مركز أبي الحسن الأشعري للدراسات والبحوت العقدية

تقرير عن اللقاء التكريمي للأديب والمحقق الدكتور محمد الأمين المؤدب بمناسبة يوم المخطوط العربي

تستمر ثقافة كل أمة وعلومها عبر جملة من المعابر والجسور، فتارة يكون الجسـر سياسيا، وتارة أخلاقيا، وتارة يظهر في مظاهر أخرى، ومن الصور التي ساهمت في استمرارية ثقافتنا العربية الإسلامية وانتشارها صورة المجايلة كما برزت في سلاسل العلاقات العلمية، وأهم سمة تطبع هذه العلاقة وتعمقها التواشج الأخلاقي بين المشيخة والتلمذة، فمن خلال قيمة تكريم العلماء بالاحتفاء بنتاجهم وتنزيله وتكريسه ظل تراثنا حيا منيعا في وجدان هذه الأمة.

ومن أجل تبيئة هذه القيم وأمثالهـا في راهننا الثقافي ارتأت الرابطة المحمدية للعلماء (مركز أبي الحسن الأشعري للدراسات والبحوث العقدية) بمناسبة يوم المخطوط العربي وبالتعاون مع المكتبة العامة والمحفوظات ومكتبة التواصل أن تخصص هذا اليوم لتكريم المحقق الكبير والناقد الحصيف الأديب الدكتور محمد أمين المؤدب الذي جمع إلى جانب العلم بالنص التراثي الإجادة في تحقيقه والرسوخ في قراءته وتفهيمه.

توزعت أعمال هذا اللقاء العلمي التكريمي الذي احتضنته المكتبة العامة والمحفوظات مساء الخميس 11 أبريل 2019 على ثلاث مداخلات علمية وأربع شهادات توسطتها محاضرة قدمها المُكرّم، وتقديم مهّد به رئيس المركز الدكتور جمال علال البختي، حيث كشف فيه عن دواعي هذه الأمسية العلمية وبواعثها، ممثَّلة في ثقافة الاعتراف والوفاء، مُركزا بعد ذلك على ضرورة تكامل العلوم وتفاعل المعارف، لاسيما أن علم الكلام ـ من حيث هو بناء نصي ـ له صلة عميقة بمجمل الأفكـار والأنظـار، عرض  بعدها سيرة العالم محمد أمين المؤدب وأبرز محطات حياته العلمية والمهنية، مبتدئا بأطوار الطفولة والطلب والتحصيل، مرورا بذكر أشهر أساتذته وشيوخه، ثم مساره العلمي من تدريس وكتابة وتحقيق.

المداخلة الأولى كانت بعنوان «مفهوم البلاغة في كتاب “في بلاغة النص الشعري القديم”» تناول فيها الدكتور محمد مشبال(أستاذ التعليم العالي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية-تطوان) أحد كتب المكرم بالقراءة من ثلاث زوايا؛ الأولى شخصية الكاتب، وركز فيها على مجموعة من الصفات، منها انشغال الباحث بالتحقيق وأثر ذلك في كتاباته النقدية، ومنها عشقه وقراءته الذوقية لمعالم الشعر والارتياض بعوالمه، والثانية تتعلق بعنوان الكتاب، ولاحظ أن العنوان يوحي بوجود بلاغات متعددة ومختلفة، إلى جانب بلاغة كلية ومجردة غير مقيدة بأنواع أدبية معينة، لكن الباحث بحسب المتدخل لم ينطلق من هذه البلاغة الكلية، وإنما استنطق بلاغة منبثقة  من هوية النص الشعرية، والثالثة طبيعة التحليل البلاغي الذي مارسه الباحث في كتابه؛ فقد لاحظ المتدخل أن المقاربة البلاغية في الكتاب ليست تحليلا أسلوبيا جماليا فحسب، بل ثمة مزاوجة بين هذا التحليل باعتبار أن النص بنية لغوية مستقلة، وبين النظر إلى هذا النص بوصفه نتاجا لعلاقة سياقية، أي إن النص الشعري من منظور الكتاب بناء وفعل، واستند في هذه القاعدة على استنباط السمات المنهجية من ظاهر المقاربة محاولا استخراج مفهومات بلاغية خفية في الكتاب، فالكاتب وإن أخذ بتصور بلاغي يتحدد في صنـاعة النص وشعريته وجماليته ونسقيته الفنية، إلا أن ثمة تصورا آخر وهو البلاغة كنص وسياق، أي ظروف القول وهوية صاحبه ومقامه التداولي، ما يعني أن مقاربة الباحث جمعت بين الجمالي والحجاجي انطلاقا من الغرض الشعري والوجوه البلاغية والتماسك بين المقدمات والأغراض.

أما الوقفة العلمية الثانية فقدّم من خلالها الدكتور الإمام العزوزي(أستاذ التعليم العالي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية-تطوان)  مداخلة بعنوان «الشعر الأموي: من جمالية التماثل إلى جمالية الانزيـاح» قرأ فيها كتابا آخر للمكرم عنوانه “الاتباع والابتداع في الشعر الأموي: القصيدة المادحة نموذجا”، وانطلق المتدخل من كون هذا العمل مقاربة جديدة للشعر الأموي حاولت أن تتجاوز الآراء التقليدية بخصوص تفسير ثنائية التطور والجمود في هذا الشعر، وأهم قناعة رسخها النقاد ووجهت تفكير اللاحقين والمعاصرين هي قضية التماثل بين الشعر الجاهلي والشعر الأموي، فذهبت الكثير من الأطروحات تستقري جماليا ونقديا هذا التماثل الفني في المعجم والإيقاع والصور واللغة الشعرية، مغيبة ظواهر شعرية عديدة انزاحت بها القصيدة الأموية عن القصيدة الجاهلية، لاسيما في القصيدة المدحية التي تغيرت في جملة من وظائفها، لكن أهم سمة حدد الباحث بها التمايز، تمثلت في مرجعية القيم، فالمنظومة التي يستقي منها الشاعر الأموي قيمه ويستثمرها في لغته وشعريته لم تعد ترضى بالفضاء الجاهلي مصدرا لهذه القيم، وإنما أصبح المصدر الديني وسيرة النبي وصحابته هي ينبوع إلهـام لهذا الشاعر، وإذا كانت من ظواهر شعرية متماثلة على مستوى اللغة والمعجم فالعلة في ذلك انتماء جل الشعراء إلى البادية واستمرارية نمط العيش البدوي ما شكل معيارا للجزالة والقوة، ولا يعني هذا أن ثمة قطيعة في التصوير بين الشعرين، فالشاعر الأموي وإن استند إلى صور جاهلية فهو يقوم بتوليد صور أخرى عليها وتحويرهـا.

ومن جانب التحقيق، قدّم الدكتور محمد مفتاح(أستاذ التعليم العالي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية-تطوان) إضاءة علمية بعنوان «مراصد الإطلاع على منهج تحقيق الإتحاف بين النمطية والاتباع» أبرز فيها الملامح المنهجية في التحقيق الذي قام به المكرم  لكتاب «إتحاف ذوي الأرب بمقاصد لامية العرب» لأبي جمعة الماغوسي، تناول المتحدث في النقطة الأولى محطة ما قبل تحقيق الكتاب، مبينا أن ثمة جملة من الشروط يجب أن يستوفيها المحقق قبل أن يقدم على العمل حتى يخرجه للناس سليمـا، وأهمها الثقافة العلمية، وهو شرط يستوفيه المكرم، لما يتحلى به من موسوعية معرفية، وفي النقطة الثانية وهي محطة أثناء التحقيق، أبرز فيها أساسا ضروريا تمثل في الاختيار، وقد أحسن المحقق في اختيار النص الذي يجمع بين الأدب واللغة، لأن العمل يكشف عن جوانب جديدة في الثقافة المغربية على عهد السعديين. أما الجانب الآخر فهو المخطوطـات وما يتعلق بها من بحث وتنقيب وتتبع عن نسخ، وقد اعتمد المحقق على أربع نسخ فريدة، معتبرا نسخة نقلت عن خط المؤلف هي الأصل، والمرحلة الأخرى تتعلق بقراءة النص قراءة دقيقة، وهو ما لاحظه في عمل المحقق الذي قرأ النص حتى تمرّس بأسلوب المؤلف مع الإطلاع على كتب أخرى للكاتب، ومع الانفتاح على المتون التي نقلت عن المؤلف أو نقل منها، وأهم ما رصده المتدخل في عمل المحقق هو ضبط النص ضبطا محكما ودقيقا، مع تمثله بالمبدأ الوظيفي في العزو والإحالة، والتدقيق في المظان والفهارس.

ولم يكن لهذا اللقاء التكريمي أن تكتمل صبغته العلمية دون محاضرة ألقاها السيد المكرم اختار لها عنوانا يكشف عن منهجيته في التعامل مع النصوص الشعرية والأدبية، وهو “شعر المقصورات في الأدب العربي بين الثبات والتحول: مقاربة نصية”. لكن، قبل افتراع هذا الموضوع، أعرب المحاضر عن غامر سعادته وعميق تأثره بهذه اللحظة الفارقة من لحظات مساره العلمي التي جمع فيها مركزُ أبي الحسن الأشعري نخبةً من العلماء والباحثين بغرض قراءة أعماله بنفَس يتزاوج فيه النقد بالاحتفاء انسجاما مع فلسفة المركز في لقاءاته التكريمية. وعن المحاضرة، وطّأ الدكتور المؤدّب لموضوعها بشقٍّ أول عنونه بـ”الشعر وجدلية الثبات والتحول” جعله بمثابة إضاءة عجلى للجانب السياقي والثقافي والتاريخي لظهور المقصورات، معتبرا أن الخوض في الأجناس الأدبية عامة وشعر المقصورات بخاصة يستلزم الحديث عن ثنائية الثبات والتحول لرسم مسار الإبداع الأدبي والوقوف على منعرجاته المختلفة، والحامل على هذا الاستلزام أمران: أولهما النظر في الأصول الفنية (أي النصوص) وهذا ما تعتمده نظرية التلقي المعاصرة لتبين ما يتمتع به النص الأدبي من عناصر بلاغية أو جمالية أو حجاجية. والأمر الثاني يتمثل في مبدأ المماثلة ـ أو التماثل ـ والذي يمكّننا من قيافة الأشكال التعبيرية في مقاربة المواضيع الأدبية ورصد أصولها وفروعها. أما بخصوص المقصورة نفسها باعتبارها شكلا أو نمطا أدبيا ـ وهي القصيدة التي رويّها الألف المقصورة ـ فقد عدد لها الأستاذ المحاضر أطوارا أربعة تقلبت فيها من الميلاد والنشأة في الشعر الجاهلي والأموي، وطور النمو والريادة في العصر العباسي (مع أبي صفوان الأسدي وابن دريد)، إلى طور المعارضات المبدعة مع ابن حريق الأندلسي وابن عبد المنان المكناسي بما فيها من التماثلات والمحاكاة وبزِّ المقصورات العباسية، وصولا إلى مرحلة المحدثين والمعاصرين الذين استفادوا من هذا الإرث الأدبي الذي لا يزال ـ بحسب المكرم ـ في حاجة إلى من يتعهّده بالبحث والنقد والدرس. أما عن خصائص المقصورات فقد ذكر منها المحاضر جملة من السمات توقف عند أهمها وأظهرها وهي المبالغة في الوصف، مشددا على أن دراسة أي مقصورة لا بد لها من أن تلتزم باستحضار سياقها التاريخي وبالدراسة النصية التي توقف على أصولها السابقة على ما يبينه هذا المسلك من الإضافات والتماثلات والإبداعات. واختتم محاضرته بالمصادقة على كون تاريخ الأدب هو تاريخ الأشكال الأدبية ومن بينها المقصورة.

 بعد هذه المحاضرة انتقلت فعاليات اللقاء العلمي التكريمي إلى الاستماع إلى شهادات لله ثم للتاريخ في حق المكرّم ابتدأها الدكتور عبد الرحمن بودرع (أستاذ البلاغة في كلية الآداب والعلوم الإنسانية-تطوان) بشهادة جعل “ثقافة الوفاء” عنوانا لها، مؤصلا لهذه الثقافة من خصيصة السند التي ميزت أمة الإسلام وجعلت الإلمام بسيَر أهل العلم وفضيلةَ الوفاء لمبرّزيهم معلما من معالم السند بين الشيوخ والعلماء، على ما يعنيه هذا السند من شرعية التلقي والأخذ عن العَلم المشهود له. وهذا ما رآه الشاهد منطبقا تماما على الأستاذ الدكتور محمد الأمين المؤدب بشهادة ذوي الاختصاص في علوم الأدب والبلاغة والعلوم الإنسانية عامة؛ فالمكرم عالم بحاثة ناقد، يتميز بنسق مخصوص في النقد الأدبي ما جعله صاحب منهج في مقاربة النصوص الأدبية والشعرية تخرّج بها العديد من الطلبة والباحثين في مجال الأدب، ولم يكن ذلك ليتأتى لمكرمنا إلا بعد الحذق بالشعر ومذاهب العرب في كلامها والتمكن من مصادر القصيد ودواوينه وأيامه ودواعيه وشروحه ونقاده.. ما مكنه من الكشف عن جملة من الخبايا والدقائق التي غبيَ عنها آخرون. ومن نظر في تحقيقات الرجل النفيسة ودراساته التي عنيت بالمواضيع الغميسة تحقق من هذه الأحكام والأوصاف. وبالجملة فإن الدكتور المؤدب يتمتع بأصالة بارزة في القراءة والكتابة والتجديد ما يجعله لكل احتفاء أهلا وقمينا.

في الشهادة الثانية نثر الدكتور عبد العزيز الحلوي(أستاذ الشعر العربي في كلية الآداب والعلوم الإنسانية-تطوان) لوامع من ذكرياته الحية التي جمعته برفيقه الدكتور المؤدب زهاء أربعة عقود منذ أن احتضنهما فضاء مدرسة الأيوبي الثانوية بمدينة سلا مرورا باجتيازهما معا امتحان ولوج الكلية، ليلتحقا معا ـ بعد افتراق دام شهورا بسبب التكوين في مؤسستين جامعيتين مختلفتين ـ بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان، حيث تعمقت علاقة الزمالة والصداقة بينهما ما جعله يتعرف ـ عن قرب وخبْر ـ على سمات وأخلاق الدكتور المؤدب الإنسان والأستاذ؛ فعن الإنسان، يتمتع المحتفى به بأخلاق عالية هي محل إجماع من قبل معارفه وزملائه، من أظهرها الصدق والوفاء وحب الخير للناس والبعد عن الحسد والحقد والتملق.. وعن المؤدب الأستاذ تجده يتميز بميزة المهارة والجدية في التدريس بفعل التدرج في مراحل التعليم المهنية، والصرامة والدقة في التنقيط والتأطير، فضلا عن البراعة في تحليل النصوص الأدبية والحس النقدي والروح الموضوعية والنزعة الموسوعية في مقاربة مواضيعها.. كل هذه السمات والخلال جعلت المكرم يتبوأ مكانة عالية في سماء العلم والأدب.

 أما الشهادتان الثالثة والرابعة فقد تجملتا بأدب الترسّل ولمسات من شعر رقيق ومخيال شفاف، تصدى لهما الدكتور بدر العمراني (أستاذ الحديث بكلية أصول الدين بتطوان) أصالة عن نفسه في الأولى، ونيابة في الثانية بقراءة لرسالة بعثها صنوه الدكتور قطب الريسوني.

“ذكرى ولا أحلى” هو عنوان شهادة الدكتور بدر العمراني في حق المكرم؛ جعلها أشعة ساطعة انبجست بعد موران باقة من الذكريات عصفت بمفكرته وذاكرته؛ أولها:

شُعاعٌ منْ وِدادٍ ذي سناءِ       يضوع شذًى بأفواء الثّناءِ

ويعود به نوره إلى سنوات الطلب برحاب كلية الآداب بمرتيل حيث تناهى إلى سمع الدكتور العمراني صدى عال بذكر علو كعب أستاذ للأدب والشعر يزهو به الدرس الأدبي الجامعي. وثانيها:

شُعاعٌ بالمعاني في اختيالِ           لأشواقٍ أثار نَدَى الْمعالي

ومورده تعرّف الشاهد على تحقيق الدكتور المؤدب وتقديمه لـ”إتحاف ذوي الأرب بمقاصد لامية العرب” لأبي جمعة سعيد بن مسعود الماغوسي المراكشي (ت.1016هـ)، وهو العمل النفيس الذي أفاد منه الدكتور بدر في تحقيقه لكتاب “إحقاق الحق وتبريء العرب مما أحدثه عاكش اليمني في لغتهم ولامية العرب..” لابن التلاميد التُّركُزي.

وثالثها:

شُعاعٌ في مِثالٍ باحْتذاءِ           يَمُوحُ جلالةً نَحْوَ الضِّياءِ

فقد عصف بالشاهد وهو ابن طنجة ـ بعد تعيينه بجنوب المغرب أستاذا ـ ما عصف بالمشهود له وهو ابن المدينة الحمراء من النأي عن الديار والبعد عن الأحباب وما يخلفاه من هواجس وقلق وترقب؛ لكن الدكتور المؤدب كان قدوة في الاستئناس والاندماج.. فضرِب له مثالا في ذلك من قبل المرحوم الدكتور عبد الله الترغي، فكان بذلك من رسائل المواساة وسببا من أسباب الرضا.

كل هذه الأشعة انطلقت ثم اجتمعت تنثال على الشاهد انثيالا فكان منها ما قرضه شعرا في شخص المكرم، ومنه:

ذِكْرى المُؤَدّبِ تَحْلُو          أشعّةً مِنْهُ تَجْلُــــو

 وَشْيٌ لَدَيْهــا جَليـــلٌ             لِلْوَصْلِ بَاهٍ وَيَعْلُو

والأُنْسُ يَرْويهِ فَصْلاً         يَغْدُوهُ لِلنَّهْجِ أَصْلُ

ومن مرابع الشارقة أرسل الدكتور الريسوني (رئيس قسم الفقه وأصوله بكلية الشريعة بجامعة الشارقة) شهادة في حق عريس هذا اللقاء؛ “عريس الصحائف والمحابر.. الذي صاحب الشّنتمري والماغوسي واليوسي غدوا ورواحا، وورث عنهم عرق الفحولة وماء الحلاوة” ـ على حد تعبير الدكتور قطب ـ لقد كان عريسنا من الغواصين في الأدب والشعر؛ يقف على ريّقه وشيّقه، ويستشف كوامن التخييل وأسرار الصنعة فيه، يخوض فيه خوض الشارح الماهر والقارئ الناقد، ولذلك لا يتردد الدكتور قطب في الاعتراف قائلا: “لا أعرف له في المغرب قِرْنا في تخصصه مع مسكة جيدة في علوم الآلة”. وإن تطوان لمحدثتنا غدا ـ يقول الشاهد ـ “أن فارسا من  الحمراءِ حلَّ بمرابِعِها، على صَهْوةِ كلماتٍ، فأَنْبَتَ زوجاً بَهيجاً هُنا، وسَقَى فَسِيلَةٍ من فسائلِ الخيرِ هُناك، حتّى أصبحَ أنشودةً في فمِ تاريخِها الـمُتَطاوِلِ…”.

بهذه الكلمات الرائقة التي زُفت من بلاد الحجاز انصرمت الشهادات الأربع في حق الدكتور الناقد محمد الأمين المؤدب، وهي غيض من فيض المواقف والمشاعر التي يحفظها ويكنها له زملاؤه ومعارفه وتلامذته من الأساتذة والمفكرين والعلماء.

وبعد فتح الباب للحضور الكرام من أجل المناقشة والاستفسار، تكلل هذا اللقاء العلمي التكريمي بتقديم درع تذكاري وأخذ صور جماعية تخليدا لهذه المناسبة.

تستمر ثقافة كل أمة
وعلومها عبر جملة من المعابر والجسور، فتارة يكون الجسـر سياسيا، وتارة
أخلاقيا، وتارة يظهر في مظاهر أخرى، ومن الصور التي ساهمت في استمرارية
ثقافتنا العربية الإسلامية وانتشارها صورة المجايلة كما برزت في سلاسل
العلاقات العلمية، وأهم سمة تطبع هذه العلاقة وتعمقها التواشج الأخلاقي
بين المشيخة والتلمذة، فمن خلال قيمة تكريم العلماء بالاحتفاء بنتاجهم
وتنزيله وتكريسه ظل تراثنا حيا منيعا في وجدان هذه الأمة.
ومن أجل
تبيئة هذه القيم وأمثالهـا في راهننا الثقافي ارتأت الرابطة المحمدية
للعلماء (مركز أبي الحسن الأشعري للدراسات والبحوث العقدية) بمناسبة يوم
المخطوط العربي وبالتعاون مع المكتبة العامة والمحفوظات ومكتبة التواصل
أن تخصص هذا اليوم لتكريم المحقق الكبير والناقد الحصيف الأديب الدكتور
محمد أمين المؤدب الذي جمع إلى جانب العلم بالنص التراثي الإجادة في
تحقيقه والرسوخ في قراءته وتفهيمه.
توزعت أعمال هذا اللقاء
العلمي التكريمي الذي احتضنته المكتبة العامة والمحفوظات مساء الخميس 11
أبريل 2019 على ثلاث مداخلات علمية وأربع شهادات توسطتها محاضرة قدمها
المُكرّم، وتقديم مهّد به رئيس المركز الدكتور جمال علال البختي، حيث
كشف فيه عن دواعي هذه الأمسية العلمية وبواعثها، ممثَّلة في ثقافة
الاعتراف والوفاء، مُركزا بعد ذلك على ضرورة تكامل العلوم وتفاعل
المعارف، لاسيما أن علم الكلام ـ من حيث هو بناء نصي ـ له صلة عميقة
بمجمل الأفكـار والأنظـار، عرض  بعدها سيرة العالم محمد أمين
المؤدب وأبرز محطات حياته العلمية والمهنية، مبتدئا بأطوار الطفولة
والطلب والتحصيل، مرورا بذكر أشهر أساتذته وشيوخه، ثم مساره العلمي من
تدريس وكتابة وتحقيق.
المداخلة الأولى كانت
بعنوان «مفهوم البلاغة في كتاب “في بلاغة النص الشعري
القديم”» تناول فيها الدكتور محمد مشبال(أستاذ التعليم العالي
بكلية الآداب والعلوم الإنسانية-تطوان) أحد كتب المكرم بالقراءة من ثلاث
زوايا؛ الأولى شخصية الكاتب، وركز فيها على مجموعة من الصفات، منها
انشغال الباحث بالتحقيق وأثر ذلك في كتاباته النقدية، ومنها عشقه
وقراءته الذوقية لمعالم الشعر والارتياض بعوالمه، والثانية تتعلق بعنوان
الكتاب، ولاحظ أن العنوان يوحي بوجود بلاغات متعددة ومختلفة، إلى جانب
بلاغة كلية ومجردة غير مقيدة بأنواع أدبية معينة، لكن الباحث بحسب
المتدخل لم ينطلق من هذه البلاغة الكلية، وإنما استنطق بلاغة
منبثقة  من هوية النص الشعرية، والثالثة طبيعة التحليل البلاغي
الذي مارسه الباحث في كتابه؛ فقد لاحظ المتدخل أن المقاربة البلاغية في
الكتاب ليست تحليلا أسلوبيا جماليا فحسب، بل ثمة مزاوجة بين هذا التحليل
باعتبار أن النص بنية لغوية مستقلة، وبين النظر إلى هذا النص بوصفه
نتاجا لعلاقة سياقية، أي إن النص الشعري من منظور الكتاب بناء وفعل،
واستند في هذه القاعدة على استنباط السمات المنهجية من ظاهر المقاربة
محاولا استخراج مفهومات بلاغية خفية في الكتاب، فالكاتب وإن أخذ بتصور
بلاغي يتحدد في صنـاعة النص وشعريته وجماليته ونسقيته الفنية، إلا أن
ثمة تصورا آخر وهو البلاغة كنص وسياق، أي ظروف القول وهوية صاحبه ومقامه
التداولي، ما يعني أن مقاربة الباحث جمعت بين الجمالي والحجاجي انطلاقا
من الغرض الشعري والوجوه البلاغية والتماسك بين المقدمات
والأغراض.
أما الوقفة العلمية
الثانية فقدّم من خلالها الدكتور الإمام العزوزي(أستاذ التعليم العالي
بكلية الآداب والعلوم الإنسانية-تطوان)  مداخلة بعنوان
«الشعر الأموي: من جمالية التماثل إلى جمالية
الانزيـاح» قرأ فيها كتابا آخر للمكرم عنوانه “الاتباع
والابتداع في الشعر الأموي: القصيدة المادحة نموذجا”، وانطلق المتدخل من
كون هذا العمل مقاربة جديدة للشعر الأموي حاولت أن تتجاوز الآراء
التقليدية بخصوص تفسير ثنائية التطور والجمود في هذا الشعر، وأهم قناعة
رسخها النقاد ووجهت تفكير اللاحقين والمعاصرين هي قضية التماثل بين
الشعر الجاهلي والشعر الأموي، فذهبت الكثير من الأطروحات تستقري جماليا
ونقديا هذا التماثل الفني في المعجم والإيقاع والصور واللغة الشعرية،
مغيبة ظواهر شعرية عديدة انزاحت بها القصيدة الأموية عن القصيدة
الجاهلية، لاسيما في القصيدة المدحية التي تغيرت في جملة من وظائفها،
لكن أهم سمة حدد الباحث بها التمايز، تمثلت في مرجعية القيم، فالمنظومة
التي يستقي منها الشاعر الأموي قيمه ويستثمرها في لغته وشعريته لم تعد
ترضى بالفضاء الجاهلي مصدرا لهذه القيم، وإنما أصبح المصدر الديني وسيرة
النبي وصحابته هي ينبوع إلهـام لهذا الشاعر، وإذا كانت من ظواهر شعرية
متماثلة على مستوى اللغة والمعجم فالعلة في ذلك انتماء جل الشعراء إلى
البادية واستمرارية نمط العيش البدوي ما شكل معيارا للجزالة والقوة، ولا
يعني هذا أن ثمة قطيعة في التصوير بين الشعرين، فالشاعر الأموي وإن
استند إلى صور جاهلية فهو يقوم بتوليد صور أخرى عليها
وتحويرهـا.
ومن جانب التحقيق، قدّم
الدكتور محمد مفتاح(أستاذ التعليم العالي بكلية الآداب والعلوم
الإنسانية-تطوان) إضاءة علمية بعنوان «مراصد الإطلاع على منهج
تحقيق الإتحاف بين النمطية والاتباع» أبرز فيها الملامح
المنهجية في التحقيق الذي قام به المكرم  لكتاب
«إتحاف ذوي الأرب بمقاصد لامية العرب» لأبي جمعة
الماغوسي، تناول المتحدث في النقطة الأولى محطة ما قبل تحقيق الكتاب،
مبينا أن ثمة جملة من الشروط يجب أن يستوفيها المحقق قبل أن يقدم على
العمل حتى يخرجه للناس سليمـا، وأهمها الثقافة العلمية، وهو شرط يستوفيه
المكرم، لما يتحلى به من موسوعية معرفية، وفي النقطة الثانية وهي محطة
أثناء التحقيق، أبرز فيها أساسا ضروريا تمثل في الاختيار، وقد أحسن
المحقق في اختيار النص الذي يجمع بين الأدب واللغة، لأن العمل يكشف عن
جوانب جديدة في الثقافة المغربية على عهد السعديين. أما الجانب الآخر
فهو المخطوطـات وما يتعلق بها من بحث وتنقيب وتتبع عن نسخ، وقد اعتمد
المحقق على أربع نسخ فريدة، معتبرا نسخة نقلت عن خط المؤلف هي الأصل،
والمرحلة الأخرى تتعلق بقراءة النص قراءة دقيقة، وهو ما لاحظه في عمل
المحقق الذي قرأ النص حتى تمرّس بأسلوب المؤلف مع الإطلاع على كتب أخرى
للكاتب، ومع الانفتاح على المتون التي نقلت عن المؤلف أو نقل منها، وأهم
ما رصده المتدخل في عمل المحقق هو ضبط النص ضبطا محكما ودقيقا، مع تمثله
بالمبدأ الوظيفي في العزو والإحالة، والتدقيق في المظان
والفهارس.
ولم يكن لهذا اللقاء
التكريمي أن تكتمل صبغته العلمية دون محاضرة ألقاها السيد المكرم اختار
لها عنوانا يكشف عن منهجيته في التعامل مع النصوص الشعرية والأدبية، وهو
“شعر المقصورات في الأدب العربي بين الثبات والتحول: مقاربة نصية”. لكن،
قبل افتراع هذا الموضوع، أعرب المحاضر عن غامر سعادته وعميق تأثره بهذه
اللحظة الفارقة من لحظات مساره العلمي التي جمع فيها مركزُ أبي الحسن
الأشعري نخبةً من العلماء والباحثين بغرض قراءة أعماله بنفَس يتزاوج فيه
النقد بالاحتفاء انسجاما مع فلسفة المركز في لقاءاته التكريمية. وعن
المحاضرة، وطّأ الدكتور المؤدّب لموضوعها بشقٍّ أول عنونه بـ”الشعر
وجدلية الثبات والتحول” جعله بمثابة إضاءة عجلى للجانب السياقي والثقافي
والتاريخي لظهور المقصورات، معتبرا أن الخوض في الأجناس الأدبية عامة
وشعر المقصورات بخاصة يستلزم الحديث عن ثنائية الثبات والتحول لرسم مسار
الإبداع الأدبي والوقوف على منعرجاته المختلفة، والحامل على هذا
الاستلزام أمران: أولهما النظر في الأصول الفنية (أي النصوص) وهذا ما
تعتمده نظرية التلقي المعاصرة لتبين ما يتمتع به النص الأدبي من عناصر
بلاغية أو جمالية أو حجاجية. والأمر الثاني يتمثل في مبدأ المماثلة ـ أو
التماثل ـ والذي يمكّننا من قيافة الأشكال التعبيرية في مقاربة المواضيع
الأدبية ورصد أصولها وفروعها. أما بخصوص المقصورة نفسها باعتبارها شكلا
أو نمطا أدبيا ـ وهي القصيدة التي رويّها الألف المقصورة ـ فقد عدد لها
الأستاذ المحاضر أطوارا أربعة تقلبت فيها من الميلاد والنشأة في الشعر
الجاهلي والأموي، وطور النمو والريادة في العصر العباسي (مع أبي صفوان
الأسدي وابن دريد)، إلى طور المعارضات المبدعة مع ابن حريق الأندلسي
وابن عبد المنان المكناسي بما فيها من التماثلات والمحاكاة وبزِّ
المقصورات العباسية، وصولا إلى مرحلة المحدثين والمعاصرين الذين
استفادوا من هذا الإرث الأدبي الذي لا يزال ـ بحسب المكرم ـ في حاجة إلى
من يتعهّده بالبحث والنقد والدرس. أما عن خصائص المقصورات فقد ذكر منها
المحاضر جملة من السمات توقف عند أهمها وأظهرها وهي المبالغة في الوصف،
مشددا على أن دراسة أي مقصورة لا بد لها من أن تلتزم باستحضار سياقها
التاريخي وبالدراسة النصية التي توقف على أصولها السابقة على ما يبينه
هذا المسلك من الإضافات والتماثلات والإبداعات. واختتم محاضرته
بالمصادقة على كون تاريخ الأدب هو تاريخ الأشكال الأدبية ومن بينها
المقصورة.
 بعد هذه
المحاضرة انتقلت فعاليات اللقاء العلمي التكريمي إلى الاستماع إلى
شهادات لله ثم للتاريخ في حق المكرّم ابتدأها الدكتور عبد الرحمن بودرع
(أستاذ البلاغة في كلية الآداب والعلوم الإنسانية-تطوان) بشهادة جعل
“ثقافة الوفاء” عنوانا لها، مؤصلا لهذه الثقافة من خصيصة السند التي
ميزت أمة الإسلام وجعلت الإلمام بسيَر أهل العلم وفضيلةَ الوفاء
لمبرّزيهم معلما من معالم السند بين الشيوخ والعلماء، على ما يعنيه هذا
السند من شرعية التلقي والأخذ عن العَلم المشهود له. وهذا ما رآه الشاهد
منطبقا تماما على الأستاذ الدكتور محمد الأمين المؤدب بشهادة ذوي
الاختصاص في علوم الأدب والبلاغة والعلوم الإنسانية عامة؛ فالمكرم عالم
بحاثة ناقد، يتميز بنسق مخصوص في النقد الأدبي ما جعله صاحب منهج في
مقاربة النصوص الأدبية والشعرية تخرّج بها العديد من الطلبة والباحثين
في مجال الأدب، ولم يكن ذلك ليتأتى لمكرمنا إلا بعد الحذق بالشعر ومذاهب
العرب في كلامها والتمكن من مصادر القصيد ودواوينه وأيامه ودواعيه
وشروحه ونقاده.. ما مكنه من الكشف عن جملة من الخبايا والدقائق التي
غبيَ عنها آخرون. ومن نظر في تحقيقات الرجل النفيسة ودراساته التي عنيت
بالمواضيع الغميسة تحقق من هذه الأحكام والأوصاف. وبالجملة فإن الدكتور
المؤدب يتمتع بأصالة بارزة في القراءة والكتابة والتجديد ما يجعله لكل
احتفاء أهلا وقمينا.
في الشهادة الثانية نثر
الدكتور عبد العزيز الحلوي(أستاذ الشعر العربي في كلية الآداب والعلوم
الإنسانية-تطوان) لوامع من ذكرياته الحية التي جمعته برفيقه الدكتور
المؤدب زهاء أربعة عقود منذ أن احتضنهما فضاء مدرسة الأيوبي الثانوية
بمدينة سلا مرورا باجتيازهما معا امتحان ولوج الكلية، ليلتحقا معا ـ بعد
افتراق دام شهورا بسبب التكوين في مؤسستين جامعيتين مختلفتين ـ بكلية
الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان، حيث تعمقت علاقة الزمالة والصداقة
بينهما ما جعله يتعرف ـ عن قرب وخبْر ـ على سمات وأخلاق الدكتور المؤدب
الإنسان والأستاذ؛ فعن الإنسان، يتمتع المحتفى به بأخلاق عالية هي محل
إجماع من قبل معارفه وزملائه، من أظهرها الصدق والوفاء وحب الخير للناس
والبعد عن الحسد والحقد والتملق.. وعن المؤدب الأستاذ تجده يتميز بميزة
المهارة والجدية في التدريس بفعل التدرج في مراحل التعليم المهنية،
والصرامة والدقة في التنقيط والتأطير، فضلا عن البراعة في تحليل النصوص
الأدبية والحس النقدي والروح الموضوعية والنزعة الموسوعية في مقاربة
مواضيعها.. كل هذه السمات والخلال جعلت المكرم يتبوأ مكانة عالية في
سماء العلم والأدب.
 أما
الشهادتان الثالثة والرابعة فقد تجملتا بأدب الترسّل ولمسات من شعر رقيق
ومخيال شفاف، تصدى لهما الدكتور بدر العمراني (أستاذ الحديث بكلية أصول
الدين بتطوان) أصالة عن نفسه في الأولى، ونيابة في الثانية بقراءة
لرسالة بعثها صنوه الدكتور قطب الريسوني.
“ذكرى ولا أحلى” هو
عنوان شهادة الدكتور بدر العمراني في حق المكرم؛ جعلها أشعة ساطعة
انبجست بعد موران باقة من الذكريات عصفت بمفكرته وذاكرته؛
أولها:
شُعاعٌ منْ وِدادٍ ذي
سناءِ       يضوع شذًى بأفواء
الثّناءِ
ويعود به نوره إلى
سنوات الطلب برحاب كلية الآداب بمرتيل حيث تناهى إلى سمع الدكتور
العمراني صدى عال بذكر علو كعب أستاذ للأدب والشعر يزهو به الدرس الأدبي
الجامعي. وثانيها:
شُعاعٌ بالمعاني في
اختيالِ
لأشواقٍ أثار نَدَى الْمعالي
ومورده تعرّف الشاهد
على تحقيق الدكتور المؤدب وتقديمه لـ”إتحاف ذوي الأرب بمقاصد لامية
العرب” لأبي جمعة سعيد بن مسعود الماغوسي المراكشي (ت.1016هـ)، وهو
العمل النفيس الذي أفاد منه الدكتور بدر في تحقيقه لكتاب “إحقاق الحق
وتبريء العرب مما أحدثه عاكش اليمني في لغتهم ولامية العرب..” لابن
التلاميد التُّركُزي.
وثالثها:
شُعاعٌ في
مِثالٍ باحْتذاءِ
يَمُوحُ جلالةً
نَحْوَ الضِّياءِ
فقد عصف بالشاهد وهو
ابن طنجة ـ بعد تعيينه بجنوب المغرب أستاذا ـ ما عصف بالمشهود له وهو
ابن المدينة الحمراء من النأي عن الديار والبعد عن الأحباب وما يخلفاه
من هواجس وقلق وترقب؛ لكن الدكتور المؤدب كان قدوة في الاستئناس
والاندماج.. فضرِب له مثالا في ذلك من قبل المرحوم الدكتور عبد الله
الترغي، فكان بذلك من رسائل المواساة وسببا من أسباب الرضا.
كل هذه
الأشعة انطلقت ثم اجتمعت تنثال على الشاهد انثيالا فكان منها ما قرضه
شعرا في شخص المكرم، ومنه:
ذِكْرى المُؤَدّبِ
تَحْلُو
أشعّةً مِنْهُ
تَجْلُو
وَشْيٌ لَدَيْها
جَليلٌ
لِلْوَصْلِ بَاهٍ وَيَعْلُو
والأُنْسُ يَرْويهِ
فَصْلاً
يَغْدُوهُ لِلنَّهْجِ أَصْلُ
ومن مرابع الشارقة أرسل
الدكتور الريسوني (رئيس قسم الفقه وأصوله بكلية الشريعة بجامعة الشارقة)
شهادة في حق عريس هذا اللقاء؛ “عريس الصحائف والمحابر.. الذي صاحب
الشّنتمري والماغوسي واليوسي غدوا ورواحا، وورث عنهم عرق الفحولة وماء
الحلاوة” ـ على حد تعبير الدكتور قطب ـ لقد كان عريسنا من الغواصين في
الأدب والشعر؛ يقف على ريّقه وشيّقه، ويستشف كوامن التخييل وأسرار
الصنعة فيه، يخوض فيه خوض الشارح الماهر والقارئ الناقد، ولذلك لا يتردد
الدكتور قطب في الاعتراف قائلا: “لا أعرف له في المغرب قِرْنا في تخصصه
مع مسكة جيدة في علوم الآلة”. وإن تطوان لمحدثتنا غدا ـ يقول الشاهد ـ
“أن فارسا من  الحمراءِ حلَّ بمرابِعِها، على صَهْوةِ كلماتٍ،
فأَنْبَتَ زوجاً بَهيجاً هُنا، وسَقَى فَسِيلَةٍ من فسائلِ الخيرِ
هُناك، حتّى أصبحَ أنشودةً في فمِ تاريخِها
الـمُتَطاوِلِ…”.
بهذه الكلمات الرائقة
التي زُفت من بلاد الحجاز انصرمت الشهادات الأربع في حق الدكتور الناقد
محمد الأمين المؤدب، وهي غيض من فيض المواقف والمشاعر التي يحفظها
ويكنها له زملاؤه ومعارفه وتلامذته من الأساتذة والمفكرين
والعلماء.
وبعد فتح الباب للحضور
الكرام من أجل المناقشة والاستفسار، تكلل هذا اللقاء العلمي التكريمي
بتقديم درع تذكاري وأخذ صور جماعية تخليدا لهذه المناسبة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق