلي المالكي: الضابطة الموضوعية، الدوافع والأسباب”؛ وذلك على هدي أسبابها المتمثلة في: النظر في النصوص والجمود على ظواهرها ، وتحكيم الهوى فيما لا نص فيه، وتحكيم الهوى في رد المنصوص عليه، وتحكيم الهوى في تأويل المنصوص عليه.

أما المحور الثاني فقد تناول “أصول التدبير الوقائي والعلاجي لظاهرة التطرف في الفقه النوازلي المالكي” من خلال؛ أصل مراعاة المصلحة، وسد الذرائع.

أما المحور الثالث فقد انصب حول “القواعد المسندة لنبذ التطرف في الاجتهاد التنزيلي المالكي“؛ ذلك أن من القواعد الفقهية التي درج الفقه المالكي على توظيفها في الباب على سبيل التمثيل مع استقراء معانيها التنزيلية: قاعدة؛ الضرر يزال، وقاعدة؛ الظالم أحق أن يحمل عليه، وقاعدة؛ كل ما كان سببا للفتنة فإنه لا يجوز، وقاعدة؛ الأصل أن ما إذا طرأ قطع فهو إذا قارن منع، وقواعد أخرى…

أما الجلسة العلمية الرابعة فقد استوعبت مقاربات متقاطعة لتفسير ونقد ظاهرة التطرف: وبوجه خاص؛ السياسة والتصوف والجماليات، والمقاصد..

فالمقاربة السياسية تناولها د. سامح فوزي (مدير مركز دراسات التنمية بمكتبة الإسكندرية) بدراسة بعنوان: “المواطنة في العالم العربي: الإشكاليات والفرص”؛ استهلها بتحديد ماهية المواطنة في الفكر العربي الإسلامي، انطلاقا من عدة محاور منها: تجديد الفقه الإسلامي حول قضايا المواطنة، الإشكاليات التي تعوق تحقيق المواطنة في العالم العربي، وسبل بناء مواطنة حقيقية تقوم على عدد من المفاهيم الأساسية: المشاركة، الرأسمال الاجتماعي، التسامح، ليخلص إلى السبل الكفيلة ببناء الوعي الصحيح لدى الأجيال الشابة بمفهوم المواطنة، خاصة على الصعيد التعليمي، وترجمة ذلك في الواقع المعاش.

أما المقاربة الجمالية فقد تصدى لها د. محمد إقبال عروي (المنسق العلمي لأكاديمية “مدارات” للاستشارات والتدريب) من خلال رصدهدور الجماليات في مواجهة ظاهرة التطرف والغلو”؛ فمع أنه قد يبدو مستغربا انتظار خدمة من الجماليات في مواجهة الإرهاب في واقع دموي إقصائي صراعي  تراجعت فيه قيم الدين والإنسانية، التي تعد مصدر كل إحساس جمالي نحو الوجود والحياة، لصالح النزعة القابلية الكاشفة عن الطبيعة المتناقضة للإنسان.

  إلا أن الأستاذ المتدخل يعتقد أن المحاولة تستمد مشروعيتها مع ذلك من كون الرؤية المتكاملة لموضوع خطر التطرف والإرهاب في أسبابهما وتداعياتهما وآثارهما المحلية والدولية، الحالية والمستقبلية، تستدعي استحضار كل ما من شأنه أن يسهم في التقليل من الأعطاب والتشوهات التي لحقت الحياة الإنسانية المعاصرة.

  واحتكاما لهذه الرؤية، تناول الحديث عن الجماليات ودورها في معالجة ظواهر التطرف والإرهاب انطلاقا من بعدين اثنين؛ بعد اعتبار الجماليات شرطا في التحقق بالقيم التي تستجلب التوازن والتوافق والانسجام مع الذات والآخرين، وتدرأ قيم الإقصاء والاستعداء والكراهية والتدمير. وبعد قراءة المنجز من تلك الجماليات ومدى قدرته على محاصرة فكر التطرف والإرهاب في خطابات الأغنية والشعر والرواية.

في حين تصدت المقاربة الثالثة للأستاذ عبد الصمد غازي (مدير موقع مسارات للأبحاث والدراسات الاستشرافية والإعلامية/الرابطة المحمدية للعلماء) لموضوع: “التصوف والتطرف: ملاحظات استشكالية”؛ منطلقة من استشكال منطق التقابل بين التصوف والتطرف الديني، ومبرزة كيف أنه يختزل الممارسة الصوفية الغنية بالقيم الأخلاقية العليا إلى مجرد تدبير وقتي لصد آفة التطرف التي اجتاحت العالم اليوم، مؤكداً أن التطرف الديني ظاهرة مركبة تتداخل فيها عوامل متعددة تنطلق مما هو ديني، وتتظافر مع النفسي والتربوي والاجتماعي والاقتصادي وغير ذلك من التعقيدات الظاهرة والخفية الثاوية وراء الحركية المجتمعية.

ليخلص إلى أن التطرف الديني لا يمكن الحد منه إلا من خلال مقاربة مندمجة تنطلق من الرؤية الكلية للدين الإسلامي والتي تتكامل فيها الأبعاد العقدية والفقهية والصوفية لتشكل، بذلك، الوجدان والسلوك التديني المتوازن. والعمل على تنزيل كل ذلك وفق متغيرات السياق المعاصر.

بينما عملت المقاربة الرابعة للأستاذ محمد المنتار (رئيس مركز الدراسات القرآنية بالرابطة المحمدية للعلماء) على تجلية “وظيفية كليات المقاصد في نقض أسس التطرف ومقولاته” انطلاقا من التأكيد على أن مقاصد الشريعة الإسلامية شكّلت منذ الإرهاصات الأولى لتاريخ التشريع، كسبا معرفيا معتبرا، ودافعا معنويا، أسهم في إبراز واقعية وعالمية ورحمة الدين الخاتم، على تغير الأزمنة، والأمكنة، والوقائع، والمستجدات، والسياقات.. وأن كليات هذه المقاصد (التي تتسم بانضباطها، واطرادها، وإطلاقها، وشمولها)، وما يتفرع عنها من جزئيات في مختلف المراتب شكلت عنصرا أساسيا في فهم الخطاب الشرعي وحسن تنزيله. ولذلك فإن مقرراتها تأبى الانحسار في ظواهر الأدلة الجزئية، دون وصلها مع الأدلة الكلية؛ مع عدم إغفال الربط بين روح ومقتضيات الدليل الكلي أو الأصلي، وإمكانات الدليل الجزئي أو الفرعي.

وانطلاقا من هذه الرؤية، سعى الباحث إلى استدعاءٍ وظيفيٍّ لكليات المقاصد، (باعتبار العلم بالكليات يعد مجالا علميا غنيا يسمح بامتلاك آليات للفهم وآليات للتنزيل الأسلم لنصوص الوحي الخاتم) بهدف توسيع دائرة خطاب الاعتدال، والتوطين له، ومكافحة خطاب التطرف، والدحض له، سواء على مستوى التنظير أو الممارسة.

 وما يستلزمه ذلك، من نقض لمقولات هذا الخطاب وأسسه، وبالتبع المساهمة في إيجاد خطاب بديل، يتفاعل فيه الفهم الحِكَمي والوعي المقاصدي من أجل كبح جماح خطاب التنطع والتطرف.

وهو ما يفضي بنا إلى الجلسة العلمية الخامسة التي تمحورت حول موضوع: “في مواجهة ظاهرة التطرف والإرهاب: من النقد إلى الاستشراف”

وقد أسهم فيها الشيخ د. أسامة الأزهري (عضو هيئة التدريس بجامعة الأزهر والمشرف على مكتب رسالة الأزهر) الذي تعذر عليه الحضور بإعداد دراسة بعنوان: “التطرف والتطرف المضاد: رصد مظاهر التطرف من التكفير إلى الإلحاد” أبرز فيها كيف أن مدارس العلم الرصينة ظلت، عبر القرون، وعلى امتداد العالم الإسلامي مشرقا ومغربا، عاكفة على صناعة العلماء المؤتمنين على علوم الإسلام، المؤهلين لفهم نسقه، وإدراك مقاصده، وتنزيل أحكامه وعقائده ودوائر علومه على الواقع بكل عوالمه وأحداثه ونوازله ومتغيراته.

كما أوضح أن الخطاب المتطرف في الثمانين عاما الماضية كانت له فلسفات وأدبيات وكتب وتنظيرات وتأويلات للآيات والأحاديث الشريفة، آلت إلى عدد من المنطلقات؛ كالحاكمية، والجاهلية، والفرقة الناجية، والولاء والبراء، وحتمية الصدام، وغيرها، مما ينتهي إلى صناعة تيارات كثيرة، تتعدد مظاهرها، وتختلف أسماؤها، لكنها جميعا تدور في هذا الفلك، وتردد المفاهيم ذاتها، وتختلف فيما بينها في جزئيات وفروع، ويكفر بعضها بعضا، ويقاتل بعضها بعضا.

وقد خلص في ختام مداخلته إلى ضرورة تفكيك ذلك الفكر المتطرف، ووضع منطلقاته ومدوناته وتنظيراته وتأويلاته في ميزان العلم، حتى ننفي عن هذا الدين تحريف كل غال، وانتحال كل مبطل، وتأويل كل جاهل، حرصا على أن تجد الأجيال المقبلة دين الله تعالى كما أنزله، صافيا كأصله، نقيا كجوهره.

بعد ذلك تناول الكلمة د. رشيد الخيُّون (كاتب وباحث عراقي في شؤون التراث الإسلامي) بدراسة بعنوان:الغلو والتطرف: محطات في التراث الإسلامي” منطلقا من حقيقة أن خطاب الكراهية، في المجال الدِّيني والمذهبي، ليس بالأمر الجديد؛ إذ الجديد يمكن رصده ثقافياً منذ ظهور مصطلح الفرقة “النَّاجية”، بكل أبعاده وتداعياته..  

تلاه الأستاذ عبد السلام طويل (رئيس تحرير مجلة الإحياء، أستاذ زائر بكلية الحقوق، جامعة محمد الخامس/السويسي/سلا) بمداخلة بعنوان: “داعش وأخواتها: العنف الأعمى والتبريرات الأيديولوجية للشريعة” وهي المداخلة التي سعت في سياق محاولتها فهم وتفسير ظاهرة الإرهاب الداعشي، إلى العمل على كشف افتقار “الإيديولوجيا التكفيرية” لعناصر الشرعية والمشروعية معا، وعدم وعيها بطبيعة التدافع الحضاري الذي يتعين على المسلمين خوضه في معركة العلم والمعرفة والتكنولوجيا والتنمية والبناء المؤسسي الحديث، وكذا في مجال الحقوق والحريات المعززة للكرامة الإنسانية. 

كاشفا كيف أنه لا يمكنك أن تواجه عدوك بأسلحة وتقنية لا تصنعها، ولا يمكنك أن تدافع عن ثروات، تبيعها خلسة عن طريق وضع اليد في السوق السوداء وأنت لا تستطيع مجرد استخراجها، ولا أن تدعي استعادة نموذج خلافة راشدة أينك من روحها، ومن التمييز بين مبناها التاريخي والاجتماعي الذي يتعين تجاوزه لأنه ابن زمانه وسياقه، وبين فحواها المقاصدي والقيمي المعياري الثابت الذي ترتقي دلالته بارتقاء السقف الحضاري للمسلمين عبر التاريخ إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

والنتيجة أنك بينما تسعى لإقامة إمارة تود أن تكون على مثال “الخلافة الراشدة” تنتهي، يؤكد المتدخل، إلى النقيض البئيس والرث لها تماما مبنى ومعنى؛ وذلك من خلال اختزال الشريعة في الحدود، واختزال الإسلام في آيات الأحكام، والارتهان إلى تأويل أيديولوجي منفك الصلة عن أية رؤية معرفية شرعية ناظمة، وعن أي وعي منهاجي بالسياق لمفاهيم؛ الحاكمية، والولاية، والخلافة، والجاهلية، والولاء والبراء، والجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والحسبة وغيرها من المفاهيم المحددة تاريخيا، للاجتماع السياسي الإسلامي.

فبدل الارتقاء إلى عالمية الخطاب القرآني وكونيته وإنسانيته يتم إفقاره ومسخه ورده إلى البنيات العشائرية والقبلية والطائفية؛ غزوا وسبيا، واسترقاقا، وفدية، وتقتيلا، وتزمتا.. ممعنين في تحطيم علاقات الثقة والتعايش بين الأفراد والشعوب والجماعات بدل دعوة الإسلام إلى تعارفها وتعاونها. وبذلك يسهمون في تكريس نظام قائم على العنف بدل القانون، والتعصب بدل التسامح، والعدوان والاحتراب بدل التضامن والتعاون، والموت العبثي بدل الحياة الإنسانية الكريمة.

كما سعت هذه الورقة إلى الكشف عن حقيقة أن الإرهاب التكفيري بينما يدعي الدفاع عن الإسلام والمسلمين فقد أساء إليهما أيما إساءة؛ ولعل ما لحق وسيلحق بالمسلمين في المجتمعات الغربية من تضييق ووصم واعتداء وإقصاء خير دليل على ذلك..

وهكذا فبدل أن يغدو الإسلام عنصرا حاسما في هداية البشرية وإقالتها من عثراتها وعماها الإيديولوجي، أضحى مع داعش وأخواتها كما لو أنه هو المعضلة؛ هو أس تخلف المسلمين وتعصبهم، وأساس توتر العلاقات الدولية والنظام الدولي.. ولا ريب أن ذلك يمثل أغلى هدية يمكن تقديمها لأعداء الإسلام والمسلمين..

وفي المنحى نفسه سعى د. محمد العربي  (باحث في وحدة الدراسات المستقبلية بمكتبة الإسكندرية) إلى “نقد خطاب الإصلاح الديني” من خلال “مدخل مستقبلي” على الرغم من قدم مسألة الإصلاح الديني، والتي اتخذت عناوين مختلفة في مراحل وسياقات متعددة، في الفكر الإسلامي الحديث منذ عصر الإحياء حتى يومنا، إلا أنها لم تسفر، من وجهة نظر الباحث، إلا عن انقسام بين المكونات الفكرية والثقافية للمجتمعات الإسلامية. مبرزاً كيف أن القضية سرعان ما عادت لتفرض نفسها في الأوساط الإعلامية والأكاديمية مع النكوص الرجعي الذي أصيبت به حركات الشعوب العربية وهيمنة الأصولية الجهادية على المشهد السياسي، والأخطر عودة الطائفية المذهبية والعصبية العشائرية لتصبح عناوين الصراعات السياسية والاجتماعية في المنطقة.

على هذه الخلفية، حاولت هذه الورقة الاقتراب من مسألة الإصلاح الديني في الإسلام محاولة الاقتراب من أسئلته الغائبة عن المشهد الحالي. انطلاقا من أن النزعتين اللتين هيمنتا على الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر منذ إحيائه حتى اليوم، وهما التسيس والماضوية قد أضرتا بالإصلاح الديني، فمن ناحية جعلته طرفًا في الصراع على الدولة العربية الحديثة التي ابتكرت لنفسها مفهومًا سلطويًّا للدين أثناء صراعها مع حركات الإسلام السياسي التي كانت في جوهرها اختزالاً للدين، وأعادت إنتاج إمكانات الأصولية والطائفية ودفعت إلى الصدارة التفسيرات الرجعية للنصوص، وتمثلت النزعة الثانية في الماضوية؛ وهي نزعة مرتبطة بالتسييس على نحو عضوي، فعلى الرغم من أن الإسلام السياسي قد خرج تاريخيا من رحم حركة الإحياء الإسلامي، إلا أنه اختزل الإحياء في استعادة نمط الدولة السلطانية وتطبيق الشريعة باعتبارها خير ما قدم الأولون، وبالتالي هيمنت رواية الماضي على بناء اجتماع ودولة الحاضر، وبتقهقر عمليات التحديث الاجتماعي وفشل مشروع بناء الدولة في معظم الدول العربية كانت الفرصة مناسبة لكي يصبح الصراع المذهبي والطائفي العنوان الأبرز للحركة الإسلامية والعملية السياسية والحراك الاجتماعي؛ ومن ناحية أخرى اختزل الإصلاح في نقد التراث الديني دون محاولة لفهم آليات التاريخ ومسارات المستقبل الممكنة.

على أساس هذا النقد، حاولت هذه المداخلة، طرق باب جديد ومدخل مبتدع في مسألة الإصلاح الديني يتمثل في التفكير المستقبلي باعتباره إستراتيجية فاعلة في معالجة أزمات الإسلام المعاصر.

وفي الختام أسهم د. خالد ميار الإدريسي (باحث بالرابطة المحمدية للعلماء ورئيس المركز المغربي للدراسات الدولية والمستقبلية) بدراسة بعنوان: “التطرف وانتهاك الكرامة الإنسانية: قراءة استشرافية في مآلات التطرف الديني” وهي الدراسة التي رامت النظر في انتهاك التطرف الديني للكرامة الإنسانية في الألفية الثالثة، وذلك من خلال فحص مفهوم التطرف الديني الذي يتأثر بثلاث اتجاهات كبرى تتباين في تحديدها لمدلولات التطرف. وتتوخى كذلك تعريف البيئة الحاضنة للتطرف، والسياق العام والخاص لتطور وتنامي الفكر الديني العنيف.

كما عملت الدراسة على تصنيف الخطابات حول الكرامة الإنسانية، والتي تعتبر بمثابة خطابات رائجة في الساحة الفكرية وتتأسس عليها منظورات الكرامة الإنسانية.

وفي هذا السياق، سعت الدراسة إلى كشف دعاوى داعش والجماعات المتطرفة في تبنيها للعنف للدفاع عن الكرامة الإنسانية، ونقض تلك الدعاوى ومرتكزاتها العقدية والجيوسياسية. ثم الكشف عن تداعيات جيوسياسة الخوف التي تتبناها الجماعات المتطرفة على الوضع الإنساني. وأخيرا استكشاف المآلات المستقبلية للتطرف الداعشي انطلاقا من منظور منهاجي يستدمج مقاربات متعددة؛ مفهومية وخطابية وجيوسياسية واستشرافية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق