وحدة الإحياء

العلوم الإسلامية ومنهجيات التأويل

عقدت مجلة الإحياء ملتقاها الأول (الثالث من حيث الإعداد للنشر) بمدينة الدار البيضاء على هامش فعاليات ندوة “سؤال الأخلاق والقيم في عالمنا المعاصر”، وذلك يوم 23 جمادى الثانية 1432ﻫ الموافق لـ27 ماي 2011، بمشاركة كل من الدكتور رضوان السيد الذي قدم ورقة علمية حول المنهج التأويلي في العلوم الإسلامية من خلال الحارث بن أسد المحاسبي، وكذا الدكتور أحمد عبادي، والدكتور عبد الله السيد ولد أباه، والدكتور عبد السلام طويل الذين قدوا تعقيبات على ورقة الأستاذ رضوان السيد.

انطلقت مداخلة رضوان السيد من تحديد المحاسبي للعقل بكونه “نور أو غريزة تنمو بالعلم والحلم وتدرك بها العلوم” فالعقل بهذا المعنى، ليس جوهرا فردا، وهو بذلك يستبطن نقدا للمعتزلة وللكندي في قولهم بأن العقل جوهر فرد. فالحد الذي وضعه المحاسبي للعقل يبتغي من خلاله الرد على اليونان وعلى ناقلي فكرهم للبيئة الإسلامية، ذلك أن الفلاسفة يعتبرون العقل جوهر فرد وبذلك يجعلون له سلطة خارجية توازي السلطة الإلهية، وهذا ما أكده ابن تيمية في كتابه “الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان” حيث اعتبر أن كلام المحاسبي يعد بمثابة رد على العقل اليوناني.

والقول بأن العقل غريزة مثله مثل سائر الغرائز يعني، من وجهة نظر رضوان السيد، أنها شائعة في الإنسان مثل شيوع الغرائز الأخرى فيه، وما ينتج عن ذلك من امتلاكه للسلطة ومن ضمنها السلطة التقديرية، ومن خلال هذه السلطة يقرأ النص قراءة تأويلية مباشرة.

وقد نظر السيد إلى مسألة التأويل من مستويين؛ مستوى المنهج النقدي للعلوم الإسلامية، ومستوى دوره في بناء النظرية السياسية الإسلامية.  وتفسير ذلك أن العقل إذا كانا جوهرا فردا؛ فالسلطة آتية من فوق أي لا علاقة لها بالمجتمع، وإذا كانت جزأ من الفرد فهي شائعة في المجتمع، وما عليه أهل السنة والجماعة، يستخلص السيد، هو أن السلطة في الإسلام شائعة، وبالتالي يتعين النظر إلى الكيان السياسي والجماعة الإسلامية باعتبارها جماعة سياسية كاملة. عكس ما لدى فلاسفة اليونان والشيعة وكل من الفارابي وابن سينا.

ثم بعد ذلك تساءل السيد عن كيفية استخدام المنهج التأويلي لإعادة النظر في مناهج الفقه الإسلامي بغية إعادة قراءة التجربة الفقهية والخروج من المنهج القياسي المغلق. ليعتبر أن نظرية المقاصد هي الكفيلة بإخرجنا من أسر المقاربة القياسية الضيقة، على أن يتم تحرير هذه النظرية من مناخ التوتر الذي شهدته المرحلة الحديثة التي كانت محكومة إلى حد بعيد بالثنائيات الفكرية السائدة. رغم أن الفكرة المقاصدية ما استدعاها النهضويين إلا لتحررهم من أسر الطريقة القياسية.

ليختتم مداخلته بالتساؤل: كيف يمكننا قراءة القرآن الكريم قراءة تأويلية؟ كيف يمكننا قراءة النصوص بشكل عام قراءة تأويلية؟ كيف يمكننا الإسهام في علم التأويل المعاصر على غرار بول ريكور وفاتيمو؟

ومن جهته، أبرز الدكتور عبد الله السيد ولد أباه كيف أن هناك مسلكان تأويليان في الفكر الغربي؛ تأويليات الفصل، وتأويليات الوصل. وكيف أنه لما بدأ تطبيق المناهج التأويلية على التراث العربي الإسلامي هيمن عليه المسلك التأويلي الفصلي، انطلاقا من قراءة إبستيمولوجية للتأويل انطلقت من تاريخية المفاهيم وتاريخية الأفكار..

وحتى الذين استخدموا اللسانيات ومناهج ما يسمونه  في تاريخ الفلسفة بـ”المنعرج اللغوي” الكبير، هذا المنعرج الذي بدأ مع ظاهراتية إدموند هوسرل ومن بعده مارتن هيدجر وغادامير.. إنما استخدموها في إطار تأويليات الفصل وليس تأويليات الوصل، رغم أن تأويليات الوصل هي التي تناسب أكثر “المنعرج اللغوي” نفسه،

وبالمقابل اعتبر أن أهم مفكر بلور تأويلية الوصل،  وقدم إسهامات مهمة جدا، لم يستفد منها في السياق العربي بالشكل المطلوب،  هو “بول ريكور”، خصوصا وأن ريكور يوظف كل الجهاز المفاهيمي الذي تبلور في الفلسفة الغربية المعاصرة، سواء الفرضيات المستمدة من اللسانيات الفرنسية مع فردينان دوسوسير، أوالفلسفة التحليلية الأنكلوساكسونية، حيث أبدع سلسلة كتابات تأسيسية كتبها جميها حول “الزمن” سواء تعلق الأمر بـ “الزمن والتاريخ” أو”الزمن والرواية” أو”الزمن والسرد“، وهي اجتهادات قابلة لأن توظف في قراءة التراث الإسلامي وتجديد الفكر الإسلامي،دون أن تصدم المسلمات الإيمانية للمجتمع المسلم..

خاصة وأن ريكور ينطلق من الوعي بأن كل نص، وكل تأويلية تقوم على ثنائية الانتماء والمسافة (appartenance et distance)، أي أن المؤول ينتمي ضرورة إلى النص الذي يؤوله، وبالتالي فعلاقتنا بهذا النص ليست علاقة خارجية، بحيث يصعب “فصل القارئ عن المقروء“،  بدعوى أن هذا الفصل غير ممكن مادمنا ننتمي إلى هذا النص، وهذا النص معاصر لنا مادمنا نقرأه. مع العلم أن هذا الانتماء يقوم على علاقة أساسية قوامها أننا ننتج “المعنى” من خلال قراءتنا للنص..

وهو ما يفسر إكثار ريكور من استخدام مفهوم “الهوية السردية identité narrative))؛ أي أننا نحن في الحقيقة نعيد إنتاج هويتنا من خلال ما نرويه عن أنفسنا؛ فمفهوم “السردية” يفيد أن علاقتنا بالنص ليست علاقة تاريخ فقط، وإنما هي علاقة سرد، بدعوى أن السرد أوسع من التاريخ؛  فالتاريخ فصل بينما السرد وصل..وهو ما يفسر أن كل فيلسوف يستعين بتراثه الخاص.

وبعد ذلك، أبرز كيف أن أكثر الفلسفات المعاصرة تفكيكية لم تجد بدا من التسليم بأن “الدين هو منبع الثقافة البشرية ومنبع العقل نفسه، لماذا؟ لأن الدين يقوم على فكرة أساسية وهي “الثقة في المعنى“، وكل ثقة في المعنى هي نمط من الدين، و مادامت اللغة تقوم على الثقة في المعنى، الثقة في التخاطب، الثقة في أنما يقوله الآخر قابل لأن نفهمه وأن يفهمنا..”

وبعد أن ميز بين الدين وبين البنية الميتافيزيقية للدين، وبين العقلانية الموضوعية وعقلانية التضامن، خلص إلى أن الدين التوحيدي مثله مثل الفلسفة ينطلق من مفهوم للعقلنة بمقتضاها يغدو الخطاب قابلا للتعميم الكوني..

بعد ذلك، تناول الكلمة الدكتور أحمد عبادي الذي نوه بعمق المقاربة التي أسس لها رضوان السيد وناقشها عبد الله السيد ولد أباه؛ لأنها تقدم مجموعة من المفاتيح التي تسعفنا في إعادة قراءة تراثنا الفقهي بمختلف فروعه، ومن خلال ذلك يمكننا أن نقوم بجملة من الانتقادات في البنية ذاتها التي تشكل حسبها ووفقها في هذا الصرح السياسي الذي عاشته الأمة.

ومع أن كلام الغزالي في “تهافت الفلاسفة” قد يبدو أنه نفثت غاضب يحاول أن يؤنب غيابيا هؤلاء الفلاسفة، بيد، الأستاذ أحمد عبادي نبه إلى أن القضية في غاية العمق، وقد نوه لتوظيف رضوان السيد لمختلف القضايا السابقة في الجانب النقدي لتراثنا الفقهي والكلامي والفلسفي، لكن بإزاء ذلك وربما في موازاة معه لتراثنا السياسي، انطلاقا من منظور تأويلي لقضية السلطة والجماعة استخلص بموجبه أن أهل السنة والجماعة، بما أنهم انطلقوا من اعتبار العقل غريزة  ونورا، فهذا يعني أن هذا العقل مشاع في الناس، ومن ثم فإن المسألة تخضع للتشاور، وقد أبرز الأستاذ عبادي كيف أن عدم بروز هذا الإدراك بالشكل الكافي قد أخر بلورة هذا الميثاق الاجتماعي المرتقب قرونا عديدة.

وفي ختام هذا الملتقى، وفي سياق تساؤل الأستاذ عبد السلام طويل عن حدود إسهام النظرية التأويلية الوظيفية لبناء نظرية سياسية إسلامية؟ أبرز أننا لسنا بصدد تأويلية المحاسبي فحسب وإنما بصدد تأويلية جديدة، بمداخل ومنطلقات ومقاصد جديدة، تأويلية معالمها واضحة إلى حد بعيد، تأويلية وظيفية؛ عملت على بلورة مقاربة نقدية للقياس بمفهومه التقليدي، وعلى الإسهام في بناء النظرية السياسية الإسلامية..

وعن حدود قدرة تأويلية المحاسبي في بناء نظرية سياسية إسلامية أشار عبد السلام طويل إلى مفارقة اعترضته في هذا السياق، مردها عدم التمييز بين مفهومي السياسة كتدبير لشؤون الجماعة والسلطة كعلاقة قوى؛ بحيث إذا ما اعتبرنا أن السياسة مشاع على غرار أن العقل مشاع وعريزة، فإن السلطة ليست كذلك، فالسلطة، بالتعريف، حصرية ومركزة وليست شائعة، وكونها كذلك لا يعني بالضرورة أنها ليست شورية ولا ديمقراطية. كل ما هنالك أن شيوعها لا يمكن أن يقارن بشيوع ملكة وعريزة العقل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق