مركز أبي الحسن الأشعري للدراسات والبحوت العقدية

تقرير المحاضرة الأولى من سلسلة المحاضرات الشهرية: «الفلسفة في السياقات الإسلامية من دعوى الموت إلى دعوى التراكم»

تشغل قضية التراث مساحة واسعة من التفكير العربي الإسلامي المعاصر، فمنذ طُرح سؤال قراءته شرعت الأطروحات الفكرية تتعدد وتتناسل، فتارة تنحو القراءة في اتجاه الانتصار لقضية من قضاياه أو شخصية من شخصياته، وتارة تتجه إلى تسفيه مضمون من مضامينه أو غمط علم من أعلامه، فتكاثرت القراءات والتأويلات وتباينت بحسب التيارات والمذهبيات، إلا أن ثمة قراءات منهجية اختارت مسلك تمثل آليات البحث العلمي من نقد وفحص وتفتيش وتنقيب وتفكيك  وتركيب ومقارنة وغيرها، فأذعنت لما تقتضيه هذه التقنيات المعرفية من نتائج وخلاصات.

وممن نهج هذا المسلك الدكتور فؤاد بن أحمد أستاذ الفلسفة بدار الحديث الحسنية-الرباط، فقد شرع في هذا الطريق بداية من أبحاثه الأكاديمية الأولى، فاشتغل على منزلة التمثيل عند ابن رشد، وأعاد تركيب سيرة ابن طملوس وفق المقاربة الببليوغرافية، وساهم في تحقيق متون تراثية فلسفية مهمة، وشارك في عدة ملتقيات علمية دولية، واشتبك في أبحاثه مع مجمل النظريات الاستشـراقية حول تاريخ الفلسفة في السياقات الإسلامية نقداً ومراجعة وتقويما، وكان من بين هذه النظريات  جملة دعاوى أطلقتها الدراسات الاستشراقية منذ القرن التاسع عشر حول حضور ابن رشد في هذه السياقات، ما تطلّب من الباحث تخصيص مشـروع ـ مراجعة تاريخ الفلسفة في السياقات الإسلامية انطلاقا من أثر ابن رشد حاضرا وماضيا ـ في سلسلة محاضرات احتضنها مركز أبي الحسن الأشعري للدراسات والبحوث العقدية، تتكون هذه السلسلة من خمسة عروض سعى الباحث أن تكون مذيلة بتعقيبات ومناقشات تختبر فرضياتها وتتحقق من نتائجها، انطلق الأول منها يوم 25 فبراير 2020 بمقر المركز.

قبل أن يتطرق الباحث فؤاد بن أحمد لموضوع محاضرته الأولى مهّد بتوطئة حدّد فيها مضمون مشـروعه وبواعثه ومقاصده، يشتمل في منحاه العام على قسمين كبيرين، أولا عرض نقدي لما كُتب عن تاريخ الفلسفة في السياقات الإسلامية في مجال الاستشراق الغربي والفضاء العربي الإسلامي الحديث، ثم تقديم بدائل نظرية تقابل المقاربات الاستشـراقية ومن تأثر بها من أجل خلق تقاليد متعددة في التأريخ للفلسفة، لكن معالجة هذا الموضوع في نظر المتدخل ليست استنتاجا قطعيا مغلقا وإنما تقديم نتائج وخلاصات على أساس اعتبارها فرضيات للاختبار والفحص تقبل التفنيد والتكذيب لتطويرها وتعميقها.

كان عنوان العرض الأول «الفلسفة في السياقات الإسلامية من دعوى الموت إلى دعوى التراكم»، وهو عرض غني بالمعلومات والشواهد والتفاصيل والاستطرادات سنقتصـر على خطوطه الكبرى، افتتح  بالنظرية المتداولة في السياق الغربي الفلسفي الحديث حول الفرق بين الفلسفة والثيولوجيا، وقد انبثق منها بحسب الباحث مفهوم «الفلسفة المسيحية» كما نحته إتيان جيلسون، ومن رحم هذا النقاش تولد مفهوم آخر هو «الفلسفة الإسلامية» على يد تلميذه هنري كوربـان، جاء ذلك ـ كما بيّن المحاضر ـ اعتراضا على دعوى إرنست رينـان في نفي وجود فلسفة في الإسلام بالمعنى المتداول في التاريخ الأوروبي، وأنه إذا كانت للمسلمين فلسفة تخصهم فهي المتعلقة بالفرق الكلامية.

هذه الدعوى بحسب نظر المتدخل سيتلقفها الفكر العربي ويتم تكريسها في صيغ مختلفة، ستظهر مع البعض في صورة مخففة، لكن مع البعض الآخر ستبرز في صيغة مضيقة كعلي سامي النشار الذي نعت الفكر الأشعري بكونه هو الفلسفة الإسلامية و«جوهر الحياة الفكرية والتعبير النهائي عن الأمة الإسلامية»، وقد استشكل المحاضر هذا الوصف مع استحضاره لحكم آخر مقابل أطلقه إغناتس غولدتسيهر ادعى فيه أن الفلسفة ظلت على هامش المجتمع الإسلامي ولم تستطع اختراقه، ويعلل الباحث هذا التباين بالتباسٍ باعثه العامل الحضاري، فتسمية علم الكلام بالفلسفة رد فعل على الخطاب الأكاديمي الاستشراقي الذي انتهى إلى القول بانحطاط العالم الإسلامي في عصوره المتأخرة.

ويرجع الحكم الاستشراقي على العالم الإسلامي بالانحطاط بسبب التخلي عن عقلانية ابن رشد الذي لم يتمكن من تأسيس مدرسة عند أهله بتعبير إرنست رينان في أطروحته للدكتوراه «ابن رشد والرشدية»  ـ كما وضح المتدخل ـ، وهو كتاب أثر في الدارسين العرب المحدثين تأثيرا ساحقا إلى اليوم، مع أن الأطروحة موجهة إلى العالم الغربي، فالحديث لم يكن عن ابن رشد وإنما كان عن Averroès وكيفية تلقيه في إيطاليا، واستغرب الباحث أن هذا الفيلولوجي لم يقرأ حرفا واحدا بالعربية لابن رشد، وأطروحته نفسها تتضمن تلاخيص لآراء مستشرقين آخرين.

ولم تقف دعوى الاستشراق عند التخلي عن عقلانية ابن رشد، وإنما تم ربط الانحطاط بالضربة التي وجهها الغزالي إلى الفلسفة، وهو حكم لم تتضمنه أطروحة إرنست رينان، بل ظهر عند مستشرق تربطه علاقة أكاديمية بهذا الأخير، وهو سالومون مونك الذي كان قد أنجز مداخل فلسفية للمعجم الفلسفي، وانتهى إلى رأي مفاده انسحاب التفكير الفلسفي لصالح انتشار العقيدة الأشعرية، وهو حكم ورد عند مؤرخي الفلسفة العرب مثل “جورج قنواتي” وآخرين، لكن هذا الرأي تمت مراجعته من قبل مستشرق آخر هو “دي بور” الذي اعتبر الحديث عن الضربة القاضية مجرد وهم في كتابه «تاريخ الفلسفة في الإسلام»، وهو كتاب أحدث تأثيرا كبيرا في مؤرخي الفلسفة في العالم الإسلامي، ومع ذلك أشار المتدخل إلى أن الكتاب مقيد بحكم الانحطاط، بالرغم من اعتراف المستشرق بعدم انبناء عمله على بحث مستقص في المخطوطات.

وبعد هذه الجولة الموسعة في مرجعيات استشراقية كبرى كان لها الدور في تشكيل العقل التاريخي في الفضاء العربي الإسلامي الحديث، استغرب الباحث تأثر  هذا الفضاء في عمومه بالخط الذي رسمته الأطروحة الاستشراقية لتاريخ الفلسفة في الإسلام، وحكمها على التفكير الفلسفي في العصور المتأخرة بالانحطاط، وهو حكم صيغ بحسب نظر الباحث لأغراض سياسية، وإلا كيف يعقل أن نحكم بموت الفلسفة أو الدخول في عصر الانحطاط بسبب كتاب «تهافت الفلاسفة»؟ مع أن الرد على الفلاسفة كان قبل الغزالي وبعده، ما يعني أن الكتاب يجب أن نضعه في منزلته التاريخية الصحيحة، مستفهما كذلك ومعترضا بكيفية تفسير ظهور تراث واسع من الأعمال والمؤلفات في علوم دقيقة (جبر، هندسة، فلك، بصريات..).

في تعقيبه على هذا العرض، سجل الباحث محمد الصادقي الأستاذ بكلية الآداب بفاس، جملة من الملاحظات، ابتدأها بموافقة المحاضر على القراءة التي تتحاشى المفاضلة بين التيارات الفلسفية، مثمنا الخلاصات التي انتهت إليها مقاربته، التي وصفها  بمحاورة الأطروحة الاستشراقية بندية وفضح دعاويها وما يكمن خلف ذلك من أغراض ومقاصد، مُعززا بالدراسات وأعمال التحقيق التي تفيد أن العلوم العقلية بشكل عام ظلت مستمرة بعد ابن رشد.

 إن رفض هذه الدعوى في رأي المعقب تفتح آفاقا إشكالية متعددة، مع الاعتبار بأن التشكيك في هذه الأطروحة ليس كافيا، فهو وإن كان مفيدا في دفع استمرارها فإنه غير كاف ولا مانع من قيام سردية جديدة تقدم مرة أخرى صورة مغلوطة عن الفلسفة الإسلامية، لذلك وجب الوقوف مع هذه الآفاق التي وصفها الأستاذ الصادقي بـ«الأوراش»، منها: صورة «التهافت» في المصادر الوسيطية، وما المقصود بالفلسفة الإسلامية التي حكم عليها البعض بالموت ودافع الباحث عن استمرارها؟

وقد بين المعقب أن ثمة دلالة أخرى كامنة في كتاب «التهافت» تتجاوز دلالة الربط بينه وبين موت الفلسفة، هي أن الغزالي لم يكن قصده هدم جنس علمي آخر بقدر ما كان تعبيرا عن حاجة داخلية في إصلاح علم الكلام الذي عاش مخاضا خصوصا مع التحدي الذي شكلته الفلسفة له ببرهانيتها، كما أن توتر الكلام والفلسفة لم يكن مقتصرا على جانب المتكلمين فحسب، بل تم من قِبل الفلاسفة أيضا حيث تعرضوا منذ الكندي لمسائل دينية اعتقادية.

وبالرغم من تأكيد المعقب على براءة كتاب «التهافت»  من موت الفلسفة، إلا أن استشكال أثر الكتاب على مسار الفلسفة يظل قائمـا بحسب رأيه، لهذا بّين أن الرد على دعوى موت الفلسفة ومسؤولية التهافت لا يتم بمجرد نفي ذلك، بل لا يكتمل إلا ببيان كيف واصلت هذه الفلسفة حياتها بعد التهافت.

هذه كانت أهم ملاحظات المعقب على الباحث الذي اختار نهج المقاربة الأكاديمية في نقد القراءات الاستشـراقية لتاريخ الفلسفة في الإسلام وتجلياتها في الفكر العربي، وهذا النهج ـ بحسب رأي المعقب ـ في نقد الاستشراق من شأنه أن يساهم في ترسيخ تقليد جديد في تعامل الدارسين عربا ومستشرقين مع الفلسفة الإسلامية، مفاد هذا التقليد هو الرجوع إلى نصوص الفلسفة الإسلامية قبل إصدار الأحكام عليها؛ وكذا تغليب المقاربة الأكاديمية في دراستها بدل المقاربة الإيديولوجية أو الإسقاطية، لاسيما في تنازعها حول أصالة الفلسفة الإسلامية.

بعد المحاضرة والتعقيب، فُتح الباب واسعا للمداخلات التي ناقشت الباحث في المحاور الكلية للمحاضرة وجزئياتها، قابلها المحاضر بالترحيب مثمنا مضامينها، فقصدُه كما ذكر وأكّد هو أن يغتني البحث بالتعليقات والانتقادات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق