وحدة الإحياء

ملتقى الإحياء 2: فن السماع الصوفي من خلال كتاب “فتح الأنوار في بيان ما يعين على مدح النبي المختار”

بعد ملتقاها الأول حول “العلوم الإسلامية ومنهجيات التأويل” يوم 26 ماي 2011 بفندق فرح بمدينة الدار البيضاء، وهو الملتقى الذي شارك فيه كل من الأساتذة: أحمد عبادي، رضوان السيد، عبد الله السيد ولد أباه، زكرياء غاني، جمال بامي، تاج الدين المصطفى، محمد المنتار، وعبد السلام طويل، على هامش ندوة: “سؤال الأخلاق والقيم في عالمنا المعاصر”، نظمت مجلة “الإحياء” ملتقاها الثاني  لمدارسة ومناقشة مؤلف علمي هام عبارة عن تحقيق ودراسة أنجزها الدكتور محمد التهامي الحراق لمخطوط “فتح الأنوار في بيان ما يعين على مدح النبي المختار” لصاحبه محمد بن العربي الدلائي الرباطي (ت1285هـ/ 1869م)، ونال بها درجة الدكتوراه، وقد نشرته وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمملكة المغربية في طبعته الأولى سنة 2011.

وهو الملتقى الذي شارك فيه كل من الدكاترة؛ الأستاذ عبد العزيز بن عبد الجليل، والأستاذ عبد الإله بن عرفة، والأستاذ جمال بامي، والمؤلف الأستاذ محمد التهامي الحراق، والأستاذ عبد السلام طويل الذي نسق وأدار هذه الحلقة النقاشية، وذلك بقاعة الاجتماعات بمقر الرابطة المحمدية للعلماء بالرباط، يوم الأربعاء 19 أكتوبر 2011.

وقد حاول هذا الملتقى إبراز دلالات وأبعاد العناية بفن السماع في مغرب الألفية الثالثة، وكذا وضعية المقاربة العلمية والأكاديمية لهذا الفن، ووظائفه الجمالية والاجتماعية كعامل رئيس من عوامل التلحيم الاجتماعي، ومكانته في تشكيل الذاكرة الوطنية والوجدان الجماعي للمغاربة، إلى جانب الكشف عن امتدادات فن السماع بين حقول التصوف والفقه والأدب والفن..

واختيارنا لمناقشة هذا المؤلف التأسيسي الهام أملاه، موضوعيا، حضوره المتميز في ذاكرتنا الحضارية والوجدانية المغربية، مثلما أملاه امتداد فعله وتأثيره في واقعنا المعاصر، بحيث يطبع هذا الفعل التقاليد الدينية المغربية بخصوصيات ذات أبعاد رمزية ووظيفية عميقة. فأنغام فن السماع وأشعاره، وخصوصا ما يتعلق منها بالمديح النبوي، تشكل مظاهر ثقافية عامة في المجتمع المغربي، تحضر آثارها إما نظما أو نغما في العديد من التجليات الاجتماعية والدينية؛ سواء في هدهدات الأمهات لأطفالهن وتسكينهن لصغارهن بالمدائح والأذكار؛ أو على الصوامع والمآذن من خلال تتويب المهللين وأذان المؤذنين؛ أو في تكبيرات وتسبيحات الناس في صلاة العيدين؛ أو في صيغ دعواتهم عقب الصلوات الخمس في المساجد، أو من خلال أذكارهم التي يشيعون بها أحبتهم إلى مراقدهم الأخيرة؛ أو من خلال ترتيلهم الفردي والجماعي للقرآن الكريم، أو من خلال رواية حديث الإنصات في صلاة الجمعة؛ ناهيك عن مظهر ساطع لحضور فن السماع في الحياة الاجتماعية المغربية يتجلى في استحضار واستدعاء المسمعين في مختلف الأفراح والأتراح إلى البيوتات الخاصة للتغني  بسيرة الرسول، صلى الله عليه وسلم، وأمداحه والصلاة عليه، وتشنيف الأسماع بذكر الله والتسبيح له والتضرع إليه.

إن هذه المظاهر جميعها تبرز مدى الأثر العميق الذي يضطلع به فن السماع في التعبير عن الوجدان الديني المغربي، إذ يعيش المسلم المغربي دينه من خلال مختلف الشعائر التعبدية؛ مثلما يعيش حياته الإسلامية من خلال مختلف تلك المظاهر الثقافية والتقاليد الاجتماعية المغربية.

هذا فضلا عن العناية الرسمية التاريخية بهذا الفن، والتي تمنحه بعدا رمزيا وحضاريا باذخا، والمتمثلة اليوم، أساسا، في الحفلين الدينيين السنويين اللذين تنشد فيهما الأمداح النبوية بين يدي أمير المومنين، الأول: ليلة الثاني عشر من ربيع الأول احتفالا بعيد المولد النبوي الشريف؛ والثاني: في التاسع من ربيع الثاني إحياء لذكرى المغفور له الملك الحسن الثاني. عناية ترجمتها أيضا وزارة الثقافة المغربية من خلال تكليفها الشيخ عبد اللطيف بنمنصور بالسهر على تسجيل جملة من الحصص الخاصة بمطولات هذا الفن على أسطوانات الليزر؛ مثل “قصيدة البردة” و”المنفرجة والفياشية”. وقد ازداد وانتعش الاعتناء بهذا الفن بصورة ألمع خلال الألفية الثالثة، لاسيما في ظل التحديات المعاصرة التي أصبح يواجهنا بها “نظام العولمة الثقافية”

وقد حدد الكتاب فن السماع بكونه  فنا مغربيا أصيلا يقوم على ترتيل الأشعار والأقوال الدينية والصوفية وفق الطبوع الأندلسية المغربية وأساليبها في التوقيع والغناء واعتمادا على الأصوات والحناجر بغية تحقيق غايات روحية..وهو بذلك يتميز بحضور متميز في الذاكرة الحضارية والوجدانية للمغاربة.

و يتمظهر فن السماع (بأنغامه وأشعاره) وبوجه خاص المديح النبوي من خلال تجليات ثقافية عامة في المجتمع المغربي:

–  هدهدات الأمهات لأطفالهن وتسكينهم بالمدائح والأذكار.
– تهليل المهللين وأذان المؤذنين..
– تكبير المكبرين وتسبيح المسبحين في صلاة العيدين..
– الترتيل الفردي والجماعي للقران الكريم..
– رواية حديث الإنصات في صلاة الجمعة..
– استحضار المسمعين في مختلف الأفراح والأتراح إلى البيوتات الخاصة للتغني بسيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأمداحه والصلاة عليه.
–  ذكر الله والتسبيح له والتضرع إليه.

ومن وظائف فن السماع التي وقف عليها المشاركون:

1. التعبير عن الوجدان الديني المغربي.
2. إسهامه في تعزيز ما عبر عنه الكاتب: بـ “التلحيم الروحي” للمجتمع المغربي.
3. تغذية وتقوية الهوية الإسلامية للمغاربة..
4. إسهامه في تعزيز الأمن الروحي والتوازن الوجداني والنفسي للفرد والجماعة.
5. إسهامه في تقديم صورة نموذجية للشخصية الحضارية المغربية، كما يقدم صورة نموذجية لهوية إسلامية منفتحة تُعنى بأبعاد الفرد المختلفة وبوجه خاص ” فطرته المحبة للجمال والنازعة للكمال.
6. كما يمثل آلية ثقافية ورمزية تعضد آليات التنشئة والإدماج الاجتماعي في المجتمع المغربي المسلم (عقيقة، ختان، عقد قران…).
7. مشاركة الناس لحظات إحساسهم العليا، سواء بالسعادة أو الحزن…
8. دوره في تحصين الشخصية المسلمة من التأثيرات العولمية السلبية ويضفي عليها أبعاد كونية وإنسانية منفتحة..

ولأخذ فكرة شاملة عن القضايا والأفكار التي طرحت في هذا الملتقى، يطيب لنا أن نعرض عليكم النص الكامل له:

عبد السلام طويل:

سعيد سعادة خاصة أن أكون بمعية هذه الثلة المتميزة من الأساتذة كل في مجال تخصصه، الدكتور عبد العزيز بن عبد الجليل، الدكتور عبد الإله بن عرفة، الدكتور جمال بامي، والدكتور محمد التهامي الحراق.. طبعا المناسبة هي الاحتفاء العلمي بكتاب: “فتح الأنوار في بيان ما يعين على مدح النبي المختار” للمرحوم “محمد بن العربي الدلائي الرباطي”، تحقيق ودراسة “محمد التهامي الحراق”

 الكتاب كما قرأتم أيها الأساتذة الأجلاء، عبارة عن تحقيق ودراسة علمية ماتعة على مستوى اللغة؛ غنية على مستوى الفحوى، وعميقة على مستوى المقاربة والتناول والرؤية.. ولاشك أنها ستكون في صدارة ما أنتجته الجامعة المغربية في مجال فن السماع.

فالأطروحة/الكتاب حاول أن يحدد السياق الحضاري والثقافي والتاريخي الذي أنتج فن السماع في إطار التفاعل بين مدينتي فاس والرباط وتطوان، ثم التفاعل بين المغرب والأندلس والمشرق.. كما أن الكتاب بذل جهدا متميزا في التأصيل لهذا الفن، وإبراز العلاقات التي تربطه بفن التصوف، وكذلك هناك محاولة مهمة جدا لتحديد وظائف فن السماع، إذ نجد أنَّ هذا الفن يمثل شكلا من أشكال الإسمنت الروحي، وهو ما عبر عنه الأستاذ محمد التهامي الحراق بـ”التلحيم الروحي”، وهذا المفهوم يحيل في حقل الدراسات الاجتماعية المعاصرة إلى “مفهوم الإسمنت الاجتماعي، ciment social” الذي عادة ما تنهض به الإيديولوجيا.

الآن فن السماع، كمخزون فني جمالي ثقافي، ينهض، إلى حد بعيد، بهاته الوظيفة، إلى جانب وظائف أخرى من قبيل؛ تحقيق التوازن النفسي والوجداني للمغاربة، وحفظ أمنهم الروحي، وصيانة وإغناء هويتهم الإسلامية، إلى غير ذلك.. فالكتاب استطاع أن يحاجج ويدلل بقوة على أننا بصدد “عمل تحته عمل” وليس مجرد موضوع أكاديمي لا يكتسب أية صبغة وظيفية.

على كل حال، سوف لن أستطرد كثيرا في الوقوف على أهم مميزات الكتاب؛ لغته المشرقة بحيث يمكننا أن نتحدث عن جمالية الخطاب الأكاديمي في هذه الأطروحة العلمية.. أعتقد أن من عناصر قوة الكتاب، من خلال قراءتي العجلى، هو ذلك التوازن بين مختلف أبعاد ظاهرة فن السماع؛ أبعاده الفنية، أبعاده التنغيمية والإقاعية، أبعاده التاريخية والحضارية، علاقته بالسلطة، علاقته بالمجتمع إلى غير ذلك.. فهذه النسقية، هذه المنظومية في تناول الظاهرة تحسب للكتاب وتستحق منا المزيد من الإضاءة.

حتى لا أستطرد، أكثر من اللازم، أقترح عليكم أن نتطرق إلى السياق الحضاري والثقافي والتاريخي الذي أنتج هذه الظاهرة الفنية والحضارية الغنية.. الكلمةلكم الأستاذ عبد العزيز بن عبد الجليل لو تفضلتم.

عبد العزيز بن عبد الجليل:

شكرا الأستاذ عبد السلام طويل، أولا أنا سعيد بأن أكون بين هذه الثلة الطيّبة من خيرة علماء هذه المدينة، بل من خيرة علماء المغرب بصفة عامة، وأريد أن أعبر عن سعادتي وأنا أشارككم في هذا النقاش الجميل والمثري، إن شاء الله، حول كتاب أعتبره من أهم الكتب التي صدرت مؤخرا عن وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمغرب؛ سعدت بقراءتي لهذا الكتاب أولا وهو في صورته المخطوطة بعد تقديمه كموضوع للأطروحة الجامعية التي أنجزها صديقي وأخي الأستاذ “محمد التهامي الحراق”؛ سعدت بذلك وكنت، عندما أقدمت على قراءته أول مرة، أريد أن أستمتع به وأن أستكمل معلوماتي، خاصة وأنني كنت قد أشرت إلى محتواه، باختصار شديد، في الكتاب الذي أنجزته مسبقا بعنوان: “مدخل إلى تاريخ الموسيقى المغربية”، وكان الكتاب يفرض نفسه كأثر من الآثار التي أنجزها المغاربة، خاصة في ميدان هام من الميادين الموسيقية، وهو ميدان فن السماع والمديح. وقد وحفزني على قراءة الكتاب، مرة أخرى، في شكله المرقون؛ أنني كنت بصدد إعداد دراسة أقدمها في إطار الدورة العاشرة “لمؤتمر الموسيقى العربية” التي احتضنتها “دار الأوبرا” بالقاهرة في نونبر من سنة 2009، والتي تمحور موضوعها حول ما أنجزه العرب في مجال تحقيق المخطوطات التراثية المهتمة بالموسيقى العربية.

وفعلا كنت قد شاركت في هذه الندوة بعرض تحدثت فيه، قبل أن يصدر هذا الكتاب مطبوعا، عن الإرهاصات الأولى لهذا العمل، فانطلقت مما أنجزه المستشرقون أولا، إلى ما أنجزه العرب بعد ذلك، في المشرق، وبصفة خاصة في كل من العراق ومصر، ثم شاءت إرادة المشرفين على مهرجان دار الأوبرا، أن يجددوا الموضوع سنة ثانية؛ لأن الدراسات التي عرضت لم تكن كافية لتستوفي وتغطي كل ما صدر، فعدت مرة ثانية إلى الموضوع نفسه، ووجدت يومئذ ضالتي في هذا الكتاب، فقدمته في مداخلة خاصة تحت عنوان، “إسهامات مغربية في تحقيق التراث الموسيقي المخطوط”.

هذه هي الملابسات والظروف التي جعلتني أتعرف على هذا الكتاب قبل إصداره كدراسة جامعية، ثم بعد إصداره على هذا النحو، واليوم أنا سعيد بأن يكون هذا الكتاب قد أخذ طريقه إلى الطبع، وفي اعتقادي أنه سيشكل واحدا من الإنجازات المهمة التي من شأنها أن تثري الخزانة العلمية، والفنية بصفة خاصة في المغرب.

سؤالكم حول السياق الحضاري والثقافي، مهم جدا، ذلك أن الأستاذ “الحراق” في تحقيقه، وبصفة خاصة في الفصل الثاني من الباب الأول، عمد إلى رصد السياق الثقافي والفني الذي يتشكل حوله فن السماع بالمغرب، وما أفضى إليه من مبادرات تمثلت في ابتكار فن غنائي جديد بالمغرب على العهد الموحدي، هو ما أصبحنا نصطلح على تسميته اليوم بـ”فن السماع والمديح”.

ونحن عندما نعاود قراءة الوثائق التاريخية المرتبطة بهذا الفن، فهي تطلعنا على أنه كان للأسرة العَزَفِيَّة بمدينة سبتة الفضل الأكبر في ابتكار هذا الفن. ولعلكم تعرفون أنه كان من وراء هذا الابتكار حافز ديني ينطلق من الغيرة على الإسلام؛ ذلك أن أبا “القاسم العَزفي” كان يتجول كعادته في مدينة سبتة وفي المدن التي تقع جنوب الأندلس، فكان يلاحظ ويسجل، بكثير من المرارة والحسرة، كيف أن الشباب يُقبلون على مشاركة النصارى في أعيادهم الدينية، فعاد وفي نفسه قرار، وهو أن يحوِّل اهتمام هؤلاء الشباب إلى موضوع جديد يمكن أن يحتفلوا به وهو ذكرى مولد النبي، صلى الله عليه وسلم. وفي هذا الإطار ألف كتابه الشهير: “الدر المنظم في مولد النبي المعظم”، وقد أصبح لهذا الكتاب الذي أتمه ابنه صدى كبير، فبلغت هذه الدعوة ملوك الدولة الموحدية، ولقيت الترحيب لدى “المرتضى الموحدي” فتبناها وشرَّع  سنة الاحتفال بها في المغرب.

 وما لبثت هذه الفكرة أن تبلورت على عهد المرينيين، فاتخذ هؤلاء من مناسبة المولد النبوي عيدا يستمر سبعة أيام، وأقبل الشعراء على نظم القصائد المطولات في مدح النبي صلعم والإشادة بمكارمه، ورافق ذلك نشوءُ فن التغني بهذه القصائد. وهكذا انطلقت الفكرة، فكانت في البدء مجرد احتفال أدبي إن شئنا، ولكنها تحولت فيما بعدُ إلى تظاهرة فنية تصدح فيها أصوات المزمزمين والمنشدين برقيق أشعار المديح النبوي، يجري ترجيعها على أطيب الألحان الموسيقية.

وقد كان للمنصور السعدي دور فاعل في تأصيل هذا الفن، وذلك بفضل الاحتفالات التي كان يقيمها في مدينة مراكش  بهذه المناسبة، مما أفاض في وصفه  كثير من المؤرخين وبصفة خاصة الفشتالي في كتابه “مناهل الصفا في أخبار ملوك الشرفاء”.

وعندما جاء العلويون ضاعفوا من الاهتمام بهذا الحفل، وما تزال بوادر هذا الاتمام قائمة إلى اليوم، تشهد على سمو المكانة التي بلغها فن السماع، كما تشهد على اكتمال أدواته الفنية وتقوماته البنيوية.

عبد السلام طويل:

شكرا جزيلا الأستاذ عبد العزيز بن عبد الجليل على هذه الإضاءات المكثفة، هل من إضافة أستاذ عبد الإله بنعرافة بخصوص السياق الثقافي والحضاري الذي حكم نشأة وتطور هذا الفن المغربي بامتياز؟

عبد الإله بنعرافة:

سعيد بحضور هذه الجلسة في مقر الرابطة المحمدية للعلماء، مع هذه الثلة من الأصدقاء والزملاء العلماء من ذوي الشأن في هذا المجال وفي غيره من المجالات المجاورة والمصاحبة له؛ سعيد أيضا لأنني لم أتمكن من أن أحضر مناقشة رسالة الدكتوراه التي نالها صديقي وزميلي، وكما أسميه “الخل الوفي” لدى مناقشته هذه الرسالة. وأظن ذلك كان في شهر 26 أو 22 فبراير 2006، وكم تحسرت على هذه الغيبة نظرا لالتزاماتي الوظيفية؛ وبقيت هذه الحسرة في نفسي لأنني لم أشارك أخي فرحته في الحصول على رسالة الدكتوراه، والاجتماع بتلك الثلة الطيبة من الأصدقاء ومن المُسمِّعين، ومع شيخنا سيدي عبد اللطيف بن منصور؛ لأنه بعد المناقشة تم الاحتفال كما ينبغي لأهل السماع أن يحتفلوا بواحد منهم في حلقة الذكر والسماع والأنغام الطيبة مع الإطعام..

 فإذن أنا اليوم سعيد؛ لأنني أشارك في هذا اللقاء حول هذه الرسالة. طبعا السؤال الذي طرحتَه حول السياق التاريخي والحضاري والثقافي الذي أنتج فن السماع، لا يمكن أن نختزله ربما في هذا الحيز من الوقت الضيق إلى هذا الحد. وأظن أنه يجب أن نستوفيه حقه حتى نميز بينه أولا وبين فن المديح؛ طبعا هناك فرق بينهما، المديح على كل حال هو قديم قدم الرسالة الإسلامية، في عهد الرسول، صلى الله عليه وسلم، كان حسان ابن ثابت يمدح رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وغيره من الشعراء، فالمديح على أهميته، لا حديث لنا عنه في هذا المقام؛ لأنه معروف ونشأ مع الرسالة الإسلامية. السماع وضعُه وضع مختلف، الوضع التاريخي له وضع مختلف ونشوؤه نشوء مختلف، هناك محطات كثيرة أساسية في تاريخ السماع، ولكنني ربما سأتوقف عند تأصيل هذا المصطلح..

 أولا، حتى نتبين معناه وحقيقته: لماذا سمى القوم هذه الموسيقى الروحية بالسماع ولم يسموها باسم آخر؟ السماع كما يعلمه الجميع هو مصطلح مشترك بين عدة علوم إسلامية، نجده عند علماء الحديث ونجده عند علماء النحو، ونجده عند علماء الكلام، ونجده عند آخرين، وكل يعطيه معنى من المعاني، فهو أحد طرق التحمل عند علماء الحديث، وهو يخالف القياس عند علماء النحو، وهو يفيد الرواية والنقل عند علماء الكلام، لكنه في سياقنا هذا الذي نتحدث عنه وهو سياق فن السماع؛ أي الموسيقى الروحية لحضارة الإسلام، كان الهاجس من وراء هذه التسمية هو الارتباط بالنص القرآني، وهذا المعنى له دلالته القوية؛ لأن الحقيقة هو أن أهل الله، والصوفية عموما كانوا يعتبرون أن لا متكلم على الإطلاق إلا الحق، ونحن نحقق قيمة السماع من خلال إنصاتنا لهذا القول الإلهي؛ فالقول الإلهي ينتج الوجود، والكلام الإلهي ينتج العلم، فهما شقان.

عبد السلام طويل:

كلامكم الأستاذ عبد الإله يحيلنا إلى قضية الحُلل، عن معناها وبنائها وعددها؟

عبد الإله بنعرفة:

يمكننا أن نناقش هذه القضية ونعود إليها انطلاقا من هذه العلاقة مع القول والكلام حتى نُبيّن الفروق، فإذا كان لا متكلم على الإطلاق إلا الحق، فالناس، إذن، مستمعون لهذا القول، ولإعادة إنتاج ومحاكاة هذا القول الإلهي، كان لابد من إنتاج نصوص وموسيقى ربما يشوبها ما يشوبها من النقص الإنساني، فلهذا اضطروا إلى صياغتها في ألفاظ ومعاني وألحان حتى لا يكون النقد موجها إلى كل عملية قد يسفر عنها “سوء أدب” مع النص القرآني، هذه نقطة أساسية.

طبعا لا أمنع واردا جاءني للتو في مقارنة فن السماع مع ما يعرف بفن القَوَّال، وهذا نجده، مثلا، في باكستان ونجده في جنوب شرق آسيا، فإذن هذا التقابل بين فن السماع، بين صفة السمع وصفة القول، هما نقطتان أساسيتان؛ لأن الانطلاق دائما يكون من هذه الصفات الإلهية، فالقول صفة إلهية. والقائل اسم إلهي. فالمتحقق بهذا القول الإلهي تقوم به أول صفة ينفعل بها لدى سماع هذا القول الإلهي هي صفة السمع، ولهذا دائما يأتي في القرآن السمع مقدما على القول وعلى البصر وعلى العلم، ﴿إن الله سميع بصير﴾ (لقمان: 27)؛، لأن أول نسبة أدركها الإنسان من الحق حينما قال له ﴿كن﴾؛ فكان.

فالسماع الإلهي هو امتثال العبد وسماعه لهذا القول أو الأمر الأزلي، وهو ما يسميه الصوفية بكلمة الحضرة. هذا التأصيل العرفاني ضروري لكي نفهم أولا قيمة هذه الموسيقى الروحية حتى لا نصنفها في إطار الاحتفال والبهرجة وغير ذلك، لأنها تؤدي وظائف أساسية، وظائف عميقة في الإنسان، وهذا يميز بينها وبين جميع أشكال الاحتفال الأخرى.

أما الحديث عن السياق التاريخي، فلا يمكن أن نعزله عن سياق نشوء التصوف؛ لأن السماع هو المقدمة الأولى التي يبرز فيها التصوف؛ لأنه مرتبط بالذكر، وتعرفون أن ما يحدّد سلوك الصوفي هو الفكر والذكر أساسا، عبر التسليك؛ لأن الذكر طريقة للتسليك، ولكنه قد يكون مرادا لذاته؛ أي الذكر من أجل الذكر، من أجل المذكور، فارتبط السماع بهذا الأمر، السماع مرتبط بالذكر، ولكن أظن أنه بعد تشكل الحضارة الإسلامية، ابتداءً من القرن الرابع والقرن الخامس، بدأت بوادر ظهور الطرق الصوفية، واقترنت بظهورها الحاجة إلى استعمال السماع؛ لأن الذكر كما أسلفنا من طرق التسليك  والتربية الروحية.

بعد هذه المرحلة نلتقي مع منظر كبير لفهم السماع وهو “الشيخ الأكبر”، خلال القرن السادس والقرن السابع الهجريين. في هذه المرحلة يتحدث “الشيخ الأكبر” عن “أبي مدين” كأحد شيوخه الكبار، ويسميه شيخ شيوخنا، و”أبو مدين” بطبيعة الحال هو أحد المؤسسين لمدرسة صوفية في شمال إفريقيا والغرب الإسلامي بصفة عامة.

عبد السلام طويل:

حبذا لو قصرتم الكلام عن الغرب الإسلامي بدل الحديث بصفة عامة عن العالم الإسلامي؟

عبد الإله بنعرفة:

 نحن نعلم بأن “أبا مدين” أدخل أشعار “الحلاج” وديوان “الحلاج” إلى الأندلس. وقد أوضحت هذه القضية من خلال تحقيق كتاب “الشهاب موعظة لأولي الألباب” لابن سَيْدَبُونَه، وهو من أبرز أصحاب وتلامذة “أبي مدين”، وكان الغالب على هذه الطريقة، المعروفة بالطريقة “البونية”، إنشاد أشعار “الحلاج”. ونحن نعلم أن أبا مدين” في طريقه إلى الحج، توقف في الإسكندرية وأخذ عن علمائها، وعلى رأسهم “أبو طاهر السِّلفي”، ومن المعلوم أن أبا طاهر السلفي هو من أتى بهذا الديوان من بلاد فارس. وحيث إن أبا طاهر السلفي أجاز أبا مدين في الحديث وغيره، فنحن نرجح أنه أجازه في هذا الديوان مع أن المصادر لا تسعفنا كثيرا لتحقيق هذه الصلة، ولكن ربط الوقائع مع بعضها يمكننا من هذا الأمر.

 قلت بعد “أبي مدين” تشكل التصوف في مدارس، وظهرت طرق حقيقية منظمة مع أتباع ينشدون هذه الأشعار ويتخذونها أوراداً للاسترواح. والمعروف من خلال المصادر التاريخية عن هذه الطريقة البونية أنها تأسست أولا في شرق الأندلس، وأن أتباع الطريقة كانوا يتغنون بأشعار “الحلاج”، بل إن سلاطين الأندلس من بني الأحمر كانوا يستدعونهم إلى قصورهم كما يقول “ابن الخطيب” في كتاب “الإحاطة في أخبار غرناطة” للإحماض بسماع أذكارهم التي كانوا يتناقلونها،. وقبل هذا، فإن المحطة الأساسية في هذا العرض التاريخي، هي مع “أبي الحسن الششتري”؛ هذا الرجل الأمير الصوفي الشاعر الفقيه، الذي جال في حواضر الغرب الإسلامي وانتقل إلى الشرق، وكان له أتباع يسافرون معه. ويبلغ عددهم حسب المصادر التاريخية حوالي أربعمائة طالب.

والشيء الغالب على الطريقة الششترية هو السماع؛ فـ”الششتري” كان أديباً موسيقيا. وكان يلحن الأشعار والبراول والأزجال. فهذه المحطة كانت أساسية في فن السماع ضمن سياقنا المغربي. لكنني، أعتقد أيضاً أن إحدى المحطات الأساسية الأخرى كانت في القرن الثامن عشر، لماذا هذا  القرن؟ لأنه عرف بزوغ ثلاث مدارس صوفية كبرى في تاريخ المغرب؛ هي الطريقة الناصرية، والطريقة التيجانية والطريقة الدرقاوية. وأبرز الطرق التي ارتبطت بالسماع بصفة كبيرة مع ذكر الجلالة وذكر الاسم المفرد هي الطريقة الدرقاوية التي تولدت عنها إحدى أهم الطرق السماعية في المغرب، وهي الطريقة الحراقية.

كان السماع أحد الأركان الأساسية لديها في التسليك الذي تحدثنا عنه، وكما تعلمون فإن سيدي “محمد الحراق”، مؤسس الطريقة الحراقية هو شيخ “الدلائي” الذي نناقش رسالته اليوم، والحراق أخذ من “مولاي العربي الدرقاوي”. ولا حاجة إلى بيان أن سيدي “محمد الحراق” كان أحد أساطين فن السماع سواء من خلال المتن الشعري الذي تركه المكون من القصائد والبراول والأزجال، أو من خلال التلاحين الموسيقية التي قام بها.

هذه هي أهم المفاصل التاريخية لفن السماع في سياقنا في الغرب الإسلامي عامة. وقد حاولت أن أتتبع التاريخ الفكري والروحي لنشوء فن السماع بدل أن أتوقف عند التاريخ السياسي. وأكتفي بهذا القدر وربما تسنح لنا العودة بتفصيل إلى نقاط أخرى.

عبد السلام طويل:

كما هو معلوم فإن الأستاذ “محمد التهامي الحراق” قد أنجز قبل أطروحته بحثا حول “الششتري”، حبذا لو اتخذنا من اختياره هذا مدخلا للوقوف على دوره وإسهامه في فن السماع؟

محمد التهامي الحراق:

بداية أقدم وفير شكري وجزيل ثنائي وجميل امتناني لمجلة “الإحياء” الرائدة على ما محضته لهذا الكتاب من كبير العناية وبالغ الاحتفاء، ونسمات امتنان وعرفان ندية تنبعث من فؤادي صادق، لتضمخ بخالص أريجها أناسا سهروا على هذا اللقاء، دبروا، وفكروا، وقدروا كي تلتئم هاته اللمة الشماء، في محراب “الإحياء”. كلمة اعتراف وإكبار للدكتور “أحمد عبادي” الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء، ولكتيبة العشاق التي تمخر معه يم المعرفة بتفان نسكي وإيمان بأن المكابدة والمشاق من شعائر العشق، أما العلماء الأساتذة المشاركون في هذا المنتدى، فأزرع باسم كل واحد منهم زهرة في قلبي؛ مودة واغتباطا وصداقة معرفية بها تبتهج السريرة وتزدهي الذاكرة.

أما بخصوص سؤالكم أعتقد أن الأساتذة الأجلاء قد رسموا المعالم الكبرى للسياق التاريخي والحضاري لظهور فن السماع، وإضافتي سوف تركز على أمرين أساسيين: الأمر الأول، وقبل أن أصل إلى الشيخ الكبير “أبي الحسن الششتري”؛ الأمر الأول هو أن السماع باعتباره فن إنشاد الأشعار الصوفية لغايات تربوية وروحية ضمن النسق الصوفي، هذا وُجد مع التصوف، وبالتالي الظهور الأول كان في القرنين الثالث والرابع الهجريين مع “ذي النون المصري” وتلاميذ “أبي القاسم الجنيد”، إذن هذا أمر عام، ثم تطور عبر المراحل التي أتى الأساتذة على ذكر بعضها إلى أن اتخذ صبغة متوهجة وازدهر أساسا خلال القرنين السادس والسابع الهجريين.

الأمر الثاني الذي أريد أن أضيفه: أنه خلال هذه الفترة؛ أي في هذا القرن، سوف يتخذ فن السماع ملمحا مغربيا في الغرب الإسلامي، هذا الملمح الخاص استمده أساسا من التوهج الشعري الذي ارتبط بظهور أسماء لامعة في الشعر الصوفي بالغرب الإسلامي، نشير تمثيلا إلى سيدي “أبو مدين الغوثت” الذي أشار إليه الأستاذ “عبد الإله”، وإلى الشيخ “أبي الحسن الششتري رضي الله عنه”، وكذا انتقال أشعار أمير المادحين لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، الإمام “البوصيري” من الشرق إلى المغرب، هذا الانتقال الذي اكتسى قيمة روحية استثنائية سواء بالنظر إلى الأصل الصنهاجي للنسب البوصيري، أو باعتبار مشربه الصوفي الشاذلي المنبثق أساسا من روحانية القطب مولاي “عبد السلام بن مشيش” المشرقة من الغرب الإسلامي.

في هذه المرحلة سوف يتخذ فن السماع ملمحه المغربي، سواء من خلال الأسماء الشعرية التي سوف تسهم في إثراء وتشكيل المدونة الإنشادية لفن السماع في الغرب الإسلامي، أو من خلال البعد الفني؛ إذ سوف يرتبط الإنشاد بالمرجعية الموسيقية الأندلسية المغربية، وهنا سيحصل تمايز بين السماع كما ظل ممارسا في مختلف الطرق الصوفية في المشرق، وبين السماع كما صار يتداول في الغرب الإسلامي والذي اتخذ ملمحا أندلسيا مغربيا مغايرا عن نظيره المشرقي.

 هذان أمران أساسيان كان لابد من الإشارة إليهما، وعلى ضوئهما نفهم قيمة الشيخ “أبي الحسن الششتري”؛ هذا العارف الكبير  الذي يعتبر محطة رئيسة في فن السماع لاعتبارين أساسيين: الاعتبار الأول أن هذا الرجل الصوفي أنتج دخيرة شعرية، هي من الغنى والثراء بما لا يضاهى، سواء على مستوى الشعرالفصيح الموزن، وأساسا على مستوى الموشحات والأزجال؛ إذ يعتبر أول من استعمل الزجل في التصوف.

الاعتبار الثاني؛ أنه مع “أبي الحسن الششتري”، وهذا أمر في غاية النفاسة، أصبح الإنشاد والتغني والسماع عنصرا أساسيا وبنيويا في إنتاج النص الشعري الصوفي، إذ لم يمكن اللحن أو التنغيم في الزوايا الصوفية التي كانت تتفاعل مع إنتاج “أبي الحسن الششتري”؛ لم يكن هذا التغني لاحقا على الإبداع الشعري، وإنما كان التغني والسماع عنصرا أساسيا في إبداع وإنتاج الشعر، وهو الأمر الذي غاب، للأسف، عن بعض الباحثين الذين لم يوفقوا كما يجب في إعادة نشر وإخراج ديوان “أبي الحسن الششتري” لما لم يدركوا هاته الحقيقة، وهي كون السماع بالنسبة لأسماء مثل “أبي الحسن الششتري”، ليس أمرا لاحقا أو تاليا أو حلة خارجية، الإنشاد ليس إضافة ثانوية يؤتى بها لتزيين القول وتحسين تلقيه، وإنما كانت الأزجال والموشحات التي ينتجها “أبو الحسن الششتري” تنتج أصلا من أجل التغني والإنشاد، وذلك للاضطلاع بوظيفة تربوية روحية يتعالق ويتآزرالنظم والنغم لتحقيقها في النسق الصوفي.

ومن ثم، إذا لم يستطع الباحث أن يمتلك مفاتيح البناء السماعي الإنشادي بمقوماته الموسيقية في الغرب الإسلامي، فسوف تغيب عنه إمكانية فهم مقوم بنيوي رئيس في البناء الشعري لنصوص “أبي الحسن الششتري”، وهذا في نظري أمر بالغ الأهمية؛ لأنه يفسر كثيرا من الهنات التي تعتور المجهود المحمود الذي بذله المرحوم الدكتور سامي النشار في تحقيق ديوان الششتري قبل أزيد من نصف قرن، مثلما يفسر، ضمن عوامل أخر، النقائص العلمية الكثيرة والعترات المعرفية الغزيرة التي تتخلل العمل الأخير في إخراج ديوان الششتري من لدن د. محمد العدلوني الإدريسي و سعيد أبو الفيوض.

وإجمالا، وبالإضافة إلى أشعار “أبي الحسن الششتري” ورحلة وهجرة أشعار “ابن الفارض” إلى المغرب، سيتطور النظم الشعري الصوفي بالاستناد إلى هذا القرن المرجعي، القرن السابع الهجري، ليعرف توسعا في المادة الشعرية عن طريق المعارضة والتخميس والتسبيع وغيرها من مختلف أشكال التفاعل النصي فضلا عن الانفتاح على الملحون المغربي؛ وذلك مع مجموعة من الأسماء الشعرية إلى أن نصل إلى القرن الثالث عشر حيث لمع نجم شاعر مغربي سيشكل إلى جانب ابن الفارض والششتري ثلاثيا رئيسا في مدونات كلام القوم بالمغرب، ويتعلق الأمربالشيخ سيدي “محمد الحراق”، أستاذ وشيخ محمد بن العربي الدلائي صاحب “فتح الأنوار في بيان ما يعين على مدح النبي المختار”.

 بفضل هاته الأسماء وانطلاقا من هاته الإبداعات وما يسير في فلكها سوف تتشكل مدونة إنشادية سماعية مغربية، أصبحت ذات ملامح خاصة سواء على مستوى النظم أو على مستوى النغم، أو على مستوى الإيقاع، أو على مستوى الأداء، أوعلى مستوى التداول، مما قد نأتي إلى تفصيله لاحقا.

 عبد السلام طويل:

أمتعتنا الأستاذ “محمد التهامي الحراق”، وقفتم على عدد من الخصائص الجمالية والفنية لفن السماع، الأستاذ “بن عبد الجليل” أنتم من أبرز الموسيقيين المغاربة علما، كيف تنظرون إلى الخصائص المميزة لفن السماع كفن، يزاوج بشكل رفيع، بين التعبير الفني الشعري وبين عنصر الإيقاع والتنغيم؟ ما الذي يميزه من وجهة نظركم عن الأشكال الفنية الأخرى؟

عبد العزيز بن عبد الجليل:

شكرا، طالما أننا نتحدث عن كتاب معين، ففي اعتقادي أنه ينبغي أن نسلط الضوء كلما أمكن ذلك على مضامين هذا الكتاب لتشكل عنصرا من عناصر الإجابة عن سؤالكم.

عنوان الكتاب وهو “فتح الأنوار في بيان ما يعين على مدح النبي المختار”؛ أعتقد أن هذا العنوان تكمن فيه مسألة أساسية، فالكتاب لم يعنون مثلا “فتح الأنوار في بيان مدح أو مديح النبي المختار”، ولكن “في بيان ما يعين على مدحه”، ومعنى هذا أن العنوان ينطوي على بعدين اثنين: البعد الأول؛ يبدو في الإحالة إلى ما يدل على أن الكتاب  يندرج في سياق المؤلفات الناظرة في مسألة السماع، وبيان مواقف الفقهاء والمتصوفة من السماع، ما بين إباحة وتحريم وكراهية..

 ولكنه في ذات الوقت من خلال ما أستنتجه من كلمة “يعين على مدح النبي المختار”، يحيل إلى مسألة أخرى، وهي ما يدل أو ما يكشف عن النظريات المتعلقة بالأدوات الموسيقية، وفي مقدمتها الطبوع؛ أي المقامات الموسيقية والإيقاعات. ثم بيان طرق استخدام هذه الطبوع وهذه الإيقاعات في إنشاد مستعملات المديح والسماع، ومن هنا؛ فالعنوان ينطوي على بعد أدبي وبعد فني، من هنا، إذن، تأتي رسالة المؤلف لتقف وسطا بين المؤلفات الناظرة في مسألة السماع من الوجهة الشرعية، وبين المؤلفات الناظرة في فن السماع من الوجهة الموسيقية.

عبد السلام طويل:

في نفس الإطار، بالإضافة إلى البعدين الذين أشرتم إليهما، هناك بعد وظيفي بيداغوجي واضح، تعبر عنه عبارة: “ما يعين على مدح النبي”؛ بمعنى أن المخطوطة لها بعد وظيفي، لها بعد بيداغوجي، تكويني وتعليمي في مجال فن السماع..

 عبد العزيز بن عبد الجليل:

من المؤكد أن المؤلف كان يسعى إلى أهداف معينة، فهو في مقدمة الكتاب يقول: إنه ألف الكتاب من أجل هداية الراغبين في هاته الصناعة على طرق أدائها، ومن بين هذه الأهداف أيضا  تأهيل المريدين المتعلمين للولوج بهم إلى ميدان التصوف والتدرج في مراتبه، ذلك أن السماع عند المؤلف ركن من أركان الطريق عند القوم، وهو قاعدة من قواعد الطريقة الحراقية التي أشير إليها سابقا، والتي تقوم على أركانها الأربعة المعروفة، الذكر والمذاكرة والعلم والمحبة.

أما ما يخص المضامين الفنية، فمن حسنات هذا التحقيق أنه يركز على الإشارة إليها بصفة خاصة، والمحقق قسَّم هذه المضامين إلى ثلاثة أقسام: أولا؛ المضمون الأدبي، ويتجلى في تعدد النصوص الشعرية التي يحبل بها هذا الكتاب، ثم المضمون الصوفي، وهو ما يكشف عنه عنوان هذه الرسالة؛ وذلك في كلمتين: كلمة “فتح” وكلمة “الأنوار”، وكلاهما تحبل بدلالات صوفية واضحة، لكن المضمون الفني هو الذي يحتل من الكتاب الجزء الأكبر. ونريد بالمضمون الفني المعارف الموسيقية المحضة، وهنا يحيلنا المحقق، مشكوراً، إلى ما جاء في مقدمة الكتاب من الإشارة إلى الأركان الأساسية التي يقوم عليها أي عمل موسيقي، وبصفة خاصة فن “السماع”.

 عبد السلام طويل:

ما هي أهم هذه الأركان؟

عبد العزيز بن عبد الجليل:

أولا: الشعر، وسماه المؤلف “الشعر المتغنى به”. ثانيا: الموسيقى أو بعبارة أخرى اللحن، وسماه “الطبع المُترنَم بلحنه”، ثم الإيقاع، وسماه “الوزن المفرغ ذاك الترنم في قالبه”. وإذا تطرقنا إلى تحليل هذه الكلمات الثلاث، فسندرك أن المؤلف يريد أن يوصل إلى الراغب في تحصيل هذا الفن، أنه لا مناص له من أن يفقه كُنه هذه الأركان الثلاثة، وأنه لايمكن أن يقوم عمل موسيقي ما إلا على هذه الأركان ذاتها..

 وهنا يبدو “الدلائي” على اطلاع واسع باللغة الموسيقية، فمثل هذا التعريف الذي يذكر فيه الشعر، ويذكر فيه الطبع ويذكر فيه الوزن، لا يبعد كثيرا عن التعريفات الموسيقية الواردة في أحدث الكتب التي تهتم بالتنظير للموسيقى. ومنها، مثلا، التعريف الذي يقول ” La musique est l’art des sons” الموسيقى هي فن الأصوات، و فن الأصوات عند الدلائي من صلب مقومات اللغة الموسيقية.

هكذا، إذن، يحلل الدلائي اللغة الموسيقية، ويبرز مكوناتها الرئيسة، وبذلك فكتابه لا يتدنى عن المصادر التي عنيت بالنظرية الموسيقية.

 ومن خلال الوقوف على المضمون الفني لرسالة “الدلائي”، يتأتى للباحث أن يتعرف على المستعملات التي يُتغنى بها في مجالس المديح  وحلق الذكر. وتزداد هذه المعرفة عمقا عندما يتجه البحث إلى النظر في الطبوع والإيقاعات التي يستند عليها إنشاد هذه المستعملات وتلك التي تقوم عليها مستعملات ميازين “الموسيقى الأنداسية”، ليخلص إلى أن الفنين معا يلتقيان عند ” شجرة الطبوع ” التي تحكم ألحان الموسيقى الأندلسية، مثلما يلتقيان عند منظومة الإيقاعات التي تتحكم في أوزان هذه الأخيرة.

 ومن جهة أخرى، تلتقي رسالة “الدلائي” مع الكتب التي تهتم  بالنظر في طبوع الموسيقى الأندلسية من قبيل رسالة “إيقاد الشموع للذة المسموع بنغمات الطبوع”، لمحمد البوعصامي، و”منظومة عبد الواحد الونشريسي” حول الطبوع، و”كناش الحايك” الشهير… وجه اللقاء بين رسالة “الدلائي” وبين هذه الكتب، هو إجماعها على وحدة الطبع في مستعملات الموسيقى الأندلسية و السماع معا، ولا يكاد يشذ أصحاب السماع عن هذه القاعدة إلا عندما يلجأون إلى استخدام طبعي الجركة والصيكة، وهما طبعان خارجان عن ” شجرة الطبوع، تسربا  إلى مستعملات الزاوية المغربية من القطر الجزائري الشقيق.

 ونقف عند هذه الظاهرة لنقرر انفتاح موسيقى “السماع ” على المعطيات الفنية الواردة من البلاد المغاربية والمشرقية بالمقارنة مع الموسيقى الأندلسية، في حين نلاحظ تحفظ أرباب هذه الموسيقى، وصرامة موقفهم الرافض لتبني أية نغمة أو أي طبع خارج عن “شجرة الطبوع”. ويتردد صدى هذا الانفتاح في كلام “الدلائي” نفسه عندما يدعو طلابه إلى تطعيم ديوان المستعملات الغنائية بالزيادة والإضافة  كلما أمكنهم ذلك، فهو حين يتحدث عن طبع “عراق العرب” مثلا يقول: هذا مبلغ علمي من القطع أو من المقطوعات أو من الأغاني أو من الإنشادات التي استطعت أن أتعرف عليها، ثم يضيف: إذا وجدتم شيئا آخر فأضيفوه، وفوق كل ذي علم عليم.

وقد أكد فن السماع سمة الانفتاح، مرة أخرى، على صعيد الأوزان من خلال احتضانه إيقاعات غير مستعملة في الموسيقى الأندلسية. ونعني هاهنا الميزان الذي يستهل به إنشاد بردة الإمام البوصيري، وهو ميزان تساعي الضربات يذكّر بالأقصاق التركية. وفي اعتقادنا أن انفتاح فن السماع على هذه الإضافات شكل، وما يزال، دليلا على مرونته، وهي مرونة ساعدت على أن يزداد غنى وثراء.

 وقد فطن الفنان الكبير المرحوم بعفو الله سيدي عبد اللطيف بنمنصور إلى أهمية هذا الانقتاح، ومن ثم لا نعجب عندما نرى كيف أنه كان يُقدِم على تلحين مقطوعات موسيقية ويدرجها في الميازين  وبخاصة في الأدراج. ولا غرو فصنيع  الفقيد مثال حي لما يمكن أن يسير عليه أصحاب هذا الفن في الحاضر وفي المستقبل أيضا.

عبد السلام طويل:

مختتم إيجاباتكم يحيلني إلى ما ألمح إليه الأستاذ “محمد التهامي الحراق” في كتابه “إلى كونية فن السماع”، وبوجه خاص من خلال عنصري الانفتاح والمرونة، وقد أشرتم كذلك في إطار الوظائف التي يمكن أن ينهض بها، بل والتي ينهض بها أصلا فن السماع، أنه من العوامل أو الأدوات الفنية والثقافية والجمالية الأساسية التي من شأنها أن تواجه ظاهرة العولمة في أبعادها الفنية وأبعادها الجمالية التنميطية بطبيعتها، حبذا لو أبرزتم هذا البعد المتمثل في العلاقة بين خاصية الانفتاح والمرونة لفن السماع وبين كونيته؟ ثم وظيفته في مواجهة ظاهرة العولمة في أبعادها السلبية التنميطية للأذواق؟ ودوره في حفظ الهوية المغربية؟

محمد التهامي الحراق:

سأحاول أن أنطلق من حيث انتهى أستاذنا سيدي عبد العزيز بن عبد الجليل، حول انفتاح فن السماع مقارنة مع نوع من التحفظ على الجديد وعلى الإضافات بالنسبة لفن طرب الآلة. لعل أبرز ما جعل فن السماع فنا منفتحا، هو طبيعة الوظائف المسندة للموسيقى داخل الزاوية والذي يضطلع بها فن السماع؛ فن السماع لا يطلب الموسيقى لذاتها، على أنه لا يبخس أيضا الأداة الموسيقية حقها، وهذا أمر في غاية النفاسة..

 الموسيقى في فن السماع، هي موسيقى وظيفية، الطرب هو طرب من أجل التربية، ولهذا سوف تجدون في الدراسة ما سميته بـ”التربية بالطرب” في الزاوية، وهو الأسلوب الذي تبنته من أجل ترسيخ مجموعة من القيم، ومن أجل نقل النفس من جريانها وميولها إلى الحظوظ واللحوظ والشهوات وما سوى ذلك؛ إلى أن تتوجه بالذكر وبالمحبة نحو الحق سبحانه وتعالى، وأن تتخلى وتتجرد عن طلب الحظوظ واللحوظ بأسوء الطرق والسبل.

هذا البعد التربوي من بين ما تم توظيفه في تطهير وتأهيل النفس، حيث تم استعمال السماع باعتباره كما قال ابن الخطيب “مصيدة النفوس”؛ فالنفوس تحن إلى الطرب وتتفاعل مع الصوت الجميل وترق إلى الكلمة البهية إلى غير ذلك، فهاته الرقة وهذا التفاعل تم اتخاذهما وسيلة للتربية وأداة في التطهير داخل الزاوية من خلال السماع.

 وهنا أقول لأستاذي الفاضل: إن انفتاح السماع على مختلف الطبوع الموسيقية وعلى مختلف الإيقاعات كان انفتاحا تصويفيا، وقد أعطيتُ أمثلة عديدة على ذلك في هذا الكتاب؛ بمعنى آخر أنه كان يتم تَشَرُّبُ الطبوع والإيقاعات داخل النسق الصوفي كي تضطلع بوظائف التربية والتأهيل والتطهير في هذا النسق..

 وأبرز مثال قمت بتحليله وهو نموذج الشيخ “سيدي محمد الحراق”، هذا العارف الصوفي المغربي المبدع الذي خلف لنا مدونة شعرية زاخرة، أساس العديد منها معارضات ومحاكاة لـ”الصنائع الآلية”؛ أي للنصوص الشعرية الفصيحة الموزونة والموشحة والملحونة المتغنى بها في طرب الآلة. ومن ثم، أسهم بقوة وبهاء في نقل ألحان تلك الصنائع  وطبوعها وإيقاعاتها وبنيات نصوصها الشعرية  من بعدها اللاهي الدنيوي إلى بعد روحي إلهي تقوم من خلاله بتلك الوظائف التربوية والذوقية التي أسندت لفن السماع في النسق الصوفي والتي أتيت على ذكر بعضها آنفا.

 ضمن هذا الأفق، ومن خلال هذا التصويف  أسهم فن السماع في مغربة طرب الآلة من جهة، كما أسهم من خلال ذلك في المحافظة على معالم الشخصية الإسلامية المغربية من جهة ثانية، ذلك أن تلك الوظائف التي اضطلع بها فن السماع لم تبق أسيرة أسوار الزاوية، وإن كانت هناك أدوار عرفانية مخصوصة بالزاوية لاتتعداها.

وحتى نتمكن من فهم هذا الأمر لابد من التذكير بأن فن السماع له شقان: شق “المديح النبوي” وهو متعلق بالحضرة النبوية، ويضم مدح الرسول، صلى الله عليه وسلم، بأغراضه المختلفة من شمائليات ومولديات وصلوات ومعجزات وحجازيات تشوق إلى البقاع المقدسة، واستشفاعيات؛ أي طلب الشفاعة المحمدية يوم النشور إلى غير ذلك؛ وشق آخر يعرف بـ “كلام القوم” متعلق بالحضرة الإلهية، ومداره حول أغراض المديح الولوي والمحبة الإلهية والخمريات الصوفية وتغزلات الحقيقة إلى غير ذلك من الحقائق الإشارية والعرفانية، مما انحصر تداوله واستعماله داخل الزوايا.

 فإذن، السماع في شقه المديحي لم يبق داخل الزاوية، وإنما انتشر فعله خارجها وصار يلعب أدوارا داخل المجتمع وامتدت آثاره إلى فضائه العام، لكن أين نجد هذه الأدوار؟ يمكن أن نتلمس آثارهذه الأدوار في مظاهر كثيرة تصحب الفرد المغربي من المهد إلى اللحد، من صرخة الاستهلال إلى تشييعه لمثواه الأخير..

 ذلك أنه ومنذ أن يولد الوليد يؤذن في يمنى أذنيه ويقام في يسراهما، ويصلى على رسول الله فرحا يازدياده، ويحتفل في عقيقته باستدعاء المنشدين والمسمعين، وكذا في حفل إعذاره إذا كان ذكرا، ويصحبه السماع في حياته من خلال ترانيم هدهدات الأم لتسكين روع صغيرها بالذكر والإنشاد، وعبر الأنغام التي تستعمل في الكُتاب لحفظ السور القرآنية و مختلف المتون العلمية المختلفة، أو من خلال الأنغام التي تستعمل في الأذان أو في رواية حديث الإنصات يوم الجمعة، أو من خلال الأنغام التي تستعمل أيضا في صيغ الصلوات على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في المساجد يوميا عقب الصلوات الخمس المفروضة، أو من خلال صيغ تلك الأذكار التي كان يُشيّع بها ومازال يشيع بها المغاربة أقرباءهم في الجنائز، أو من خلال تتويب وتهليل المهللين فوق الصوامع، وحتى عبر صيغ سؤال بعض المتسولين والفقراء استدرارا لعطف الناس وكرمهم، وقبل ذلك وبعده في التلاوة الفردية والجماعية للقرآن الكريم بالطريقة المغربية…إلخ.

 لاحظ كيف أن السماع بأنغامه وأشعاره يخترق حياتنا الاجتماعية، ومن ثم فإنه أصبح عنصرا أساسيا يعيش من خلاله الإنسان المغربي ثقافته الإسلامية، السماع بهذا المعنى لعب، كما أشرت في البداية، دورا تلحيميا للمجتمع، ذلك أنه ليس من قبيل المصادفة، مثلا، أن يتم استدعاء المنشدين والمسمعين إلى البيوتات الخاصة في الأتراح والأفراح، الأمر ليس من قبيل العبث.

فحينما يستدعى المنشدون إلى البيوتات الخاصة في أفراح حفل العقيقة أو حفل الإعذار تمثيلا، فهذا  يجعل السماع يضطلع بدور أساس في الإدماج الاجتماعي للوليد في الثقافة الإسلامية المميزة للبيئة المغربية. وحين يحضر المسمعون بأذكارهم وترتيلاتهم في الأتراح فإن السماع يضطلع بدور رئيس في تحقيق المواساة واسترجاع توازن النفس وتهدئة الروع في لحظات الحزن المكين،  كما هو الشأن عند فقدان فقيد أو عند الابتلاء بمرض أو ما سوى ذلك.

كما يؤكد اضطلاع فن السماع بهذا الدور التلحيمي للوجدان الديني المغربي الاحتفاءُ الرسمي العام بهذا الفن الذي أشار إليه الأستاذ “عبد العزيز بن عبد الجليل”، والذي يتمثل اليوم أساسا في الحضور المحوري لفن السماع في الحفلات السلطانية الدينية، سواء في إحياء ليلة المولد النبوي الشريف، أو في  إحياء ذكرى المغفور له الحسن الثاني في التاسع من ربيع الثاني.

 هكذا يبدو أن الالتفات اليوم إلى هذا الفن له ما يبرره ويقتضيه؛ إذ يضطلع  فن السماع من هذه الزاوية بدور رئيس في الحفاظ على البعد الإسلامي للهوية المغربية كما تشكلت على هاته البقعة عبر التاريخ، كما يمثل وجها من أوجه المرجعية الروحية للشخصية المغربية؛ إذ يرسخ السماع، من خلال النظم والنغم، المعالم الأساس للعقيدة الأشعرية وللمنحى الصوفي الخلقي الجامع بين المعرفة والسلوك. من هنا نرى أن إعادة الاعتبار لفن السماع عبر العناية به علميا وإعلاميا واحتفاليا خلال العقدين الأخيرين، سواء وطنيا أو عالميا، ليست إطلاقا من قبيل الصدف العابرة والعارضة، وإنما هي عناية لها ما يقتضيها وطنيا، مثلما استدعتها تحولات عالمية كبرى مست في لحظتنا التاريخية السياقات المعرفية والإيديولوجية والحضارية؛ تحولات في ضوئها يمكن أن نقف عند كونية فن السماع التي أومأتم إليها في سؤالكم، وهذا أمر أساس.

فيكفي مثلا تأمل ما عرفه السياق المعرفي من تقلبات وتجديدات في الأسئلة والرؤى؛ ذلك أنه، وفي ما يخص موضوعنا، وبعد أن كانت العقلانية الوضعية، وإلى وقت قريب، تحدد مسار معينا للفكر والتاريخ، وتلغي كل ما يتعلق بالخيال، وبالمعنى، وبالروح، وبالمقدس..الخ، تمت المراجعة النقدية لهذا المسار، حيث أعادت هذه المراجعة الاعتبار لمفاهيم المعنى، والأسطورة، والخيال وغيرها ضمن أفق جديد من الوعي تؤطره عقلانية منفتحة، مما جعل هذه المفاهيم تكتسب كينونة معرفية جديدة بموجبها أصبحت فاعلة في إنتاج العمل التاريخي وفي فهمه، ولم تعد أبدا “أنقاضا” يجب تجاوزها من أجل الوصول إلى “المرحلة العلمية” وكأنها آخر معاقل الخلاص للعقل كما أشاعت ذلك العقلانية الوضعية.

في هذا الأفق نفهم عودة العناية بالتراث المعرفي الصوفي دراسة وتحقيقا وفحصا بعد إقصاء طويل، بل وإقبال عدد من الحداثيين على بعض متون ذاك التراث تفاعلا واستلهاما ومحاورة في الشعر والتشكيل والسرد والسينما.. إنه الأفق ذاته  الذي نقرأ في ضوئه الحضور المتميز لفن السماع اليوم، وللموسيقى الروحية إجمالا، في المشهد الثقافي العام، عالميا ووطنيا.

عبد السلام طويل:

في نفس السياق، أشرتم في أحد الهوامش الهامة إلى دور فن السماع في تشكيل ما عبرتم عنه بالوجدان الجماعي للجماعة؛ باعتبار فن السماع مؤسسة من مؤسسات التنشئة الاجتماعية. ثم أشرتم بأن هناك خصاصا في دراسة فن السماع انطلاقا من مقاربات سوسيولوجية ونفسية ومعرفية؛ أريد أن أنتقل من هذه الإشارة إلى وضعية المقاربة البحثية الأكاديمية العلمية لفن السماع في المغرب، مادام أن فن السماع في المغرب محايت للحياة الفردية والجماعية للمغاربة، وله أدوار ترشحه، إن توافرت الجهود والرؤية الإستراتيجية المستبصرة، ليأخذ أبعادا كونية ويعبر تعبيرا كونيا على الشخصية المغربية، وإذا توافرت الإرادة للتنسيق بين مختلف أنماط الخطاب الإعلامي والثقافي والتربوي… من خلال وضع مقاربة علمية أكاديمية لفن السماع انطلاقا من هذه المعطيات.

 محمد التهامي الحراق:

كما يعرف الأساتذة الأفاضل فإن فن السماع إلى وقت قريب كان منسيا ومهملا أكاديميا، ويرتبط هذا بالوضعية المعرفية العامة للتصوف، إذ إلى وقت قريب كان التصوف منسيا أكاديميا كما أسلفت، تطارده وتحاصره كثير من المقاربات الإقصائية على سبيل ما أشرت إليه من عقلانية وضعية، كانت تزج به زجا في باب الخرافة واللامعقول؛ وترى أن لا دور له على مستوى العمل التاريخي، ليعتبر لاحقا نتاجا للعقل المستقيل.

كما حوصر التصوف أيضا من لدن مقاربة دينية حرفية متسلفة  اعتبرته نتاجا بدعيا ضالا ومضلا…إلخ؛ إلى أن وقعت تحولات أشرت إلى بعضها في السياق المعرفي، وتحولات على مستوى السياق الحضاري، وأخرى إيديولوجية عالمية جعلت الإنسان المعاصر يعيد التفكير في معطيات الروح مقابل هاته المادية الجارفة التي ما تفتأ تشيئه لتصنع منه كائنا استهلاكيا وكفى،  كما دفعت تلك التحولات بعض المفكرين إلى الارتياب النقدي في هذه العقلانية المتصلبة مقابل كثير من المظاهر التاريخية التي أفرزت لنا نوعا من الانحراف عن قيم عقل الأنوار التي انتعشت بوصفها واحدة من فتوحات الفكر الحديث.

 ضمن هذا السياق تأتي العناية بالتصوف، حيث استحال الإقصاءُ احتفاءً، فظهرت أعمال علمية عديدة تنفض الغبارعن نصوص التراث الصوفي تحقيقا ودراسة، تعريفا وتعرفا، كما أُحدثت وحدات دراسية جامعية تعتني بالخطاب الصوفي في أبعاده المختلفة، وبرزت إلى المشهد الثقافي مجلات ومواقع إلكترونية مختصة بالمجال الصوفي، هذا فضلا عن حضور التصوف، وفي صلبه فن السماع، في المجال العام للمجتمع، من خلال الملتقيات والمهرجانات والمواسم، وحضوره في وسائط الإعلام بمختلف ألوانه وأطيافه.. إلى غير ذلك.

 إلا أن هذا الحضور، وهذه واحدة من مقاصد هاته الحلقة العلمية، يجب ترشيده من خلال المساءلة النقدية لخلفياته وطبيعته ومراميه، ذلك أن هناك اختلالات والتباسات يجب أن ننتبه إليها؛ فهذا الاهتمام بقدر ما يبدو مُهما بقدر ما تنخره كثير من النقائص والمعايب التي يمكن أن نتحدث عنها لاحقا. على أن هذه المساءلة والمحاسبة الدائمة هي من مقتضيات طريق القوم وتقاليد سلوكهم، والذي ينظر في رسالة “فتح الأنوار” يمكن أن يستشف ذلك بين ثنايا سطورها؛ وخصوصا من خلال ميسم الانفتاح والمقصد التأهيلي الصوفي الذين تتسم بهما.

 عبد السلام طويل:

لاشك أن خاصية الانفتاح التي يتميز بها فن السماع، تقتضي مقاربته انطلاقا من خلفيات منهجية ومعرفية متعددة، انطلاقا من خبرتكم الأكاديمية وخبرتكم الوظيفية، الأستاذ بنعرفة كيف تتصورون إمكانية أو كيفية تحقيق هذا الأمر؟

عبد الإله بنعرفة:

سأجيب عن هذا السؤال انطلاقا من التعقيب الذي أوردته، لما ذكر الأستاذ محمد التهامي الحراق، أن هذه الرسالة حينما اشتغلت على هذه المتن، رسالة “فتح الأنوار” أطرته من خلال بعدين أساسيين: البعد الأدبي والفني، وأضفتم البعد التعليمي، ربما يمكن أن نعيد صياغة هذه القضية، لماذا هذا البعد في هذه الرسالة أولا؟ حتى نصل إلى الجواب عن هذا السؤال الكبير العريض الذي طرحته حول قضية الكونية، ووظيفة السماع في إطار هذه الكونية، هناك أولا سياق تاريخي محدد.

طبعا صاحب هذا المتن “الدلائي” ولد في الرباط، لكن الرباط في وقته لم تكن معروفة بفن السماع، أو لم يكن فيها السماع مزدهرا بالشكل الذي كان مثلا في حاضرة فاس وفي شمال المغرب، هذا له عوامل تاريخية محددة. طبعا هاته الفترة التي كان يمر منها المغرب، تزامنت مع  ظهور تيار فقهي قوي. هذا يحيلنا للجواب عن التساؤل التالي: لماذا كان فن السماع منفتحا أكثر من موسيقى الآلة؟

 أنا أقول، بعبارة ربما مستفزة، أن السماع أنقذ الآلة الأندلسية؟ لماذا؟ لأنه استطاع أن يتفادى فتاوى الفقهاء المحرِّمين المجرِّمين لهذه الأشعار الماجنة في الخلاعة التي كانت معروفة في موسيقى الآلة، وربما من أسباب حفظ هذه الطبوع والأنغام والإيقاعات الأندلسية، هو انفتاح فن السماع على الموسيقى الأندلسية، واحتضان هذه الطبوع وإعادة تصويفها كما قال الأستاذ “محمد التهامي الحراق”.

 يتجلى هذا من خلال عدة مظاهر أذكر بعضها؛ ربما المظهر الأهم بالنسبة إلي هي المحاولة التي قام بها سيدي “أحمد بن محمد عبد القادر الفاسي”، لما نقل أشعار نوبة رمل الماية من شعر المجون والخمرة والخلاعة وغيرها، إلى مجال المديح، فصارت هذه النوبة الآن عند القاصي والبادي، محبسة على المديح النبوي ومختصة به.

هذه النقلة لم تكن بسيطة وعادية، هي نقلة جعلت موسيقى (الآلة) تزدهر، وتحفظ من الضياع بسبب فتاوى الفقهاء المحرمة لما تتناوله هذه الموسيقى من أشعار خليعة. أنتم تعلمون بأن الموسيقى الأندلسية فيها أربعة وعشرون نوبة ولم يصلنا منها إلا إحدى عشرة نوبة. وقد كان وراء هذا الاختفاء ظروف تاريخية بسبب الحملة على الموسيقى بصفة عامة. وقد كان المديح والسماع هو الباب الذي أنقذ هذه الموسيقى لما احتضنها في الزوايا، وارتقى بأشعارها الماجنة لكي تعبر عن المعاني الروحية العالية.

ولابد أن نتوقف عند بعض مؤشرات هذه الاستضافة الفنية مع ظاهرة ما يعرف بالقُدود مثلا. ولدينا نسخ من “كناش الحايك” تم استبدال أشعارها تماما بقدود في المديح النبوي، كل صنعة آلية لها قَدُّها. ولدي نسخة من هذه الحُيَّاك في المديح النبوي، مما يدل على هذا الدور الكبير الذي قام به المديح والسماع في فسح المجال أمام الموسيقى الأندلسية واحتضانها والمحافظة على طبوعها، بتجاوز حاجز رقابة الحِرمة التي كانت مسلطة عليها من قبل بعض الفقهاء. كما أن موسيقى الآلة الرائجة اليوم تتضمن أشعاراً صوفية كثيرة، بل إن أغلب ما هو منسوب من الأشعار في كناش الحايك هو للششتري والحراق وأمثالهما. وهذا وحده كاف للدلالة على تصويف موسيقى الآلة بما يضمن بقاءها واستمرارها.

 هذا يقودني إلى الحديث عن الكونية في وقتنا الحاضر. العالم الآن يمر بأزمة خواء روحي، ويتجلى هذا الخواء الروحي في هذه العولمة الشرسة، التي جعلت من الاقتصاد والمضاربات المالية المبدأ والمنتهى في كل قضية من القضايا. لكن هذه الأزمات المتتالية التي يعرفها العالم، جعلت بعض العقول المتبصرة، تعيد التفكير في هذا النموذج الحضاري الذي يتم فرضه بسلطة المال، والذي يحاول أن يفرض نمطاً معيناً على شعوب العالم.

هذه الضمائر الحية، كانت وراء الجهود الدولية التي أثمرت التوقيع على اتفاقية التنوع الثقافي والمصادقة عليها سنة 2005 في باريس، في مقر اليونيسكو. وهي اتفاقية تحمي جميع التعابير الثقافية الإنسانية. هذا مكسب مهم جدا، وسيشكل المدخل بالنسبة إلي، للحديث عن السماع ووظيفة السماع، وكيف يمكن أن نكسب هذه الكونية ونحققها انطلاقا من مثل هذه الآلية الدولية المتاحة؟ معاهدنا الموسيقية في المغرب لا تدرس السماع؛ بمعنى أن الموسيقى التي أنتجها أسلافنا وأجدادنا لا ندرسها، أما الزوايا فلم تعد تقوم بوظائفها في تكوين المسمعين؛ وذلك راجع لعدة أسباب، في مقدمتها المتغيرات التي يعرفها العالم اليوم.

 ولعل الشكل التاريخي لتنظيم التصوف ضمن الزوايا، كما كان سائدا في وقت من الأوقات، لم يعد ينسجم مع شكل الحياة اليوم. ونحن نتوقع أن تتفتق الأذهان في ابتكار أشكال جديدة للانتظام بين طلاب الحق، وإيجاد طرق لتأطير المجتمع روحيا وأخلاقيا. وقد بدأ التصوف يأخذ أشكالا جديدة ويتأقلم مع الواقع الجديد، نظراً لقدرته الفائقة على الانفتاح وتجديد أدوات عمله وأشكاله.

وفي هذا الإطار، كنت اقترحت في الندوة العلمية للمهرجان الرابع عشر لفني المديح والسماع في فاس خلال خريف 2011 تشكيل لجنة من مجلس المدينة ووزارة الثقافة والباحثين المشتغلين في هذا المجال لتسجيل فن المديح والسماع على لائحة التراث الثقافي اللامادي المعرض للأخطار..

 لأنه إذا كانت المعاهد الموسيقية في بلادنا لا تدرس تراثنا الموسيقي، وإذا كانت الزوايا غير قادرة على أداء وظيفتها التقليدية في تخريج المسمعين، فمن يكفل لنا استمرارية هذا الفن؟ وكيف نقبل بضياع جزء من هويتنا الحضارية دون أن نحرك ساكناً؟ إن التسجيل على هذه اللائحة سيلزم السلطات العمومية في بلادنا بضرورة المحافظة على هذا الفن الكوني، وإيجاد الإطار المناسب لرعايته وتطويره، بالنظر إلى الوظائف الكبيرة التي يقوم بها في مجتمعاتنا، وقدرته على نشر قيم الحوار والتسامح والمعرفة والمحبة والجمال.

أظن أن هذا هو المدخل الأساسي لتسجيل هذا التراث، وربما تكون هذه الحلقة الفكرية إحدى لبنات التحسيس بأهمية هذا التسجيل، وأن تساهم المجلة والرابطة في التعريف بهذا. وعلى كل حال إن الشروط المطلوبة من المؤسسات الدولية لتسجيله على هذه اللائحة متوفرة، والباحث المتتبع لهذا الفن، يلاحظ أنه يستجيب لجميع الشروط والمعايير الطلوبة.

ولعلكم تعلمون أن مجموعة من الدول سجلت تراثها الموسيقي، مثلا “المقام العراقي” سجل على لائحة التراث العلمي، و”المقام الشاشي” في بلاد شاش؛ أي “طشقند” في جمهورية أوزباكستان. وفن “الموكام”؛ أي فن المقام الآذري في أذربيدجان، والموسيقى الموريتانية… فماذا ننتظر؟

إن عدد المواقع المسجلة في المغرب ثمانية مواقع، أغلبها مواقع ضمن التراث الثقافي المادي، إلى جانب موسم طنطان وفن البيزرة أو الصيد بالصقور وساحة جامع الفنا في مراكش، التي سجلت ضمن التراث الثقافي اللامادي. ونحن نريد أن نسجل هذا الفن وأن نضمن له البقاء من خلال هذه الآلية حتى تصبح كل مدينة وكل مجلس بلدي والدولة ووزارة الثقافة وجميع المؤسسات الثقافية والعاملين مسؤولون عن تمرير وتوصيل هذا الفن الإنساني الكوني إلى الأجيال المقبلة، وإلى الإنسانية كلها من وراء ذلك.

إن فن السماع يقوم بوظيفة التلحيم؛ تلحيم الأجيال مع بعضها، والآن أصبح الناس يتحدثون عن ميثاق الأجيال لبناء مواطنة جديدة، هذه المواطنة الجديدة لتلحيم الأجيال، تمر عبر الثقافة والفنون والآداب. وهذا الفن يقوم بهذه الوظيفة لأنه يصاحب الإنسان ابتداء من الفترة التي يكون فيها في بطن أمه حينما تدندن وتهنهن بكلمات الجلالة “لا إله إلا الله”، ويستمر الأمر حين يبرز الوليد إلى الوجود، فيؤذن له أبوه في يمناه، ويُقيم في يسراه، ثم يصحبه هذا الفن في عقيقته وفي ختانه وفي زواجه وفي جميع مراحل حياته، في الأفراح والأتراح، فإذن، هذه الوظائف الأساسية التي يقوم بها ليست وظائف بسيطة، وإنما هي وظائف للتنشئة الاجتماعية والتماسك بين الأفراد في المجتمع، وبناء المواطن الصالح. لكل هذه الأسباب، نحن مطالبون بأن نلج فضاء الكونية عبر هذا الفن.

 إضافة إلى ما ذكرت، هناك أشياء جميلة في هذا الفن. أولا فيه الشعر الجميل الذي يربي الذوق والفكر والوجدان، وهذه القصائد الرفيعة التي نسمعها من “الششتري” والحراق وغيرهما. الواقع أن “الششتري” هو أول من استعمل الزجل في التعبير عن حقائق التصوف، أما أول من استعمل الموشحات في أغراض التصوف فهو الشيخ الأكبر “سيدي محيي الدين بن العربي”.

هذه الأشعار الجميلة الرفيعة الرقيقة الرائقة التي تنساب كأنها البيان، من دون أن يحتاج الإنسان إلى أن يرافقها بالموسيقى أو بالألحان، هي شيء جميل يربي الأجيال. كذلك إن من يتعلم فن السماع، يتعلم العروض، ويتربى على الأخلاق العالية، ثم فيها الجانب الذي يربطه بالحق سبحانه وتعالى، وهو جانب المحبة والمعرفة. إن هذه الإضاءات تنير الدرب على مسار هذه الكونية التي نطمح جميعا، إن شاء الله، إلى تحقيقها. ونأمل أن  تكون هذه الحلقة لبنة أساسية في التعريف بهذه القضايا، وحصول الوعي بأهمية هذا المشروع الذي نطمح ونتمنى، إن شاء الله، أن يرى النور قريبا.

عبد السلام طويل:

لاشك أن فن السماع الصوفي يمتلك من المقومات الذاتية ما يؤهله فعلا أن يكتسي هذه الصبغة الكونية عن جدارة. الأستاذ “عبد الإله” أشار إلى مجموعة من المداخل الإجرائية المهمة جدا. الواقع أن أحد مصادر تحقق كونية فن السماع يكمن في كونية لغة الموسيقى عموما. كيف نستثمر الأستاذ عبد العزيز بن عبد الجليل هذا البعد الكوني للموسيقى كتعبير فني تنغيمي يتفاعل معه أي إنسان بغض النظر عن انتمائه الديني والثقافي والحضاري، وبغض النظر عن زمانه ومكانه؟ كيف يمكن أن نطور الأبعاد الموسيقية لفن السماع انطلاقا من خصائص الانفتاح والمرونة التي أشرتم إليها، كي تحقق هاته الكونية تعزيزا لملف طلب إدراج هذا الفن ضمن التراث الإنساني؟

عبد العزيز بن عبد الجليل:

قبل أن أجيبكم عن هذا السؤال الوجيه، اسمحوا لي أن أضيف بعض الأشياء التي أعادها إلى ذهني تدخل الأستاذ “عبد الإله” حول السماع ومكانة السماع كتراث موسيقي مغربي. قال: إن السماع أنقذ موسيقى الآلة، هذه حقيقة لا جدال فيها. بفضل السماع وبفضل المادحين المزمزمين أمكن للموسيقى الآلة أن تستمر، ويوم كانت الموسيقى الأندلسية لا تجد الفضاء المناسب لترجيعها، كانت الزوايا المغربية تصدح بمستعملات الآلة نفسها، ومستعملات السماع جنبا إلى جنب، وليس أدل على ذلك من أن هذه الموسيقى، موسيقى السماع التي كانت تؤكد انفتاحها على الإضافة، كانت في ذات الوقت تملك القدرة على اختراق الفنون الأخرى، ولنا في الموسيقى الأندلسية المثل الحي، وهو “ميزان الدرج”..

 “الدرج” ميزان رباعي، لم يكن موجودا في مستعملات الآلة، فالآلة الأندلسية عندما ورثها المغرب (وهذه إشكالية، هل المغرب ورثها أم أن المغرب كان شريكا في صناعتها؟ هذا موضوع آخر)، كانت تقوم على أربعة ميازين، وهي: “البسيط، قايم ونصف، والبطايحي، والقدام”. ولم يكن هناك وجود لميزان خامس هو الذي أصبح يسمى “بميزان الدرج”..

 غير أن أصحاب السماع حينما ابتكروا هذا الفن داخل الزاوية، لم يكفهم أنهم ابتكروه، ولكن أضافوه إلى مستعملات الموسيقى الأندلسية، واستطاعوا في لحظة من اللحظات أن يكسروا الطوق الذي  كان أرباب الآلة يفرضونه على هذا الدرج  يقفلون كل سبل  تسربه إلى الآلة، لذلك فإن “الحايك” لا يشير إلى “ميزان الدرج” في كناشه، و”محمد البوعصامي” لا يشير إليه في رسالته “إيقاد الشموع”، حتى “أحضري” عندما يذكر الدرج فهو يذكره بالتباره مدمجا في ميزان آخر، هو ميزان “البطايحي” ويقول إنه متفرع عنه..

 ولكن صاحبنا هذا أي الدلائي استطاع أن يكسر الطوق، ويكسر هذا الحصار وأن يتحدث عن “الدرج” كميزان مستقل قائم بنفسه، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على قوة إيمان هذا الرجل بأهمية الانفتاح، وبقدرته أيضا وقدرة الفن الذي يحمله على أن يخترق غيره من الفنون.

 طبعا هذا موضوع يذكرنا بموقف الأدباء الأندلسيين من الموشح نفسه، “فأبو الحسن علي بن بسام” هو نفسه في كتاب “الدخيرة في محاسن أهل الجزيرة”؛ يضمّن  كلامه ما يدل على القطيعة مع الموشح، ولكن الموشح استطاع أن يفرض نفسه وأن يصبح مطية يركبها الشعراء البارزون بصفة خاصة،  ونفس الشيء كان بالنسبة للدرج.

 يؤكد هذا أن موسيقى السماع كما قال الأستاذ، هي نفسها كانت سببا في في استمرار الموسيقى الأندلسية، بل إنها كانت من أبرز عوامل الإبقاء على هذه الموسيقى، وقد ضرب لنا مثلا “برمل الماية” التي حولت أشعارها من وصف العشي ومن وصف الخمر إلى المدح الصرف، كذلك يمكن أن نضيف إلى ذلك ما صنعه أرباب السماع، أيضا، من تحويل لإنشادات من أشعار في الخمريات وفي الغزل إلى المديح النبوي، حتى أصبح لكل إنشاد مستعمل في الآلة إنشاد يقابله في موسيقى السماع، بل إن موسيقى الآلة الأندلسية تكاد تحمل في طيها اليوم أحد معاول تقويضها وهدمها، وهو انفتاحها العشوائي على النغمات المشرقية، الصبا والحجاز… بينما موسيقى السماع ترفض ذلك بتاتا.

قد يقال: إن هذا يناقض مبدأ الانفتاح؛ إن انفتاح السماع  انفتاح عقلاني، انفتاح على ما يطعم ويغني، وليس على ما يهدم ويقوّض؛ ذلك أن لكل موسيقى مقوماتها وخصوصياتها، ولا سبيل إلى الانفتاح إلا في إطار الانسجام، وهذه العبارة بالذات يقولها الدلائي عندما يدعو إلى تطعيم الميازين، وتطعيم المستعملات، فهو يفرض أن تكون هذه الإضافات منسجمة مع الطبع المستعمل. هذه إضافات أشكر الأستاذ “عبد الإله”؛ لأنه أوحى إلي بالرجوع إليها.

الموسيقى مرتبطة بالإنسان منذ ولادته، وهي تواكب فترات ومراحل حياته كما ذكر الإخوة بدون شك، ولعل مما يؤكد ارتباط الموسيقى بالإنسان، أن الطفل يغني قبل أن يتكلم، ويكفي أن  تهدهد الأم طفلها فينام، ويكفي أن الطفل الرضيع يسمع صوتا غير منسجم فينزعج ويبكي، هذه إشارات تدل على أن الموسيقى لصيقة بالإنسان لصوقا فطريا، ومن هنا فحياة الإنسان مرتبطة بالموسيقى ارتباطا عضويا لا سبيل إلى الشك في ذلك، لكن عندما يتقدم الطفل في السن وينمو، تتدخل عناصر أخرى تزاحم هذا الميل الفطري نحو الموسيقى النظيفة..

 وأنا شخصيا أعتقد أنه عندما ينحرف الذوق الفني والموسيقي للإنسان ينحرف سلوكه في ذات الوقت، فالانحراف الخلقي إن هو في الحقيقة إلا انحراف لمستوى الذوق. فعندما نشاهد طفلا يمر بالشارع ولا يربأ بالنباتات وبالأعشاب، يطؤها بقدميه دونما اكتراث، فإن هذا إن دل على شيء فإنما يدل على انحراف ذوقه؛ وانحراف الذوق لصيق بانحراف السلوك، ومن هنا فالموسيقى أساسية في تربية الإنسان، وقد اهتدى “الدلائي” صاحبنا هذا إلى أهمية الموسيقى في تربية الأخلاق، في تربية سلوك الإنسان.

عبد السلام طويل:

ما أشار إليه وما خلص إليه الأستاذ “بن عبد الجليل” جعلني أخلص إلى أن فن السماع يمكن اعتباره فنا توليديا، حينما تحدث عن استيعابه أو إحداثه للدرج؛ أي أنه فن توليدي يستبطن بنيويا، شروط ومقومات التطور والتجديد، كما يمكن اعتباره فنّا إبداليا من الناحية الوظيفية (…) وذلك بإبدله لأشعار الغزل والتشبيب بأشعار روحية..

عبد الإله بنعرفة:

انطلاقا من الآية الكريمة، ﴿اِليه يصعد الكلم الطيب، والعمل الصالح يرفعه﴾ (فاطر: 10)، السماع مثل الشجرة، وأنتم تعلمون، كما قلنا سابقا وكما أشار الأستاذ عبد العزيز إلى شجرة الطبوع، فإن القوم عبّروا عن البنية الموسيقية كلها على أنها شجرة. هذه الشجرة لا شرقية ولا غربية، أي أنها تنبت في كل أرض طيبة. لهذا كان هذا الفن مقترناً بالانفتاح على كل هذا الوافد الذي اغتنى به عبر العصور. لكن هذا الوافد ينصبغ انصباغا ذاتيا بهذه البنية حالما يدخل ويخضع للنسق الذي يحكمه، ولهذا لا نعتبر الوافد غريباً أو نشازا، وإنما نعتبره عنصرا مؤسسا يغني هذا الفن، ويجدده.

“فتح الأنوار”، هذه العبارة الجميلة حينما نسمعها يتبادر إلى ذهننا معنيان رئيسان؛ أنتم تعلمون أن الصلاة المشيشية لمولاي عبد السلام بن مشيش تفتتح هكذا: “اللهم صلِّ على من منه انشقت الأسرار وانفلقت الأنوار..”؛ فكيف ينفلق هذا النور؟ وهنا لابد من أن أربط حديثي هذا بما كتبته في أحد البيانات الأدبية لإحدى أعمالي الروائية، حيث تحدثت عن هوية النور، وتحدثت عن الكتابة بالنور. وهذا فقط جسر أمده للربط بين الموسيقى والفن من جهة، و بين السرد والإبداع والأدب من جهة ثانية.

 ومن باب التأمل والتفكر، فإن النورقد يكون حجابا في ذاته، وقد يكون مانعا من كشف الحقائق، لكنه، قد يكون أيضاً باباً للوصول إلى الحقائق، وقد يكون ثمرة لتلك الحقائق، وهذا ما يحيل إليه هذا العنوان “فتح الأنوار”؛ أي أنه يحيل إلى المعنيين المذكورين أعلاه. ومن هنا، يجب أن نفهم المجالات الرفيعة التي تحدث عنها الشيخ “الدلائي”، فهو يشير إلى مرتبتين من مراتب المتلقي؛ لأن النور قد يكون ثمرة، وقد يصبح حجابا.

وهنا أستذكر أثراً: “إن لله سبعين حجابا من ظلمة ونور”؛ فهذه إشارة أساسية إلى هذه القضية، فالنور ليس إيجابيا أو سلبيا ولكن قابلية المتلقي هي التي تجعل منه ذلك بعد انعكاسه عليه، فيثمر  سلباً أو إيجاباً. هذه إشارة ربما يجب أن نتأملها كما تأمل الأستاذ الكريم تلك “الإعانة” (فيما يعين على) الواردة في العنوان؛ لأنها تحيلنا على مجالات تداول هذا الفن وعلى هذه الرسالة التي تفتح هذه الآفاق الرحبة أمامنا.

 محمد التهامي الحراق:

بالنسبة لقضية الإبدال والتوليد اللتين أشار إليها الأستاذ عبد السلام طويل، أعتقد أن فن السماع بالفعل أسس هويته من خلال عملية إبدالية أساسية، بإبدال أشعار الغزل والتشبيب والأغراض الدنيوية بأشعار روحية تتعلق سواء بأغراض متعلقة بالمديح النبوي الشريف، أو بأغراض مرتبطة بالحقائق؛ أي بكلام القوم؛ أي بالمعارف الصوفية، أما التوليد فهو ما سميناه بـ”الإضافة”؛ أي الابتكار، ففن السماع هو فن تجديد بامتياز.

ثم إن المعيارين أو المفتاحين أو الآليتين الأساسيتين اللتين كان يتوسل بهما فن السماع من أجل توسيع وتكثير مادته وشكل بنيته، أمران أومأت إليهما آنفا هما التصويف والمغربة، ومن خلال هاته المغربة كان يفتح بابا على  الكونية. سوف أشرح كيف ذلك، حين أضاف المغاربة مثلا ميزان “الدرج” إلى الموازين الأربعة: البسيط والقائم ونصف والبطايحي والقدام؛ فإن تلك الإضافة كانت تحمل خلفية تصويفية ذات منظورعرفاني، لنقرأ في “فتح الأنوار” ماذا يقول “الشيخ الدلائي” الذي تفرد بالحديث على الدرج كميزان مستقل؛ يقول: “ومن تأمل هذه الأوزان الخمسة وجد أصلها الإفراد؛ (أي الوترية)، فهي تدور عليه، ومن أجل ذلك اتخذت هذه الطائفة أعني طائفة الذاكرين الله تعالى بالحلق، والسماع من كلام القوم، ألحانا يستعينون بها على الذكررضي الله تعالى عنهم ونفعنا من بركاتهم”.

فهاته الإضافة، إذن، لم تكن إضافة مجانية، بل من أجل أن يُبنى قالب الموازين أو الأوزان على الإفراد، حتى يسعفهم، على المستوى الموسيقي، في تحقيق تلك الدلالة التي يطلبها الذكر وهي التوحيد والتفريد، لذلك أطلق الشيخ الدلائي على فصل سماع كلام القوم في رسالة عنوانا دالا هو: “السماع المجرد مما يعين على ذكر الاسم المفرد”، ذلك أن “الله وتر يحب الوتر” كما جاء في الحديث، ومن ثم بنى الشيخ الدلائي الأوزان على الإفراد، مثلما بنيت الألحان نفسها في سماع حلق الذكر على الإفراد.

وقد أوردتُ في قسم الدراسة من هذا العمل المتواضع نماذج محللة تبرز كيف أصبحت الوترية عنصرا بنيويا في الألحان، وهو أمر اختص به فن السماع، على هذا الملمح واحد من ملامح المسلك التصويفي الذي نهجه فن السماع في تعامله مع مختلف  ألوان النظم والموسيقى والإيقاعات التي انفتح عليها.

لقد كان هذا المسلك التصويفي واحدا من ألمع أدوات مغربة طرب الآلة، وهنا أشد بحرارة على فكرة أساسية وأثمنها، مفادها أن فن السماع قد أنقذ موسيقى الآلة من التلف والاندثار،  وفي هذا الإطار أرى أن فن السماع كان هو الرئة التي تنفس من خلالها طرب الآلة لما جُوبِه هذا الطرب بفتاوى الإنكار في مرحلة من مراحل التاريخ المغربي؛ وذلك من خلال عملية الإبدال التي مست المدونة الشعرية في طرب الآلة، مما نسميه تقنيا بـ”القدود”؛ أي إفراغ الصنائع والقطعات الموسيقية الآلية في أشعار مديحية وصوفية روحية ليتغنى بها فيفن  السماع مع التخلي عن المعازف والآلات داخل الزوايا إلى حين، ثم أيضا من خلال عملية تصويفية لكثير من الصنائع عن طريق إبدال آخر،هو إبدال الطراطين التي تستعمل في الآلة بصيغ تسبيحية، فبدل أن يتغنى مثلا بقوله: “ألان يالالان”، يقول: “الله الله” أو يستبدل الطراطين بـ “الغني يا ربي مولاي” أو “فرحنا بالله”…إلخ.

سأعطيكم مثالا من صنعة تتغنى في مدونة طرب الآلة ببطايحي الاصبهان، وهي صنعة “وردات على خدو”،  وكلامها غزلي، فجاء القوم واستبدلوا شعرها بكلام صوفي يندرج في غرض المديح الولوي أي مديح الأولياء: “ماراحتي… إلا لقا الأحباب”، كما غيروا طراطينها “ألان يا لالان” بترديد الاسم المفرد: “الله الله”؛ لأن القوم  يستعملون الموسيقى كمعين على الذكر.

هكذا نلاحظ إذن أن هذا البعد التصويفي لعب دورا أساسيا في تشكيل الماهية الفنية لفن السماع؛ مما يكشف عن الترابط العضوي بين الوظيفة والطبيعة في فن السماع، أضف إلى ذلك أن عملية التصويف التي قام بها أهل السماع للموسيقى الأندلسية كانت، في وجه آخر، بمثابة مغربة لهاته الموسيقى..

 فالذين أضافوا ميزان “الدرج” هم مغاربة، ومن ثم فإنهم طبعوا بفضل هذه الإضافة وغيرها طرب الآلة ببصمة وتوقيع مغربي أصيل، بل أكثر من هذا، وهذا أمر أتمنى أن يقاسمني فيه الأستاذ “ابن عبد الجليل”، لأنه في غاية الأهمية، وهو أنه في النظرية الموسيقية المؤطرة للموسيقى الأندلسية المغربية ترتبط الطبوع بأوقات معينة، أصلها، وهذا فيه نقاش، أربعة وعشرون طبعا على عدد ساعات اليوم الأربع والعشرين، وأن كل طبع كان يتغنى به في ساعة معينة، وهو توافق مبني على خلفيات فلكية ميثافيزيقية.

هذا التوافق بين الطبوع وبين أوقات إنشادها نجد آثاره في الأشعار، فمثلا طبع الماية أو نوبة الماية تتغنى أشعارها في كناش الحايك  بالعشايا، “شمس العشي قد غربت واستعبرت…” في قدامها؛ “ياشمس الغروب” في القائم ونصف…إلخ، وأشعارطبع العشاق يُتغنى بها في الصباح، وهي كلها في التغزل بانبلاج الصباح وإطلالة الشروق…إلخ.

 لكن لاحظ كيف قام الصوفية بالتصويف والمغربة على هذا المستوى، فحين يأتي الشيخ “سيدي محمد الحراق”، ويَنْظِم قصيدة يعارض من خلالها قصيدة/برولة: “الصبح كشريف أرخى ذيل إزارو”، وهي  قصيدة تتغنى بالصبح، الصبح  وتستعمل في قدام طبع العشاق؛ لأن هذا النغم يستعمل في الصباح..

 أقول حين يأتي الشيخ الحراق ويتغنى بنفس اللحن والطبع في شعر آخر، كله في الأحوال والمواجيد والحث على الذكر والتقرب من الله بالمحبة، وذلك في قصيدته التي عارض بها البرولة المذكورة، ووهي قصيدة/برولة: “صاف الحبيب تظفر ببديع أنوارو”؛ فإن الشيخ الحراق ماذا يقوم هنا بفصل الطبع عن زمن الإنشاد الذي ربطته به نظرية الطبوع، وبدل أن يربطه بزمن فيزيقي وهو الصبح، سيربطه ويصله بزمن لا تاريخي متعال؛ وهو زمن الذكر الذي لا ميقات له، إذ المؤمن مأمور بالذكر في كل وقت وحين. لنلاحظ هنا الأبعاد الفلسفية العميقة التي تنجم أو تترتب عن عملية التصويف ومن خلاله عملية المغربة.

 أريد أن أشير في قضية المغربة أن المغاربة، كما تفضلتم وتفضل الأستاذ “عبد الإله”، قد انفتحوا في السماع على كثير من الطبوع والإيقاعات، وكما تفضلتم أستاذي ابن عبد الجليل و أشرتم إلى الجناية التي تمارس على طرب الآلة حين يتم استدخال مقامات شرقية لا تتلاءم مع بنيتها وهويتها وقالبها ومقومات انسجامها الفني والموسيقي، فإنني أسجل، تبعا لذلك، مفارقة لافتة، مفادها أن أهل فن السماع ما فتئوا يطلعون بمغربة الوافد؛ وذاك من حرصهم على التميز في انفتاحهم، في حين أن هؤلاء الذين “يجنون” على فن الآلة يقومون بمشرقة الأصيل أو بالأحرى تهجينه، وهو أمر فيه من الخطر والضرر ما لايخفى.

 فحين استعمل مثلا المغاربة مقام النهاوند، وهو مقام شرقي لا يتجادل في هويته هاته اثنان، لم يستعملوه بصورته المشرقية، على تعدد ألوانها، بل مغربوه من حيث الاستعمال والأسلوب، وبنفس التعامل خصوا مقام الصيكة حينما مغربوها؛ حيث أخضعوها للأسلوب الإنشادي الفني والتداولي داخل الزوايا، لكي تنتقل من صورة مقام شرقي إلى صورة طبع مغربي، بحيث تصبح ملكا لهم، وبهذا يتم توطين الوافد، ليصبح هذا الآخر جزءا من الذات، ويستحيل الدخيل أصيلا، وذلك حتى يتلاءم  مع الوظائف التي يريد المغاربة أن يضطلع بها من خلال استعمالهم إياه في ثقافتهم  و داخل زواياهم.

على أن المغاربة، من خلال هاته المغربة، كانوا يبصمون توقيعهم الموسيقي في الديوان الكوني للفن، فهاته الإضافة المغربية لم تكن إضافة محلية فحسب، بل توقيعا مغربيا في سجل الألوان الموسيقى الروحية العالمية، حتى صارت الأذن العالمية تستشعر الملمح المغربي في استعمال كثير من الأنغام ذات التنويعات الثقافية العالمية. وهاته الكونية الرائعة الخفية هي التي علينا أن نقوم بتجليتها..

 خذ أي نفقة مثلا في فن السماع، (ويعني مصطلح النفقة في معجم أهل هذا الفن ذاك الترتيب الفني  للأشعارالمنشدة بحسب الانسجام الدلالي والنغمي والإيقاعي)؛ أقول خذ أي نفقة من النفقات التي أوردها  “الشيخ الدلائي” في رسالته،  ستجد تجاور أسماء شعرية صوفية متنائية في الزمان والمكان، كما ستجد تَحاور نصوص شعرية صوفية اختَلف أهل الظاهر في تصنيف أصحابها بين “تصوف سني” وآخر “فلسفي إشراقي”، وهي تصنيفات تحتاج إلى مزيد تأمل ومراجعة على مستوى النظرية والفهم.

ذلك أنه على أرض المعاني وفي مملكة الأذواق وفي حضن الحقائق العرفانية تنمحي هاته التصنيفات، وخلال نفقات السماع، وخصوصا السماع المجرد، ينمحي على هذا الصعيد حد الزمان، ويذوب اعتبار المكان، بل ينمحي حد التصنيفات العقلية الغريبة على لغة القوم؛ تلك التصنيفات التي يضعها أناس غير ذائقين لمذاقات أهل العرفان.

لاحظ هنا أيضا، أننا إزاء عنصر من عناصر المؤالفة الروحية التي تعتبر أيضا توقيعا ذا بعد كوني، حيث التخلى عن اعتبارات التنائي الزماني والمكاني، واعتبار التصنيفات العقلية على اختلافها، ليأتلف في نفقة السماع العارفون بأذواقهم ومواجيدهم وأحوالهم ومنازلاتهم الروحية، معبرين عن تنوع في طرق السير وتوحد في وجهة السفر الأبدي نحو التحقق بالمعاني العرفانية المطلقة التي لا تستنفد.

هكذا، إذن، ومن خلال عنصري التصويف والمغربة اللذين يطبعان فن السماع بعلامات كونية لامعة، وعبر وضع هاته التوقيعات من خلال أيضا آليتي الإبدال والتوليد، حسب المصطلحين الجميلين للأستاذ عبد السلام طويل،  نلاحظ كيف أن المغاربة عملوا على إغناء هذا الفن وإعطائه بعدا تأسيسيا ما يفتأ يتبلور ويتطور، كما وضعوا لبنات رئيسة لأفق فني روحي متجدد..

 فحين يقول الشيخ “الدلائي” في رسالته: “من وجد شيئا فليضفه هنا”، وحين يقول إن ما أورده من نفقات ومستعملات  في “فتح الانوار” هو  “مجرد سُلَّم”؛ أي نموذج للعمل، و من ثم لا تحجير على من يحسن التصرف، حيث يدعوه أن يطنب أو يختصر أو يستبدل الأشعار بحسب ما يقتضيه النظر والمناسبة، حينذاك ندرك أننا إزاء مشروع إبداعي روحي مفتوح لا يسلم بوجود مدونة سماعية مغلقة صالحة لكل الأوضاع والأزمنة والمناسبات، انفتاح يضمن أمرا جوهريا؛ يضمن أن نستعمل التجديد في فن السماع كآلية من آليات المحافظة..

 وهذه فكرة رئيسة تحل معضلة كثير من الناس الذين تقلقهم ثنائية يبدو طرفاها متناقضين في أدهانهم، أعني ثنائية المحافظة والتجديد، فنحن هنا أمام تجديد يضمن المحافظة، لأنه تجديد مؤصل مبني على خلفية معرفية وبعد وظائفي وإطار من خلاله يؤدي فن السماع دوره الروحي بأدوات فنية متجددة تليق بهذا الدور.

وهنا أتفق مع أستاذنا “ابن عبد الجليل” على ضرورة إعادة النظر في بعض ما أصبح يطول هذا الفن من انحرافات في بعض الممارسات. ففن السماع  فن جمال وجلال، وهو أبعد ما يكون عن التغني الممهور بالغَنَج والتثني والانكسار، وهو مرتبط بوظائف تربوية تخليقية روحية تجد ترجمتها الفنية في روحانية النغم والإيقاع والأداء وطقوس التلقي. وهذا ما يجب استحضاره عند كل مدع للتجديد.

 بهذه العلامات والملامح، نستطيع القول إن فن السماع  وضع توقيعين؛ توقيعا روحيا مغربيا من خلاله فتح أفقا كونيا لإسهام المغاربة في الاستجابة لاحتياج روحي كوني للمعنى، وتوقيعا فنيا يروم أداء وظيفة أساسية هي الجمع بين الأخلاق والجمال، بين بهاء القيمة وقيمة البهاء، بين عمق المعرفة وألق التعرف،  وهو أمر  تحتاجه بقوة حياتنا المعاصرة.

عبد السلام طويل:

أشرتم إلى الأبعاد الفلسفية لفن السماع، وقد ألمحتم إلى أن هناك علاقة بين فن السماع فيما يتصل بعملية التوتير التي لها أصل ديني؛ من منطلق أن الله تعالى “وتر يحب الوتر”؛ وهو ما يؤكد أن السماع كفن له ارتباط بالتنغيم وبالموسيقى والإيقاع في علاقته بالتصويف؛ لا يعرف الانفكاك بين ما هو رؤيوي، وماهو تصوري. وبالتالي فإن الإبداع في فن السماع بهذا المعنى الفلسفي، ليس بالأمر البسيط؛ لأنه يحتاج إلى تمثل تصوري عميق يقوم على نوع من التشرب الوجداني والشعوري، لا يعرف الانفكاك بين ما هو رؤيوي تصوري، وما هو عقائدي تصوفي، وما هو سماعي جمالي؟

عبد الإله بنعرفة:

في الحقيقة هذا السؤال سؤال رفيع، ويضعنا في صلب ديمومة هذا الفن، وشروط استمراريته، إذا انعدمت هذه الرؤية التي تحدثنا عنها، هذه الرؤية التي ينعدم فيها التركيب، لقد تحدثتم عن محو الزمان، من خلال النقاش الذي جرى قبل قليل، واسمحوا لي أن أختلف معكما في هذه القضية، في الحقيقة تجاور أشعار من أعصر مختلفة وأسماء متعددة بأنفاس مختلفة، نجده يتجاور في نَفْقَةٍ واحدة، والمنفق عادة إنسان ميسور.

هذه الاصطلاحات التي يستعملها فن السماع. إن منسق حصة في السماع يسمى “النَّفَّاقْ أو المتصرف”؛ فهو متصرف في شيء، وهو ينفق من شيء في شيء،﴿لينفق ذو سعة من سعته﴾، هذا إنسان له شيء، لكنه يعتبر نفسه فقيراً ويسمى كذلك، ولكنه في حضرة الذكر يصبح مُنفقاً ونَفَّاقاً. وبهذا الاعتبار يصبح غنيا..

 هذه معادلة يجب أن نتنبه إليها، كما يقول “الششتري” رحمه الله: “قد اتحدت هاء الفقيه برائنا – وقد فُتحت فَكّا لِفَكٍّ من القبر”. قد اتحدت هاء الفقيه؛ لأن نهاية الفقيه هي في حصر دائرة قبر الهاء، ولكن الهاء إذا انفتحت تصبح راءً، أي يصير المفتوح عليه فقيراً، قد اتحدت هاء الفقيه برائنا، وقد فُتحت، الضمير يعود على الهاء، وقد فتحت، فكا لفك من القبر، فالفقيه محصور في دائرة قبر الهاء، ولكن هذا الفقيه-الفقير يصبح بعد الفتح (حسا ومعنى) جامعاً للحقيقة والشريعة.

فالشريعة هي المنطلق وهي المبدأ، فهو فقيه بداية، وهو فقير نهاية، وبجمعه بين هذين البحرين، بحر الشريعة وبحر الحقيقة يكون أهلا لأن يتكلم، وأهلا لأن يصبح هذا المنفق الذي ينفق من سعته. فإذن، الزمان ليس مفنيا بالمَرَّة، وإنما هو في ذات هذا العارف، فهو في قبضته؛ لأنه هو مَشرق الأنوار ومغرب الأسرار.

فإذن، هذه القضية أساسية، ولهذا إذا طالعتم أشعار “الششتري” وأشعار “الحلاج” وغيرهم، نلاحظ أنهم يتحدثون عن هذه القضية، فالشموس تشرق من ذاته، والأقمار تطلع من ضياء صفاته. أنا لا تسعفني الآن الذاكرة حتى أستعيد هذه الأشعار حتى أُبيِّن هذه القضية، وهو أنهم في الآن الدائم؛ لأن الزمان ليس وثنا من الأوثان، فهو من مقتضيات الألوهية وقد أقسم الله سبحانه وتعالى بـ “والعصر”، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: “لا تسبّوا الدهر فإن الدهر هو الله”، فإذن، لا يمكننا الحديث عن إفناء الزمان.

هذه قضية مستحيلة وغير معقولة، فكيف نفني من لا يفنى؟ ولكن الزمان يصبح في ذات العارف، يصبح شيئا منه وفيه؛ حينما يصبح مؤهلا لكي يتخلق بهذه الأخلاق الإلهية التي من ضمنها الزمان، إلا أنه ليس كونا من الأكوان التي تقبل الفناء، وإنما هو هذا الَّنفَس السائل الذي يسبح فيه الوجود. فإذن، هذه القضية أساسية للحديث عن هذا الأمر.

 يمكن أن نتحدث عن هذه القضية وعن الأبعاد الفلسفية بشكل آخر. “ابن سبعين” الذي هو شيخ “الششتري”، صنف أنواع الطالبين، وقسمهم إلى خمسة أقسام: الفقيه، والأشعري، والفيلسوف، والصوفي، والمحقق أو المقرب. هؤلاء هم أصناف الطالبين. المحقق هو الذي بلغ أعلى رتبة وجودية في التحقق بعلم السفر في مراتب الوجود حتى وصل إلى العين.

المحقق إنسان آخر غير الصوفي؛ بمعنى، أنه هذا الذي جاز واجتاز هذه الشفعية الموجودة في الأكوان واستطاع أن يصل إلى مرتبة التحقيق. هذه هي الأبعاد الحقيقية التي يمكن أن نتكلم عنها، والتي تقينا من الوقوع في مهاوي الرَدَى، ومن هذه الانحرافات التي تحدثت عنها؛ لأن السماع ليس حلة ظاهرية، وإنما الظاهر ما هو إلا مرآة للباطن. يجب أن ينعكس على الظاهر ما في الباطن، ثم يُفْني حامل هذا الأمر هذه الشفعية في ذاته فيصبح وترا.

طبعا تحدثنا عن ميزان الدرج، الذي هو الميزان الخامس من الميازين. ربما يمكننا أن نقارن صنيع أرباب السماع بصنيع “زرياب”، لما أدخل الوتر الخامس في العود؛ لأن نظرية الطبوع نظرية رباعية، وهي نظرية أرضية لأن التربيع أرضي. أما التخميس الوتري فهو سماوي علوي، فلابد من هذا الخيط الناظم، هذا القطب، هذا الركن الخامس؛ لأن الحفظ مرتبط بالتخميس، فالصلوات الخمس تحفظ يوم المؤمن، وأركان الإسلام الخمسة تحفظ دينه.

انسجاما مع هذه الرؤية الإسلامية الروحية، حاول الصوفية وأهل السماع، أن يطبقوها ويتمثلوها في المجال الموسيقي المرتبط بالذكر، وبالتالي فجَّروا نظرية الطبوع من الداخل، وكما قال الأستاذ “محمد التهامي الحراق” حولوا قضية نقل بعض الأشعار من مجالها التداولي الأرضي إلى مجال آخر علوي، وهو مجال الحقائق.

 تفجرت إذن هذه النظرية، نظرية الطبوع؛ لأن الزمان هنا لم يعد كونا من الأكوان، وإنما صار آناً دائما  l’instant qui dure تأكيداً لما يتداوله الصوفية فيما بينهم من أن “الصوفي ابن وقته”.  إن مادة سير أرباب السماع هي الأنفاس، التي لا كمَّ لها؛ لأن مستندها وأصلها هو نفَس الرحمان، فهذه نقطة أساسية تجعلنا نرى هذه الفروق الشاسعة بين السماع وبين موسيقى الآلة.

 إن موسيقى الآلة تمر الآن من أزمة خطيرة؛ لأنها لا تحمل عناصر التجديد الذاتي، لا في الشعر ولا في النغم، ولا في الإيقاع. وأقصى ما يطمح إليه أهل الآلة الآن هو أن يحافظوا على ما هو موجود، ولكنهم وللأسف الشديد لن يستطيعوا بلوغ هذا الأفق الذي يطمحون إليه. هناك قاعدة أساسية مفادها أن أفق مطالب الإنسان ينبغي أن يكون أعلى من أهدافه حتى يستطيع الوصول إلى الهدف المنشود.

الإنسان حينما يريد أن يشتري سلعة معينة يطلب منه صاحب السلعة ثمنا، ثم هو يعطي ثمنا آخر فيتوافقان على ثمن يتراضون حوله هو قطعا أدنى من طرف وأعلى من طرف آخر. كذلك حينما أقول بأن مرمى ومطمح السماع هو الإنسان الكلي أو الكامل الذي هو مختصر العالم، وهو نسخة الأكوان، وهو المثل الأعلى، فإذا كان هذا هو الأفق الذي يرمون إليه، فإنهم حتما سيصلون إلى الإنسان وإلى الإنسانية التي تشتغل عليها “العلوم الإنسانية”.

 ولكن إذا كان مرمى الإنسان من حيث هو إنسان فقط من دون مثاله الأعلى، فهو سيصل إلى نقطة أدنى من الإنسان الذي انطلق منه، ليصل إلى الإنسان-الحيوان. وهذا ما نلمسه في بعض مظاهر الفنون التي ظهرت اليوم في الغرب. ومن أبرز نماذجها هذا الضجيج المركَّب والصخب الهائل مع الموسيقى الإلكترونية، ومع أولئك الذين يعبدون الشيطان (أنتم تعرفون هذه القضايا)، وما يعرف بالفن القذر.

وكل هذا بسبب البعد عن جوهر الإنسان والغاية من وجوده في هذا الكون. وأصل الموسيقى ترنيمة روحية في محراب الوجود. وإذا وقع هذا الفصام وهذا الطلاق مع هذا الأفق الروحي، فإنها تنتكس إلى الوراء ويصبح أفقها أفقا حيوانيا بهيمياً، بل هو أَدنى من الحيواني والبهيمي. إذن، السماع يعطينا هذا الأفق المشرق الذي نطمح إليه.

 ولكن واقع السماع اليوم إلا ما شذ منه، محكوم بهذا الانحراف العام في المنظومة المعرفية والأخلاقية والسلوكية. وأنا أتكلم من موقع معرفتي بهذا المجال، ونرى أنه أصبح مجالا للتكسب ومجالا للظهور وللحصول على أغراض دنيوية تافهة، وانقطع عن هذا المصدر المشرق الروحاني إلا ما شذ، والشاذ لا حكم له. لكن هذه الفئة الناجية مازالت متمسكة بهذه الجذوة النورانية، وتقوم بوظيفة الشهادة الحضارية، وبتمرير هذه الرسالة إلى الأجيال المقبلة في صفائها ونقائها.

والآن علينا أن نسعى إلى أن نعيد ربط السماع بمجاله التداولي الحقيقي الذي هو ركن الإحسان، أو التصوف بصفة عامة، برسالته الكونية كما تحدثنا عن ذلك؛ لأنه لا يجب أن يكون مرتبطا بتلك الأهداف الدنيوية الضيقة، علماً بأن المرء سيحصلها تبعاً لثمرات ما سعى إلى غرسه ابتداء.

على السماع اليوم أن يقدم هذا النموذج الأخلاقي العرفاني. وقد بدأنا نلمس بعض بوادر نجاح هذا الأمر. والدليل على ذلك هذه المهرجانات أو الملتقيات الفنية الدولية التي يكون السماع في الطليعة ليقدم الصورة المشرقة عن حضارة الإسلام، على الرغم من بعض الجوانب التي يمكن أن نتحفظ عليها.

 إذن، هذه نقطة أساسية، إن التضخم الذي يعرفه هذا المجال في بلادنا، لا يجب أن يخفي عنا حقيقة السماع، وهو أنه في تحول، وأن هناك أزمة حقيقية فعلا. ويجب التفكير فيها بشكل هادئ حتى نضمن بقاء هذا الفن ناصعا بما يفترض فيه من نصاعة.

لما تحدثت عن تسجيل هذا التراث؛ أي “السماع” في لائحة التراث الثقافي اللامادي؛ كنت أقصد منه الشق الفني فقط؛ لأنه هذا جانب، هذا يمكن أن نحافظ عليه، أما الجانب الآخر الذي تحدثت عنه الآن، فهذا يدخل في إطار ما يمكن أن نسميه: “الإشهاد الحضاري لأمة الإسلام على سائر الأمم”: ﴿وكذلك جعلناكم أمة وسطا، لتكونوا شهداء على الناس﴾ (البقرة: 142).

 انطلاقا من هذه الآية الكريمة، أظن أن هذه إضافة ربما كانت أساسية للتحدث عن تلك الوترية التي تحدثت عنها، والتي هي حقيقة نجدها مثلا في “الحُلَل” التي تستعمل في العمارة؛ وهي أنغام في الجلالة، “لا إله إلا الله”، سبعة أنغام. ويتم الانتقال بينها بهيئة معينة وجلسة معينة، ثم يدخل الإنسان في الذكر.

وقد جعلوا هذه الحلل على سبعة أنغام، ولهذا الأمر علاقة بالأسماء الإلهية السبعة. إن هذا الربط الذي أوضحته الآن بين الحلل السبع والأسماء السبعة الأمهات لم يذكر سابقا، ولم يكتب عنه أحد. الإنسان يلج في ذكر الاسم المفرد، أنتم تعرفون أن الذاكر يجب أن يتحقق بهذه بالأسماء التي هي: “الحي، المريد، القدير، العليم، السميع، البصير، المتكلم”، هذه الأسماء الأمهات، هي التي تحكم سائر الأسماء الإلهية، وبعد أن يستوفي الذاكر هذه الأسماء، فإنه ينصبغ بها، ويلبس لكل اسم حلته، حتى يتأهل لذكر الاسم المفرد.

فهي مثل الأشواط السبعة التي يقطعها الطائف في طوافه بالبيت الحرام، كذلك هذه الأسماء السبعة تطوف بالاسم المفرد (الله). وحين يستوفي طوافه يحق له أن يقول: “الله” بملئ كيانه كله، بكل سكناته وحركاته؛ لأنه انصبغ في تلك اللحظة الكلية بذلك الاسم، وحل في ذلك الآن الدائم بحقيقة هذا الاسم. بل إنه يصبح هو ذاته اسما ناطقا، هو عين ذلك الاسم.

جمال بامي:

في قضية البعد الفلسفي لفن السماع، هذه القضايا التي ذكرتم في الحقيقة أعتقد بأنه شيء كبير على جميع المستويات، ولكن هناك إشكال واحد، وهو هذا المرور من المستوى العمودي إلى المستوى الأفقي، تكلم الأستاذ “عبد الإله” على قضية تبليغ رسالة السماع، أنا يظهر لي أنه لا يزال هناك إشكالا مطروحا، وهو هذا التنزيل، كيف السبيل، لإبراز هذا الجانب الفلسفي الرؤيوي البنيوي المتعالي المطلق الكبير، عمليا للشباب للناس، هذه الحلقة المفرغة في التأثير الآن؟

أنا أريد أن أقول، في بعض الحالات، قد يكتسي السماع بعض المظاهر الفولكلورية، وهذا إشكال، بالتالي هنا نحن إزاء رسالة مفقودة، والشباب في حاجة خارقة إلى إبراز هذه الجوانب الوجودية التي هي شيء كبير، لا يمكن إلا أن تؤثر في الشخص المتوسط الثقافة، فما بالك بالعميق الثقافة، لذلك هناك وسيلة إلى إبراز الإسلام الروحي المتعالي بروعة إذا اشتغل على هذا التنزيل، “فقه التنزيل”. هذه نقطة أولى، نقطة ثانية: وهي أنا أثارني فكرتي التصويف والمغربة، وتكلم الأستاذ الكبير على القضية الخاصة بأن التصويف الذي هو تصويف كوني بشكل طبيعي، السؤال الذي يطرح نفسه: كيف تصبح هذه المغربة كونية؟ هذا سؤال يتطلب شيئا من العمل؛ كيف يمكن أن ننطلق من المغربة إلى الكونية؟ مادام أن الانطلاق من التصويف إلى الكونية، هي جزء منه؛ أي “تصوف كوني”، ولكن كيف تصبح المغربة كونية لكي تتحقق المعادلة؟

عبد الإله بنعرفة:

هذا السؤال لا يطرح فقط في هذا المجال، نحن نعرف الآن أن الذي ينتج الكونية هي المراكز، والمركز هو الذي ينتج الكونية، أو الحديث عن الكونية وذلك في مجالات متعددة، والهامش عليه أن يخضع لشروط ومعايير تلك الكونية لكي يقال عنه بأنه يكتب بطريقة كونية. الجميع يتحدث عن الكونية ويصفها بأنها كذا وكذا وكذا. لكن ما هي هذه الكونية؟

هل هي أن نتحدث عن الشذوذ مثلا ونُطَبِّعَ معه؟ هل هي أن لا يكون لنا انتماء ثقافي حضاري؟ هناك أشياء كثيرة، وهناك مؤسسات مسيخة في بلداننا ترافع من أجل هذه الكونية المُدَّعَاة. ولا يحتاج الغرب أن يفرض علينا هذه المعاير مباشرة، وإنما هناك وسطاء يقومون بفرض تلك المعايير بالوكالة، ويسهرون على تطبيق شروط تلك (الكونية) محليا.

لكن الضمائر الحية المبدعة والأصيلة مطالبة بإنتاج كونية بديلة  أمام هذا الاستلاب. فكيف المرور من الخصوصية إلى الكونية؟ أنا أعيد صياغة السؤال بهذه الطريقة بدل القول “من المغربة إلى الكونية” كيف الانتقال من الخصوصية إلى الكونية؟ ليس فقط في هذا المجال، مجال السماع، بل حتى الآن في مجال الثقافة..

 نحن متمسكون بخصوصيتنا، نقول: لدينا خصوصية إسلامية إزاء التشريعات الدولية ويمكن أن نطبق أشياء، لكن لدينا خصوصيتنا، ونتحفظ على بعض البنود في قضايا متعددة. المغرب يتحفظ على بعض بنود الاتفاقيات، والدولة الفلانية تتحفظ عن بعض المقتضيات في كذا وكذا. لكن من ينتج هذه الكونية، وهذه التشريعات التي توصف بأنها دولية؟ هذا سؤال عام لا يطرح فقط على مجال السماع.

إن التفكير في مثل هذا السؤال هو تفكير حضاري تساهم فيه جميع الشعوب، انطلاقا من أنه في لحظة من اللحظات تصبح الخصوصية هي عين الكونية، وهنا تقلب الآية ولا يبقى هذا التناقض بين الطرفين، حيث يتحد الخاص والكلي؛ لأن كل منا يستبطن عناصر الكونية انطلاقا من خصوصيته؛ ولأن الإنسان مخلوق على فطرة واحدة، وهذه الفطرة هي التي تحقق فيه تلك الكونية وتلك العالمية. يجب أن يحسن الانتقال من خصوصيته إلى الكونية ليقع في ذلك المشترك الإنساني الذي يقبله الجميع.

كيف ذلك؟ مثلا بالنسبة للسماع، يجب أن ننظم مهرجانات وملتقيات لهذا الفن وغيره من الفنون تحقق هذه الشروط، أن يكون هناك دفتر تحملات، نحن لا نقبل أيا كان لكي يشارك في المهرجانات إذا لم يكن يُحقِّق في الجلسة، في اللباس، في الأشعار المتغنى بها، في التجديد المطلوب في فن السماع نغميا وإيقاعيا وتداوليا.

مثلما تقوم المنظمة الدولية بتحديد شروط مسبقة يتوجب توافرها في أي تراث يُراد إدراجه ضمن تسجيل التراث العالمي، نقوم نحن كذلك بتحديد شروط المشاركة في هذه الملتقيات. إذا ما قمنا بتنظيم مؤتمرات دولية وندوات دولية كبرى حول شخصيات وأعلام، من طراز “الششتري” أو “ابن الخطيب” أو “ابن العربي الحاتمي”، فيتعين أن يكون ضمن فعالياتها عروض وإبداعات لفن السماع، ليس على هامشها (festival off)، كما يقال، وإنما في قلبها كعنصر مؤسس؛ لأن فنون الهامش تبقى في الهامش.

لا يمكن للمعرفة أن تتجسد وأن تتشظى بهذا المعنى إلى قسمين. جميع الفلسفات الرصينة التي اشتغلت على أعمال فنية، مثل الأسطورة، والموسيقى، والآداب،  والنحت، استطاعت أن تعطي وتنتج أشياء في غاية النفاسة وفي غاية الأهمية. هذه عناصر كافية للإجابة عن هذا السؤال، وشكرا.

التهامي الحراق:

فيما يخص الشق الثاني من السؤال، كفاني الأستاذ “عبد الإله” ما يتعلق بالعلاقة بين المغربة والكونية؛ وقد سبق لي أن بينتُ أنه كلما كنتَ بالفعل تبصم بصمة متفردة حقا على المستوى الخصوصي، فسوف تجد موطئ قدم في الكونية، وكلما سايرت المعايير السائدة والسائرة باعتبارها المعايير الموصلة للكونية فأنت في نهاية المطاف تكرس “كونية غيرية” لا إسهام لك فيها؛ لأنها خلو من إمضائك وتوقيعك. بهذا المنطق حين أشتغل على فن السماع بملامح المغربة، ما معنى المغربة؟

إنها ملامح أحاول أن أتفرد بها، توقيعات جديدة، إضافات لا سابق ولا نظير ولا شبيه لها. بهذا المعنى أنا أضيف من خلال لغتي لسجل الإنسانية، ومن خلال الشكل الموسيقي لثقافتي إلى تنوع الإنسانية.

على أن التواصل والتثاقف الذي ينشأ بين الثقافات المختلفة، هو الذي من شأنه أن يضع كل تلك الإضافات موضع اختبار وامتحان ليتضح ما إذا كانت تستحق أن تنضاف إلى هاته الدائرة المعتبرة كونية، إن كانت لها القدرة على مجاوزة حدود الخاص وتحدي قيد الزمان، أم أنها سوف تتموقع في المنسي وتموت لفقر في إبداعيتها. أما فيما يتعلق بفقه التنزيل، فأتفق معك، جملة وتفصيلا.

عبد السلام طويل:

تمت الإشارة في البداية إلى أن من مميزات المقاربة العلمية للدكتور “التهامي” لفن السماع، ربطه وطرحه لهذا الفن طرحا وظيفيا، ثم ربطه بالتنشئة الاجتماعية. ألا ترون أنّ هذا الربط بالتنشئة الاجتماعية قد يشكل مدخلا وظيفيا إجرائيا لتحقيق ما طالبتم به؟

التهامي الحراق:

تماما، وهذا الأمر دائما ما أتحدث فيه مع الأساتذة الأجلاء، هناك آفات أربع يجب أن نتجاوزها لكي نحسن تنزيل فن السماع بخلفيته الجمالية، ومرجعيته الإسلامية التأصيلية، وبعده الروحاني الباذخ، ووظيفته التربوية العميقة، هاته الآفات أجملها في أربع: الإفشائية، والفولكلورية، والحظوظية، والطقوسية.

سأبدأ بالإفشائية: ما معنى الإفشائية؟ الإفشاء يعني هنا الصدع بالسر حيث يجب أن يُكتم، وهذا التوصيف مستعار من لغة الصوفية، وننظر فيه لقول الشيخ الحراق في رائيته الشهيرة:

وألقت فيه سرا ثم قالت             أرى الإفشاء منك اليوم عارا

 وقد كان الصوفية دائما يتحدثون عن ضرورة إخفاء السر عن غير أهله؛ فقد اشترطوا لإقامة السماع بطقوسه الروحانية المخصوصة شروط الزمان والمكان والإخوان، بل جعلوا سماع الحقائق (سماع كلام القوم) بوجه خاص مما يُضن به على غير أهله. ومن ثم لا يمكن أن يستفيد من هذا السماع إلا من تأهل بالرياضة والمجاهدة وتحقيق النسبة وإخلاص الصحبة والمداومة على الأذكار والأوراد..إلخ، لماذا؟

لأن هذا السماع لا يُحدث في القلب شيئا وإنما يُحرك ما فيه،  وقد قالوا: لا يصلح هذا السماع إلا لمن كانت نفسه ميتة وقلبه حي. ومن ثم فقد يفقد هذا السماع هويته الروحية إن استُعمل في غير نسقه، مما قد يجعل الوسيلة تزيغ عن الغاية، أعني الغاية التربوية الروحية التي يطلبها القوم من الموسيقى في نسقهم الصوفي والمشروحة آنفا. الآن ما الذي حصل؟ أُخرج فن السماع من الزوايا إلى الفضاء العام للمجتمع؛ للإعلام والقنوات والملتقيات والمهرجانات..إلخ.

هذا أمر استدعته الحاجة الراهنة إلى التصوف في وجهه الجمالي كما سلف، مثلما اقتضته المرحلة التاريخية  التي عرفت انحصار أدوار الزوايا بعد أن افتقدت كثيرا من الوظائف التي كانت  تضطلع بها في المجتمع التقليدي كمؤسسات تأطيرية للمجتمع؛ وظائف تعليمية وسياسية واجتماعية واقتصادية وقضائية وجهادية لم تعد من مجال عملها بفعل عملية التحديث التي طالت المجتمع؛ والتي كان من نتائجها توزيع قطاعات العمل هاته على مؤسسات الدولة الحديثة (التعليم، القضاء، الاقتصاد، الدفاع…)، واستئثار مؤسسات الأحزاب بالعمل السياسي ومؤسسات المجتمع المدني بالعمل الحقوقي والاجتماعي..إلخ.

هذا التراجع التاريخي لأدوار الزوايا أثر على حضورها العام حتى في المجال الروحي الذي يعتبر نطاقها الخاص، فكان من آثاره أن خرج فن السماع إلى الفضاء المفتوح للمجتمع ليعلن عن نفسه باعتباره “فنا” من الفنون الإسلامية التراثية، لكن هذا الخروج، وللسبب نفسه أي الضعف التأطيري الروحي للعديد من أبناء الزوايا، لم يكن محصنا بالاحترازات اللازمة الكفيلة بالحفاظ على روحانية هذا الفن و”صون سره الذوقي عن غير أهله”..

 ذلك أننا حين نقلنا الجلسة السماعية من فضاء الزاوية المغلق، ومن النسق الصوفي الخاص، ومن روحانية المكان و تجانس الإخوان؛ حيث اتعاش سيميائية المقدس من خلال مختلف المؤثثات المستحثة لمواجيد خاصة، وهو الأفق الخاص الذي يضطلع فيه السماع بوظائفه المخصوصة بل منه يستمد هويته..

 حين نقلنا السماع إلى الفضاء العام للمجتمع، أصبحنا إزاء وضعية جديدة يُفشى فيها “سر” القوم إلى “الجمهور”؛ بحيث يسمعون أشعارا قد لا يفقهون دلالتها،  أشعار عشقية تتغنى  برموز غزلية مثل “ليلى” أو “ميا” أو “لبنى” دون أن يستطيع  المتلقي أن يفرق  بينها باعتبارها غزليات روحية لها بعد إشاري روحي خاص يذاق ولا يعقل وبين الغزليات الحسية السائرة والمعروفة، ونفس الأمر مع نصوص الخمريات الصوفية؛ كما أصبح “الجمهور” من غير “الفقراء والمريدين” يرى طقوسا إنشادية وأحوالا وجدية لا يمتلك معرفة كافية بخلفياتها وأبعادها بله التأهل الوجدي والروحي لتذوقها.

هذه هي آفة الإفشائية؛ أي إخراج وإفشاء السماع بما هو مجلى من مجالي سر الصوفية خارج نطاقهم دون احترازات تثقيفية تأهيلية للمتلقي لكي يتلقى  مرددات حلق الذكر وإشارات كلام القوم وأحوال الذاكرين وفق شروطها، وهذا ما أحدث خللا فادحا في تلقي سماع كلام القوم تعيينا. الأمر الأول الذي نحتاجه، إذن، لكي نحسن تنزيل فن السماع اليوم هو أن نعالج مشكل ما أسميه “الإفشائية”.

الآفة الثانية هي “الطقوسية”؛ وهذا الآفة لا تتعلق فقط بفن السماع، بل تتعلق بشكل أكبر  بما يسمى عندنا بـ”موسيقى الطوائف الصوفية”، بحيث إن كثيرا من أشكال الموسيقى التي تعتبر إرثا جماليا روحيا نفيسا، قد أصبحت طقوسا فارغة من كل معنى لما انفصلت عن خلفيتها المرجعية وعن نسقها الصوفي وعن إطارها التربوي، وكثيرة تلك المظاهر الطقوسية التي هي مثار انتقاد،  سواء على المستوى الفني أو على المستوى الروحي أو المستوى العقدي، و لعل العلة الأولى  في هذه الآفة تكمن في انفصال تلك الموسيقى عن الإطار العام المعرفي والمرجعي والوظيفي التربوي الذي انبثقت منه وانتعشت في سياقه.

الآفة الثالثة هي “الحظوظية”؛ ونشير بها إلى تغليب حظوظ النفس في المال والجاه والرياسة على التقيد بشروط إقامة السماع كما تقتضي ذلك طبيعته وظيفته الروحيتين؛ ذلك أنه حين ازداد الطلب على فن السماع ضمن التحولات التي أشرنا إليها سابقا، والتي أسهمت في إعادة الاعتبار للتصوف إجمالا، وخلقت الرغبة في الاستفادة من هاته الذخيرة الجمالية الروحية من أجل خلق حوار كوني مع ثقافات أخرى، ومن ثم تغيير النظرة المريبة للإسلام التي أفرزتها مجموعة من الملابسات والأحداث التي عرفها العِقدان الأخيران،  قلت لما ازداد الطلب على فن السماع ضمن هذه التحولات، ركب على هذا الطلب كثير ممن لم يَخْبِروا فن السماع، فنا، ومرجعية، ووظيفة ضمن الزاوية، وأصبح رهانهم عليه رهانا كسبيا نفعيا يتغيى تحصيل حظوظ مادية ودنيوية، وذلك على حساب المقومات الأدبية والطربية والروحية والتربوية لفن السماع.  وهنا يجب أيضا انتقاد هاته الحظوظية طلبا  لحسن تنزيل فن السماع بشروطه السليمة التي أسلفنا الحديث عنها.

الآفة الرابعة هي “الفولكلورية”، ونعني بها تقديم هذا الفن كفن مثل سائر الفنون؛ فيما الأمر يتعلق بفن وجدي روحي مقدس له صلة بالذكر ونسكيته، ذلك أن الأمر لا يتعلق بإبداع حسي أو بفن ترويحي أو بغناء دنيوي استهلاكي يطلب تحريك شهوات النفس أو استثارة غرائزها، ولكن الأمر يتعلق بفن يتعالق فيه الجمالي بالنسكي، والإبداعي بالروحي الديني. ومن ثم يوقع عدم استيعاب هذه الخصوصية في الفولكلورية.

فهذه الأخيرة، مع كامل الأسف، تعمل عملا مفارقا لما قام به أهل التصوف، فالصوفية قد حاولوا استثمار الأشعار الدنيوية، من غزليات وخمريات ووصف للطبيعة وما سوى ذلك، وتصويف رموزها و لغتها بل، أكثر من ذلك، كانوا يسمعون “سماعا روحيا” نصوصا دنيوية محضة، فيصرفون دلالاتها الدنيوية إلى معان روحية نابعة من تجاربهم الذوقية لا من مراد الشاعر وقصده. فتجد الصوفي يسمع كلاما قد يكون شعرا دنيويا كما قد يكون كلاما عاديا، كما جاء في “لطائف المنن” أن أحد الباعة كان يتجول في الطريق وكان ينادي: زعتر بري، زعتر بري، زعتر بري، فسمع أحد الصوفية منه أنه يقول: اسع ترى بِري، وآخر سمع: الساعة ترى بري؛ لأن منبع فهمهم من مواردهم ومواجيدهم لا من قول القائل ومراده.

لاحظ كيف أن هؤلاء الناس فهموا هذا الأمر، حتى من لغة العلوم، حيث قرؤوا وفهموا علوما دنيوية فهما إشاريا؛ فهذا “أبو القاسم القشيري” يتخذ عنده المعجم النحوي دلالات صوفية، وذلك في كتابيه: “نحو القلوب الكبير” و”نحو القلوب الصغير”، وهناك شروح إشارية عديدة على متن الآجرومية كما هو شأن شرح سيدي أحمد بن عجيبة، وهي شروح  تفهم الفعل والفاعل والاسم والخبر والجار والمجرور فهما روحيا يخرجه من دائرة نحو اللسان إلى نحو القلب والجنان.

لاحظ كيف أن القوم كانوا يرون العالم بعين قلوبهم، لكننا نجد اليوم العكس، حيث نرى كيف “تترنح” اليوم نصوص السماع النفيسة  حين يصرفها أهل الفولكلور عن دلالاتها الإشارية إلى دلالات حسية دنيوية، تفقدها جماليتها وروحيتها في آن.

ففي الوقت الذي كان ينحت القوم بمواجيدهم مسارهم الروحي التطهيري يأتي هؤلاء بردة في الفهم لينحرفوا بإشراقات القوم النظمية واللحنية نحو  مسار حسي تدنيسي.  وهذا المسار يحول فن السماع إلى رسوم وأشكال وصياح وقفزات لا روح فيها، بل ينحو بها عكس ما وضعت له و يحولها إلى فولكلور بالمعنى السلبي القوي الذي شرحناه. وهذا ما يلزم أيضا مراجعته طلبا حسن تنزيل الممارسة السماعية اليوم.

وعموما، إذا أعدنا النظر في هاته الآفات الأربع، وعملنا على إحياء الزوايا وإنقادها من كثير من الخلل الذي أصابها لاعتبارات تاريخية أشرنا إلى بعضها آنفا، وبذلنا وسعنا لتجديد وتحيين احتضانها للعلم والتربية ومختلف عناصر الإشعاع الروحي والإحساني والثقافي الذي كانت تضطلع به في شروط تاريخية سابقة، إذا استطعنا ذلك فسوف يمكننا من تجديد حضور فن السماع بقوته الأدبية والطربية ومن ثم الوظائفية في الزاوية و في الفضاءات المجتمعية الحديثة، طبعا مع ما يقتضيه ذلك من ملاءمة وحسن في التوظيف والاستثمار.

أفكر هنا في الاستفادة من فن السماع في المنظومة التربوية، في دراسة الآداب مثلا، أو تدريس القيم الإسلامية بأسلوب جمالي، هناك نصوص نبوية من الروعة بمكان، سيرة نبوية منظومة وملحنة كما هو شأن “همزية الإمام البوصيري”، كما يمكن الإفادة من هذا التراث الزهي والزاخر بألحان كفيلة بأن تحبب الأطفال في رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وترسخ تعلقهم بسيرته. هذه نماذج فقط وإلا فورش تجديد تنزيل فن السماع في علاقته بالشباب و القيم والحوار الحضاري وجمالية العبادة وتفاعل فنون الروح…ورش رحب وشاسع وواعد.

جمال بامي:

أنا أعتقد بأن الطبيعة هي أيضا مطلب كوني، أثارتني قضية الزعتر البري، أنا أعتقد ولو أن هذه القراءات التي قلت هي قراءات إشارية أو روحية، أنا في اعتقادي الحديث عن الزعتر البري نفسه، هو من مطالب الصوفية الأخيار، لماذا؟ ربما حتى شيخنا ماء العنين عنده شعر يقول فيه:

حلف الزعتر أمام النبي     ما من دواء إلا في

حتى الصوفية أيضا لهم علاقة بالأعشاب والنباتات والطبيعة، من هذا المنظور الكوني. فإذن، الحديث عن الطبيعة في ذاتها، أعتقد (والله أعلم) بأنها تنتمي أيضا إلى هذا المنظور الكوني، وقد كان “أبو يعزى النور”، رحمه الله، يأكل من طعام الكون، كان يعيش بالحشائش..

كما أعتقد بأن النظرة إلى الطبيعة من منظور جدلي، يربط الإنسان بالطبيعة، بالقرآن، ربطا جدليا ثلاثيا، أعتقد هذا هو المحدد الفلسفي لرؤية الصوفي والعارف للإنسان والكون والله، عز وجل، بالتالي أعتقد، ولو أني لست من المتخصصين، السماع لا يمكن في اعتقادي إلا أن يكون ضمن هاته الرؤية الوجودية.

 بقيت لي مسألة وهي قضية الإشارات، طرحتم كلاما رائعا جدا، في تأويل السماع، أعتقد أنه ينبغي عمل كبير أيضا؛ هذه الإشارات الخاصة بالوتر مثلا، الإشارة الخاصة بالخروج لبعض المقاصد (الدنيوية) إلى مقاصد متعالية روحية، أعتقد أن هذه الإشارات ينبغي أن تدرس أيضا، ينبغي أن تدرس لماذا؟ لأنها ترتقي بالأفهام؛ لأنها تولي أيضا للمثقف عموما وللحداثيِّ وغيره بأن قمة إعمال العقل نجدها أيضا في فن السماع، عند هؤلاء الذين يعني ظاهرهم بأنهم بعيدين عن هذا الأصل، هذه النقطة الأزلية الموجودة في أفكارهم، أعتقد بأنه عمل كبير ينتظر الباحثين من عياركم من طبيعة الحال والمؤسسات..

عبد العزيز بن عبد الجليل:

الواقع أن الحديث شيّق، والمنافذ متشعبة، ولكنني أريد، إذا سمحتم، أن أعود بكم إلى الجانب الفني من الكتاب، الواقع أن رجال الفن الأوائل الذين اهتموا بفن السماع، كانوا قد وُفِّقوا إلى تبيان الأسس والأصول التي يقوم عليها هذا الفن، وبذلك مكنُّوا هذا الفن من أدوات الحصانة والمناعة، وتتجلى هذه الأدوات؛ أدوات الحصانة والمناعة في أشياء معينة، أذكر منها مثلا: صلابة البنية الفنية لحصة السماع، وأذكر منها أيضا: الوضوح بالنسبة للطبوع أو لشجرة الطبوع التي تقوم عليها مستعملات هذا الفن، ثم بعد ذلك، ما اصطلحوا على تسميته بالعمل..

 والعمل هو البرنامج الدقيق الذي لا يقبل الزيادة ولا يقبل النقصان، وصنفوا هذا العمل في أصناف انطلاقا من اختلاف المدارس في ممارسة السماع، وأبرز هذه المدارس وفي مقدمتها: “المدرسة الفاسية”، وهي التي نظَّر لها عبد الله محمد العابد بن أحمد ابن سودة الفاسي في كتابه: “استنزال الرحمات بإنشاد بردة المديح بالنغمات”، وهناك بالمقابل مدرسة أخرى أحدث منها وهي مدرسة الرباط التي نظَّر لها صاحبنا “الدلائي”..

 والعمل الفاسي أو العمل الرباطي كلاهما إن هو إلا حصن حصين للمستعملات الموسيقية الخاصة بالفن، سواء استعملت بهذه المنطقة أو بتلك، ولطالما أن الممارسات تخضع للنسق الفاسي أو النسق الرباطي، فإنها تكون سليمة لا غبار عليها، هذه هي أهم ركائز أو دعائم هذه الحصانة والمناعة، لكن السؤال الكبير هو التالي: هل الذين يمارسون فن السماع على معرفة وعلى اطلاع بهذه الأدوات؟

 الإشكال يكمن هنا، وينبغي أن نقر بالحقيقة؛ وهي أن جل الذين يمارسون السماع اليوم لا علم لهم بهذه المبادئ ولا علم لهم بهذه الأدوات، من هنا يأتي صاحبنا، يأتي تحقيق كتاب “الدلائي” على يد صديقي الدكتور “الحراق” ليدشن لمرحلة جديدة هي مرحلة كشف النور عن هذا المجهول، وهداية الناس الراغبين في ممارسة السماع إلى أنجع الطرق التي من شأنها أن تحافظ على تلك الصلابة بالنسبة للبنية، وعلى صلب العمل الفاسي أو العمل الرباطي..

 وهذا يقتضي أشياء متعددة يمكن أن نضع لها عنوانا شاملا وهو “التعليم”، ففي غياب التعليم لا يمكن أن يستمر الحفاظ على هذا الفن؛ لأن عوامل التهديد متعددة؛ فلابد أولا من التعريف بالتراث المكتوب في فن السماع، وأعني بذلك العمل على الكشف عن المخطوطات التي وضعت في هذا الفن، من قبيل كتاب صاحبنا “الدلائي”، وإلى جانبه ديوان” الأمداح النبوية وذكر النغمات والطبوع وبيان تعلقها بالطبائع الأربعة” لأبي العباس أحمد بن محمد العربي أحضري، وكتاب “استنزال الرحمات بإنشاد بردة المديح بالنغمات” لابن سودة، وهذان الكتابان أيضا هما جديران بأن تتناولهما يد التحقيق، هذه مسألة تدخل في إطار التعريف،  ثانيا: تدريس المادة في المعاهد، وقد أشار “عبد الإله” سابقا إلى أن مادة السماع ينبغي أن تدرج ضمن المقرر في المعاهد الموسيقية..

 وقد عملتُ على هذا الأمر يوم كنت مديرا للمعهد الوطني للموسيقى بمكناس، فنظمت دروسا استمر العمل بها حوالي عشر سنوات، وكنت قد جلبت خيرة الأساتذة العارفين بالسماع، بهذه المناسبة، أنوه بالمجهود الذي كان يبذله إلى جانبي المرحوم “مولاي إدريس الشبيهي”، وهو شقيق الفنان الكبير “مولاي عبد السلام الشبيهي”، كان بنفسه يضطلع بتدريس السماع للطلبة، واستمرت هذه العملية حوالي عشر سنوات ثم انقطعت بكل أسف، وكان في نيتي أن أضع برنامجا متسلسلا متدرجا في المعرفة، يبدأ بالسنة الأولى وينتهي بالسنة العاشرة، ويخول صاحب السنة العاشرة شهادة الجائزة الشرفية على غرار ما يجري بالنسبة للموسيقى الأندلسية..

 وبذلك كانت هناك برامج تتدرج في المعرفة وفي المستوى بالنسبة للسنوات الأولى، على أن الأمر لم يستمر، مع أن وزارة الثقافة يومئذ تقبلت الفكرة وكانت تعوض هذا الأستاذ، ولكنه توفي فانقطع العمل بهذا الموضوع، وبالمناسبة، فالتدريس لا يعني تحفيظ المستعملات فقط،  إن ما يحدث الآن في الموسيقى الأندلسية نفسها، في المعاهد، هو أننا نُكوِّن مجموعة من الطلبة كل ما يحملون هو أنهم يحفظون، ولكن لا يفقهون كنه ما يحفظون، شأنهم كشأن طلبة الكتاتيب القرآنية، نفس الشيء هو واقع تعليم الموسيقى الأندلسية في المعاهد اليوم، حيث الطالب يحفظ الصنعات والميازين، ولكن عندما تسأله عن هذا الطبع، ما هو؟ ما طبيعته؟ ما علاقته بالطبوع الأخرى؟ فإنه لا يستطيع أن يجيب، وتسأله عن الإيقاعات والموازين فلا يستطيع أن يجيب..

 لذلك نرى أنه لا سبيل إلى تلافي هذا الواقع إلا باستناد تعليم على عنصرين اثنين:  تحفيظ “المستعملات”، وتلقين النظرية الخاصة بهاته المستعملات. هنا أنتقل إلى نقطة أخرى وهي تقعيد النظرية الخاصة بفن السماع؛ لحد الآن ما زلنا لا نتوفر على أي كتاب  في موضوع تقعيد النظرية الخاصة بهذا الفن، مثلما هو الشأن  بالنسبة للآلة الأندلسية.

فهناك مثلا كتاب “الموسيقى الأندلسية المغربية” “فنون الآداء” وهو كتاب ألفته سنة 1988 وفيه إحاطة شاملة بالنظرية الموسيقية سواء منها ما يخص بنية النوبة أوالطبوع أو الإيقاعات أو أسرة الآلات أو طرق الأداء… والكتاب يعتبر مرجعا في المعاهد الموسيقية، وهو من منشورات سلسلة عالم المعرفة.

 وهناك محاولة قام بها صديقنا سيدي “أحمد السهوم” بالنسبة لطرب الملحون، فقد وضع كتيبا كان موجها لطلبة المعاهد الموسيقية التابعة لوزارة الثقافة، وهو يتضمن مجمل القواعد التي استنبطها وأخرجها باجتهاداته الخاصة، وتتعلق بأقسام الملحون، وأنواع الإيقاعات والأوزان المعروفة فيه..

 وهذا عمل يكتسي طابع الاجتهاد، ولكنه مهم في إطار تنظير وتقعيد النظرية الموسيقية الخاصة بهذا اللون الغنائي. وأعتقد أن المادة التي يمكن اعتمادها في تأسيس النظرية الخاصة بفن السماع قائمة بذاتها، وكل ما يتطلبه الأمر هو استخلاص النظريات مما هو ممارس، مما هو مستعمل، وهذه مسألة علمية بحتة. ثم يأتي بعد ذلك التدوين..

 والتدوين له شقان، أولهما تدوين الأشعار وتوثيقها، ووضعها في سياقات متكاملة ومتدرجة تراعي تنامي المستوى العمري والمعرفي للطالب، وثانيهما التدوين الموسيقي بواسطة الرموز والعلامات الموسيقية، وهذا أمر قد تحقق نسبيا بالنسبة للموسيقى الأندلسية، فقد ظهرت مجموعة من المدونات من إنجاز السيد “محمد بريول” مثلا،  وصديقنا الأستاذ “يونس الشامي”. هذه وسائل أساسية لابد أن تدخل في عملية التعليم على نحو منتظم وممنهج.

 يبقى هناك على هامش العمل المنظم في إطار المعاهد، الأنشطة الذي تقوم بها المؤسسات الخاصة، والقطاعات الرسمية أحيانا من خلال تنظيم المهرجانات. وفي اعتقادي أن أخطر شيء يهدد تراثنا الموسيقي هو تقديمه في مقامات غير مناسبة، أشير هنا بالضبط،  إلى مسألة أساسية وهي أن أي فن تراثي ليس من الضرورة أن يغنى في الهواء الطلق..

 فموسيقى السماع كموسيقى الآلة، تدخلان فيما يندرج تحت اسم “موسيقى الغرفة” musique de chambre la، وليستا من طبيعة الفضاءات الواسعة؛ لأن هناك عناصر تتدخل عندما نستعمل الفضاء الرحب، في مقدمتها الأجهزة المكبرة للصوت، وأنتم تعلمون أن جهاز مكبر الصوت لا يعكس الصوت الحقيقي للمنشد، ولكنه يعكس صوتا اصطناعيا، لذلك كثيرا ما كنت أقول إن المايكروفون متطفل، فضولي، ينبغي أن نطرده من الساحة الموسيقية..

 أنا شخصيا أحسست بالاشمئزاز عندما شاهدت مائة وخمسين فردا يعزفون “الآلة” في باب شالة، هذا شيء يخالف الذوق، وينافيه، لماذا هذه البهرجة؟ لماذا؟ الجوق الأندلسي كان في الأصل قائما على سبعة أشخاص، وليس أكثر، ففي هذا خروج عن الأصول انسياق نحو الانزلاقات، وهي أخطر ما يهدد الفنون التراثية خاصة؛ ليس “موسيقى الآلة”، ولا “السماع” فحسب، إن أخطر ما يهدد هذه الفنون أن ننزعها من محيطها ومن بيئتها الطبيعية.

جمال بامي:

لقد بدأت أستوعب أن فن السماع بنية تركيبية، بنية تركيبية بكل الأبعاد، بمعنى انطلاقا من الكتابة الشعرية، الموسيقى، اللحن، الحضور، السياق، من جميع المعطيات يشكل بنية، وأعتقد أن تفكيك أحد عناصرها يؤدي إلى تفكيك العناصر برمتها، هذا هو الذي فهمت من هذه الرسالة.

عبد الإله بنعرفة:

وهو بالإضافة إلى هذا، لا يخاطب إدراكا واحدا في الإنسان، وإنما يخاطب جميع الإدراكات، العقل مكون، إدراك من الإدراكات التي في الإنسان، ولكن الإنسان بطبيعته كائن مركب ومعقد في غاية التعقيد، رغم بساطته الظاهرة، وفيه إدراكات متعددة، ونحن عادة ما نقسم هذه الإدراكات إلى إدراكات قلبية وإدراكات عقلية، ولكن الواقع أعقد من ذلك بكثير، والسماع لكي تحصل هذه الاستجابة وهذا الانسجام وهذا التوافق وتحصل ما يسميه الصوفية بـ”نتائج الأذكار”؛ يجب أن يكون هذا الخطاب مستوعبا لهذا الكل الموحد، في ذات واحدة بجميع إدراكاتها..

 طبعا ما أشار إليه الأستاذ يحيلنا قطعا إلى هذا الأفق الذي نرغب أن يصير إليه السماع، يمكن أن نتفق ويمكن أن نختلف حول الفضاء الذي يمكن أن يكون فيه السماع، طبعا هناك السماع بمعناه الخاص في الزاوية، أنا شخصيا أرفض أن يخرج إلى الفضاء العام، ولكن هناك جوانب يمكن أن تُصَدَّر إلى الفضاءات العامة..

 هذه الجوانب التي يمكن أن تصدر، هي التي نريد أن يقتسمها معنى الآخر، أن يروا طعم هذا الفن؛ لأنه لا يمكن أولا أن نقول: إذا كان هذا المعطى يجب أن نحصر السماع في الزاوية، فإذن، الأكيد أنه سنحكم عليه بالانعزال، وربما بالموت في نهاية المطاف نظرا إلى التوصيف والتشخيص الذي قمنا به لطبيعة الزوايا حاليا، وأنها لا تقوم بأدوارها كما هو الحال في مؤسسات الصلاح بصفة عامة، الأضرحة وغير ذلك، ومظاهر الانحراف والخرافة التي تصحبها، هذه أشياء يتقزز منها الإنسان..

 وطبعا السماع يمكن أن يقوم بدور في تأهيل هذه المؤسسات، “مؤسسات الصلاح”، بما يتلاءم مع ما نعتقده جميعا من هذه البنية التي توافق الشرع وتوافق كذلك جوانب فنية وجمالية وتسهم في تنمية بلادنا، أظن أنه يتعين علينا أن نكون أكثر جرأة وشجاعة على طرح مسألة التعليم كما طرحها الأستاذ، أنا أعتقد بأنه الطريقة التي ندرس بها هذه الفنون والنظرة التي ننظر بها، هي نظرة دونية.

 ولهذا كنت أصر منذ البداية، وكما قلت، أنه ربما تسجيل هذا الفن في قائمة الفنون الثقافية اللامادية المعرضة أو المهددة، ربما سيدفع مسؤولينا إلى إعادة النظر إلى هذا الفن، كيف يعقل أن معاهدنا لا تدرسه؟ فن يناطح قرون ولا يدرس في معاهدنا الموسيقي؟ طبعا البنية الكلية للسماع لا يمكن أن تدرس في المعهد الموسيقي، ولكن الجانب الذي يسطر هو الذي يجب أن يدرس، هو الذي يجب أن يحفظ للأجيال المقبلة، الجانب الفني فيه، طبعا الوظائف التي يقوم بها السماع هي وظائف كثيرة وقد تحدثنا عنها.

 محمد التهامي الحراق:

 أثمن ما جاء في المداخلة الأخيرة للأستاذ ابن عبد الجليل حول البرنامج العام الذي اقترحه للنهوض بفن السماع والحفاظ عليه؛ والذي يتمحور حول عناصر ثلاثة متعاضدة ومتآزرة وهي: التقعيد، والتدريس، والتدوين.

 بخصوص التقعيد، أخال بتواضع أن هذه الدراسة التي حاولت من خلالها الإسهام في تأصيل فن السماع المغربي، تعد خطوة في هذا الأفق؛ ذلك أنها سعت، قدر الإمكان، إلى العمل على تأصيل المصطلحات في فن السماع، فضلا عن التأصيل النظري والبيان المفاهيمي لمكونات فن السماع على المستويات الصوفية والفقهية والأدبية والموسيقية والتداولية، كما أنها عملت على فتح أوراش بحثية على مختلف الأصعدة المذكورة، وهو إسهام يبقى قاصرا إن لم يُطور ويعضد ويتابع عملا ومراجعة، إنجازا ونقدا.

أما العنصر الثاني أي التدريس، فهو أمر ليس منه بد، لكونه القناة الرئيسة للمحافظة على هذا الموروث الباذخ، وتمديد فعله الثقافي والحضاري الذي شرحناه آنفا. وهنا أشير فقط إلى تجربة رائدة، على ارتجاليتها وعفويتها، وهي إقدام بعض الأساتذة المتشبعين بهذا الفن على استثمار تحصيلهم لهذا الموروث الذي تلقوه في الزاوية، واجتهادهم في تلقين وصلات فنية سماعية لفائدة أطفال بعض المدارس الخصوصية الراقية في الرباط، وذلك خلال المناسبات الدينية المختلفة (شهر رمضان، ذكرى المولد النبوي الشريف، حلول السنة الهجرية..).

وقد لقيت هذه المبادرة من النجاح والإقبال ما لم يتوقعه أصحابها، سواء من لدن التلاميذ أو من لدن الآباء الذي وجدوا في تلك المبادرة وصلا نموذجيا لأبنائهم بمنابع هويتهم الإسلامية، ودمغهم ببعض معالم الشخصية المغربية من خلال طرائق جمالية ذات تأثير وجداني وثقافي بارز وبهي. وهذا ما يعضد مطلب الأستاذ ابن عبد الجليل بخصوص ضرورة تنظيم وتعميم وتأطير هذا العنصر؛ أي تدريس فن السماع وإيلائه ما يستحق من اهتمام في المنظومة التربوية الوطنية.

  ثالث العناصر هو التدوين، وهنا أصدع بتأييدي الكامل لاقتراح إنجاز مدونات سماعية شعرية وفنية، تحفظ نصوص هذا الفن من التصحيف والتحريف أكان ناجما عن جهل أم عن تعمد، كما تحفظ الألحان من نفس المصير الناتج عن تعطل دور الزوايا وعدم استمرارها في الاضطلاع بكامل دورها في التلقين والتكوين والترشيد الفني لأهل هذا الشأن. على أنني أطالب أيضا بإنشاء “نماذج عمل” أي إنجاز مدونات سماعية نموذجية مكتوبة ومسموعة، على غرار طرب الآلة، تلقن كما هي للمتعلمين إقفالا لباب الاجتهاد أمام غير المؤهلين..

ذلك أن فتح هذا الباب لغير أهله يؤدي إلى العبث بالنصوص والمناسبة والألحان والأداء، ومن ثم بالوظائف والغايات التي يطلبها فن السماع. خصوصا وأن بعض مظاهر هذا العبث تترتب عليها نتائج لا تهم فقط إفساد الذوق وتزييف الفن وتهجين هوية السماع ومسخ أصالته، بل قد تؤدي إلى أن مظاهر من الفساد العقدي، إذا لم يتحل كل من “النفاق”؛ (أي المتصدر لتسيير حلقة السماع وتنسيق مادتها الشعرية والإنشادية) و”المسمع”؛ (أي المنشد) بكامل الوعي بالأغراض الدلالية المتعلقة بالحضرتين النبوية والإلهية، وبكيفية المناسبة بين دلالات الأشعار بما يعضد ويقوي المعاني الإيمانية والإحسانية في الأفئدة المتلقية.

ولهذا اشترط القوم في أهل السماع، ولاسيما المتصدر “للنفقة”؛ أي لترتيب الأشعار واقتراح أنظامها وهو بمثابة “إمام” الحلقة، اشترطوا فيه التمكن من عدة علوم كعلم العروض وعلم المناسبة وعلم الطبوع والإيقاعات.. بل وعلم الأحوال؛ أي معرفة ما يلائم من الأنظام والأنغام لكل حال من الأحوال.

وقد أصبح يقتضي هذا، بعد رحيل الشيوخ وتراجع الدور التعليمي والتربوي للزوايا، تنظيم دورات تكوينية  “للأساتذة  الملقنين”، تأهيلا لهم لمهام “التدريس” التي أشرنا إليها آنفا، وتمكينا لهم من بعض “القواعد” النظرية والأخلاقية المطلوبة في أهل السماع، ومن ثم إشراكهم أو تزويدهم بالمدونات النموذجية للبرامج وللعمل في هذا الفن.

 أختم هذه المداخلة بالتنبيه على مظهر آخر من مظاهر خصوصية هذا الفن وانفتاحه، والمتمثل في كون أهله مارسوا المحافظة من خلال التجديد كما سبق. لكن هذا لا يعفينا من إغلاق باب الاجتهاد أمام غير المؤهلين، فإذا كان، مثلا، الشيخان الكبيران محمد بن العربي الدلائي وسليل مدرسته سيدي عبد اللطيف بنمنصور، رحمهما الله، قد وصلا إلى أعلى درجات الاجتهاد في هذا الباب، فيجب أن نقيد اجتهادات من دون منـزلتهما بالتزام ما وضع الشيخ الدلائي من قواعد في رسالة “فتح الأنوار” وما طوره وبلوره في الممارسة الشيخ بنمنصور، فيما يلزم رسم طريق واضح لمن يلزمه الاتباع والاقتداء لا غير.

 جمال بامي:

 الحديث عن السماع كفن للحياة أيضا وليس فقط كمدخل للتعمق في الدين، الحديث عن الجانب الروحي في السماع لا ينبغي أن يغيب الجانب الحياتي؛ فالسماع يمكن أن يسهم ضمن مفهوم التصويف والكونية في الارتقاء بحياة الإنسان عيشا وفنا وذوقا.. من خلال حب الطبيعة والحفاظ على البيئة وحسن المأكل والملبس والحضور الإيجابي في العالم..

 عبد السلام طويل:

شكرا جزيلا الأساتذة الأفاضل على استجابتكم الكريمة لهذا الملتقى الذي لا شك أنكم قد أغنيتموه بتحليلاتكم وتصوراتكم وتأملاتكم واقتراحاتكم النوعية والمباركة..

د. عبد السلام طويل

  • رئيس وحدة بحثية بالرابطة المحمدية للعلماء بالمغرب، ورئيس تحرير مجلتها الإحياء.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق