مركز الدراسات والأبحاث وإحياء التراث

الكتاب العربي المخطوط تاريخه وقضاياه

في إطار أنشطته العلمية نظّم مركز الدراسات والأبحاث وإحياء التراث بالرابطة المحمدية للعلماء يومي الأربعاء والخميس 26 -27 ماي 2010م، بقاعة الشيخ العلامة عبدالله كنون بمقر الرابطة المحمدية للعلماء، دورة علمية تكوينية في موضوع: الكتاب العربي المخطوط: تاريخه وقضاياه، قام بتأطيرها الأستاذ الدكتور أحمد شوقي بنبين، مدير الخزانة الحسنية بالرباط، الذي يُعدّ من الخبراء المغاربة في قضايا التراث العربي المخطوط فهرسة وتحقيقا وبحثا. وقد استُدْعِيَ للاستفادة من أعمال هذه الدورة نخبة من الأساتذة والباحثين المتخصصين الذين يتابعون دراساتهم العليا في مختلف الجامعات المغربية.

وكان حديث الأستاذ الدكتور أحمد شوقي بنبين عن “الكتاب العربي المخطوط” من خلال محورين اثنين، هما:
1 -الكتاب العربي المخطوط من النشأة إلى عصر الطباعة.
2 -التحقيق العلمي للكتاب العربي المخطوط.

واهتم أثناء معالجتهما بمناقشة القضايا والمسائل الشائكة التي ترتبط بالكتاب العربي المخطوط، واعتنى بإيجاد أجوبة مقنعة تفتح آفاقا رحبة أمام الباحثين المهتمين في مجال البحث التراثي.
ففي اليوم الأول تحدث الأستاذ بنبين عن موضوع المحور الأول، فأوضح أن الكتاب العربي باعتباره مخطوطا إلى ظهوره مطبوعا مرّ بمرحلتين:
1 –    مرحلة النشأة: وهي مرحلة التدوين والتصنيف والتأليف.
2 –    مرحلة الطباعة التي ستعطي لونا جديدا للكتاب العربي.

قدّم الأستاذ أحمد شوقي بنبين لحديثه عن المرحلتين المذكورتين، بشرح أهم المصطلحات المرتبطة بموضوع الدورة وهما: الكتاب ـ المخطوط.

وقررر أثناء توضيحه لمصطلح الكتاب أنه لفظ سامي، يعني الجمع، إذ الكتابة في اللغة الآرامية تعني رسم الحروف، وإلى هذا أشار الراغب الأصفهاني(502هـ) بقوله: الكَتْبُ ضم الحروف بعضها إلى بعض بالخط. وقد يقال للمضموم بعضها إلى بعض باللفظ. وقد أخذ لفظ «كتاب» عبر العصور عدة معان، ففي العصر الجاهلي كان الكتاب يطلق على الوثيقة بمفهومها الحديث، ويطلق على المواثيق التي تكتب بين القبائل، والعهود التجارية… ولم يكن هناك في العصر الجاهلي كتاب مؤلَّف، واستمر إطلاق لفظ الكتاب في العصر الإسلامي بنفس المعنى، وأضيفت إليه «أل» التعريف، ومتى أطلق فإنه يعني القرآن الكريم، فهو أول كتاب ظهر عند العرب. وفي بداية حركة التأليف في التراث كان يعني في الغالب الأعم باباً أو فصلاً أو جزءاً من الكتاب المعروف، وبعد هذا العصر أصبح لفظ «الكتاب» عَلَماً على الكتب الأساسية في مختلف أنواع العلوم، فالكتاب مُعرَّفاً يعني القرآن كما سبق ذكره، وإذا أطلق الكتاب في النحو أريد به «كتاب سبيويه»، وإذا أطلق في البلاغة أريد به «دلائل الإعجاز» لعبد القاهر الجرجاني، وإذا أطلق في الفقه عند الحنفية أريد به «مختصر القدوري»، وفي الفقه المالكي «المدونة الكبرى» أو «الرسالة» لابن أبي زيد القيرواني أو «المختصر الخليلي»، وفي الفقه الشافعي «مختصر المزني»، وإذا أطلق لفظ الكتاب في التصوف أريد به «الفتوحات المكية» لابن عربي الحاتمي. وأضاف ابن كمال باشا (ت.940هـ) أن الكتاب في عرف الأصوليين يطلق على أركان الدين، وفي عرف المصنفين على طائفة من المسائل المنفردة عما عداها.

فلفظ «كتاب» في القرن الأول للهجرة لم يكن يعني ما يعنيه اليوم، بل كان جزءا منه.

وقد يكون لفظ الكتاب جزءا لا يتجزأ من عنوان الكتاب كـ«كتاب الأم» للشافعي، فلا يجوز القول: الأم للشافعي، ونبّه الأستاذ الفاضل إلى أن حاجي خليفة(ت.1067هـ) عقد فصلا في حرف الكاف في الجزء الثاني من كشف الظنون عنونه بـ: فصل في الكتب التي لا يصح تجريدها عن الإضافة، سرد فيه مجموعة من الكتب التي يعتبر لفظ كتاب جزءا لا يتجزأ من العنوان، وتبع صاحبَ الكشف في هذا إسماعيل باشا (1920م) الذي استدرك على حاجي خليفة عناوين أخرى  في الفصل نفسه، وهما لم يبيّنا المنهج الذي اعتمداه في تمييز العناوين التي يكون فيها لفظ «كتاب» جزءا من العنوان.

ثم انتقل الأستاذ الدكتور أحمد شوقي بنبين لرفع الغموض عن مصطح «مخطوط» فأوضح أنه مصطح حديث يرجع إلى القرن 18م، جيء به ليقابل كلمة مطبوع، فباسثتناء ما في القرآن الكريم في قوله تعالى: ×وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذاً لارتاب المبطلون÷[سورة العنكبوت:48]، والمادة هنا بصيغة الفعل، فالباحث لا يجد لكلمة مخطوط أثرا بصيغة اسم المفعول سواء في دواوين الشعر منذ العصر الإسلامي إلى العصور المتأخرة، أو المعاجم اللغوية، باسثتناء أساس البلاغة للزمخشري وتاج العروس للزبيدي(1205هـ) فالأول جاء فيه: «خطّ الكتاب يخطه»، و«كتاب مخطوط»، وفي الثاني: «كتاب مخطوط؛ أي مكتوب فيه».

1.    مرحلة النشأة: وهي مرحلة التدوين والتصنيف والتأليف.
انطلق الأستاذ بنبين في بداية حديثه عن هذه المرحلة من أن القرآن الكريم هو أول كتاب عرفه العرب والمسلمون، ومعه بدأ الاهتمام بالكتابة والمسائل التقنية والتأليف العلمي الذي كان  يعني الترتيب. ثم ناقش بعض القضايا التي حاكها بعض المغرضين حول  كتابة القرآن الكريم ، وركّز حديثه على آراء المستشرق الألماني نولدكه، الذي وضع كتابا ناقش فيه مجموعة من القضايا التي تخصّ كتابة القرآن الكريم وجمعه وغير ذلك، وقد أصبح كتابه مرجعا لكل المستشرقين الذين جاؤوا بعده إلى اليوم، ولم تتم ترجمته إلى العربية إلا مؤخرا.

وفي هذا الصدد أثار الأستاذ الكريم قضية مصاحف الصحابة: هل هذه المصاحف موجودة بالفعل؟ وهل كان لعثمان رضي الله عنه مصحف؟ وهل هذا المصحف هو المصحف الإمام؟ فصاحب البحر المحيط يعبر مرة بلفظ المصحف الإمام، ويعبّر أخرى بمصحف عثمان، كما أن هناك مجموعة من المصاحف المنسوبة إلى علي رضي الله عنه. وما هو ملموس اليوم ـ يقول الأستاذ ـ هو ما عند النديم في فهرسته في قضية المصاحف، والأقاويل السيئة والمغرضة تريد أن تثبت أن هذه موجودة بالفعل وأنها تختلف مع المصحف الإمام، فيقولون مثلا: إن مصحف أُبي بن كعب يفتقر إلى الفاتحة والمعوذتين، فيدعون أن هذه السور ليست من القرآن الكريم، والحقيقة أن الاختلاف  في المصاحف غير موجود،  بل هو مزعوم، والغرض من إثباته هو خلق البلبلة، فهذا ابن شلبون ـ وهو من علماء القرن الرابع ـ يجيز الصلاة بمصحف أُبي ومصحف ابن مسعود رضي الله عنهما، فلو كان في مصحفيهما اختلاف مع المصحف الإمام ما أجاز الصلاة بهما.

ومن القضايا التي تحدث عنها الأستاذ أيضا: صياغة العنوان في الكتاب العربي، والذي بدأ سهلا وجيزا متأثرا في ذلك بالقرآن الكريم ثم بالحديث النبوي الشريف، فكان العنوان لا يخرج عن كلمة واحدة أو كلمتين، ففي القرن الأول والثاني ظهرت عناوين مثل صحيفة فلان، وحديث فلان، ولم يبدأ استعمال التركيب في صياغة العناوين بشكل ملفت إلا في القرن الثالث، إلى أن بلغ السجع مبلغه في صياغة العناوين خلال القرن الرابع للهجرة.

كما تحدّث الأستاذ أيضا عن قضية تصريح  المؤلف بعنوان كتابه، ففي العصور الأولى لم تكن الورقة الأولى مخصصة للعنوان كما عُرف فيما بعد، فقد نجد المؤلف يصرح بعنوان كتابه في مقدمته أو في أثنائه أو في آخره أو في هذه المواطن جميعا، وقد تختلف صيغة العنوان من مكان إلى مكان، وهنا نصَّ المحققون على اعتبار عنوان المقدمة عند الاختلاف.

ثم تكلم بعد ذلك عن طرق كتابة الكتاب، وأكّد أنها تنحصر في طريقتين لا ثالثة لهما: الطريقة الأولى: الإملاء، حيث يُملي الشيخ على تلامذته وهم يقيدون ما يقوله، وهذه الطريقة عرفت في مختلف العلوم، في التفسير والحديث وعلوم العربية والتاريخ، ومن الأمثلة عليها أن الكرماني أملى تفسيره من ذاكرته، وأن ابن قتيبة الأندلسي أملى تاريخ الأندلس من ذاكراته أيضا. وأما الطريقة الثانية فهي التأليف، بمعنى أن المؤلف يؤلف كتابه في مسودة ثم يُبيضه، وقد يحدث أن تأخذه المنية قبل تبيضه، فيبقى الكتاب في مسودته أو يقوم بتبييضه بعض تلامذته.

ومن أهم القضايا التي عالجها الأستاذ المؤطر طرق تأريخ المخطوطات، وقد حصرها في ثلاث طرق هي:
1 -التأريخ بالعبارة أو بالجملة (حساب الجمل)، وكانت طريقة أساسية.
2 -التأريخ بالأرقام: هندية أو عربية أو غبارية. وكلها ترجع إلى أصل واحد هو الأرقام الهندية. وقد يتم التأريخ بالأرقام العادية، كأن يقول المؤلف: ألفته في سنة كذا يوم كذا.
3 – طريقة خاصة بالمؤلفات التي عند العثمانيين: ألفته في الشهر الثاني من العام العاشر..
ويمكن أن يضاف إلى هذا القلم الفاسي بالمغرب والذي يرجّح أنه بدأ متأخرا.

وبعد فترة استراحة قصيرة استأنف الأستاذ الحديث عن المصاحف العثمانية، فبين أنها كتبت بالخط الحجازي، حيث كان معتمدا قبل أن ينتقل إلى الكوفة ويحسن ويصبح الخط الرسمي للدولة، ثم فسّر مجمل النظريات حول قضية نقط الإعجام ونقط الشكل في المصاحف العثمانية، إذ ثمة رأيان حول هذه القضية ، الأول يقول بعدم وجود نقط الإعجام ونقط الشكل، والثاني عكس الأول يقول أصحابه باستحالة خلو تلك المصاحف من ذلك، وحاول كل فريق تسويغ مقاله بتقديم مجموع من الأدلة والبراهين.

وهنا أيضا تحدث الأستاذ الدكتور أحمد شوقي بنبين عن مشكلات وخصوصيات الرسم العثماني، فأجملها في ثلاث مسائل:
1 -مخالفة الرسم العثماني لقواعد اللغة العربية.
2 -أن هذا الرسم خال من نقط الإعجام.
3 -أنه خال من نقط الشكل.

ولهذا فقد تعرض هذا الرسم لمجموعة من الإصلاحات، ففي الإصلاح الأول  وضع نقط الشكل على يد أبي الأسود الدؤلي، والإصلاح الثاني في عهد يوسف بن الحجاج الثقفي في النصف الثاني من القرن الثاني للهجرة، الذي لاحظ الاختلاف بين القراء فتم اختراع نقط الإعجام على يد نصر بن يسار، والإصلاح الثالث مع الخليل بن أحمد الفراهيدي الذي اقترح علامات الشكل المعروفة اليوم.

وأما الخصوصيات فأشار الأستاذ إلى أن الإمام أبا العباس القسطلاني قرر في كتابه «لطائف الإشارات» أن للخط العثماني، على الرغم من مخالفته لقواعد اللغة العربية، قواعد يخضع لها وينبني عليها، مثل الحذف والزيادة والبدل…

ومن القضايا التي ناقشها الأستاذ شكل القرآن الكريم، فقد كان في البداية على شكل كراس، وهذه الكلمة لاتينية الأصل (codex) (اللوحة أو اللوح)، وظهرت في العصر المسيحي، وقبل هذا العصر كان الكتاب عبارة عن لِفافة،  وكان السبب في ظهور الكراس هو المنافسة التي أبدتها قبيلة برغامة (pergame) ضد ورق البردي الذي كان يصنع في الإسكندرية، وكان هذا في القرن الثاني قبل الميلاد، وقد أعطى اختراع الكراس شكلا جديدا للكتاب منذ القرن الأول الميلادي.

والمعلوم أن أول من جمع القرآن بين لوحين هو أبو بكر الصديق، وفي النصف الثاني من القرن الثاني ظهر التأليف وظهرت معه مخاوف المسلمين من الخلط بين كراريس القرآن الكريم وبين غيرها، ولذلك غيروا الشكل وكتبوا القرآن الكريم على شكل مستطيل.

ومن قضايا الكتابة تحدّث الأستاذ عن أدواتها، فإنه من الطبيعي أن تلجأ المجتمعات إلى ما توفر لديها في بيئتها من أدوات لتكتب عليها، وهذا ينطبق على كتابة القرآن الكريم في البداية على اللخاف والعسب وسعف النخيل والعظام حسب ما هو متوفر.
2-     مرحلة الطباعة:

اعتبر الأستاذ بنبين هذه المرحلة مهمة جدا، فهي مرحلة التأمل فيما ضاع وما بقي وما يمكن إنقاذه من أكبر تراث عرفته البشرية، ذلك أن الكتاب العربي تعرض لنكبات ومآسي عبر تاريخه، وهذا موضوع كبير لا يمكن أن يحاط به.

والطباعة ثلاثة أنواع:
– النوع الأول: الطباعة الخشبية (اللوحية) وهي من ابتكار الأسيويين في القرون المسيحية الأولى، ولم تظهر في أوربا إلا في القرن 14م، ولم يتم الطبع عليها إلا في القرن 15م.
– النوع الثاني: الطباعة بالحروف المتحركة ظهرت في القرن 15م.
النوع الثالث: الطباعة الحجرية، اكتشفها أحد الألمان نهاية القرن 18م، وبالضبط (1796م).

وقد أكد الأستاذ أن الطباعة لما ظهرت رفضها المسلمون طيلة قرنين من الزمن لاعتبارات أهمها:
– أن آلاتها نجسة ولا يمكن لكلمة القرآن أن تبطع بها.
– أن النخبة العالمة لا تريد أن يطبع الكتاب وينافسهم فيه غيرهم، فهم يريدون أن يحتكروا المعرفة.

وكانت تركيا أول من قَبل بالطباعة في بداية القرن 18م لكن بشروط، منها: ألا تكون النصوص المطبوعة عليها عربية، فطبعت نصوص عبرية بالحرف العربي، وفي مرحلة ثانية سمح بطبع نصوص عربية بالحرف العبراني، وفي القرن 19م سمح بطبع القرآن الكريم واعتمد في ذلك الطباعة الحجرية التي لها ميزات كثيرة تتوافق مع المخطوط العربي.

وقد أشار الأستاذ إلى أن أول كتاب طبع بالحرف العربي هو كتاب السواعي، وكان ذلك بإيطاليا سنة 1714م، طبعته الكنسية للطوائف المسيحية، وبعد حوالي 25 سنة كانت أول طبعة للقرآن (1736-1738) وقد فُقدت هذه الطبعة، وحامت الشكوك حول وجودها قبل أن تكتشف طبعة منها سيئة ورديئة.

وفي اليوم الثاني من الدورة دار حديث الأستاذ الدكتور أحمد شوقي بنبين عن التحقيق العلمي للكتاب العربي المخطوط، أوضح أن  آراء العلماء الذين تناولوا قضية التحقيق العلمي منذ النصف الثاني من القرن الماضي تكاد تجمع على أن مفهوم التحقيق هو ضبط النص وتوثيقه للوصول إلى صورة قربية من نسخة المؤلف، ويكاد يجمع الباحثون في مجال التراث على أن أصول نقد النصوص بالتعبير الغربي قد رأى النور في القرن السادس قبل الميلاد تقريبا، وذلك في أثينا، حين دعت الحاجة إلى حمل الناس على قراءة واحدة لملحمتي الإلياذة والأوديسة اللتين طالها كثير من التحريف والتصحيف والزيادة والنقص.

وفي القرن الثاني قبل الميلاد بدأت عملية نقد النصوص تزداد  في ظل مدرستي برغامة والإسكندرية، حيث تشكلت لجنة علمية أسندت إليها كتابة الملحمتين، وفي المدرستين المذكورتين انبثقت البذور الأولى للتحقيق العلمي، ومع النهضة والتطور الذي عرفته أوروبا في القرن 12م ثم 13 إذ أنشئت الجامعات وبدأ الأوروبيون يبحثون في تراثهم فخرّجوا النصوص تخريخا صحيحا، وقد انصب تفكيرهم في  البداية على إخراج الكتاب المقدس (التوراة)، ونظرا لتعدد نسخه وكثرة اختلافها فقد وقع الاختيار على نسخة من بين النسخ دون الخضوع لمقاييس علمية بل الذوق هو معيار الاختيار، ولم يتأسس لدى الغربيين تفكير نظري ومنهج معلوم لتصحيح الكتب ونشرها إلا في القرن 19م، مع التطور الكبير الذي عرفته الفيلولوجيا، وحازت الريادة في ذلك ألمانيا، حيث اهتدت مدرستها برئاسة العالم لخمان 1851م إلى الطرق التي وصل بها إلينا التراث المخطوط القديم؛ إذ أثبت أنه لم يصل إلينا في نسخه الأصلية وإنما عن طريق شواهد ووسائط خضعت لألوان من التحريف والتصحيف، ومن خلال تلك الشواهد حاول لخمان الاهتداء إلى شكل قريب من النص الأصلي، ولهذا يمكن القول: إن علم المخطوط وتاريخ النصوص قد رأى النور مع لخمان ومدرسته وبعض منافسيه، مثل الفيلولوجي «صوب» صاحب نظرية علم النسب في ميدان المخطوطات. وهناك طرق أخرى لعلماء آخرين للوصول إلى نص قريب من النص الأصلي. وقد تأكد لدى علماء الفليلوجيا أن المدة التي تفصل بين المخطوط الأصلي وبين أقدم شاهد لا تقل عن خمسة قرون، واهتدى بعضهم إلى طرق أخرى لترتيب النسخ الأصلية الخطية في محاولة الوصول إلى النسخة الأم وأشهر تلك الطرق ثلاث:
1 -طريقة الألماني لخمان، وتعتمد على حصر المخطوطات حسب الأخطاء المشتركة.
2 -طريقة الإنجليزي كلارك(Klark)، المؤسسة على المعلومات المستفادة مما يلاحظ في المخطوطات من تحريف أو تغيير أو بياض أو ترميم ….
3 -طريقة هنري كانتان(H.Quentin)وتعمد إلى المقارنة بين النسخ الخطية وترتيبها في ثلاث مجموعات:
-الروايات الأحادية، وهي لا تفيد في عملية ترتيب النسخ.
-الروايات المختلفة النادرة، وقد تفيد في ترتيب النسخ حسب العائلات.
-الروايات المختلفة المتعدد، وقد تفيد في ترتيب النسخ داخل العائلات وبالتالي ترتيب العائلات نفسها.

والغاية دائما من وضع هذه الطرق هو الوصول إلى نمط أعلى قريب في شكله إلى النص الأصلي.
وقد ناقش الأستاذ بنبين مجموعة من المفاهيم التي يمكن اعتبارها، رغم شيوعها وتعلقها بأذهان الباحثين، خاطئة، كقضية النسخة الجيدة والناسخ الجيد والناسخ الرديء والنسخة القديمة والنسخة المعتمدة أو الأساس والنسخة الأصلية والنسخة الأم…

فالنسخة الجيدة عند علماء الفيلولوجيا ليست النسخة القليلة الأخطاء أو المصححة بل هي تلك التي احتفظت بالأخطاء الواردة في الأصل المنسوخ منه، وبالتالي فالناسخ الجيد ليس هو من يجهد نفسه في تصحيح الأخطاء وإنما ذلك الذي يحتفظ بها. ومفهوم النسخة القديمة غير مقبول عند المحققين الفيلولوجين، إذ قد توجد نسخ حديثة أحسن من القديمة لاعتبارات متعددة. ومفهوم النسخة المعتمدة  أو الأساس عندهم هو بديل ونظير لمفهوم النسخة الفريدة(UNICOM)، ولا يسمى الاعتماد عليها تحقيقا بل هو تصحيح ونشر. والنسخة الأصل هي المنسوخ منها، سواء كانت بخط المؤلف أم متفرعة عن نسخته، فكل نسخة اعتمدت في النسخ فهي أصلية. والنسخة الأم هي نسخة المؤلف ولكنها تأخذ مفهومها حسب السياق، وتعتبر النسخة الأم عند الفيلولوجين أقدم شاهد على النص الأصلي الذي انبثقت عنه نسخ المخطوط، وقد عانى الغربيون الكثير من أجل الوصول إليها.

وإلى جانب طريقة تاريخ النص اعتمد الغربيون، بعد نضج أفكارهم وتطور ثقافتهم طريقة النقد لكل النسخ بعد جمع عدد منها والمقابلة فيما بينها في محاولة الوصول إلى نص أقرب ما يكون إلى نص المؤلف، وهذا المنهج الذي يعتمد الضبط والتدقيق نجده عند أسلافنا في عنايتهم بعلومنا وضبطها، فأصل المقابلة يعود إلى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إبان كتابة الوحي،  ومعروف على علماء الحديث أنهم أشد تعلقا بالمقابلة، بل إنهم وضعوا كتبا تبرز قواعدها وتجليها مثل كتاب المحدث الفاصل بين الراوي والواعي للرامهرمزي، والجامع لأخلاق الراوي للخطيب البغدادي، والإلماع للقاضي عياض، وعلوم الحديث المعروف بمقدمة ابن الصلاح.

ولعلّ من أبرز الأمثلة على حرص القدماء على التوثيق والضبط ما صنعه علي بن أحمد اليونيني في تحقيق روايات صحيح الإمام البخاري؛ إذ قام بمراجعة الروايات المختلفة وتحقيقها وتحريرها مما شابها من خلط واضطراب معتمدا في ذلك على المقابلة بين النسخ المتوفرة لديه مستعينا بالنحوي الكبير ابن مالك الجياني.

فإلى أي حد التزم المحدثون بالقواعد التي رسمها القدماء في إخراج النصوص؟ وهل منهم من استفاد من الأساليب التي وضعها الفيلولوجيون الغربيون بالرغم من الفوارق الموجودة بين التراث الأوربي والتراث العربي؟

 

أكد الأستاذ في بداية جوابه عن هذين التساؤلين الكبيرين حقيقة تاريخية هي أن المستشرقين كانوا سباقين إلى نشر  التراث العربي وفهرسته وتنظيمه وتحقيقه بغض النظر عن الأهداف التي دفعتهم إلى ذلك، وبخصوص النشر فإن عنصر  المقابلة كان عنصرا مهما في أعمالهم. أما الإسهامات العربية في مجال التحقيق فإنها لم تظهر إلا في مطلع القرن  العشرين من طرف بعض العاشقين للتراث أمثال أحمد زكي باشا وأحمد تيمور وآخرين ممن وقفوا على جهود الغربيين  وحاولوا تقليدهم، وقد حصل التنويه بأعمالهم واعتراف بمجهوداتهم، وبالرغم من ذلك ـ يقول الأستاذ ـ فإن مفهوم التحقيق  عند هؤلاء الرواد يبقى مفهوما تقليديا بمعنى التوثيق والضبط، ولم يهتدوا إلى عملية تاريخ النص التي ابتدعها لخمان  والتي ستتطور فيما بعد إلى ما سمي بنقد النص، ولعلّ السبب في ذلك راجع إلى قلة النسخ الخطية للكتاب، ويضاف إلى  هذا ـ حسب قول الأستاذ دائما ـ تهاون الباحثين في الكشف عن النسخ والبحث عنها، الشيء الذي لم يسعفهم في الأخذ  بالأساليب الحديثة في ممارسة  التحقيق العلمي، ومن رأي الأستاذ في هذا الصدد أن الاعتماد على نسخة واحدة أو نسخ معدودة لم يعد مقبولا في عملية نقد النص، بل ذلك يتوقف على التفتيش عن المخطوطات وتجميعها وفهرستها وهذا داخل في عمل الكوديكولوجي، وهو عنصر أساسي في عملية التحقيق العلمي، لينتقل العمل إلى الفيلولوجي الذي يقوم بعملية تاريخ النص، فيعيد بناء النسخة الأم. وهذا التكامل الضروري بين العملين هو ما يفتقر إليه في العالم العربي لعدم إدراك أهميته، إذ لا وجود لمؤسسة تحتضن هذه العملية العلمية، والتي لا يمكن لتاريخ النص أن يتم إلا في حضنها.

وفي الختام تطرق الأستاذ إلى قضية أساسية تخص الشخص الممارس لعملية التحقيق العلمي، فهذا الشخض يجب أن تتوافر فيه مجموعة من الشروط كي يكون أهلا لولوج ميدان التحقيق الذي يتميز بالصعوبة، ومن أهم تلك الشروط أن يكون المحقق موهوبا ومحبا للغوص في عالم المخطوطات، وأن يتحلى بالصبر والمواظبة أثناء البحث، وأن تكون له كفاءة عالية وتجربة راسخة وعلم غزيز. ونتيجةُ غياب هذه الصفات أو أكثرها في كثير من الطلبة المبتدئين الذين أسندت لهم عملية تحقيق أعمال علمية في الجامعات العربية، افتقار تلك الأعمال ظلت إلى أبسط قواعد البحث العلمي، فأصبح من اللازم واللائق اختيار من تتوفر فيهم شروط المحقق، وأصبح من الواجب أيضا إعادة ما اشتغلوا عليه طوال القرن الماضي، وهذا لا يقلل من مكتسبات المبتدئين والتجارب التي خاضوها وهم يقتحمون ميدان التحقيق في بداية مشوارهم العلمي.

ويشار هنا إلى أنه فُسح المجال للباحثين لإبداء آرائهم وطرح تساؤلاتهم، والتي تفضل الأستاذ أحمد شوقي بنيين بالإجابة عنها، وتوضيح ما أشكل على بعض الباحثين فيما يتعلق بطرق التحقيق ومناهجه.

واعتبارا لأهمية المادة العلمية التي تضمنتها هذه الدورة باشر مركز الدراسات والأبحاث وإحياء التراث توثيقها وإعدادها لتكون كتابا في متناول الدارسين.

إنجاز: د,مصطفى عكلي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق