مركز أبي الحسن الأشعري للدراسات والبحوت العقدية

تقرير محاضرة «ابن تيمية وابن رشد الحفيد: التلقي والأثر»

للفكر الفلسفي مسالك
متعددة ومتباينة في الطرح والاشتغال ومعالجة موضوعاته، ومن بينهـا أنه
يميل إلى فكّ المفارقات، وحلّ المتناقضات، فهذا الفكر لا يُسلّم ـ
بداهةً ـ  بتعارض القضايا أو تقابل الأنساق المعرفية إلا بعد
تحليلها وفحصها وإعادة تركيبها في هيئة تجعلنا نفهمها بصورة تخالف
قراءتنا الأولى لهـا، فالذي يقف مُتأمّلًا في طبيعة علاقة ابن تيمية
بابن رشد لاشك ستنتابه بعض الحيرة، وسَتستوقِفُه إشكالات وأسئلة كثيرة
تنتهي كلها في الشعور بالمفارقة والإحساس بالتناقض.
فالعلاقة بين ابن تيمية
وابن رشد لا تُـفهم إلا بوصفها صراعا بين نظامين معرفيين كبيرين، وما
يزيد الإشكال حيرة والتباسا أننا إذا رجعنا إلى متون ابن تيمية سنقف على
رجلٍ مُجادلٍ ومُساجل لمجمل المدارس الفلسفية والصوفية والكلامية، في
المشـرق والمغرب، لقد انتقد ابن تيمية المغاربة في عدة مواطن من كتبه،
انتقد ابن رشد موردا اعتراضاته على مختلف كتبه، كتهافت التهافت، وفصل
المقال، والكشف عن مناهج الأدلة وغيرها.
إن عقلا مُتصفـا بهذه
الفاعلية النقدية والنشاط، لاشك يستحث نظرنا، ويجعلنا نعيد التفكير في
الصورة التي ترسّخت عنه في سياقنا المعاصر، ويدفعنا إلى سؤال هذه الصورة
ومدى تطابقهـا مع المنحى الفلسفي لابن تيمية واجتهاداته؟ ألم يكن من
نوابغ التفكير الفلسفي كما قدمه أبو يعرب المرزوقي في أطروحته في
«إصلاح العقل في الفلسفة العربية»؟ ألم يقل عنه
رشدي راشد إنه على معرفة دقيقة وجادة بمذاهب الفلسفة؟ وأكثر من هذا، ألم
يتم ربطُهُ بالمشروع الرشدي كما أشار إلى ذلك المفكر المغربي محمد عابد
الجابري في كتابه «بنية العقل العربي»، حيث قال عن
ابن تيمية: «ومع اتجاهه الحنبلي السلفي الواضح، فلقد كان
التأثير الحزمي الرشدي في منحى تفكيره واضحاً
أيضا».
ورغم ذلك تظل إشكالية
طبيعة العلاقة قائمة ومُلتبسة، خصوصا إذا استحضرنا النعوت التي خلعها
ابن تيمية على ابن رشد، وتصل بعضها إلى إخراجه من الملة، يبدو إذن أن
هذه العلاقة تفتح أفُقَنا على مقاربات مختلفة ومتصارعة، منها ما يؤكد
الاتصال والتأثير، ومنها ما هو بخلاف ذلك، وفي هذا السياق احتضنت كلية
الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان محاضرة نظّمها مركز أبي الحسن الأشعري
التابع للرابطة المحمدية للعلماء بالتعاون مع مركز الدكتوراه وماستر
العقيدة الإسلامية-علوم وحضارة بنفس الكلية، طرح فيها الدكتور فؤاد بن
حمد (أستاذ الفلسفة-دار الحديث الحسنية) مقاربة تستمد جدّتها من حفرياته
في الرشدية وما بعدهـا، وامتداداتها في الفضاء العربي
الإسلامي.
واعتبر المحاضرُ
مساهمته بمثابة مقترح للنظر وليس عملا منتهيا، ويتمثل عمله في الإنصات
للنصوص وربطها بسياقاتها التاريخية، مُمهداً محاضرته بتتبع بعض مظاهر
الاهتمام بابن تيمية على المستوى الدولي، ومفسرا هذه العناية بعدة
عوامل، وهي أسباب لا تخص العالم الإسلامي فقط بل تخص العالم بأسره، منها
السبب الأمني، إذ يكفي أن يحصل الاستشهاد به من بعض رموز التطرف عبر
العالم، ومنها السبب الإيديولوجي والسياسي بحكم أن فكر الرجل تبنته بعض
الأنظمة، ومنها انتقاد ابن تيمية لمرجعية كبرى في المذهب الشيعي، ومنها
رده على المعتقد الأشعري، ومنها رده على النصارى، ومنها انتقاده
للمناطقة والفلاسفة.
وكل هذه التفسيرات بيّن
المحاضر أنها غير مهمة بالنسبة إليه، منبها إلى أن تركيزه على ابن تيمية
يعينه على كتابة تاريخ الفلسفة في الإسلام من زاوية نظر جديدة، دون أن
يغفل التنازع حول هذا الرجل بوصفه عدوا لدودا للفكر العقلاني، مع
الاحتراز من اختزال فكر الرجل في انتصار الحنبلية ونهاية الفلسفة، مبينا
أنه بالرغم من عدم كونه فيلسوفا بالمعنى الصناعي إلا أنه من أكبر
المتعاطين مع كتب الفلسفة، وتتعدى أهميته النقد السلفي للفلسفة إلى
مستوى آخر هو تقديم خدمة جليلة لتاريخ الفلسفة عن طريق النقول الكثيرة
للفلاسفة، ومنهـا نصوص مفقودة موجودة في كتب ابن تيمية الذي أظهر أمانة
كبرى في نقلها.
ونقدُ ابن تيمية
وتلميذه ابن القيم للفلاسفة بُني على تصور متوازن ومتعدد يقوم على النظر
إلى الفلسفة بوصفها مذاهب ومقالات متباينة، ونهجهما مختلف عن نهج
المتكلمين الكبار كالغزالي، وفخر الدين الرازي، وعبد الكريم الشهرستاني،
وسيف الدين الآمدي، وهذه النقطة من مرتكزات هذه المساهمة التي قدمها
المحاضر، فمقاصد الفلاسفة ـ على سبيل التمثيل ـ للغزالي وإن تضمن نقولا
فلسفية إلا أنها ذات منحى سينوي، وقدمها بوصفها مقاصد الفلاسفة بإطلاق،
والحال أنها ليست سوى حكاية مختصرة لمقالة ابن سينا، من أجل هذا تتبّع
المحاضر نصوص ابن رشد في كتابات ابن تيمية من أجل معاينة الأثر الذي
ساعد في تكوين المنظور المتعددة لتاريخ الفلسفة.
ومعالجة الباحث لتلقي
ابن تيمية لابن رشد جاء في سياق نقد مجموعة من الأحكام التي ادّعت أن
ابن رشد لم يكن له أثر وصدى في العالم الإسلامي، هذا على مستوى الرشدية،
أما على مستوى نصوص ابن رشد، فلم ينتبه إلى أثرها في أعمال ابن تيمية
إلا بعض الدارسين في بداية القرن العشـرين، لكن هذه الدراسات لم تعرف
تطورا وانتشارا، وإنما الحكم الذي استقر عبر جملة من الدراسات
الاستشـراقية والعربية هو أن كتابات ابن رشد خصوصا “تهافت التهافت”،
و”فصل المقال”، و”الكشف عن المناهج الأدلة”، لم تكن لها آثار في العالم
الإسلامي باستثناء بعض تلخيصاته واختصاراته التي عرفت بعض
الانتشار.
لكن كتابات ابن تيمية
شهدت استعمالا لنصوص ابن رشد، بل إنه استعمل نُسخا أقدم من النسخ
الموجودة بين أيدينا الآن، وقد اهتمت بعض الدراسات مؤخرا بعلاقة ابن
تيمية بابن رشد دون عقد مقارنة بين النصوص وبيان فروقاتها كما وضّح
الباحث، ومن يقف على هذه الفروقات سيتبين له أن موقف ابن رشد من
الحنبلية مثلا لم يرد في النسخة الرائجة اليوم من كتاب “الكشف عن مناهج
الأدلة”، لكن ورد ذلك في النسخة التي قرأها ابن تيمية، وبالرغم من دعوى
انتحالها إلا أن الناظر في النسخ المنتشرة في المكتبات سيجد تطابقا بين
هذه النسخ ونسخة ابن تيمية الأقدم.
وحرص ابن تيمية على هذا
الكم الهائل من المراجع يوقفنا على إشكالية الكتب والمواد التي يقرأها،
فمن يتتبع مكتبته سيقف على مئات من أسماء الكتب، ومنها مصادر كبرى في
الفلسفة، منها ما يتعلق بما قبل أرسطو وما بعده،  فهو مطلع على
الحكماء الطبيعيين وأفلاطون وأرسطو وغيرهم، فضلا عن هؤلاء فقد كان لابن
تيمية مصادر كبرى في المقالات والملل، بل استعمل نصوصا لم تعد موجودة
كنصوص ابن الوراق وغيره، ونصوص من كتب الأشعري والباقلاني التي لم
تصلنـا، وهذا الإطلاع مكّنه من التخلص الفكري من هيمنة إيديولوجيا ابن
سينـا المعممة.
فإذا كان مجموعة من
المتكلمين اهتموا بالفلسفة من أجل تكريس تيار من تياراتها، فإن ابن
تيمية لم يكن معنيا بذلك، وانشغاله لم يكن عارضا أو مختلسا أو في أوقات
الفراغ، بل كان انشغالا يقض مضجعه في سياق لا يتسامح مع قراءة الفلسفة،
ففي محيطه احترز بعض أقرانه وتلامذته كالذهبي الذي شبّه هذا الاشتغال
التيمي بابتلاع سموم الفلاسفة، وهو ما يستدعي حدث الغزالي المماثل كما
أشار إلى ذلك المحاضر، فإذا كان الغزالي لم يسلم من أثر الفلسفة في
فكره، فكذلك ابن تيمية لم يسلم من هذا التأثير.
ومن جهة الخصائص
المعرفية التي يتقاطع فيها ابن رشد مع ابن تيمية، فقد أورد المحاضر جملة
منها، أهمها خصومتهما للسينوية، وخصومتهما للأشعرية، فابن رشد قدم لابن
تيمية خدمة ما كان يحلم بها، فقد قدم له كل الترسانة المعرفية والمنهجية
لتفكيك النسق الأشعري متمثلا في كبار الأشاعرة كالرازي والشهرستاني
والغزالي والآمدي، والجانب الذي دفعه إلى ذلك هو التحول الفلسفي الذي
اعترى علم الكلام الأشعري، وحدّد المحاضر ذلك بالتحول السينوي الذي يسبق
اللحظة التي قسّم بها ابن خلدون الكلام الأشعري.
والتحول السينوي في
الكلام الأشعري مما تفطن له ابن تيمية انطلاقا من انتقاداته التي وجهها
للغزالي والشهرستاني والرازي والآمدي، فهو يقول ـ بحسب المحاضرـ:
«والذي يحكيه الغزالي والشهرستاني والرازي وغيرهم من مقالة
الفلاسفة هو من كلام ابن سينا»، وهذا التحول يجد شاهدا له في
أن الأشعري في كتابه «مقالات غير الإسلاميين» عرض
مقالات فلسفية لم ترد عند هؤلاء، والفلاسفة الذين يرد عليهم الغزالي
وغيره هم ابن سينا وذويه.
هذا التقاطع في الخصومة
للسينوية والأشعرية والاستعانة بمنهجية ابن رشد، هو ما دفع ابن تيمية
لتمجيده، فقد كان يقول عنه أنه من «حذاق الفلاسفة»،
و«من أتباع الفلاسفة المنتسبين للإسلام لكنه
إمامهم»، وغيرها من التحليات التي نعته بها بمعية تلميذه ابن
القيم، وابن رشد فيلسوف باطني من وجهة نظر ابن تيمية، لكنه أعقلهم،
ومعنى أعقلهم أنه كان من مقتصدة الفلاسفة وأقربهم إلى الإسلام، فإنه
بالرغم من باطنيته في المعاني الفلسفية إلا أنه ليس كذلك في الواجبات
الشرعية.
بعدها ختم الباحث
محاضرته بالتأكيد على أن دراسته عبارة عن عناصر أولية لمراجعة الطريقة
المقررة في كتابة تاريخ الفلسفة في السياقات الإسلامية بعد عصر ابن رشد،
وتراث ابن تيمية مما يسعفنا في إعادة التأريخ، فهو قارئ مطلع على كتابات
الفلاسفة المشارقة منهم والمغاربة، وكان على علاقة مباشرة بنصوص ابن
رشد، ودرايته هذه كانت مثمرة، ما جعله يتخلص من هيمنة موجة السينوية،
ففلسفة ابن رشد وإن برزت بوصفها دفاعا عن العقلانية ـ والمنحى الحنبلي
بخلاف ذلك ـ فلا يمكن أن ننظر إلى أن عمل ابن تيمية وتلميذه ابن القيم
كان رفضا لفلسفة ابن رشد والفلسفة بعموم، وإنما الفلسفة عندهما ألوان لا
يمكن أن تُقبل بإطلاق ولا أن ترفض بإطلاق، لأنها ليست فلسفة واحدة حتى
نقبلها أو نرفضها، وهذه النظرة التعددية هي ما يدفعنا إلى تغيير رؤيتنا
لتاريخ الفلسفة في الإسلام عموما، وما بعد ابن رشد
خصوصا.

للفكر الفلسفي مسالك متعددة ومتباينة في الطرح والاشتغال ومعالجة موضوعاته، ومن بينهـا أنه يميل إلى فكّ المفارقات، وحلّ المتناقضات، فهذا الفكر لا يُسلّم ـ بداهةً ـ  بتعارض القضايا أو تقابل الأنساق المعرفية إلا بعد تحليلها
وفحصها وإعادة تركيبها في هيئة تجعلنا نفهمها بصورة تخالف قراءتنا الأولى لهـا، فالذي يقف مُتأمّلًا في طبيعة علاقة ابن تيمية بابن رشد لاشك ستنتابه بعض الحيرة، وسَتستوقِفُه إشكالات وأسئلة كثيرة تنتهي كلها في الشعور بالمفارقة والإحساس بالتناقض.

فالعلاقة بين ابن تيمية وابن رشد لا تُـفهم إلا بوصفها صراعا بين نظامين معرفيين كبيرين، وما يزيد الإشكال حيرة والتباسا أننا إذا رجعنا إلى متون ابن تيمية سنقف على رجلٍ مُجادلٍ ومُساجل لمجمل المدارس الفلسفية والصوفية والكلامية، في المشـرق والمغرب، لقد انتقد ابن تيمية المغاربة في عدة مواطن من كتبه، انتقد ابن رشد موردا اعتراضاته على مختلف كتبه، كتهافت التهافت، وفصل المقال،
والكشف عن مناهج الأدلة وغيرها.

إن عقلا مُتصفـا بهذه الفاعلية النقدية والنشاط، لاشك يستحث نظرنا، ويجعلنا نعيد التفكير في الصورة التي ترسّخت عنه في سياقنا المعاصر، ويدفعنا إلى سؤال هذه الصورة ومدى تطابقهـا مع المنحى الفلسفي لابن تيمية واجتهاداته؟ ألم يكن من نوابغ التفكير الفلسفي كما قدمه أبو يعرب المرزوقي في أطروحته في «إصلاح العقل في الفلسفة العربية»؟ ألم يقل عنه رشدي راشد إنه على معرفة دقيقة وجادة بمذاهب الفلسفة؟ وأكثر من هذا، ألم يتم ربطُهُ بالمشروع الرشدي كما أشار إلى ذلك المفكر المغربي محمد عابد الجابري في كتابه «بنية العقل العربي»، حيث قال عن ابن تيمية: «ومع اتجاهه الحنبلي السلفي الواضح، فلقد كان التأثير الحزمي الرشدي في منحى تفكيره واضحاً أيضا».

ورغم ذلك تظل إشكالية طبيعة العلاقة قائمة ومُلتبسة، خصوصا إذا استحضرنا النعوت التي خلعها ابن تيمية على ابن رشد، وتصل بعضها إلى إخراجه من الملة، يبدو إذن أن هذه العلاقة تفتح أفُقَنا على مقاربات مختلفة ومتصارعة، منها ما يؤكد الاتصال والتأثير، ومنها ما هو بخلاف ذلك، وفي هذا السياق احتضنت كلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان محاضرة نظّمها مركز أبي الحسن الأشعري التابع للرابطة المحمدية للعلماء بالتعاون مع مركز الدكتوراه وماستر العقيدة الإسلامية-علوم وحضارة بنفس الكلية، طرح فيها الدكتور فؤاد بن حمد (أستاذ الفلسفة-دار الحديث الحسنية) مقاربة تستمد جدّتها من حفرياته في الرشدية وما بعدهـا، وامتداداتها في الفضاء العربي الإسلامي.

واعتبر المحاضرُ مساهمته بمثابة مقترح للنظر وليس عملا منتهيا، ويتمثل عمله في الإنصات للنصوص وربطها
بسياقاتها التاريخية، مُمهداً محاضرته بتتبع بعض مظاهر الاهتمام بابن تيمية على المستوى الدولي، ومفسرا هذه العناية بعدة عوامل، وهي أسباب لا تخص العالم الإسلامي فقط بل تخص العالم بأسره، منها السبب الأمني، إذ يكفي أن يحصل الاستشهاد به من بعض رموز التطرف عبر العالم، ومنها السبب الإيديولوجي والسياسي بحكم أن فكر الرجل تبنته بعض الأنظمة، ومنها انتقاد ابن تيمية لمرجعية كبرى في المذهب الشيعي، ومنها رده على المعتقد الأشعري، ومنها رده على النصارى، ومنها انتقاده للمناطقةوالفلاسفة.

وكل هذه التفسيرات بيّن المحاضر أنها غير مهمة بالنسبة إليه، منبها إلى أن تركيزه على ابن تيمية يعينه على كتابة تاريخ الفلسفة في الإسلام من زاوية نظر جديدة، دون أن يغفل التنازع حول هذا الرجل بوصفه عدوا لدودا للفكر العقلاني، مع الاحتراز من اختزال فكر الرجل في انتصار الحنبلية ونهاية الفلسفة، مبينا أنه بالرغم من عدم كونه يلسوفا بالمعنى الصناعي إلا أنه من أكبر المتعاطين مع كتب الفلسفة، وتتعدى أهميته النقد السلفي للفلسفة إلى مستوى آخر هو تقديم خدمة جليلة لتاريخ الفلسفة عن طريق النقول الكثيرة للفلاسفة، ومنهـا نصوص مفقودة موجودة في كتب ابن تيمية الذي أظهر أمانة كبرى في نقلها.

ونقدُ ابن تيمية وتلميذه ابن القيم للفلاسفة بُني على تصور متوازن ومتعدد يقوم على النظر إلى الفلسفة بوصفها مذاهب ومقالات متباينة، ونهجهما مختلف عن نهج المتكلمين الكبار كالغزالي، وفخر الدين الرازي، وعبد الكريم الشهرستاني، وسيف الدين الآمدي، وهذه النقطة من مرتكزات هذه المساهمة التي قدمها المحاضر، فمقاصد الفلاسفة ـ على سبيل التمثيل ـ للغزالي وإن تضمن نقولا فلسفية إلا أنها ذات منحى سينوي، وقدمها بوصفها مقاصد الفلاسفة بإطلاق، والحال أنها ليست سوى حكاية مختصرة لمقالة ابن سينا، من أجل هذا تتبّع المحاضر نصوص ابن رشد في كتابات ابن تيمية من أجل معاينة الأثر الذي ساعد في تكوين المنظور المتعددة لتاريخ الفلسفة.

ومعالجة الباحث لتلقي ابن تيمية لابن رشد جاء في سياق نقد مجموعة من الأحكام التي ادّعت أن ابن رشد لم يكن له أثر وصدى في العالم الإسلامي، هذا على مستوى الرشدية، أما على مستوى نصوص ابن رشد، فلم ينتبه إلى أثرها في أعمال ابن تيمية إلا بعض الدارسين في بداية القرن العشـرين، لكن هذه الدراسات لم تعرف تطورا وانتشارا، وإنما الحكم الذي استقر عبر جملة من الدراسات الاستشـراقية والعربية هو أن كتابات ابن رشد خصوصا “تهافت التهافت”، و”فصل المقال”، و”الكشف عن المناهج الأدلة”، لم تكن لها آثار في العالم الإسلامي باستثناء بعض تلخيصاته واختصاراته التي عرفت بعض الانتشار.

لكن كتابات ابن تيمية شهدت استعمالا لنصوص ابن رشد، بل إنه استعمل نُسخا أقدم من النسخ الموجودة بين أيدينا الآن، وقد اهتمت بعض الدراسات مؤخرا بعلاقة ابن تيمية بابن رشد دون عقد مقارنة بين النصوص وبيان فروقاتها كما وضّح الباحث، ومن يقف على هذه الفروقات سيتبين له أن موقف ابن رشد من الحنبلية مثلا لم يرد في النسخة الرائجة اليوم من كتاب “الكشف عن مناهج الأدلة”، لكن ورد ذلك في النسخة التي قرأها ابن تيمية، وبالرغم من دعوى انتحالها إلا أن الناظر في النسخ المنتشرة في المكتبات سيجد تطابقا بين هذه النسخ ونسخة ابن تيمية الأقدم.

وحرص ابن تيمية على هذا الكم الهائل من المراجع يوقفنا على إشكالية الكتب والمواد التي يقرأها، فمن يتتبع مكتبته سيقف على مئات من أسماء الكتب، ومنها مصادر كبرى في الفلسفة، منها ما يتعلق بما قبل أرسطو وما بعده،  فهو مطلع على الحكماء الطبيعيين وأفلاطون وأرسطو وغيرهم، فضلا عن هؤلاء فقد كان لابن تيمية مصادر كبرى في المقالات والملل، بل استعمل نصوصا لم تعد موجودة كنصوص ابن الوراق وغيره، ونصوص من كتب الأشعري والباقلاني التي لم تصلنـا،وهذا الإطلاع مكّنه من التخلص الفكري من هيمنة إيديولوجيا ابن سينـا المعممة.

فإذا كان مجموعة من المتكلمين اهتموا بالفلسفة من أجل تكريس تيار من تياراتها، فإن ابن تيمية لم يكن معنيا بذلك، وانشغاله لم يكن عارضا أو مختلسا أو في أوقات الفراغ، بل كان انشغالا يقض مضجعه في سياق لا يتسامح مع قراءة الفلسفة، ففي محيطه احترز بعض أقرانه وتلامذته كالذهبي الذي شبّه هذا الاشتغال التيمي بابتلاع سموم الفلاسفة، وهو ما يستدعي حدث الغزالي المماثل كما أشار إلى ذلك المحاضر، فإذا كان الغزالي لم يسلم من أثر الفلسفة في فكره، فكذلك ابن تيمية لم يسلم من هذا التأثير.

ومن جهة الخصائص المعرفية التي يتقاطع فيها ابن رشد مع ابن تيمية، فقد أورد المحاضر جملة منها، أهمها خصومتهما للسينوية، وخصومتهما للأشعرية، فابن رشد قدم لابن تيمية خدمة ما كان يحلم بها، فقد قدم له كل الترسانة المعرفية والمنهجية لتفكيك النسق الأشعري متمثلا في كبار الأشاعرة كالرازي والشهرستاني والغزالي والآمدي، والجانب الذي دفعه إلى ذلك هو التحول الفلسفي الذي اعترى علم الكلام الأشعري، وحدّد المحاضر ذلك بالتحول السينوي الذي يسبق اللحظة التي قسّم بها ابن خلدون الكلام الأشعري.

والتحول السينوي في الكلام الأشعري مما تفطن له ابن تيمية انطلاقا من انتقاداته التي وجهها للغزالي والشهرستاني والرازي والآمدي، فهو يقول ـ بحسب المحاضرـ: «والذي يحكيه الغزالي والشهرستاني والرازي وغيرهم من مقالة
الفلاسفة هو من كلام ابن سينا»، وهذا التحول يجد شاهدا له في أن الأشعري في كتابه «مقالات غير الإسلاميين» عرض مقالات فلسفية لم ترد عند هؤلاء، والفلاسفة الذين يرد عليهم الغزالي وغيره هم ابن سينا وذويه.

هذا التقاطع في الخصومة للسينوية والأشعرية والاستعانة بمنهجية ابن رشد، هو ما دفع ابن تيمية لتمجيده، فقد كان يقول عنه أنه من «حذاق الفلاسفة»، و«من أتباع الفلاسفة المنتسبين للإسلام لكنه إمامهم»، وغيرها من التحليات التي نعته بها بمعية تلميذه ابن القيم، وابن رشد فيلسوف باطني من وجهة نظر ابن تيمية، لكنه أعقلهم، ومعنى أعقلهم أنه كان من مقتصدة الفلاسفة وأقربهم إلى الإسلام، فإنه بالرغم من باطنيته في المعاني الفلسفية إلا أنه ليس كذلك في الواجبات الشرعية.

بعدها ختم الباحث محاضرته بالتأكيد على أن دراسته عبارة عن عناصر أولية لمراجعة الطريقة المقررة في كتابة تاريخ الفلسفة في السياقات الإسلامية بعد عصر ابن رشد، وتراث ابن تيمية مما يسعفنا في إعادة التأريخ، فهو قارئ مطلع على كتابات الفلاسفة المشارقة منهم والمغاربة، وكان على علاقة مباشرة بنصوص ابن رشد، ودرايته هذه كانت مثمرة، ما جعله يتخلص من هيمنة موجة السينوية، ففلسفة ابن رشد وإن برزت بوصفها دفاعا عن العقلانية ـ والمنحى الحنبلي بخلاف ذلك ـ فلا يمكن أن ننظر إلى أن عمل ابن تيمية وتلميذه ابن القيم كان رفضا لفلسفة ابن رشد والفلسفة بعموم، وإنما الفلسفة عندهما ألوان لا يمكن أن تُقبل بإطلاق ولا أن ترفض بإطلاق، لأنها ليست فلسفة واحدة حتى نقبلها أو نرفضها، وهذه النظرة التعددية هي ما يدفعنا إلى تغيير رؤيتنا لتاريخ الفلسفة في الإسلام عموما، وما بعد ابن رشد خصوصا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق