وحدة الإحياء

ملتقى الإحياء 6: “النظام القضائي في الإسلام من خلال كتاب: الأبحاث السامية في المحاكم الإسلامية”

نظمت الوحدة العلمية للإحياء ملتقاها السادس حول موضوع “النظام القضائي في الإسلام من خلال كتاب: الأبحاث السامية في المحاكم الإسلامية” للشيخ قاضي الاستئناف الشرعي محمد بن محمد المرير “يوم الأربعاء 22 أكتوبر 2014م، الموافق لـ27 ذي الحجة 1435ﻫ، بقاعة الاجتماعات بمقر الرابطة المحمدية للعلماء، وذلك بمشاركة السادة الأساتذة: د. محمد الكتاني عضو أكاديمية المملكة المغربية/مكلف بمهمة بالديوان الملكي العامر، ود. عبد الغفور ناصر رئيس المجلس العلمي المحلي بمدينة تطوان، ود. جعفر بلحاج وذ. أحمد المرير، ودة. مجيدة الزياني الأستاذة بدار الحديث الحسنية، ود. عبد الحميد عشاق الذي أسهم في العناية بهذا الكتاب وإعداده للنشر بدار الحديث الحسنية، ود. عبد السلام طويل الذي نسّق وأدار فعاليات هذا الملتقى.

النظام القضائي في الإسلام من خلال كتاب: الأبحاث السامية في المحاكم الإسلامية

استهل الدكتور عبد السلام طويل هذا الملتقى بالإحالة إلى أرضية تأطيرية جاء فيها: “إذا ما استعدنا مسار تغلغل التشريعات والبنيات المؤسسية الغربية الوافدة على العالم العربي الإسلامي في ركاب الاستعمار، الذي عمل للتمكين للنموذج التحديثي الغربي من خلال مفهوم الدولة الوطنية (Etat Nation)، فسوف يتبين لنا مبلغ الإرباك والتحدي الذي أحدته للمنظومة الإسلامية التقليدية؛ فقها وتنظيمات، مرجعية ومنظومة قيم.

فمع أن التجديد في البنيات المؤسسية؛ الإدارية والقضائية يندرج ضمن دائرة الاجتهاد التي تتسع باتساع دائرة العفو، أو ما جرى التعبير عنه بمنطقة “الفراغ التشريعي” وفقا للكليات المقاصدية المبنية على جلب المصالح ودرء المفاسد، إلا أن السياق الاستعماري التغريبي، وما مثله من تحد مادي ورمزي كاسح للذاتية الحضارية للأمة، جعل عملية الاجتهاد والتجديد تتم وهي محفوفة بالعديد من المكاره..

 وما استتبع ذلك من فرض لأولوية الدفاع عن الأصول والثوابت المميزة للمعتقد والذات والهوية؛ فبدل المضي قدما في عملية الاجتهاد والتجديد وجدت الأمة نفسها، منحشرة في موقف الذود عن مجرد الوجود من خلال “الدفاع عن أصل وجود المؤسسات الإسلامية في التعليم والقضاء والفكر وغيرها”، وذلك في مواجهة اطراد زحف التشريعات الغربية، وانحسار الشريعة الإسلامية الأمر الذي مكن لهيمنة التشريع الغربي على مختلف الأنظمة؛ القضائية، والتجارية، والعقارية، والجنائية..

النظام القضائي في الإسلام من خلال كتاب: الأبحاث السامية في المحاكم الإسلامية

ورغم الاستجابة والممانعة التي مثلتها تجربة “مجلة الأحكام العدلية (وهي تقنين شمل نظام المعاملات المدنية غير التجارية، صاغته لجنة ترأسها أحمد جودت باشا سنة 1876، بعد أن استغرقت في إنجازه زهاء سبعة أعوام، واستقت أحكامه، بشكل أساسي، من كتب ظاهر الرواية في المذهب الحنفي..)، و”ملتقى الأبحر” (وهو مصنف فقهي من جزأين أعده الشيخ إبراهيم الحلبي)، وموسوعة “الفتاوى الهندية الشاملة”، و”لجنة تدوين الفقه الإسلامي” بالمغرب وغيرها، إلا أن تسرب النظم القانونية الوافدة في القوانين ونظم المحاكم، كان “مبعثا للانفصام في النظام القانوني ومنشأ للازدواجية فيه” في الحال والمآل.

وهو ما جعل من الاستقلال القانوني والقضائي مطلبا ملحا لرموز الحركة الوطنية وعلماء الأمة على امتداد العالم الإسلامي. وذلك على هدي الشريعة الإسلامية ومقاصدها الكلية، بعد أن وقر في يقينهم أنه “لو وطئت أكنافها وعبدت سبلها، لكان لنا (من تراثها الجليل) ما ينفخ روح الاستقلال في فقهنا وقضائنا وفي تشريعنا…

وفي هذا السياق، تندرج محاولة الشيخ المرير الذي طالما تشوف إلى نظام قانوني وقضائي يعبر عن شخصيتنا الحضارية وهويتنا الوطنية، مثلما يعبر عن عقليتنا ونفسيتنا وذاكرتنا الجماعية. لقد كان من السباقين، على غرار عبد الرزاق السنهوري وعلال الفاسي، للدعوة إلى الاستقلال القانوني؛ الفقهي والقضائي انطلاقا من إيمانه الراسخ بصلاحية الشريعة الإسلامية ومرونتها وقابليتها للتطور.

النظام القضائي في الإسلام من خلال كتاب: الأبحاث السامية في المحاكم الإسلامية

غير أن يقين الشيخ المرير في صلاحية الشريعة لا ينفك عن إيمانه بضرورة الاجتهاد والتجديد الذي بهما تتحقق هذه الصلاحية وتكون. وفي هذا السياق لا يخفي اندراجه ضمن الزمرة القليلة المواجهة للفئة الكثيرة المترددة، بل والمناوئة للاجتهاد والتجديد على هدي الشريعة ومقاصدها سعيا لاستعادة المبادرة الحضارية في إنتاج الأفكار والنظم والمؤسسات المنبثقة من الإسلام ومنظومة قيمه في انفتاح راشد على الكسب الإنساني في غناه وتعدد مصادره.

وهو ما حاول تنزيله من خلال مؤلفه موضوع ملتقانا هذا. وبذلك فقد حدد موضوع كتابه في إصلاح النظام القضائي الشرعي وجعله مواكبا ومستجيبا للتطورات والتحديات التي يفرضها النظام القضائي الحديث كجزء لا يتجزأ من بنية ومفهوم الدولة الحديثة، التي جاءت بمؤسساتها وهياكلها وقوانينها ونظامها المعياري في ركاب الاستعمار، مع ما يستلزمه ذلك من جهد في التأصيل والتأويل.

النظام القضائي في الإسلام من خلال كتاب: الأبحاث السامية في المحاكم الإسلامية

وقد استشكلت هذه الأرضية العلمية موضوعها من خلال التساؤلات التالية:

1. هل منظومة القضاء الشرعي التقليدية كفيلة بمواكبة التطورات التي يعرفها عالمنا المعاصر بكل تناقضاته وتعقيداته دون إحداث ثورة عميقة في بنيتها وهياكلها ووظائفها؟

2. هل يمكن إحداث تغيير وتطوير عميق في منظومة العدالة دون إحداث نفس التغيير والتطوير في بنية الدولة التي تستلهم المعيارية الإسلامية في الحكم؟

3. وهل أزمة النظام القضائي والقانوني في العالم العربي الإسلامي راجعة في أصلها إلى الاستعمار أم أنها، أبعد من ذلك، نتيجة طبيعية لمسار تاريخي من التراجع الحضاري الشامل والمركب الذي عرفته الأمة ولا تزال؟ وأن الحل إنما يكمن في خلق الشروط الموضوعية والذاتية اللازمة لاستئناف النهضة الحضارية للأمة وليس في الإمعان والإصرار على استبقاء التنظيمات القديمة، والسعي عبثا لبث الروح فيها بمعزل عن تحقيق هذا الاستئناف الحضاري؟

4.  كيف لنا أن نميز بين ما هو قيمي معياري متصل بالأحكام القطعية الموجهة لفاعلية الأمة في تدبيرها لشأنها العام، وبين ما هو أذاتي إجرائي مؤسسي يمثل خلاصة الكسب الإنساني في الترجمة التنظيمية لمنظومة القيم والمعايير والأفكار بهذا الصدد؟

5.  كيف لنا أن نستمد ونستلهم معيارية الحق والعدل والحرية والمساواة والشورى كما يستبطنها القرآن الكريم والسنة الصحيحة، في بناء نماذج تنظيمية تستوعب الكسب الإنساني المعاصر وتتجاوزه؟

النظام القضائي في الإسلام من خلال كتاب: الأبحاث السامية في المحاكم الإسلامية

بعد ذلك عرض الدكتور عبد الحميد عشاق لأهم المحاور والقضايا الكبرى التي تضمنها هذا السفر المرجعي؛ معتبرا أنه “محاولة من فقيه عارف خبير بالقضاء ومؤسسة القضاء لإصلاح النظام القضائي الشرعي في المغرب، وتذكير الأمة بأيامه وأطواره التاريخية وبخصائصه ومحاسنه، والدعوة إلى تجديد النظر في وسائله وتراتيبه وخططه وهياكله بما يناسب الوقت الحاضر. وقد عمد الشيخ محمد المرير رحمه الله في هذه المهمة إلى تقسيم الكتاب إلى ثلاثة أجزاء:

الجزء الأول؛ خصصه للكلام عن أدلة الفقه الإجمالية التي يتعين على القاضي أن يلم بها وأن يعرفها معرفة ضرورية، أما الجزء الثاني فقد خصصه للحديث عن الولاية الخاصة التي تشترك مع القضاء في استيفاء الحقوق وفصل الخصومات، كولاية المظالم والشرطة والحسبة، أما الجزء الثالث فقد خصصه للولاية العامة، والمحاكم الحالية العصرية، ووطأ لذلك بإشارات تتعلق بالإمارة العامة، وأصل الفرق بين الخلافة والملك، جاعلا المدار على المعنى لا على اللفظ..

 وفي هذا السياق اعتبر أن الحكومة الإسلامية يصح أن يقال فيها ديمقراطية بالمعنى العصري؛ أي مبناها على المساواة وعدم التفاضل بين أفراد الأمة، ويصح أن يقال فيها دستورية وقانونها القرآن وصحيح السنة وإجماع علماء الأمة مما استخرجوه منها، ويصح أن يقال فيها  نيابية؛ أي للأمة الحق في مراقبة أعمال الخليفة وأن على الخليفة المشاورة فيما يهم مصالح الأمة.

أما سبب تأليفه لهذا الكتاب وسياقه التاريخي؛ فقد أوضح الأستاذ عشاق كيف أن هذا الكتاب قد جاء استجابة لما شهدته الساحة السياسية والفكرية من جدل قبل استقلال المغرب وبعده في التعامل مع المشكلة التشريعية.

ومن جهة أخرى، فقد أبرز السيد المتدخل كيف أن كتاب الأبحاث السامية جاء غنيا بمنزع نقدي للأفكار والأوضاع الفقهية والقضائية التي رضيت بالتقليد، وجمدت على المسطور من غير التفات إلى قرائن الأحوال ومراعاة العوائد والأعراف، والنظر إلى المآلات، وإعمال الاجتهاد المنوط بالمصلحة..

بعد هذا العرض المكثف لمجمل قضايا هذا المجلد موضوع هذا الملتقى وقف السيد المتدخل على أهم الخصائص التي ميزت تصور الشيخ المرير لتقنين وتدوين الأحكام الفقهية للمغرب، والتي أجملها في ضرورة مراعاة العرف وقرائن الأحوال، الأمر الذي يعطي الأحقية لكل دولة في أن يكون لها نظام شرعي خاص بها تبعا لاختلاف العوائد والأعراف التي يستند إليها الحكم الشرعي فيها.

النظام القضائي في الإسلام من خلال كتاب: الأبحاث السامية في المحاكم الإسلامية

وتفاعلا مع ما سبق اعتبر الدكتور محمد الكتاني أن الفقيه محمد المرير يعد أحد جهابذة الفقه المغربي المعاصر، في فترة عم فيها النصيون الحرفيون أو الشكليون ممن يرفضون التجديد والتغيير بأي صورة، في حين أن الشيخ المرير يعد من طينة محمد بن الحسن الحجوي وعلال الفاسي في منزعهما التجديدي والإصلاحي..

ولذلك فقد بلور مشروعا إصلاحيا يتشكل من محورين؛ محور قيمي تشريعي، ومحور مؤسساتي إداري، يتضافران ليشكلان منظومة متكاملة تبدأ بالنص وتمر عبر المؤسسة المطبقة للنص، ثم تمر بذلك إلى المؤهلين لفهم النص، وروح المؤسسة التي يعملون فيها، ثم إلى الدوائر المكملة للمنظومة القضائية.

فالأستاذ الكتاني لا يتصور أي إمكان لإصلاح القضاء بدون نظام حكم يؤمن بهذا الإصلاح  وضرورته. والدليل على ذلك ما قدمه الشيخ المرير رحمه الله حول اللجنة المكلفة بالنظر في تقنين الأحكام والتي لم تجتمع إلا مرة واحدة أثناء التأسيس، مما يدل على أن مشروع اللجنة أطلق وهو مقيد. ونظير ذلك حدث لفقيد المغرب محمد الخامس، رحمه الله، كما تحدث عن ذلك علال الفاسي حينما أسس لجنة لمراجعة الأحكام الفقهية وتدوينها  سنة (1960م) ولكن اللجنة لم تجتمع ولم تعمل شيئا لأن البلد مازال حينها رازحا تحت كل الإكراهات الإدارية التي خلفها المستعمر.

وفي هذا السياق سجل الدكتور الكتاني ريادة الفقيه محمد المرير للدعوة إلى إصلاح القضاء وفي هذا يقول: “فالرجل ممارس؛ يعرف أين مواطن الاختلال وأين أسباب تحقيق الكمالات. وفي نظري هناك مطلب أساسي لكي نعطي للفقيه المرير مكانته، يعني أن نضعه في سياقه التاريخي، ولا نقصد بذلك سياق الوضع الاجتماعي  ولا الوضع السياسي وإنما السياق الفكري العام.. ما أريد أن أقوله هو وضع الشيخ المرير في هذا السياق الواسع من الإطار الفكري الفقهي حتى يسترجع مكانته وحتى نقول للشرق هذا أحد المفكرين الذين قالوا ما كان ينبغي أن يقال في الوقت الذي سكتم فيه انتم على هذه الأشياء التي أشار إليها، ففي الوقت الذي كان يقول هذا الكلام لم يكن أحد يقول به”.

فعندما منيت دار الإسلام بالاستعمار والاحتلال منذ أوائل القرن التاسع عشر، واستمر زحفها إلى بداية القرن العشرين، اختلت أنظمة العالم الإسلامي بشكل مريع، وهب المصلحون يتحدثون عن طريق الإنقاذ وتجاوز العجز، وجهدوا على بعث هذا الجسم الخامد الذي هو العالم الإسلامي من جموده وتخلفه، فتوزعت جهودهم في ميادين رئيسة من قبيل إصلاح الاعتقاد وإصلاح الشريعة وتنظيمها، ثم وضع المؤسسات الكفيلة بجعل الشريعة تعود إلى الحياة من جديد. فبينما رفع المشرق شعار تطبيق الشريعة بحرارة وحماسة كبيرين، يلاحظ الدكتور محمد الكتاني كيف أن بلدنا المغرب، خلافا للمشرق، كان الهم الأكبر لدى علمائه يتمثل في إصلاح العقيدة وقد قام بذلك علماء أفذاذ. ومن هنا تنبع أهمية إسهام الشيخ المرير في تركيزه على الإصلاح المؤسسي والفقهي.

النظام القضائي في الإسلام من خلال كتاب: الأبحاث السامية في المحاكم الإسلامية

أما الدكتور عبد الغفور ناصر فقد استهل حديثة بالإشارة إلى ذكرياته وصلته الخاصة بالشيخ المرير في لوحة استرجاعية موحية غاصة بالدلالات. ليقف بعد ذلك على حدود الاجتهاد والتجديد؛ معتبرا فضيلته أن هذه الضوابط والحدود قد وضعها الأقدمون وأقرها حتى المعاصرون، ومفادها أن “النصوص الشرعية سواء من القرآن أو من السنة الصحيحة وبالأخص المتواترة، منها ما هو صريح ومنها ما هو ظاهر، يقول ابن السبكي رحمه الله: “والصريح الذي لا يقبل تأويلا”، والنص الظاهر هو محل الأخذ والرد ومحل الاجتهاد”؛ فالاجتهاد، بهذا المعنى، يكون فيما يمكن تغييره مراعاة للظروف والبيئات المتعاقبة والوقائع والظواهر المتغيرة، أما الثابت فلا مجال لفتح باب الجدال فيه لأنه أمر محسوم.

على إثر ذلك عاد الدكتور الكتاني للتذكير بأن الإمام الشاطبي نظر إلى السنة النبوية باعتبارين؛ باعتبار أن النبي صلى الله عليه وسلم مبلغ لوحي ربه وباعتبار كونه إماما، مؤكدا على ضرورة التفريق بين مسؤولية الإمامة التي تقتضي التجديد وتغيير الأحكام بحسب المقتضيات والظروف، وهذه نقطة ثمينة جدا. وفي هذا السياق أبرز فضيلته أن  “تناول القضاء في الإسلام يعد بمثابة تناول لقلب الإسلام كله؛ لأن كل شيء يعود إلى القضاء، يصدر عنه ويعود إليه، وهو لب إصلاح المجتمع الإسلامي، والمجتمع الإسلامي لا يشكو إلا من هذا الداء الوبيل وهو تخلف القضاء في تطبيق الشريعة وفي تنزيل أحكامها على الواقع المعيش، ليخلص فضيلته إلى أن الأمر بات يقتضي ما عبر عنه بـ”الاجتهاد في فهم الاجتهاد” وسياق هذا الاجتهاد.

وهو ما استحضره الأستاذ عبد السلام طويل حينما شدد على أن كتاب الشيخ المرير يستمد قيمته من سياق إنتاجه؛ باعتباره نوعا من الاستجابة التاريخية والحضارية لما جرى التعارف عليه بصدمة الحداثة، حيث فوجئت الأمة بنموذج لدولة وطنية حديثة أتى في ركاب الاستعمار، مع ما أثاره ذلك من تحد لضمير الجماعة الوطنية، وما استقر عليه أمرها أزمانا متطاولة في ظل نموذج للعمران ونموذج للاجتماع السياسي اعتراه الكثير من الوهن.

 كل ذلك شكل صدمة وتحديا حقيقيا جعل الشيخ المرير يستجيب له بتأليف هذا الكتاب الهام الذي نتداول حوله الآن، والشيخ هنا يصدر عن شعور شقي مفاده أن نموذجنا الحضاري قد أصابه قدر كبير من الموات والفوات، وبأنه مهدد بنموذج كاسح للعمران والاجتماع السياسي الغربي قائم على قوة عسكرية نظامية ضاربة، وعلى الفصل بين الدين والدولة، وعلى العقلانية الدستورية، واستقلال القضاء، والفصل بين السلط، وعلى ضمان الحقوق والحريات، وعلى فكرة المؤسسات ومفهوم الشخصية الاعتبارية، وعلى الثورة العلمية التكنولوجية القائمة على الاقتصاد الصناعي الحديث..

النظام القضائي في الإسلام من خلال كتاب: الأبحاث السامية في المحاكم الإسلامية

لذلك جاء هذا الكتاب، يضيف عبد السلام طويل، مستجيبا لهذه الصدمة في شقها المرتبط بالمحاكم الشرعية وتنظيم الشأن القضائي المتصل بالمنازعات في إطار الجماعة الوطنية ووفاء لمرجعيتها الدينية؛ سعيا لإحياء هذه المنظومة وبث الحياة والحيوية فيها. وهي الدعوة الإصلاحية التي نجدها حاضرة لدى جل رواد الإصلاح من أمثال الشيخ محمد عبده، ورفاعة رافع الطنطاوي، وجمال الدين الأفغاني، وأبي شعيب الدكالي، وعلال الفاسي وغيرهم.

كما أوضح الأستاذ طويل كيف أن منظومة القضاء في الإسلام تتضمن بعدين أساسيين:

البعد الأول؛ هو البعد القيمي التصوري المعياري، ويستمد من النصوص التأسيسية، قرآنا مجيدا وسنة صحيحة، ومن خلال الخبرة  التاريخية التي راكمها المسلمون في تطوير وبلورة هذه المؤسسة، مؤسسة القضاء، فهذا البعد يتميز بقدر كبير من الرسوخ والثبات؛ لأن مصدره الأصلي ثابت وكلي.

أما البعد الثاني؛ فهو البعد المؤسسي النظمي الإجرائي، وهو البعد الذي شكل صدمة بالنسبة للشيخ المرير وغيره من رواد الإصلاح، ومصدر صدمته أنه نموذج ناجع وقوي ومسيطر. وهكذا طرح على رواد الإصلاح الإشكال التالي: كيف يمكن التوفيق بين عنصر النجاعة والفاعلية والتطور في البعد المؤسسي والنظمي والإجرائي للقضاء من جهة أولى، وبين عنصر القيم والمعايير المرجعية من جهة ثانية؟

 ومن هذا الباب طرحت إشكالية التأصيل والتأويل؛ أي كيف يمكن أن نبحث عن سند لمنظومة القيم الحديثة في تجربتنا التراثية؛ في أبعادها التاريخية والحضارية وفي نصوصها التأسيسية كتابا وسنة؟ وبمقتضى هذا الوضع التاريخي والمعرفي أصبحنا ملزمين بالبحث عن أصل وسند لنموذج تحديثي فرض نفسه بفعل نجاعته وفاعليته وسطوته التاريخية.

كيف نؤول منظومة القيم الحديثة التي اقتحمت مجالنا الحضاري وهيمنت واستباحت حرمة مرجعيتنا الحضارية؟ كيف نؤول هذه المنظومة الحديثة بما لا يتناقض مع مرجعيتنا الحضارية؟ وهو الأمر الذي ظل يؤرق رموز الفكر الإسلامي إلى الآن.

ليخلص إلى أن العالم الإسلامي لن يستطيع تجاوز هذا الإشكال إلا باختراق حقيقي لمنظومة القيم الكونية المتمثلة في النموذج الحداثي الكوني باعتباره كسبا إنسانيا أسهمت فيه كل الحضارات بنصيب، وذلك من خلال تملكه واستيعابه واستبطان منظومة قيمه وآلياته ونظمه، وتنزيله بما  ينسجم مع مرجعيتنا، حينها يمكن أن تجاوز هذا المراوحة وهذا التردد بين عملية البحث عن سند لهذه المنظومة في مرجعيتنا من خلال شتى عمليات التأصيل والتأويل، وبين الانخراط الفعلي في ديناميات الزمن المعاصر بثقة و دونما تردد.

ومن جهتها وقفت الدكتورة مجيدة الزياني على ما أسمته بـ”مشروع الشيخ المرير في تدوين الفقه الإسلامي”، مدللة على أنه بلور مشروعا متكاملا منهجا ومضمونا، منطلقة من الاستشكال حول طبيعة العلاقة القائمة بين الفقه الإسلامي و القانون؟ بحيث ينطرح السؤال: كيف نلائم بين قواعد الفقه الإسلامي وبين القانون؟ كيف يمكن أن نقيم الوصل بينهما دون أن نثير تنافرا أو تضادا على مستوى الشكل والمضمون؟

النظام القضائي في الإسلام من خلال كتاب: الأبحاث السامية في المحاكم الإسلامية

فرغم ما يعترينا من مخاوف الابتعاد التدريجي عن أحكام الشريعة الإسلامية وعن اجتهادات الفقهاء فإننا نجد الشيخ المرير رحمه الله، تضيف الأستاذة المتدخلة، جريئا حكيما في نقل عصارة تجربته والتأصيل لها، سعيا لبناء منهج عام يقوم على الفهم والاستيعاب. فقد كان، رحمه الله، واعيا بأن هذا المشروع تتجاذبه أراء تدور بين المعارضة والتأييد، فبحث مشروعية التدوين وقام بتشخيص للواقع وانتقد بحدة ترك تجديد الفقه وترتيب مسائله، وأنكر على طرفي الخلاف غلوهم بين الإفراط والتفريط، وعزى ذلك إلى إشكال المنهج والتنافر البنيوي المزعوم بين كل من الفقه والقانون، واعتمد على نظرة تكاملية تزيح ذلك التنافر البنيوي وتزيح تلك النظرة التفاضلية بينهما.

 واقترح مشروع متكامل مضبوط بمجموعة من المحددات: المحدّد الأول؛ ويتمثل في إقرار الخصوصية لكل قطر من أقطار الإسلام، والمحدّد الثاني؛ ويتمثل في انتقاء المادة الأولية للتدوين، أما المحدّد الثالث فيكتسي صبغة تنفيذية؛ حيث أقترح  فيه كيفية تشكيل اللجنة التي ستتولى عملية التدوين، وذلك بتحديد مؤهلات وصفات أعضاء هذه اللجنة.

بعد ذلك أبرزت كيف فصّل منهجية العمل التي يمكن أن تعتمدها هذه اللجنة، ووضع جدولة زمنية لأجل المتابعة والمراقبة. ثم وضع المحددات الشكلية للنص الذي سيتمّ إصداره، من إيجاز واقتضاب وبساطة البلاغة ودقتها، واعتماد مصطلحات معيارية من حيث التجريد ومن حيث الإلزامية، أي مصطلحات آمرة وناهية وحاسمة، ليس فيها شرح أو برهنة.

أما الدكتور جعفر بلحاج فقد أجرى قراءة سياقية للمشروع الإصلاحي للشيخ المرير معتبرا أننا لن نتمكن من فهم مشروع الشيخ محمد المرير إلا عبر استحضار ثلاث سياقات يمكننا أن نلج منها: أولها السياق الأعم، وهو السياق العربي الإسلامي سياق القرن 14 الهجري، وثانيها السياق العام وهو السياق الوطني المغربي، ثم السياق الخاص، وهو سياق شمال المغرب؛ حيث “ظهرت أشياء لا سابق لها ولا لاحق في تاريخ الفكر المغربي في القرن الرابع عشر الهجري، دعاوى للاجتهاد المطلق، دعوى للاجتهاد النسبي، دعاوى للتحديث، ظهور الليبرالية، ظهور الفكر الشيوعي، ظهور ما يشبه المهداوية، ثم الانفتاح على  مستجدات الثقافة المشرقية في تطوان، بشكل أكثر مما كانت عليه في جنوب المغرب”.

أما القضاء والأحباس فقد كانتا مؤسستين مستقلتين، وكان المستعمر الإسباني يحترمهما ويقدرهما رغم كل ما يقع. مبرزا أن الشيخ المرير كان على وعي بأن الخصوصية المغربية والمذهب المالكي مهددان فشرع يشرح العمل الفاسي في غضون الحرب العالمية الأولى، ثم تطور فصار يكتب في التاريخ وفي التصوف، ثم كتب “الأبحاث السامية في تاريخ المحاكم الإسلامية”، وفيه ينتقل من تاريخ الفقه وتاريخ الأفراد وطبقات الفقهاء إلى تاريخ المؤسسات في صلتها بالوقائع الاجتماعية.

كما أوضح الأستاذ بلحاج أن مشروع الرجل كان مشروعا متكاملا في الفقه بالمعنى المعهود للكلمة، في الفقه الإداري في الفقه الدستوري في الخلافة. فهو ليس جزئيا في قطاع معين. تحدث عن المحكمة، وعن المحتسب، وديوان المظالم، عن المحكمة الإدارية، وعن ولاية الشرطة، وعن النظام السياسي للدولة باعتبار أن هذه الأشياء كلها في خدمة المواطن.

النظام القضائي في الإسلام من خلال كتاب: الأبحاث السامية في المحاكم الإسلامية

وبهذا المعنى فإن الشيخ المرير يعد، من وجهة نظر جعفر بلحاج، حجة أهل المغرب على أهل المشرق، وحجة المذهب المالكي في العصور الحديثة، حيث أحيا نموذج المجتهدين المطلقين والمقيدين في المذهب مثل ابن رشد في بداية المجتهد، والقرافي وغيرهما، ثم طور مشروع الحجوي تطويرا يخدم المذهب المالكي والثلاثية المغربية القديمة. كما اعتمد مقاربة “غاية في التفكير والانضباط المنهجي”. وفي صلة بهذا العمق المنهجي فقد استطاع أن يعي منذ وقت مبكر ضرورة تجاوز ثنائية الغرب والإسلام، وثنائية الشريعة والقانون.

وغير بعيد عن هذا المعنى يؤكد الدكتور عبد الحميد عشاق أن الشيخ المرير يتميز بسعيه لتجاوز واقع الازدواجية في التنظيمات والمرجعيات، ويتميز بروح الاقتحام؛ حيث كان شعاره: “ادخلوا عليهم الباب”، فلم يكن متهيبا من معالجة النظم الحديثة بجميع ألوانها وتجلياتها ومصادرها من موقع الثقة في الذات الحضارية رغم واقع الهزيمة التاريخية التي لم يكن يعتبرها الشيخ إلا عابرة.

لقد أبرز السادة المشاركون تميز هذا المؤلف بمنزع نقدي رصين، وبوعي شديد بالخصوصية وشرعية الاختلاف المذهبي على امتداد ربوع الأمة الإسلامية، في إطار من الإيمان الراسخ بوحدة المذهب المالكي بالنسبة للمغاربة..

 كما أبرزوا تميز النظر العلمي للشيخ المرير بالرصانة المنهجية، والجمع بين النظر الفقهي والأصولي والمقاصدي من جهة، وبين العمل القضائي من جهة أخرى، والسعي إلى تجاوز واقع التجاور بين منظومتين ومرجعيتين متباينتين لا تفاعل ولا تواصل بينهما..

النص الكامل لأرضية الملتقى:

إذا ما استعدنا مسار تغلغل التشريعات والبنيات المؤسسية الغربية الوافدة على العالم العربي الإسلامي في ركاب الاستعمار، الذي عمل للتمكين للنموذج التحديثي الغربي من خلال مفهوم الدولة الوطنية (Etat Nation)، فسوف يتبين لنا مبلغ الإرباك والتحدي الذي أحدته للمنظومة الإسلامية التقليدية؛ فقها وتنظيمات، مرجعية ومنظومة قيم.

فمع أن التجديد في البنيات المؤسسية؛ الإدارية والقضائية يندرج ضمن دائرة الاجتهاد التي تتسع باتساع دائرة العفو، أو ما جرى التعبير عنه بمنطقة “الفراغ التشريعي” وفقا للكليات المقاصدية المبنية على جلب المصالح ودرء المفاسد، إلا أن السياق الاستعماري التغريبي، وما مثله من تحد مادي ورمزي كاسح للذاتية الحضارية للأمة، جعل عملية الاجتهاد والتجديد تتم وهي محفوفة بالعديد من المكاره..

وما استتبع ذلك من فرض لأولوية الدفاع عن الأصول والثوابت المميزة للمعتقد والذات والهوية؛ فبدل المضي قدما في عملية الاجتهاد والتجديد وجدت الأمة نفسها، منحشرة في موقف الذود عن مجرد الوجود من خلال “الدفاع عن أصل وجود المؤسسات الإسلامية في التعليم والقضاء والفكر وغيرها”، وذلك في مواجهة اطراد زحف التشريعات الغربية، وانحسار الشريعة الإسلامية الأمر الذي مكن لهيمنة التشريع الغربي على مختلف الأنظمة؛ القضائية، والتجارية، والعقارية، والجنائية..

ورغم الاستجابة والممانعة التي مثلتها تجربة “مجلة الأحكام العدلية”[1]، و”ملتقى الأبحر”[2]، وموسوعة “الفتاوى الهندية الشاملة”[3]، و”لجنة تدوين الفقه الإسلامي” بالمغرب وغيرها، إلا أن تسرب النظم القانونية الوافدة في القوانين ونظم المحاكم، كان “مبعثا للانفصام في النظام القانوني ومنشأ للازدواجية فيه” في الحال والمآل[4].

وفي هذا السياق، سبق لعلال الفاسي أن أبرز كيف أنه “لم يكن يخطر ببال أحد من المناضلين الأولين، أن القانون الذي وضعه الفرنسيون لمقاصد استعمارية، سيصبح المتحكم في كل النشاط الإسلامي في المغرب؛ فبمجرد ما أعلن الاستقلال وتكونت الحكومة الأولى، أصدر جلالة المرحوم محمد الخامس أمره بتأسيس لجنة لتدوين الفقه الإسلامي استعدادا لجعله القانون الرسمي للدولة في جميع المحاكم التي أخذت تسير في طريق التوحيد.

ولم يكن يخطر ببال جلالته ولا ببالنا نحن أعضاء لجنة التدوين، الذين شرفهم جلالته بتعيينهم لأداء هذه المهمة، أن عملنا سيقتصر على مجرد الأحوال الشخصية. والدليل على ذلك أننا اشتغلنا في قسم الأموال بعد إنجازنا للأحوال، ولكن قسم التشريع بالكتابة العامة الذي (كان) يشرف عليه فنيون فرنسيون أوقف أمر البت فيه، وترتب على ذلك أن توقف سير التدوين في بقية أبواب الفقه الأخرى”.

“ثم حدث، يضيف الفاسي، أن عرضنا على البرلمان المغربي وقت انعقاده مشروع قانون بتوحيد المحاكم والقوانين في المغرب صادق عليه النواب بالإجماع وأصبح نافذ المفعول، فكان من المنتظر أن تؤسس لجان على الفور لإعادة النظر في القوانين التي قرر تطبيقها على المغاربة، لنسخها بقوانين مغربية تمثل مقتضيات الشريعة الإسلامية طبقا لروح التشريع المغربي وما فيه من اختيار ومن عمل، ولكن الأمر جرى بعكس هذا..

ليخلص، رحمه الله، إلى القول: “لو سايرنا التشريعات التي وضعها المستعمرون في كل من الهند وأندونيسيا والعالم العربي وإفريقيا، لاستخرجنا منها حججا دامغة على أن مقاصد المستعمرين في تلك التشريعات لم تكن إلا هدم الكيان الوطني، وفسح المجال للاستعمار الرأسمالي الأجنبي. وفيما أعطيناه من نماذج من القوانين التي وضعها المستعمرون في بلادنا ما يبين الحقيقة ويدل على ما وراءه”[5].

وهو ما جعل من الاستقلال القانوني والقضائي مطلبا ملحا لرموز الحركة الوطنية وعلماء الأمة على امتداد العالم الإسلامي. وذلك على هدي الشريعة الإسلامية ومقاصدها الكلية، بعد أن وقر في يقينهم أنه “لو وطئت أكنافها وعبدت سبلها، لكان لنا (من تراثها الجليل) ما ينفخ روح الاستقلال في فقهنا وقضائنا وفي تشريعنا..”[6].

وهو الاستقلال الذي راهن الفقيه الدستوري عبد الرزاق السنهوري، وهو يسهم في صياغة مشروع جديد للقانون المدني للعراق بعد استقلاله، أن يتحقق من خلال: استمداد أحكامه من القانون المقارن، أي من الكسب التشريعي الكوني بعيدا عن التبعية القانونية الفرنسية، وأن تقتصر الاستفادة من القانون المقارن على الصياغات الفنية للنصوص والأحكام سعيا لفصم العلاقة بين النص ومرجعيته الحاكمة..

وبذلك “يخلى بين النص المأخوذ وبين البيئة التي سيطبق فيها، فيحيا حياة (وطنية) خالصة، ويخضع لتفسيرات المحاكم والفقه من خلال تفاعله مع هذه البيئة الوطنية”. مع الحرص على الأخذ بما استقرت عليه أحكام المحاكم الوطنية وشروح الفقهاء في اتصالها التلقائي الوثيق بتراث ومرجعية وواقع الأمة في تعدديته وتنوعه وغناه. ومع ما يقتضيه ذلك من مواكبة علمية مضطردة وانفتاح على مختلف المذاهب والاجتهادات الفقهية المعتبرة، بما لا يخل بانسجام الهيكل التشريعي العام[7].

وهو الوعي الذي نجده لدى الشيخ المرير كما نجده لدى العلامة علال الفاسي في كتابه “النقد الذاتي” الذي ألفه إبان الفترة الاستعمارية، وفيه يؤكد أن مصلحة الوطن “تقضي بوضع قانون مغربي عام يطبق في سائر المحاكم المغربية وعلى جميع الساكنين في البلاد، وتكون مصادره الأساسية الشريعة الإسلامية والأعمال المغربية مع الاستعانة بالقانون الفرنسي والأجنبي/ويحمل، بعد مصادقة الجلالة الشريفة عليه وبعد إفتاء العلماء، بأن ما فيه من مواد كلها قابلة للاندراج تحت الأصول العامة للفقه الإسلامي اسم “القانون الإسلامي المغربي”[8].

 وفي هذا السياق، تندرج محاولة الشيخ المرير الذي طالما تشوف إلى نظام قانوني وقضائي يعبر عن شخصيتنا الحضارية وهويتنا الوطنية، مثلما يعبر عن عقليتنا ونفسيتنا وذاكرتنا الجماعية. لقد كان من السباقين، على غرار عبد الرزاق السنهوري وعلال الفاسي، للدعوة إلى الاستقلال القانوني؛ الفقهي والقضائي انطلاقا من إيمانه الراسخ بصلاحية الشريعة الإسلامية ومرونتها وقابليتها للتطور.

وهو الإيمان الذي يتأسس على حقيقة أن “في الشريعة عناصر لو تولتها يد الصياغة فأحسنت صياغتها، لصنعت منها نظريات ومبادئ لا تقل في الرقي والشمول، وفي مسايرة التطور، عن (أرقى) النظريات الفقهية التي نتلقاها اليوم عن الفقه الغربي الحديث”، وأن الفقه الإسلامي “لا تقل عراقته في ذلك عن عراقة الفقه الروماني، وهو لا يقل عنه في دقة منطقه وفي متانة الصياغة وفي القابلية للتطور. وهو مثله صالح لأن يكون قانونا عالميا بل كان بالفعل قانونا عالميا..”[9].

غير أن يقين الشيخ المرير في صلاحية الشريعة لا ينفك عن إيمانه بضرورة الاجتهاد والتجديد الذي بهما تتحقق هذه الصلاحية وتكون. وفي هذا السياق لا يخفي اندراجه ضمن الزمرة القليلة المواجهة للفئة الكثيرة المترددة، بل والمناوئة للاجتهاد والتجديد على هدي الشريعة ومقاصدها سعيا لاستعادة المبادرة الحضارية في إنتاج الأفكار والنظم والمؤسسات المنبثقة من الإسلام ومنظومة قيمه في انفتاح راشد على الكسب الإنساني في غناه وتعدد مصادره.

لكن على قلة هذه الزمرة فإن الشيخ المرير يؤكد أن حجتها غالبة؛ وذلك “بقولها الحق لو وجدت مستمعا لقولها، ومطيعا لأمرها، وهو الرجوع في ذلك إلى ما أسسه الأئمة المجتهدون وحرروه، والمحافظة على ما فرعوه من أحكام الجزئيات وقرروه، مع الإطلاع على مقاصد الشريعة أصلا وفرعا، وفهم ما سبقت لأجله فرقا وجمعا، ثم النظر فيما تفرع من الأقوال وجمع أطرافها، واختيار الراجح من الآراء، وتقليل ما أمكن من تباينها واختلافها، وإيداع الخلاصة في ديوان يجمعها، وإبرازها في مؤلف واسع العبارة، يصونها من التعقيد ويمنعها، حتى يكون ذلك من أوثق المراجع، التي يعتمدها القاضي والمفتي والمطالع”[10].

وهو ما حاول تنزيله من خلال مؤلفه موضوع ملتقانا هذا؛ “باذلا غاية الجهد في تتبع نشأة هذه المحاكم، وما أحرزته أيام تأنقها وزهرتها، ثم ما منيت به بعد من الضعف والذبول، حتى تقلص بردها الضافي، وشيب وردها الصافي، وأصبحت ألقابا فخمة في غير موضعها، وشيب وردها الصافي، وأصبحت ألقابا فخمة في غير موضعها، وأسماء شريفة واقعة غير موقعها”[11].

وبذلك فقد حدد موضوع كتابه في إصلاح النظام القضائي الشرعي وجعله مواكبا ومستجيبا للتطورات والتحديات التي يفرضها النظام القضائي الحديث كجزء لا يتجزأ من بنية ومفهوم الدولة الحديثة، التي جاءت بمؤسساتها وهياكلها وقوانينها ونظامها المعياري في ركاب الاستعمار، مع ما يستلزمه ذلك من جهد في التأصيل والتأويل.

وفي هذا الإطار، أوضح القاضي المستشار طارق البشري، كيف تفاعلت ثلاثة عوامل منذ القرن التاسع عشر، وترتب على تفاعلها إحداث حالة من الاضطراب والاختلال العميق في المنظومة التشريعية للمجتمعات العربية والإسلامية بمختلف هياكلها ونظمها ومؤسساتها؛ أولها، جمود الوضع التشريعي المستمد من الشريعة الإسلامية، وهو الوضع المتوارث من قرون الركود السابقة عن صدمة الاستعمار التي مثلت العامل الثاني.

ولعلها الحقيقة التي جعلت علال الفاسي يخلص، قبل استقلال المغرب، إلى أن “المشكلة الأولى التي تعترض تطور القضاء في المغرب هي مشكلة القوانين الجنائية والمدنية وموقفهما من الفقه الإسلامي ومن المحاكم الشرعية. ومن الحق أن نعترف بأن الجمود وحده هو الذي ترك القضية تتكيف على هذا الشكل”

 غير أن الفاسي يوسع دائرة ومفهوم الجمود ليشمل ” جمود كل من فقهاء الإسلام المعاصرين وجمود رجال القانون الأجانب الذين أبوا إلا تركيز فكرهم ضد الشريعة؛ بحيث إذا كان طبيعيا أن يجمد رجال القانون، ولو جمودا اصطناعيا من أجل المصالح السياسية والدبلوماسية التي يريدون نجاحها لأممهم، فليس من المعقول أن لا يكون لرجال الفقه الإسلامي من المرونة ما يسهل عليهم مجابهة الحقائق العصرية بكل أشكالها “[12].

وثالثها، ما اقتضته حيثيات وظروف “الصحوة الاجتماعية السياسية من طروء الحاجة الماسة لإصلاح الأوضاع والنظم وتجديدهما، الأمر الذي يستوجب إصلاحا وتجديدا مناسبين في الهياكل والنظم التشريعية”، غير أن أسلوب الإصلاح المتبع كرس حالة من الاختلال والاضطراب أفرزت وضعا قانونيا ومؤسسيا مطبوعا بالازدواجية؛ وذلك بـ”إبقاء القديم على ركوده وإنشاء الحديث بجانبه وعلى غير انبثاق منه ولا تفاعل معه”[13].

الأمر الذي اقتضى البحث عن سند لمنظومة القيم والمؤسسات الحديثة في المرجعية التأسيسية الإسلامية؛ بحثا لها عن نوع من المشروعية والفاعلية، من خلال آلية الاجتهاد؛ استنباطا واستقراء، قياسا واستصحابا، تأصيلا وتأويلا، وذلك درءا لكل أشكال النشاز والتعارض بين المنظومتين. مع ما يكتنف ذلك من مشكلات منهاجية وتاريخية.

ومع أن الشريعة الإسلامية تستمد مصدرها الأول من الوحي، إلا أنها “لم تغفل الاستفادة في تفاصيلها من أي قاعدة أو مادة فقهية أجنبية أو حتى من أعراف البلاد التي دخلها الإسلام إذا كانت تندرج تحت أصل شرعي عام. وهذا ما يفسر كثيرا من التغاير الواقع في تطبيق الشريعة بحسب العصور والأزمنة؛ الأمر الذي يدل على أن أسلافنا اعتمدوا قبل كل شيء على أصول الفقه العامة التي أجمعت الملل والنحل عليها، ثم لم ينظروا إلى أقوال الفقهاء والأئمة إلا كمادة يستقى منها إلى جانب غيرها من المواد للاحتفاظ بالتقدمية الشرعية في البلاد؛ ولقد كان لهم في مادتي “الاستحسان” و”المصالح المرسلة” ما فسح لهم المجال الواسع في ميدان التطور الفقهي إلى حد يفوق كل الطاقات التي يملكها رجال القوانين في الأمم الأخرى[14]“.

وفي هذا المعنى يخلص الشيخ المرير إلى أن “الحكومة الإسلامية يصح أن يقال فيها ديمقراطية بالمعنى العصري؛ أي مبناها على المساواة، وعدم الأثرة والتفضل بين أفراد الأمة.. ويصح أن يقال فيها “دستورية” دستورها وقانونها القرآن وصحيح السنة وإجماع علماء الأمة مما استخرجوه منهما. ويصح أن يقال فيها “نيابية”؛ أي للأمة الحق في مراقبة أعمال الخليفة، وأن على الخليفة المشاورة فيما يهم من مصالح الأمة”..

ومقتضى ذلك، فيما يتصل بإصلاح القضاء وتجديد نظمه، أن “ما لا يتم العدل إلا به فيعطي ما للعدل من حكم ومن قيمة”، وهكذا فإن وجوب أحكام الشريعة لا يتحقق إلا بالطاعة القائمة على الاختيار؛ “لأن ذلك في مصلحة المطيع نفسه وفي مصلحة المجتمع؛ إذ الغاية من عمل الفرد هي إكمال سموه النفسي، والغاية من آثار عمله في المجتمع هي المساعدة على تحقيق المثل الإنساني الأعلى. ولهذا السر نفسه أشرك الإسلام أبناءه في الاجتهاد في الدين والاستنباط من أصوله العامة؛ فوضع الأسس الأولى لمشاركة الفرد في إنتاج القانون الذي يجب عليه أن يطيعه”[15].

وفي هذا الإطار، يقول الشيخ المرير: “فإذا أردنا في هذا القطر تنظيم مسائل الفقه المنتشرة في الكتب والدواوين، وجمعها في ديوان جامع بعد التنقيح والترتيب، واختيار حسن التبويب وأحدث الأساليب، وتجنب ركيك العبارة، وحذف ما لا يحتاج إليه من الأقوال والخلافات، والاقتصار على الراجح أو المشهور أو ما به العمل، والتماس المخارج والطرق الصحيحة للحوادث الجديدة التي جاء بها الوقت مع مراعاة الأعراف والعوائد، التي لا تضاد الشريعة في المصادر والموارد، فأي مانع من ذلك يمنعنا؟ أو أي صارف معتبر شرعا أو عقلا يصرفنا؟ ما يمنعنا والله إلا خمول أو جمود يؤولان بالشريعة إلى الإهمال، ويؤديان بأحكامها إلى الاضمحلال”[16].

ومع حماسة الشيخ المرير ودعوته للاجتهاد والتجديد إلا أنه يعتقد، مع ذلك، أن “أصول القضاء الإسلامي وأسس القانون الشرعي تامة بنفسها، محكمة بالتنظيم في نسجها، لا تحتاج إلى تكميل ولا تنظيم؛ لأنها من الدين، والدين وحي من الله أوحاه إلى رسوله، وما فارق الرسول، صلى الله عليه وسلم، هذه الدنيا حتى ترك الشريعة واضحة المناهج، عذبة الموارد، كاملة متيسرة المسائل، سهلة المقاصد، كفيلة بمصالح الدين والدنيا، مؤسسة أصولها على قواعد محكمة ومثل عليا”[17].

الأمر الذي يستدعي من السادة المشاركين في هذا الملتقى إبراز عناصر الثبات وعناصر التغيّر في النظام القضائي في الإسلام.

الهوامش


[1]. تقنين شمل نظام المعاملات المدنية غير التجارية، صاغته لجنة ترأسها أحمد جودت باشا سنة 1876، بعد أن استغرقت في إنجازه زهاء سبعة أعوام، واستقت أحكامه، بشكل أساسي، من كتب ظاهر الرواية في المذهب الحنفي..

[2]. مصنف فقهي من جزأين أعده الشيخ إبراهيم الحلبي.

[3]. وهي الفتاوى التي أعدها فقهاء الهند بتكليف من السلطان محمد أورنك زيب عالمكير، وذلك في القرن السابع عشر، وقد تضمنت ستة مجلدات في العبادات والمعاملات والعقوبات..

[4]. المستشار طارق البشري، “الوضع القانوني المعاصر بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي”، القاهرة: دار الشروق، ط1، 1996، ص12-15.

[5]. علال الفاسي، “دفاع عن الشريعة”، الرباط: مطبعة الرسالة، ط4، 1999، ص16-18.

[6]. عبد الرزاق السنهوري، نقلا عن المستشار طارق البشري، م، س، ص19.

[7]. المستشار طارق البشري، “الوضع القانوني المعاصر بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي”، م، س، ص20.

[8]. علال الفاسي، “النقد الذاتي”، منشورات دار الكشاف للنشر والطباعة والتوثيق، بيروت، القاهرة، بغداد، 1966، ص175.

[9]. عبد الرزاق السنهوري، م، س، ص24.

[10]. الشيخ محمد بن محمد المرير التطواني، “الأبحاث السامية في المحاكم الإسلامية”، مؤسسة دار الحديث الحسنية، اعتنى به وقدم له: د. عبد الحميد عشاق ود. رشيد كرموت، الرباط: طوب بريس، ط1، 2011،  ص102.

[11]. المرجع نفسه، ص103.

[12]. علال الفاسي، “النقد الذاتي”، م، س، ص175.

[13]. المستشار طارق البشري، “الوضع القانوني المعاصر بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي”، م، س، ص6.

[14]. علال الفاسي، “النقد الذاتي”، م، س، ص174.

[15]. المرجع نفسه، ص173.

[16]. الشيخ محمد بن محمد المرير التطواني، “الأبحاث السامية في المحاكم الإسلامية”، م، س، ص237.

[17]. المرجع نفسه، ص236.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق