الرابطة المحمدية للعلماء

العلوم الإسلامية: أزمة منهج أم أزمة تنـزيل؟

أكتوبر 30, 2010

د. طه جابر العلواني
رئيس جامعة قرطبة- واشنطن

تندرج هذه الدراسة ضمن أعمال الندوة العلمية التي نظمتها الرابطة المحمدية للعلماء في موضوع: “العلوم الإسلامية: أزمة منهج أم أزمة تنـزيل؟” التي أقيمت يومي 1314 ربيع الثاني 1431ﻫ الموافق 3031 مارس 2010م، أكادير-المملكة المغربية. 

يسعدني أن أشارك في ندوتكم الموقرة هذه، التي تقيمونها حول موضوع يعتبر من أخطر وأهم الموضوعات التي تشتد حاجة أُمتنا لبحثها وتناولها، والوصول بها إلى حالة من الوعي بجوانبها المختلفة، وقضاياها المتنوعة. بل لا أُغالي لو قلت إن هذا الموضوع لا تكفيه ندوة أو ندوتان، بل لابد من أن يحتل من اهتمام أهل العلم الموقع المناسب، فيتحول إلى مقررات دراسية تدرسها الجامعات الإسلامية وأقسام الدراسات الإسلامية فيها وفي غيرها من الجامعات، وأن تكون موضع تدريبات متصلة تسعى إلى تكوين عقليات قادرة على التعامل مع هذا النوع من المعرفة تعاملًا سليمًا، يمكن أن يجعل هذه العلوم جزءًا لا يتجزأ من مشروع نهضوي تشتد حاجة أُمتنا إلى وضعه وتجعل من طلبة العلوم الشرعية والمهرة فيها من جميع التخصصات عناصر بناءٍ وتشييدٍ لهذا المشروع الحضاري الذي طال انتظار أُمتنا له، فما من شيءٍ يمكن أن يساعد أُمتنا اليوم على اجتياز حالات التخلف بأنواعها المختلفة والخروج منها مثل ربط قضايا التخلف بمخالفة الشريعة وتعطيل فرائض الأُمة، والتمرد على تعاليم الله، والتعرض لغضبه سبحانه وتعالى.

لقد رُبطت قضايا الإصلاح والتجديد والتنمية والتقدم، وتجاوز حالات التخلف بأمورٍ كثيرة لا تشكل للمسلم بؤرة لتوليد الدواعي والدوافع الخيرة ولا تقود حركته، ولا تزكي فعله، ولا تعينه العون السليم على إصلاح فعله ووضعه في مجال التأثير والفاعلية وما إلى ذلك. وتقديم الزاد الفكري والعقلي والمعرفي والثقافي القادر على تشكيل الدوافع والدواعي الخيرة لدى الإنسان المسلم، هي أهم ما يحتاجه في الوقت الحاضر ليبدأ خطوة الألف ميل في طريق استئناف دوره في بناء الحضارة وتصحيح مسار الثقافة والعمران في هذه المعمورة التي قد يكون تدميرها -لا سمح الله- بأيدي أهلها وشيكًا إذا لم تدركها عناية الله ولم تقم أُمتنا المسلمة بدورها شريكًا فاعلًا في تصحيح مسار هذه الحضارة.

ولن تستطيع أُمتنا أن تقوم بذلك قبل أن تصحح مسيرتها وتعيد بناء عالم أفكارها ودعائم ثقافتها، ومناهج معرفتها، وقواعد علومها؛ بحيث يعاد تشكيل العقل المسلم وتأسيس وعيه بالقرآن المجيد تأسيسًا يجعله قادرًا على أخذ موقعه المطلوب في حماية البشرية وحضارته اليوم. ومن هنا فإن معالجة أزمة العلوم الإسلامية تستمد أهميتها من ذلك الذي ذكرنا.

إن أزمة العلوم الإسلامية هي أزمة منهج، وأزمة تنـزيل، وأزمة تفعيل، وأزمة تصحيح مسار، وأزمة في الغائية والمقاصد، ولذلك فلن تتمكن إذا بقيت على حالتها تلك من إعطاء المسلم المعاصر الرؤية المطلوبة لإعادة بناء عقله وتشكيله.

ولنتبين هذه الأزمات نجد أنفسنا في حاجةٍ إلى التعرض إلى جملة من القضايا بعضها سوف نمهد به لتناول الموضوع الأساس، وبعضها سوف نبين به طبيعة الإشكالية مع ضرب كثير من الأمثلة عليها، وبعضها سوف نحاول معًا أن نبين به سبيل التصحيح وإعادة البناء.

تمهيد

لكي نمهد لهذا الموضع أجدني بحاجةٍ إلى تناول عناوين أساسية لابد من تناولها هي:

1. اللغة العربية عند نـزول القرآن المجيد.

2. الثقافة التي كانت سائدة قبل القرآن والتداول الشفوي للمعارف.

3. الخطاب ومتلقيه والتفاعل بينهما والفهم ثم التطبيق.

4. التراكم الذي حدث لمعرف المسلمين منذ نزول القرآن المجيد حتى التدوين.

5. وقفة مع كتاب الموطأ ومحاولة استخلاص بعض الدروس.

  1. 1.       اللغة العربية عند نـزول القرآن المجيد

ـ معنى العربي

“عربي” تأتي بمعنى “اللسان العربي” المنسوب إلى القوم المعروفين، وبمعنى الكلام الفصيح الواضح الذي لفصاحته وبلاغته يكاد يفهمه منْ لا يعرف لغته فضلا عمن يعرفها، فالانتساب إلى العرب أحد معانيه لا كلها. والعرب قسمان:

القسم الأول: عرب عرباء وعُربة؛ أي الصرحاء أو الخُلص في عروبتهم، وهم تسع قبائل هي: عاد، وثمود، وأميم، وعبيل، وطسم، وجديس، وعمليق، وجرهم، ووبار. ويقال: هم الذين تعلم إسماعيل بن إبراهيم الخليل -عليهما السلام- العربية منهم.

والقسم الثاني: هم الذين عرفوا بالعرب المتعربة، وهم بنو إسماعيل ولد معد بن عدنان بن آدم. والقبائل المذكورة انقطعت منذ فترة طويلة وتفرقت بقاياهم في قبائل أخرى نشأت بعد ذلك، ولم يعد التفريق بين العاربة والمتعربة واردًا فيها، أو مما يُلتفت إليه.

وينقسم العرب من حيث مساكنهم قسمين كذلك:

الأول: وهم “العرب”؛ فإذا أطلقت كلمة “العرب” قُصِد بها أهل المدن والقرى مثل أولئك الذين سكنوا مكة والحيرة واليمن والمدينة ونحوها، وهم الذين يعرفون “بأهل المدر أو الحضر”.

والقسم الثاني: هم “الأعراب” أو “أهل الوبر” الذين سكنوا البادية ويقال لهم: البدو، وهم معرفون بأنهم أصحاب نجعة وانتواء وارتياد للكلإ، وتتبع لمساقط الغيث. وتستعمل المادة (ع، ر، ب) للدلالة على معانٍ عديدة منها: الوضوح والصراحة والإبانة؛ لذلك يقولون: “فلان أعرب عما في ضميره”. وقيل لعلم النحو: “علم الإعراب”؛ لأن فيه الإبانة عن المعاني بالألفاظ، ويقال للخيل الأصيلة السالمة من الهجنة: “خيل عربية أو عِراب”. و”يوم عروبة” أو يوم العروبة هُو يوم الجمعة باعتباره يومًا معظمًا يظهر الناس فيه لبعضهم، ويجتمعون فيه[1].

وقد اختلف في سبب تسمية العرب باسمهم هذا؛ فقيل: لإعراب لسانهم بمعنى إيضاحه ووضوحه وبيانه؛ ولذلك عُد اللسانُ العربي أشرف الألسن وأوضحها وأعربها عن المراد بوجوه من البيان والبديع والمعاني والاختصار والإيجاز والإطناب والكناية والمجاز والحقيقة والمساواة. وقيل: لأن أولاد إسماعيل بن إبراهيم -عليهما السلام- نُشئوا في عربة، وهي من تهامة، وقد روي عن النبي –صلى الله عليه وآله وسلم– أنه قال: “خمسة أنبياء من العرب؛ هم مُحمد وإسماعيل وشعيب وصالح وهود”، وكل من سكن بلاد العرب وجزيرتها بحدودها المعروفة، ونطق بلسان أهلها فهم “عرب[2].”

وقد ذكر ابن تيمية[3] أن اسم “العرب” في الأصل كان اسمًا لمن جمعوا ثلاثة أوصاف: الأول: إن لسانهم كان باللغة العربية. الثاني: إنهم كانوا من أولاد العرب، والثالث: إن مساكنهم كانت أرض العرب، وهي جزيرة العرب التي هِي من بحر القلزم إلى بحر البصرة، ومن أقصى حِجْر باليمن إلى أوائل الشام. بحيث كانت تدخل اليمن في دارهم، ولا تدخل فيها الشام، وفي هذه الأرض كانت العرب حين البعث النبوي وقبله. فلما جاء الإسلام وفتحت الأمصار سكنوا سائر البلاد من أقصى المشرق إلى أقصى المغرب، وإلى سواحل الشام وأرمينية، وهذه كانت مساكن فارس والروم والبربر وغيرهم، ثم انقسمت هذه البلاد قسمين: منها: ما غلب على أهله لسان العرب، حتى لا تعرف عامتهم غيره، أو يعرفونه وغيره، مع ما دخل على لسان العرب من اللحن، وهذه غالب مساكن الشام والعراق ومصر والأندلس، ونحو ذلك، وأظن أرض فارس وخراسان كانت هكذا قديمًا.

ومنها: ما العُجْمة كثيرة فيهم أو غالبة عليهم، كبلاد الترك وخراسان وأرمينية وأذربيجان ونحو ذلك، فهذه البقاع انقسمت إلى ما هُو “عربي” ابتداء، وما هُو عربي انتقالاً، وإلى ما هُو عجمي، وكذلك الأنساب صارت ثلاثة أقسام: قوم هم نسل العرب، وهم باقون على العربية لسانًا ودارًا، أو لسانًا لا دارًا. أو دارًا لا لسانًا[4]. وقوم من نسل العرب، بل من نسل هاشم، ثم صارت العربية لسانهم ودارهم، أو أحدهما، وقوم مجهولو الأصل لا يدرون؛ أمن نسل العرب هم، أم من نسل العجم؟ وهم أكثر الناس اليوم، سواء كانوا عرب الدار واللسان، أو عجمًا في أحدهما. وكذلك انقسموا في اللسان ثلاثة أقسام: قوم يتكلمون بالعربية لفظًا ونغمة، وقوم يتكلمون بها لفظًا لا نغمة وهم المتعربون الذين ما تعلموا اللغة من العرب، وإنما اعتادوا غيرها ثم تعلموها كغالب أهل العلم ممن تعلم العربية، وقوم لا يتكلمون بها إلا قليلاً.

وهذان القسمان: منهم من تغلِبُ عليه العربية، ومنهم من تغلب عليه العُجْمة، ومنهم من يتكافأ في حقه الأمران: إما قدرة، وإما عادة. فإذا كانت العربية قد انقسمت نسبًا ولسانًا ودارًا فإن الأحكام تختلف باختلاف هذا الانقسام خصوصًا النسب واللسان.

فإن ما ذكرناه من تحريم الصدقة على بني هاشم واستحقاق نصيب من الخمس ثبت لهم باعتبار النسب وإن صارت ألسنتهم أعجمية[5].

ـ معنى الأعجمي

(والعُجم أو العجمُ) خلاف “العرب”: وفي سر الصناعة يقرر “ابن جني” أن مادة (ع ج م) وقعت في لغة العرب للإبهام والإخفاء، وضد البيان، نقله الزبيدي في التاج، يقال: “استُعجمت عليه القراءة” إذا ارتج عليه فلم يقدر على مواصلتها. ويقال: “أفصح الأعجمي”؛ أي تكلم بالعربية. قال الزبيدي: وكل من لم يفصح بشيء فقد أعجمه؛ أي أبهمه أو جعله غامضًا؛ أي: بالنسبة للعربي[6].

وقال ابن تيمية: “العجم هم منْ سوى العرب؛ من الفرس والروم والترك والبربر والحبشة وغيرهم[7].” وقال أيضًا: “إن اسم العجم يعم -في اللغة– كل منْ ليس من العرب”، ثم قال: “فصارت حقيقة عُرْفية[8].”

ويقول المفكر جاك بيرك في كتابه (إعادة قراءة القرآن):

“إن اللقاء بين نـزول الوحي واللغة العربية قد وجد أسباب وجوده من منظور عقدي، في الكيفيات الخاصة للهجة، وذلك كالبيان والتفصيل فهما من خواص الفعالية في إيصال الرسالة. وقد كان أيضًا لقاء  بين المطلق والتاريخي ولم يكن اللقاء ليتم من غير أن يرتدي سمات التحدي. فالقرآن في الواقع يمثل تحديا ليس بموضوعه فقط ولكن بصيغته التي تجعل منه الإمام المبين “المبدأ الواضح” كما تجعل منه “المرشد الذي يرشد بوضوح”. وإن القرآن ليقدم نفسه بوصفه جزءًا من نموذج خالد أعلى؛ أي بوصفه “أم الكتاب” الذي يحفظه الله. ذلك لأن العقيدة قد انتهت إلى ترجيح أن القرآن ليس مخلوقا وأنه وجد منذ الأبدية في حفظ الله[9].”

لقد عُرف القرآن الكريم بثراء معانيه وغزارتها، وانفتاح خطابه على التاريخ الماضي، والحاضر الراهن، والمستقبل المنتظر. وهو حين ينفتح على كل تلك المعاني فإنه يتسع لبعضها بألفاظه الظاهرة، وأحيانًا بمعانيه الكامنة، ثم بسياقه وبنظْمه وأساليبه وبلاغته وفصاحته ووحدته البنائية. لذلك فإن التالي المتدبر للقرآن المجيد يبحث عن تلك الجوانب المفتوحة في النص على مختلف الآفاق، موظفًا بيان النص وبلاغته وفصاحته للغوص على اللباب، وستكون هذه المعاني –كلها– مصادر إثراء وإغناء للثقافة المشتركة الموحدة.

وصف القرآن نفسه بأنه عربي[10]، وأكد هذا الوصف مرات عديدة في مواقع كثيرة من آياته وسوره ونجومه. وعروبة القرآن إحدى أهم أوصافه، وكونه عربيا؛ لأن العربية لسان الرسول الخاتم –صلى الله عليه وآله وسلم- فهو عربي اللسان والأصل والأرومة والنشأة والولادة والمكان؛ ولأن المخاطبين الأولين به عند نـزوله في أم القرى وما حولها كانوا عربًا؛ ولأن العرب كانوا أحوج الشعوب الأمية التي لم يأتها قبل خاتم النبيين رسول إلى تلقي الرسالة، وأقدر هذه الشعوب على تبنيها والانفعال بها ونقلها –بأمانة– إلى الآخرين، إضافةً إلى أن العربية لم تحمل قبل القرآن الكريم رسالة دينية، كما لم ُتحمل بمعانٍ فلسفية أو معرفية قد تزاحم المعاني التي أراد القرآن الكريم إيصالها للناس؛ وبالتالي فإنها ستكون خالصة لمفاهيمه ومعانيه من دون سائر المعاني والمفاهيم، فهي لسان محايد استطاع القرآن الكريم تطويعها لمضامينه. ومن هنا نستطيع أن نلاحظ الفرق بين العربية وغيرها من ألسن الرسل؛ فنـزول رسالات سائر الرسل بلغات أقوامهم غرضه الأساس هُو الإفهام، أما نـزول القرآن الكريم بالعربية فغرضه مع الإفهام بالبيان والوضوح التحدي والإعجاز. وهذا لا يعني أن خطاب القرآن الكريم ورسالة النبي الأمي -صلى الله عليه وآله وسلم- لم تكن عالمية وللعالمين كافة. فالقرآن الكريم نفسه يؤكد عالميته وعالمية الرسالة التي جاء بها النبي الأمي -صلى الله عليه وآله وسلم- حتى جعل منها ضرورة دينية لا مراء فيها ولا جدال، وقد أكد القرآن المجيد على عالميته بالقدر الذِي أكد فيه على عربية اللسان الذِي نـزل به؛ وذلك في آيات عديدة منها:

﴿تبارك الذِي نـزل الْفُرْقان على عبْدِهِ لِيكُون لِلْعالمِين نذِيرًا﴾ (الفرقان: 1)، ﴿إِنْ هُو إِلا ذِكْرٌ لِلْعالمِين﴾ (التكوير: 27)[11].

إن القرآن المجيد قد خلا بفضل الله – تعالى– من سائر عيوب الألسن بما في ذلك “اللسان العربي” نفسه؛ فلا تناقض فيه ولا اختلاف، ولا غموض ولا إبهام، ولا زيادة ولا تكرار، ولا ترادف ولا اشتراك، ولا عوج ولا اضطراب؛ فهو قد استوعب محاسن اللسان العربي وتجاوز أي عيب فيه بإعجازه وتحديه وعصمته وإحكام آياته وتفصيلها بعلمه -تبارك وتعالى-، وجعل لنفسه لسانًا خاصًا هو لسان القرآن، فيستحيل أن يخالطه غيرُها، ويستحيل أن يناله تغير أو تبديل.

2. الثقافة التي كانت سائدة قبل القرآن والتداول الشفوي للمعارف

العرب لم يكونوا قبل الإسلام قد اشتهروا بالمهارة في أي نوع من أنواع العلوم والمعارف، ولكن كانت لديهم معارف محدودة فرضت عليهم طبيعة حياتهم معرفتها والإلمام بها، فقد كانت هناك بعض المعارف المتعلقة بالفلك مما يحتاجه المسافر سفرًا طويلًا في الصحراء ليستدل به على الطرق، وكيفية السير والتنبؤ بما قد يصادفه من أجواء حسنة أو سيئة وما إلى ذلك.

كما كان العربي يعرف معلومات متداولة في إطار شفوي عن جغرافيا الجزيرة العربية التي هي موطنه وحدودها وأين تبدأ وأين تنتهي، كما يعرف الكثير عن تاريخها وتاريخ القبائل العربية وأيامها وعلاقاتها وزعماءها وشيوخها، إضافةً إلى معرفةٍ بالأشجار والنباتات والمياه التي تشتد حاجته إلى معرفتها لئلا يهلك إذا سلك سبيلا لا مياه فيها أو لا تؤدي إلى تلك المياه، إضافةً إلى معلومات بسيطة عن أهل الكتاب من اليهود والنصارى؛ لأنهم جيرانه ومُساكِنوه في شبه جزيرته العربية، وكذلك عن الفرس والروم لوجود الفرس على تخوم جزيرته وهيمنتهم على جزء من قومه “المناذرة”؛ ولأنه يحتك بهم تجاريًا خاصةً وقد حكم بعض ملوكهم مناطق من اليمن ومن الجزيرة العربية، ولهم أيام وتواريخ، كما كان يعرف شيئًا عن الروم؛ لأنهم يحكمون الشام ويسيطرون على مناطق الغساسنة العرب الذين كانوا متعاونين معهم، ويعرف ما يتعلق بحيواناته من إبل وغنم وماعز وبقر إضافةً إلى ما قد يصطاده من غزال وأرنب وضب وضبع أو يقتله من حيوانات ضارية وصقوره وكلاب صيده وما إلى ذلك، ويعرف نقاط قوتها وضعفها وأمراضها وصحتها وطرقًا بدائية لمعالجتها عند الحاجة. ويعرف الكعبة البيت الحرام وأن أول من بناها إبراهيم وولده إسماعيل، وأن له نسبًا يتصل بإبراهيم وإسماعيل.

تلك أهم علومه ومعارفه، أما الأمور الأخرى كالموت والحياة والدين فقد كانت معارفه فيها محدودة جدًا، فهو يعرف أصنامه ولكل قبيلة صنمها ويعرف كيف يتقرب لها، وربما يعرف أسماء الجن والملائكة الذين ابتكرتهم عقليته باعتبارهم جزءًا من عالم الغيب الذي يوسط صنمه لمعرفته واتقاء شره أو جلب خيره، ويعرف أن الموت عدم وفناء، وأن الميت لا يعود وليس هناك بعث ولا نشور، ولو كان لعاد إليه بعض من مات من أهله، أما وأن الميت لا يعود فذلك كافٍ لأن يُنكر البعث والنشور وأن ينظر للحياة على أنها مجرد طعام وشراب ومنام، وأن تكون القيم عنده هي القيم البديلة أو الرديفة لقيم من لديهم أديان من أهل الكتاب، بل يعتبر تلك القيم عناصر تفوق له كالكرم والشجاعة والوفاء واحترام ما توارثه من قيم الجاهلية، ومنها احترام الأشهر الحرم والبيت الحرام وما إلى ذلك.

ولم تكن هذه الثقافة مدونة بل كانت ثقافة شفوية. فإذا كان لها أصول، فإن أصولها لدى اليهود وليست لدى العرب. ومصادر هذه الثقافة الشفوية كانت (الفكر البابلي)، الذي تأثر به واقتبسه أحبار اليهود الذين عاشوا فترة السبي البابلي تلك الفترة التي شهدت إضافة لذلك إعادة كتابة التوراة من رؤوس وصدور أحبار اليهود من بقايا السيوف والسبي.

وكل ذلك لم يكن كافيًا لأن يجعل من ذلك العربي صاحب علمٍ ومعرفة وفكر، بل جعل منه إنسانًا حائرًا قلقًا إذا تضافرت عليه الأسئلة، فليس لديه ما يواجهها به من إجابات شافية، بل يلجأ إلى الخمرة وإلى التجاهل والإهمال وغيره.

لكنه كان يسمع من أهل الكتاب أمورًا غامضة عن أُلوهية وربوبية وعبودية ودار آخرة وحسنات وسيئات وصلاح وفساد، دون أن يدفعه ذلك إلى البحث في تلك الأمور والمسائلة عنها، والذين اعتنقوا اليهودية والنصرانية من العرب، إنما اعتنقوها تبعًا لمرضعات أرضعنهم ولبيئات نُشئوا فيها فنصرتهم أو هودتهم، لكن من الصعب أن نجد وثائق تشير إلى تحولات دينية في قبائل العرب باتجاه اليهودية أو النصرانية مع أن اليهود قد أقاموا في المدينة المنورة وجزيرة العرب سبعة قرون قبل البعثة انتظارًا لبعثة سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- الذي بشرت به كتبهم وأنبيائهم، وكانت اليهودية قد دخلت اليمن واستقرت فيه فترة طويلة ودخلتها النصرانية في بعض الأماكن ولاقت من اضطهاد اليهود ما لاقت، ولكنها لم تُمح وبقيت في نجران وجازان وما حولها، كما بقيت بعض القبائل اليمنية على يهوديتها. ذلك وصف سريع لحالة العرب قبل وعند بدء نـزول القرآن الكريم.

فأهل الكتاب كانوا يستفتحون على مشركي العرب بأنهم ينتظرون نبيًا رسولاً سوف يأتي فيؤمنون به ويتفوقون على العرب ويحاربونهم بقيادته ويُنهوا معالم الجاهلية القائمة في جزيرة العرب.

وكانت البشائر التي وردت في التوراة والإنجيل بخاتم النبيين وموقع ظهوره وبعثته قد شكلت دافعًا أساسيًا لبني إسرائيل للهجرة والتوافد إلى الجزيرة العربية من بلاد الشام واليمن وغيرها قبل مبعث النبي –صلى الله عليه وسلم- بحوالي سبعة قرون، وخلال هذه القرون اختلطت اليهود بالعرب وأصهرت إلى قبائلهم وانضمت إليها وتداخلت فيها.

وقد روي عن عرب المدينة أنهم كانوا يستأجرون مرضعات يهوديات لإرضاع أولادهم، وأن بعض من رضعوا من يهوديات اعتنقوا الديانة اليهودية. وعندما أجلى النبي –صلى الله عليه وسلم- يهود بني النضير عن المدينة لحق بهم بعض الأوس، ممن رضعوا من يهوديات، فأراد الأنصار إكراههم على ترك اليهودية ومنعهم من الهجرة. فنـزلت الآية: ﴿لا إِكْراه فِي الدينِ، قد تبين الرشْدُ مِنَ الْغي، فمنْ يكْفُرْ بِالطاغُوتِ ويُومِن بِاللهِ فقدِ اِسْتمْسك بِالْعُرْوةِ الْوُثْقى لا انفِصام لها واللهُ سمِيعٌ علِيمٌ﴾ (البقرة: 255)[12]. حتى صارت ثقافة مكة والمدينة والجزيرة العربية بصفة عامة (الثقافة الشفوية) هي الثقافة التي تحملها يهود، والتي اختلطت بالأعراف العربية والثقافة العربية وامتزجت بها امتزاج الخمر بالماء، وحتى صار من الصعب الفصل بين ما هو عربي جاهلي وبين ما هو يهودي أو نصراني بصفة عامة، والسبب في ذلك -كما يقول ابن خلدون- “إن العرب لم يكونوا أهل كتاب ولا علم، وإنما غلبت عليهم البداوة والأمية. فإذا تشوفوا إلى معرفة شيء مما تتشوف إليه النفوس البشرية في أسباب المكونات، وبدء الخليقة، وأسرار الوجود، فإنما يسألون عنه أهل الكتاب قبلهم ويستفيدونه منهم، وهم أهل التوراة من اليهود ومن تبع دينهم من النصارى وأهل التوراة الذين بين العرب يومئذ بادية مثلهم، ولا يعرفون من ذلك إلا ما تعرفه العامة من أهل الكتاب، ومعظمهم من حِمير الذين أخذوا بدين اليهودية. فلما أسلموا بقوا على ما كان عندهم، مما لا تعلق له بالأحكام الشرعية التي يحتاطون لها، مثل أخبار بدء الخليقة وما يرجع إلى الحدثان والملاحم وأمثال ذلك. وهؤلاء مثل كعب الأحبار ووهب بن منبه وعبد الله بن سلام وأمثالهم[13].”

فامتلأت التفاسير من المنقولات عنهم، وتساهل المفسرون في مثل ذلك، وأصلها كما قلنا عن أهل التوراة الذين كانوا يسكنون البادية، ولا تحقيق عندهم بمعرفة ما ينقلونه من ذلك إلا أنه بعُد صيتهم وعظمت أقدارهم لما كانوا عليه من المقامات في الدين والملة، فتلقى الناس أقوالهم بالقبول من يومئذٍ!!

هذا الكلام من ابن خلدون خطير، لاسيما وهو فقيه وقاضٍ وعالم اجتماع ومؤرخ، وما قاله -إنْ صح- يعطي مؤشرات حول طبيعة وخصائص البيئة التي واجهها الوحي أول نـزوله، وطبيعة الحال الثقافية التي كانت سائدة، وهي ثقافة شفوية غير مدونة، وقد تكمن أهمية تلك الخصائص بأن تراثنا الإسلامي -كله- قد ولد وتكونت ملامحه قبل عصر التدوين، والتدوين قد بدأ في عهد عمر بن عبد العزيز وسار نحو التكامل[14]، وذلك التراث نتيجة تفاعل جدلي بين النص المتمثل بالكتاب الكريم وبيانه المتمثل بالسنة النبوية وبين الواقع بكل خصائصه، فما خصائص وأوضاع مجتمع مكة قبل النبوة وأثناءها وبعدها؟ وما أنماط العلاقات بين الناس؟ وما مكونات وعيهم؟ وما عناصر سلوكهم وعاداتهم؟ وكذلك الحال بالنسبة لمجتمع المدينة ثم الجزيرة العربية بأسرها. فلهذا النوع من الدراسات أثره البالغ في معرفة معالم السقف المعرفي – إذا صح التعبير- الذي كان، ومعرفة كيفية تأثير الوحي فيه، وكيف استقبل الوحي ذلك الواقع؟

3. الخطاب ومتلقيه والتفاعل بينهما والفهم ثم التطبيق

تقوم في الإنسان والحيوان حاجات أو أحوال أو قناعات يعبر عنها بأصوات لها آلية خاصة خلقها الله تبارك وتعالى لأداء هذه الوظيفة التي هي الكلام. والكلام نفسه يصير خطابا، وتصير البيئة الاجتماعية التي ينتمي إليها المخاطِب والمخاطب “بيئة الخطابة”. وبيئة الخطاب مصطلح يشمل المكان والزمان والثقافة وما يعتبر من مكونات الحضارة التي يحيا فيها طرفا الخطاب: المخاطب والمخاطِب.

وعندما يتعلق الخطاب بالأمور التجريدية كالأفكار والمعتقدات والنظريات والمفاهيم التي يراد صياغة خطاب يوصلها للآخرين يتحول الخطاب حينئذ إلى شيء يتوجه إلى وعي المخاطب لتغيير شأنه وحاله، فيشتبك خطاب المخاطِب مع وعي المخاطب في حوار وجدل يشتد بحسب قوة وفاعلية الخطاب، واستقرار وعي المخاطب وقناعاته وعاداته ومألوفاته السابقة على تلقيه للخطاب التغييري.

  وحين بُعث رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- وآمن به من آمن وكفر من كفر علم الجميع أن هذا الكتاب قد جاء بعلمٍ لاعهد لهم به، ومعارف وقضايا لم يسبق لهم الالتفات إليها، وأجاب أو كان يجيب عن أسئلتهم المضمرة التي كانت تشكل دعائم لحيرتهم، وعن أسئلتهم المعلنة التي كانت تبين قلقهم واضطرابهم وحاجتهم الماسة إلى الرؤية والمعرفة والعقيدة والشرعة والمنهاج والهداية والإخراج من ظلمات الجهل والشك والرياء وما إلى ذلك. أما المؤمنون فقد أدركوا النعمة الكبري التي من الله عليهم بها وهو ينـزل هذا القرآن على نبيه ورسوله- صلى الله عليه وآله وسلم- فتشبثوا به وأقبلوا عليه يتدبرون آياته آناء الليل وأطراف النهار لا يملون ولا يسأمون ولا يشعرون وهم يقرأون آياته أنهم قد قرأوها من قبل حتى لو قرأوها لمئآت المرات أدركوا أن هذا القرآن شفاءً لما في الصدور، يشفي حيرتها ويزيل شكها ويداوي جراحها، ونور وبصائر وهدى ورحمة وموعظة وبشارة ونـزارة، وأنه كتاب مجيد فيه العلم كله، وفيه الخير كله، وفيه الهدى كله، لا تنقضي عجائبه، ولا يخلق من كثرة الرد، كريم لا يتوقف عطاءه، ذكرٌ وشرفٌ لكل من يقرأه مؤمنًا به، ولكل من يتلوه حق تلاوته، يفتح أمام العقل آفاقًا لا يفتحها غيره، ويلج بالنفس إلى مداخل لا يمكن أن تلجها بدونه، هو حبل الله المتين عليه اجتمعت كلمتهم وبآياته ائتلفت قلوبهم وبهدايته استنارت حياتهم.

أما من لم يؤمنوا به فما كانوا بمنجاة من تأثيره، ولم يستطعوا أن يكونوا بعيدين عن متناوله بل كان تأثيره فيهم تأثيرًا لا يُقاوم وحين لا يبلغ من قلوبهم سويدائها فقد كانوا يدركون أن ذلك لم يكن لضعف تأثيره بل لضعفٍ في أجهزة استقبالهم هم، وقد يصرحون بهذا كأن يقولوا: ﴿ومِن بيْنِنا وبيْنِك حِجابٌ﴾ (فصلت: 4)، وقد يلجأون إلى ما لا يليق بالصبيان ﴿لا تسْمعُوا لِهذا الْقُرْءانِ والْغوْا فِيهِ لعلكُمْ تغْلِبُون﴾ (فصلت: 25)، وهم يعرفون أنهم لن يغلبوا وأنهم مغلوبون لا محالة شاءوا أم أبوا.

ومن هنا بدأ القرآن يفعل فعله ويؤتي ثماره خاصةً في قلوب أولئك الذين آمنوا به يفيض عليهم علمًا ومعرفةً، يفسر لهم كل ما في داخل نفوسهم وعقولهم وقلوبهم وما يحيط بهم، ولا يأتونه بـمثل إلا جاءهم بالحق وأحسن تفسيرًا، ولا يطرحون عليه سؤالا -مهما كان- إلا جاءهم بجواب لائق يُسكت لهيب السؤال ويُطفئ نار الحيرة. فكان مصدر علمهم ومعرفتهم، وشعروا لأول مرة بتفوقٍ لا على المشركين أمثالهم فحسب، بل على أهل الكتاب كذلك الذين كانوا يحتقرونهم ويتطاولون عليهم ويبخلون بالعلم أن يصلهم ويقولون: ﴿ليْس عليْنا فِي الاُميين سبِيلٌ﴾ (ال عمران: 74)، أو ﴿أتُحدثُونهُم بِما فتح اللهُ عليْكُمْ لِيُحآجوكُم بِهِ عِند ربكُمْ، أفلا تعْقِلُون﴾ (البقرة: 75)، أو غير ذلك.

شعر العرب الذين تلقوا القرآن وقبلوه وآمنوا به أنهم صاروا متميزين على أهل الكتاب؛ لأن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون، ويتجاوز ما جاء في كتبهم وكل ذلك يتم بلسانٍ عربي مبين حاز كل مزايا اللسان العربي وزاد عليه، فله نظمه وأسلوبه وسياقه وسباقه وهو متحد لا يغالبه أحد إلا غلبه، ومُعجِز لا تستطيع الإنس والجن أن يأتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا، فما بالك بأهل الكتاب وحدهم أو أهل الشرك، فكان مصدر المعرفة كلها، ومصدر العلم كله، من أوتيه وهداه الله لكيفية قراءته لا يفكر أبدًا بمرجع آخر أو مصدر ثانٍ، وحين نتابع نجوم القرآن وتنـزله ونتابع مسيرة الحياة منذ بُعث -عليه الصلاة والسلام- إلى أن انتقل إلى الرفيق الأعلى في اثنين وعشرين عامًا وخمسة أشهر واثنين وعشرين يومًا نجد أن آيات الكتاب الكريم قد دخلت في سائر تفاصيل حياة الناس بجميع أصنافهم، فاقرأ ظروفهم وطرائقهم في العيش والحياة والتعامل في السلم والحرب والضيق والرفاة، والفرج والشدة، ولاحظ كيف كانت مواقفهم تتنوع وتتعدد مع كل نجم من نجوم القرآن، فمن قبِل زادته الآيات إيمانا وأخبت قلبه واقشعر بدنه إعجابًا بكتابٍ لم يكن يغادر صغيرة أو كبيرة من خلجات النفس أو نبضات القلب أو حركات وسكنات المجتمع، أو نظم الحياة فهو لا يغادر شيئًا من ذلك إلا وأعطى فيه الموقف السليم والقول السديد والرأي الرشيد والتوجيه الحكيم. علمهم كل شيء حتى قضاء الحاجة الإنسانية الطبيعية التي لم يكن أحد يظن أنه في حاجةٍ إلى أن يتعلم كيف يقضيها وكيف يتجنب أضراراها وخبائثها وما قد يترتب عليها وكيف يتطهر منها، وكيف يدرك آثار رحمة الله تعالى في تكوين هذا الإنسان وخلقه في أحسن تقويم. واليوم ونحن نشاهد التلوث بكل أنواعه، واختلاط مياه الشرب بمياه المجاري، ندرك كم كان القرآن المجيد متفوقًا ومايزال على فلسفات الإنسان كلها في مفاهيم الطهارة والنظافة والنجاسة وما إلى ذلك، ونتبين الحق الذي جاء به وتفسيراته التي لا يتفوق عليها تفسير. إنه قد استوعب ما سبق وتجاوزه إلى ما لحق، فهو مستوعبٌ متجاوز باستمرار، يرقي الحياة وما فيها مرحلة مرحلة، وبعد أن يبلغ بها المستوى الذي يريد يجاوزها إلى مرحلة لاحقة، والبشرية اليوم أشد ما تكون احتياجًا إلى هذا الكتاب الكريم، واحتياجها إليه ليس بأقل كثيرًا من احتياج العرب في الجاهلية إليه أو الأُمم الكتابية في انحرافاتها لتصحيح تلك الانحرافات وإزالة تلك الاختلافات.

من هنا كان القرآن مصدر علم ومعرفة ورشد وعقل وهداية ونور، لم يصل أي مصدر من مصادر المعرفة سبقه أو لحقه إلى أن يقترب منه أو يصل إلى شيءٍ في مثل تأثيره، وبدأت الحكمة تفيض على ألسنة القراء، وتأتي قبائل العرب من جميع أرجاء الجزيرة حين تهتدي إلى أنوار القرآن الكريم لتطلب من رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- قارئًا أو أكثر يقرءها القرآن، وحين يرسل -عليه الصلاة والسلام- لهؤلاء قارئًا يقرءهم القرآن فكأنه يفتح عندهم في أعرافنا اليوم جامعة كاملة؛ لأن القرآن لم يقتصر على نوع واحد من أنواع المعرفة أو العلم ولم يكن يلقن العلم تلقينًا أو يكتبه والناس تقرأ، أو يقرأه والناس تسمع، لكنه كان يشغل قوى الوعي الإنساني كلها ويزيل صدأها وينفض الغبار عنها، ويجليها لتكون قادرةً على الإنفعال بالقرآن الكريم وتأسيس وعيها به، والانطلاق من منهجه وشرعته وأهدافه باتجاه الغايات والمقاصد والأهداف التي حددها، فهو لم يكن كتابًا ولا نستطيع أن نقول إنه موسوعة أو دائرة معارف؛ لأنه أكبر من ذلك كله بكثير؛ إنه القرآن.

وهذا القرآن لم يكتفِ بسوره وآياته ونجومه، بل عمل على أن يقدم للبشرية نموذجًا تحتذيه وأُسوة تتأسى بها، وقدوة بهداه تقتدي فقدم لهم رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- قرآنًا بشرًا، فكأن القرآن قرآنان: قرآن مكتوب مسطور، وقرآن بشر نبي يتبع آيات القرآن ويجعل منها حقيقة واقعة، وواقعًا مزكى مطهرًا. وهكذا تكاملت مصادر المعرفة مع قوى الوعي، تنطلق من القرآن بالتدبر والتفكر والتذكر والتعقل والترتيل والتلاوة حق التلاوة لتمر بشخصية رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- لتجد فيها التأويل العملي والتطبيق النظري والتفعيل في واقع الحياة، فإذا أدركت قوى الوعي البشري ذلك، انتقل بها القرآن الكريم إلى الكون الفسيح ليبين لها منهج معرفته ومسالك إدراكه وطرائق الوصول إلى حقائقه، ليكتشف القارئ آنذاك تلك العلاقات التي لا تنفصم بين كتاب الله المسطور وقارئه الإنسان، وكتاب الله المخلوق الذي استُخلف الإنسان فيه ومن الله عليه بعينين، ينظر بواحدة في الوحي وينظر بالأخرى في الكون الطبيعي، ويجمع بين القراءتين، ويحدد مسيرته ومنهجه في الحياة للقيام بمهمة العمران وأداء مهمة الاستخلاف والوصول إلى تحقيق غاية الحق من الخلق. هنا لا تصبح عملية الكتابة والتأليف وتصنيف العلوم وما إليها سوى عملية تنظيمية؛ لأن الحياة كلها التي يحياها الناس هي حياة معرفية، تشيع المعرفة والعلم في كل جانب من جوانبها؛ إذ لا يعمل الإنسان عملاً دون علمٍ ولا يتعلم علمًا إلا وهو يعرف كيف يعمل به، فكانت المعارف التي منحها القرآن لأتباعه تؤشر إلى هاتيك المعالم كلها، فتجد فيها بالكتاب الكريم وبالكون العظيم نظرية المعرفة وفلسفتها ومصادر المعرفة وأدواتها وتفاصيل المعرفة ومناهجها، وقواعد المعرفة وكلياتها، وأهداف المعرفة وغاياتها ومقاصدها، فكان المفروض والحال هذه أن تكون العلوم الإسلامية قائمة على تلك الأُسس، منطلقةً منها مشبعةً بمقاصدها وغاياتها وأهدافها، مؤدية إلى تحقيق مقاصدها في التوحيد والتزكية والعمران. فهل حققت العلوم الإسلامية التي تم تدوينها ذلك؟ هل اتخذت من المنهج القرآني منهجًا لها، ومن السلوك النبوي وِحدة قياسية لمدى استقامة المسلم على الطريق وانحرافه عنها؟ وهل اتخذت من الكون ميدان فعل العمران وساحته لتستطيع أن تبتكر لنفسها نسقًا قياسيا تقيس به نجاحها من فشلها، أم أن ذلك لم يتحقق، أو أنه تحقق في مرحلة ولأسباب معينة أو لانحرافات محددة تغير الموقف فعجزت عن أداء أدوارها وقادت الإنسان المسلم إلى حالة التخلف التي يتردى ويتمرغ بها في عصرنا هذا؟

4. التراكم الذي حدث لمعارف المسلمين منذ نـزول القرآن المجيد حتى عصر التدوين

المعرفة الدينية في عصر النبي –صلى الله عليه وآله وسلم- كانت عبارة عن  قرآن ينـزل عليه –صلى الله عليه وآله وسلم- يتلوه على الصحابة ويعلمهم الكتاب والحكمة، الحكمة هي حكمة الفهم والتنـزيل في الواقع المعاش؛ أي أن العمل يساوي التفعيل والتنـزيل في الواقع. يبين هذا ويوضحه ما روي من أنهم كانوا لا يتجاوزون العشر آيات حتى يتعلمونها ويعملون بها، فأخذوا بذلك العلم والعمل جملة واحدة معا من القرآن الكريم. لذلك لم تأت فكرة التراتب  الفقهي الذي جعل القرآن شيء والحديث شيء آخر، القرآن مصدر، ويليه الحديث كمصدر ثاني على التراتب كما جاء في حديث معاذ حين بعثه النبي –صلى الله عليه وآله وسلم- إلى اليمن فقال: “كيف تصنع إن عرض لك قضا؟ قال: أقضي بما في كتاب الله، قال: فإن لم يكن في كتاب الله؟ قال: فبسنة رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: فإن لم يكن في سنة رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-؟ قال أجتهد رأيي لا آلو” فلم يكن هذا موجودا من قبل، بل كان النبي –صلى الله عليه وآله وسلم- يتلو الآيات ويعلمهم العمل بها، وحكمة تنـزيله بواقعهم في آنٍ واحد، فيتعلمون العلم والعمل. بينما تصور معاذ أنهم كانوا يرون أن الكتاب يحتوي على التوجيه النظري ثم السُنة كتطبيق عملي. وبدأوا تكوين نموذج معرفي تطبيقي تفعيلي على ذلك.

حين توفى النبي –صلى الله عليه وآله وسلم- وجد الناس أنفسهم ليس بين أيديهم سوى القرآن الكريم والرواية، فانفتح سبيل آخر اسمه “سبيل الرواية”، وهذه الرواية كان لها تأثير؛ لأنه فرق بين أن تتعلم مباشرة، وأن تسمع ما يُروى فحسب. وهذا يُعد أول تغيير يحدث في البنية المعرفية لديهم. ومن هنا رأينا الشيخين أبي بكر وعمر وكيف كانوا يحتاطون احتياطا شديدا في الرواية عن رسول الله، وقد أورد الذهبي في تذكرة الحفاظ أنهما كانا ينهيان عن الرواية. وقد كان هناك قراء من الصحابة ذكرهم ابن حزم في إحكام الأحكام، وعددهم 165 صحابي. فكان -عليه الصلاة والسلام- يقرأ ويملي عليهم فصارت الصورة كالتالي: ينـزل الوحي (في البيت أو المسجد أو كذا) ثم ينفصم عنه –صلى الله عليه وآله وسلم- فيبدأ يتلو على من حوله آيات الله ﴿يتْلُوا عليْهِمُ ءاياتِهِ ويُزكيهِمْ ويُعلمُهُمُ الْكِتاب والْحِكْمة﴾ (ال عمران: 164)؛ أي يعلمهم العمل؛ (لأن هذا هو الاتباع الذي أُمر به) ويراقب نتائجه فيهم.. وكان أحيانا يعطي بعضهم ألقابًا لما يعرفه من تلقيهم (بحسب قضية التلقي) هذه الخاصية انتهت بوفاته -عليه الصلاة والسلام- فاكتمل الوحي والعمل به لمن لم يكن شاهده –صلى الله عليه وآله وسلم- أو روى له من شاهده، ثم كان كل من لم يشاهد إما أن يأخذ من نفسه أو يسأل رواية غيره. فبرزت واسطة الرواية، وبرز معها قضية معرفية أخرى وهي: “هل نأخذ بالرواية أم لا؟ هل نستوثق بها أم لا؟”. والشيخين لم يكونوا يقبلوا رواية الفرد، بل اشترطوا اثنين على الأقل؛ لأنها شهادة على الدين.

ثم جئنا لنبحث عن معاني آيات الذكر الحكيم لنراها في أتباعه –صلى الله عليه وآله وسلم- بعد وفاته فنسأل الناس (كيف فهم؟ كيف وضح؟ الخ..) فصار لابد أن نفكر في كيفية وزن أفعال وأقوال الصحابة، فبدأ الاستدراك والتفسير لمن فاتهم بعض النصوص. وظهر اللحن في القراءة بعد تداخل واختلاط اللغات واللهجات، وبدأ هذا كله يقدم لنا معارف جديدة تدور حول النص. واختلفت أحوال وأقوال الصحابة.. وتفرقوا في الأمصار وكل منهم يحمل روايات وأحاديث حدث من خلالها أمور معينة أدت إلى نوع مما سمي بعد ذلك بـ“الفقه” كالبسملة هل تُقرأ أو لا؟ آمين هل تُقرأ جهرًا أم سرًا؟ وضوال الإبل.. والخلاف الذي صار حوله وهل يأخذه أحد أو لا.. الخ من المسائل التي برزت ولم تكن موجودة في العصر النبوي. فأصبح لدينا فقه، قراءات، تفسير الخ. هذه الأمور كلها بدأت تتجمع وبدأت الأحكام على الرواة، وعند سنة 40 هجريًا بدأ تداول كلمة “فقه”، وورد عن سيدنا عمر أنه كان يخاطب الناس وقال: (أقلوا الرواية عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم-) فكلمة “الرواية” بدأت تظهر، وكذلك كلمة “التأويل” و”التفسير” الخ. وعندما جئنا إلى 143 هجريا وجدنا أحاديث ومأثورات في التأويل والتفسير وفتاوى للصحابة وأقضية ومشكلات برزت في أماكن عديدة، والصحابة قالوا فيها أشياء، فتحول كل هذا إلى معارف.. وتابع هذا بدء التدوين بعدما تأزمت الأمور وتحولت إلى نوع من المشكلات شبه السياسية من أجل  إيقاف الاضطراب والتقليل من شأنه، فأمر عمر بن عبد العزيز بجمع الأحاديث والآثار، فجاء عام 130 وأصدر ابن جرير أول كتاب تفسير.. ثم توالت عمليات التدوين من بعده.

وحين نذهب إلى القرآن المجيد كما أنـزله الله على رسوله –صلى الله عليه وآله وسلم- وننظر كيف قام بتفعيله وتأويله، وتحويل معانيه إلى واقع في مكة والمدينة. ولا نحكم في آياته إلا آياته التي يبين بعضها بعضًا، ولا نحكم في لسانه إلا لسانه الذي نـزل به، فإننا نجد حقائق القرآن ماثلة مشرقة هادية شافية واعظة مذكرة منيرة لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها.

5. وقفة مع كتاب الموطأ ومحاولة استخلاص بعض الدروس

يُعد كتاب الموطأ أول صحيح مجموع مدون في علمي الحديث والفقه معًا، وهو أقدم كتابٍ في هذا المجال.. ولقد جاء في مقدمة ابن حجر لكتاب البخاري فقد نقل ما جاء عن الشافعي –رضي الله عنه- أنه قال: ما أعلم في الأرض كتابًا في العلم أكثر صوابًا من كتاب مالك[15] ولقد قال عبد الرحمن بن مهدي: أئمة الحديث الذين يقتدي بهم أربعة سفيان الثوري (161ﻫ) بالكوفة، ومالك (179ﻫ) بالحجاز، والأوزاعي (157ﻫ) بالشام، وحماد بن زيد (179ﻫ) بالبصرة، ثم وازن بينهم فقال: الثوري إمام في الحديث، وليس إماما في السنة، والأوزاعي إمام في السنة وليس إماما في الحديث، ومالك إمام فيهما[16].

وقد روي أن أبا جعفر المنصور قال للإمام مالك: “ضع للناس كتابًا أحملهم عليه”، ثم أضاف أبو جعفر: “يا أبا عبد الله، ضم هذا العلم ودونه كتبًا، وتجنب فيها شدائد عبد الله بن عمر، ورخص ابن عباس، وشواذ ابن مسعود واقصد أواسط الأمور، وما اجتمع عليه الصحابة[17].” ويتضح هنا أن هناك نوعًا من التوافق بين رأيي عمر بن عبد العزيز وأبو جعفر المنصور: “فقد فكر أبو جعفر في الأمر الذي فكر فيه عمر بن عبد العزيز وهو جمع العلم المدني، فقد أمر هذا (عمر) أبا بكر الحزمي، وأمر (أبو جعفر) مالكًا –رضي الله عنه-، وإذا كانت قد توافرت الدواعي عند مالك من تلقاء نفسه لتدوين العلم المدني خشية الدروس فقد كان طلب الخليفة مزكيًا للأمر الذي رأى دواعيه متوافرة، ولكن الكتاب لم ينشر

في وقت الخليفة أبو جعفر المنصور، بل في سنة 159ﻫ طلب أبي جعفر سنة 148ﻫ[18]، ولقد رأى الخلفاء من بعده مثل رأيه ورأي الرشيد أن يحمل الناس على الأخذ بالموطأ في القضاء، ولقد نقل السيوطي في مناقب مالك أنه قال للرشيد عندما كرر طلب نشر الموطأ: يا أمير المؤمنين إن اختلاف العلماء رحمة الله على هذه الأُمة…

هناك، إذن، علاقة فكرية واضحة بين ما أراده عمر بن عبد العزيز الخليفة الأموي في جمع السنن وما فعله الإمام مالك في الموطأ بتشجيع من أبي جعفر المنصور الخليفة العباسي، وهو توحيد الأقضية في الدولة الإسلامية للقضاء على الاختلافات بين القضاة والولاة في الأقاليم المختلفة، أو بتعبير آخر توحيد الفقه عن طريق تقديم سنن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وأقوال أصحابه وخلفائه والتابعين لهم خاصة المدنيين منهم الذين فهموا السُنة على أنها العمل الذي ورثوه عن النبي –صلى الله عليه وسلم- وأصحابه بين أيدي القضاة لتكون مرجعهم في الحكم والقضاء والفتوى فقد كانت الفكرة في المقام الأول هدفها تنظيم الدولة قانونيًا وليس مجرد جمع عشوائي للأحاديث والروايات، وإنما الدعوة إلى التبصر في فقه السُنة النبوية كتنظير لمفهوم الاتباع في البيان النبوي. واللافت للنظر أن كلاً من الخليفة عمر بن عبد العزيز والإمام مالك بن أنس كانا من تلامذة مدرسة المدينة التي استقر لديها مفهوم السنة بمعناها العملي.

ـ منهج مالك في الموطأ

يقول مالك: لا يجوز الأخذ بالأحاديث التي يرويها هؤلاء الصالحون غير العارفين بالشريعة. ويقول: “لقد أدركت في هذا البلد: (يعني المدينة) مشايخ لهم فضل وصلاح وعبادة، يحدثون وما أخذت عن واحد منهم حديثًا، قيل له: ولم يا أبا عبد الله؟ قال: “لم يكونوا يعرفون بما يحدثون”. وكان يقول: “لا تأخذ العلم عن شيخ له فضل وعبادة إذا كان لا يعرف ما يحدث[19].”

يقول الدهلوي: “فإن اتفق أهل البلد: (أي المدينة) على شيء أخذوا بنواجزه. وهو الذي يقول في مثله مالك: السُنة التي لا اختلاف فيها عندنا أي في المدينة كذا وكذا.”

وإن اختلفوا أخذوا بأقواها وأرجحها إما بكثرة القائلين به، أو لموافقته لقياس قوي، أو تخريج من الكتاب والسنة، وهو الذي يقول في مثله مالك: هذا أحسن ما سمعت.

وكان مالك من أثبتهم في حديث المدنيين عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وأوثقهم إسنادًا وأعلمهم بقضايا عمر وأقاويل عبد الله بن عمر وعائشة وأصحابهم من الفقهاء السبعة، وبه وبأمثاله قام علم الرواية.

ـ في أي الفنون يصنف الموطأ، الحديث أو الفقه؟

قال الإمام الدهلوي في حجة الله البالغة: “وكتب الحديث على طبقات مختلفة ومنازل متباينة فوجب الاعتناء بمعرفة طبقات كتب الحديث، فنقول: هي باعتبار الصحة والشهرة على أربعة طبقات:

1.  وذلك لأن أعلى أقسام الحديث ما ثبت بالتواتر وأجمعت الأمة على قبوله والعمل به.

2.  ثم ما استفاض من طرق متعددة لا يبقى معها شبهة يعتد بها، واتفق على العمل به جمهور فقهاء الأمصار، أو لم يختلف فيه علماء الحرمين خاصة، فإن علماء الحرمين محل الخلفاء الراشدين في القرون الأولى ومحط رحال العلماء طبقة بعد طبقة يبعد أن يسلم منهم الخطأ الظاهر، أو كان قولاً مشهورًا معمولاً به في قطر عظيم مرويًا عن جماعة عظيمة من الصحابة والتابعين.

3.  ثم ما صح أو حسن سنده وشهد به علماء الحديث ولم يكن قولاً متروكًا لم يذهب إليه أحد من الأمة، أما ما كان ضعيفًا موضوعًا أو منقطعًا أو مقلوبًا في سنده أو متنه أو من رواية المجاهيل أو مخالفًا لما أجمع عليه السلف طبقة بعد طبقة فلا سبيل إلى القول به.

فالصحة أن يشترط مؤلف الكتاب على نفسه إيراد ما صح أو حسن غير مقلوب ولا شاذ ولا ضعيف إلا مع بيان حاله، فإن إيراد الضعيف مع بيان حاله لا يقدح بالكتاب.

4.  أن تكون الأحاديث مشهورة، والشهرة أن تكون الأحاديث الواردة فيها دائرة على ألسنة المحدثين قبل تدوينها وبعد تدوينها، فيكون أئمة الحديث قبل المؤلف رووها بطرق شتى وأوردوها في مسانيدهم ومجاميعهم، وبعد المؤلف اشتغلوا برواية الكتاب وحفظه وكشف مشكله وشرح غريبه وبيان إعرابه وتخريج طرق أحاديثه واستنباط فقهها، والفحص عن أحوال رواتها طبقة بعد طبقة إلى يومنا هذا حتى لا يبقى شيء مما يتعلق به غير مبحوث عنه إلا ما شاء الله –سبحانه وتعالى-.

ويكون نقاد الحديث قبل المصنف وبعده وافقوه في القول بها وحكموا بصحتها وارتضوا رأي المصنف فيها وتلقوا كتابه بالمدح والثناء، ويكون أئمة الفقه لا يزالون يستنبطون منها وعنها، ويعتمدون عليها ويعتنون بها، ويكون العامة لا يخلون عن اعتقادها وتعظيمها، وبالجملة فإذا اجتمعت هذان الخصلتان في كتاب كمل وكان من الطبقة الأولى، وإن فقدتا رأسًا لم يكن له اعتبار. وما كان أعلى حد في الطبقة الأولى فإنه يصل إلى حد التواتر، وما دون ذلك يصل إلى الاستفاضة ثم إلى الصحة القطعية: أعني القطع المأخوذ في علم الحديث المفيد للعمل. والطبقة الثانية إلى الاستفاضة أو الصحة القطعية، أو الظنية وهكذا ينـزل الأمر.

فالطبقة الأولى منحصرة بالاستقراء في ثلاثة كتب: الموطأ، وصحيح البخاري، وصحيح مسلم. قال الشافعي: “أصح الكتب بعد كتاب الله –سبحانه وتعالى- موطأ مالك، واتفق أهل الحديث على أن جميع ما فيه صحيح على رأي مالك ومن وافقه، وأما على رأي غيره فليس فيه مرسل ولا منقطع إلا قد اتصل السند به من أخرى فلا جرم أنها صحيحة من هذا الوجه، وقد صُنف في زمان مالك موطآت كثيرة في تخريج أحاديثه ووصل منقطعه، مثل كتاب ابن أبي ذئب وابن عُيينة والثوري ومعمر وغيرهم ممن شارك مالكًا في الشيوخ. وقد رواه عن مالك بغير واسطة أكثر من ألف رجل وقد ضرب الناس فيه أكباد الإبل إلى مالك من أقاصي البلاد، فمنهم المبرزون من الفقهاء كالشافعي ومحمد بن الحسن وابن وهب وابن قاسم، ومنهم نحارير المحدثين كيحيى بن سعيد القطان وعبد الرحمن بن مهدي وعبد الرزاق، ومنهم الملوك والأمراء كالرشيد وابنيه وقد اشتهر في عصره حتى بلغ على جميع ديار الإسلام، ثم لم يأت زمان إلا وهو أكثر له شهرة وأقوى به عناية وعليه بنى فقهاء الأمصار مذاهبهم حتى أهل العراق في بعض أمرهم، ولم يزل العلماء يخرجون أحاديثه ويذكرون متابعاته وشواهده ويشرحون غريبه ويضبطون مشكله، ويبحثون عن فقهه ويفتشون عن رجاله إلى غاية ليس بعدها غاية[20].

اختلف الناس كما قد علمنا في الموطأ أهو كتاب فقه أم كتاب حديث، فالذين قالوا إنه كتاب حديث لاحظوا كثرة الأحاديث الواردة فيه والذين قالوا إنه كتاب فقه قد لاحظوا فيه الاتجاه الفقهي بحيث يمكن اعتباره كتاب فقه.

والأقرب عندنا أن الموطأ أقرب ما يكون إلى كتاب في فقه السنة فهو يحاول أن يجيب عن أسئلة فقهية بسنن تصلح أن تكون فقهًا.

هل تفرد الإمام مالك بمنهجه الذي صنف به الموطأ؟ أم شاركه فيها أهل عصره؟

لقد تفرد الإمام مالك في منهجه في الموطأ على كل من عاصره كما أشار إلى ذلك الشافعي حين قال: “ما أعلم في الأرض كتابًا في العلم أكثر صوابًا من كتاب مالك[21].” قال الإمام مالك: عرضت كتابي هذا على سبعين فقيهًا من فقهاء المدينة، فكلهم واطأني عليه، فسميته (الموطأ).

وقال القاضي أبو بكر بن العربي في شرح الترمذي: الموطأ هو الأصل الأول واللباب، وكتاب البخاري هو الأصل الثاني في هذا الباب، وعليهما بنى الجميع كمسلم والترمذي[22].

وقد صنف الإمام مالك الموطأ وتوخى فيه القوي من أحاديث أهل الحجاز، ومزجه بأقوال الصحابة والتابعين ومن بعدهم. وقد وضع مالك الموطأ على نحو عشرة آلاف حديث، فلم يزل ينظر فيه، في كل سنة، ويسقط منه، حتى بقي هذا.

وقد أخرج ابن عبد البر عن عمر بن عبد الواحد صاحب الأوزاعي، قال عرضنا على مالك الموطأ في أربعين يومًا، فقال: كتاب ألفته في أربعين سنة، وأخذتموه في أربعين يومًا! وما أقل ما تفقهون فيه!

وقال السيوطي: “وما من مرسل في الموطأ إلا وله عاضد أو عواضد”.

الموطأ يعتبر من الكتب المدونة في وقت مبكر، وأيضا لأن الإمام مالك قد اقترح الرسميون عليه إعداده وكتابته وعرضوا عليه فكرة تعميمه، فهو في هذه الحالة يمثل نموذجا مهما لما كان يصدر من دراسات وكتب بعد بداية عصر التدوين الرسمي.

ـ نظرة تاريخية على نشأة وتدوين العلوم الإسلامية

جيل التلقي، وما تعلمه من رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- يمكن أن نسميه بـ”فلسفة التلقي”، فلم يكن يوجد لديهم حاجة لطرح الأسئلة فالقرآن المجيد يقول: ﴿خلق لكُمْ ما فِي الاَرْضِ جمِيعًا﴾ (البقرة: 28)، ويقول: ﴿أُحِل لكُمُ الطيباتُ﴾ (المائدة: 5).

﴿الذِين يتبِعُون الرسُول النبِيء الاُمي الذِي يجِدُونهُ مكْتُوبًا عِنْدهُمْ فِي التوْراةِ والاِِنْجِيلِ ياْمُرُهُمْ بِالْمعْرُوفِ وينْهاهُمْ عنِ الْمُنْكرِ ويُحِل لهُمُ الطيباتِ ويُحرمُ عليْهِمُ الْخبائِث ويضعُ عنْهُمْ إِصْرهُمْ والاَغْلال التِي كانتْ عليْهِمْ، فالذِين ءامنُوا بِهِ وعزرُوهُ ونصرُوهُ واتبعُوا النور الذِي أُنـزل معهُ أُولئِك هُمُ الْمُفْلِحُون﴾ (الاعراف: 157).

فهذه الكليات والقواعد تجعل قراء الصحابة والمصلين كافة قادرين على معرفة تفاصيل ما حرم عليهم ليستثنوه ويخرجوه من ميادين سلوكياتهم ويحصرون استماعاتهم في تلك المجالات الرحبة التي سكت القرآن عنها ولم ينبه بيان رسول الله –صلى الله عليه وسلم- إلى حظر شيء منها، ولذلك قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: “إن الحلال بين وإن الحرام بين وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس‏.‏ فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه‏.‏ ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام‏.‏ كالراعي يرعى حول الحمى‏.‏ يوشك أن يرتع فيه‏.‏ ألا وإن لكل ملك حمى‏.‏ ألا وإن حمى الله محارمه‏.‏ ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت، فسد الجسد كله‏.‏ ألا وهي القلب‏[23].”

فتتجه الأنظار بعد ذلك إلى التأسي برسول الله –صلى الله عليه وسلم- في أمور أخرى مما اشتمل القرآن المجيد عليه من آداب ووسائل اعتبار وطرائق نظر في الكون والحياة وأمثال وقصص. ونظر في ميادين الخلق والتسخير والإبداع وما إلى ذلك مما يمكن أن يؤدي إلى بناء عقلية الاستخلاف والشخصية الأمية المؤتمنة القادرة على الوفاء بالعهد الإلهِي واجتياز اختبار الابتلاء؛ لأن ذلك الوهم الذِي ساد فيما بعد واختزل الكتاب والرسول والرسالة في أحكام وفقه وقانون وتشريع لم تكن هِي الفكرة السائدة لدى “جيل التلقي”.

ولو أن علوم المسلمين أخذت من هذه الأصول وفي تلك المرحلة وتم تدوينها في عهد الشيخين أبي بكر وعمر والسنوات الست الأولى من خلافة عثمان لرأينا علومًا أخرى ولورثنا فقهًا عمرانيا أكبر ولتعلمنا فلسفة حياة تجعل من الدين نظام حياة وسنن وقواعد ممارسة لا قوائم في بيان أحكام تكليفية وأحكام وضعية يزاد في كل منها وينقص بحسب السجال والجدال والاتجاهات والتيارات الإنسانية في الحياة وبحسب الضغوط التي تفرزها التيارات الفكرية العديدة عبر العصور. حتى صارت قوائم الحلال والحرام والمكروه والمندوب والمباح والأسباب والشروط والموانع ومنطلقات الحكم بالصحة أو البطلان والقضاء والأداء وما إلى ذلك، تنوء بها الحاويات فضلا عن عقول وقلوب الرجال وما زالت هذه القوائم في ازدياد، وقوائم وقواعد فهم القرآن والدور النبوي في تناقص وابتعاد عن مجالات التأثير في الحياة.

لو أن جهود القراء والعلماء من المسلمين اتجهت نحو الكتاب الكريم ونحو طرائق رسول الله –صلى الله عليه وسلم- في تلقيه وتلاوته عليهم وتعليمهم إياه وتلقينهم حكمته وتزكيتهم به، لكان بين أيدينا اليوم “فقه حضاري عمراني” قادر على بناء الحياة وتأسيس العمران وتقديم نماذج الحياة الطيبة للبشر ليظهر بذلك الدين على الدين كله ويعم الأرض السلام.

ولكن سنة التدافع وابتلاء الناس وتمحيصهم ماضية وله –سبحانه وتعالى- الحكمة المطلقة والمشيئة النافذة[24]. وهنا نذكر نبذة عن نشأة وتدوين بعض العلوم الإسلامية:

علم التفسير: التفسير شرح مراد الله تعالى من القرآن ليفهمه من لم يصل ذوقه وإدراكه إلى فهم دقائق اللغة العربية، وقد دعا السلف إلى تدوينه شعورهم بضعف اللغة العربية بين أكثر المسلمين بسبب كثرة الدخلاء فيها، فكتبوا ما انتهى إليهم في ذلك عن الصحابة الذين اشتغلوا بتفسير القرآن، مثل: علي، وابن مسعود، وابن عباس، وزيد بن ثابت، وغيرهم ممن كانوا يكتبون ما انتهى إليهم من رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- فكان التفسير مع ذلك من جملة أول كتاب أُلف في الإسلام هو كتاب عبد الملك بن جرير المكي (ولد بمكه سنة 80ﻫ وتوفى سنة 149ﻫ) الذي صنفه في الآثار منقولا عن أصحاب ابن عباس عطاء ومجاهد وغيرهما.

علوم الحديث: ظهر علم الحديث عند اهتمام المسلمين بنقل سيرة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- لبيان الأحكام، أو تفسير القرآن وما إلى ذلك. وكان في بادئ نشأته ينقل شفويا على أفواه الصحابة فيروي كل منهم ما سمعه أو شاهده باللفظ أو المعنى. فعندما توفى الكثير من الصحابة ولم يبق إلا المعمرين أمثال أبي هريرة، وأبي موسى الأشعري، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس اشتدت الحاجة إلى جمع وتدوين كلام النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ليهتدي به القوم، فدون بعض منه متناثرا في أول كتاب أُلف في الإسلام وهو كتاب عبد الملك بن جرير الطبري، ثم بدأت الرواية والتدوين بعده فأطمع بعض الناس حبًا للشهرة  وأخذوا يدلسون في الحديث خاصة منهم الوعاظ والقصاصين وأنصار المذاهب والنحل. يومئذ شعر العلماء بوجوب نقد الرواة وضبط الأسانيد، وكان أول كتاب أُلف في ذلك لنقل ما صح من الحديث المأثور عن الصحابة كتاب (الموطأ) للإمام مالك بن أنس، ثم تلاه صحيحا البخاري ومسلم وغيرهما.

علم الفقه: ظهور الفقه في الإسلام قديم، بل مأمور به في قوله تعالى: ﴿فلوْلا نفرَ مِن كُل فِرْقةٍ منْهُمْ طآئِفةٌ ليتفقهُواْ فِي الدينِ﴾ (التوبة: 123)، ولكن شدة الحاجة إليه كانت بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، ومع حدوث الحوادث وسعة السلطان، ولما كان أصل دين الإسلام هو القرآن، وفيه تبيان كل شيء؛ وكان المراد بذلك أن فيه أصول الأحكام وكلياتها، والإشارة إلى مقاصد الشريعة في الخلق، أخذوا يستنبطون منه تفاريع الأحكام في جميع الشؤون. وكان قد انفرد من بين الصحابة قوم برجحان الرأي والتفرغ لهذا المهم سموا بالفقهاء، منهم: علي بن أبي طالب، وزيد بن ثابت، ومعاذ بن جبل، وعمر بن الخطاب، وعبد الله ابنه، وعبد الله بن عباس، ومن بعدهم اشتهر أصحابهم، مثل: عروة بن الزبير، وسعيد بن المسيب، وابن الشهاب، والقاسم بن محمد بالمدينة، وشريح بالكوفة، وأبي قلابة بالشام، وغيرهم[25].

ـ نبذة عن العلوم المقاصدية والإشكالات المنهجية التي تواجهها

أ‌.                        علم الكلام

تعريفه: هو علم يُقتدر به على إثبات العقائد الدينية بإيراد الحجج عليها ودفع الشبه عنها[26].

ويعرف أيضا بأنه علم يبحث فيه عن ذات الله تعالى وصفاته وأحوال الممكنات في المبدأ والمعاد، فيبحث عن ذاته تعالي بأنه موجود قديم مخالف للحوادث، وعن صفاته من حيث أنها واجبة للذات أو جائزة قديمة أو حادثة كصفات الأفعال إلى غير ذلك من التقسيمات[27].

موضوعه: الموجود من حيث هو موجود باعتبار أنه يبحث فيه عن أحواله لإثبات العقائد الدينية، وبهذا الاعتبار غاير موضوع الإلهيات الحِكمية والطبيعات، فإنه موجود من حيث هو موجود لا بهذا الاعتبار، بل باعتبار ماهو عليه في الواقع[28]. وقال القاضي الأرموي موضوعه: ذات الله تعالى[29].

فائدته: الترقي من حضيض التقليد إلى ذروة الإيقان، قال تعالى: ﴿يرْفعِ اللهُ الذِين ءامنُوا مِنكُمْ والذِين أُوتُوا الْعِلْم درجاتٍ﴾ (المجادلة: 11).

مسائله: على طريقة المتقدمين إما أن تكون باحثة عن أحواله تعالي، وإما عن أحوال غيره، وهذه، إما أن تكون باحثة عن أحوال الرسل عليهم الصلاة والسلام، وإما عن أحوال الممكنات في المبدأ والمعاد شرعًا وعلي طريقة المتأخرين، إما أن تكون مبادئ، وإما أن تكون مقاصد والأولي، إما أن تكون باحثة عن أحوال الأمور الشاملة للجواهر والأعراض وغيرهما كالدليل والنظر فيه على ما مر والحال والوجود والأمكان والعلة والمعلول، أما عن أحوال الأعراض، وأما عن أحوال الجواهر والثانية، أما أن تكون باحثة عن أحواله تعالي، وأما عن أحوال غيره كالرسل واليوم الآخر[30].

وقيل أن مسائله: قضاياه المدللة التي هي العقائد الدينية أو ما يتوقف عليه إثبات شيء منها توقفا قريبا أو بعيدا[31].

ونسبته لما عداه من العلوم التقدم عليها؛ لأنه أهم الجميع؛ لأنهم مدار الإيمان.

وواضعه قيل أبو حنيفة وسماه الفقه الأكبر، وقيل مالك بن أنس وألف فيه رسالة، وقيل لما كثرت الفتن أمر المنصور بوضع كتب لإزالتها، وأما تكلم عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في التوحيد فلم يكن على سبيل التدوين، وما اشتهر أن واضعه أبو الحسن الأشعري ومتابعوه وأبو منصور المتريدي ومتابعوه، فلعله مبني على عدم شموله لعلم المخالف كالمعتزلي، ولا شك أنهما هما اللذان قاما في أول القرن الرابع كما قيل بإثبات العقائد الموافقة لظواهر السنة وتحقيق أدلتها ودفع الشبه الواردة عليها من طرف المخالفين.

ويعتبر علماء تصنيف “العلوم الاسلامية” علم الكلام أساس علوم المقاصد، وأن مهمته الأولى هي عرض العقائد الاسلامية عرضًا صحيحًا سليمًا، والدفاع عنها، ودرء كل ما قد يثار من شبهات حولها.

واعتبره الكثيرون من علمائه أنه العلم المناط به تحديد العلاقة بين الله  -تبارك وتعالى- والإنسان والكون، وبناء التصور الاسلامي الصحيح، لكن هذا العلم على أهميته قد أصيب بآفات عديدة:

أولها: أنه قد وقف عندما تركه رواده الأوائل من قضايا كانت مثارة في عهد التأسيس، واستمر في مناقشة وتداول تلك المقالات بما في ذلك مقولات قد باد أصحابها وهلكوا، ولم يعدلهم وجود من أشاعرة وماتريدية ومعطلة وجهمية ومعتزلة…الخ الفرق التي تجاوزت سائر أرقام فرق الأديان الأخرى، وترك هذا العلم ما حدث واستجد بعد ذلك من مقولات مثل الماركسية والوجودية واللبرالية والعدمية. والعلمانية سواء التي أخذت موقف الحياد من الدين والتدين أو التي أنكرت التدين، وحاولت محاصرة المتدينين، فالطالب قد يحصل على درجة الدكتوراة في هذا العلم من غير أن يتعلم شيئًا عن الأفكار والاديولوجيات والمذاهب الفكرية المعاصرة، والفلسفات التي أفرزتها.

ثانيها: أن هذا العلم قد ولد اضطرابًا كبيرًا في مجال العلاقة بين الله -تعالى- والإنسان: فالتصور الذي يقدمه “علم الكلام” عن تلك العلاقة: أن الله –تعالى- يستلب الإنسان والطبيعة والكون –كله- استلابًا، بحيث يصور الإنسان فاقدًا لأية حرية أو أختيار، يهيمن البارئ سبحانه عليه بالقهر والجبروت، وهو غير مخير فيما يؤمر به؛ إذ يكتفي الله –سبحانه- بإصدار التعليمات ترغيبًا وترهيبًا، والعبد دائر بين الرغبة في الثواب والخوف من العقاب وسيف القدر. إن التصور الذي يرتسم في الذهن نتيجة بعض الأطروحات الكلامية قريب جدًا من التصور الذي ظهر في رواية نجيب محفوظ في أولاد حارتنا “للجبلاوي”، وهو تصور تلمودي توارثي أسقط على التصور القرآني النقي المنير المشرق من الثقافة الشفوية فأحاط بتصورنا، وبعقيدتنا، وشكل مناخًا فكريا ونفسيا مضطربًا يتأرجح بين جبر وقهر “رب الجنود”، واختيار مشوب منقوص بالقدر الغامض في أذهان الناس. وتنـزيه مشوب بالتشبيه والتعطيل، فلم تعد علاقة الله –تبارك تعالى– بالانسان هي علاقة ذلك الانسان الذي صورته آيات سورة النحل: ﴿ويعْبُدُون مِن دُونِ اللهِ ما لا يمْلِكُ لهُمْ رِزْقًا من السمواتِ والاَرْضِ شيْئًا ولا يسْتطِيعُون. فلا تضْرِبُواْ لِلهِ الاَمْثال، إِن الله يعْلمُ، وأنتُمْ لا تعْلمُون. ضرب اللهُ مثلاً عبْدًا ممْلُوكًا لا يقْدِرُ على شيْءٍ ومن رزقْناهُ مِنا رِزْقًا حسنًا فهُو يُنفِقُ مِنْهُ سِرا وجهْرًا هلْ يسْتوُون، الْحمْدُ لِله،ِ بلْ اَكْثرُهُمْ لا يعْلمُون. وضرب اللهُ مثلاً رجُليْنِ أحدُهُما أبْكمُ لا يقْدِرُ على شيْءٍ وهُو كل على موْلاهُ أيْنما يُوجهه لا ياتِ بِخيْرٍ هلْ يسْتوِي هُو ومن يامُرُ بِالْعدْلِ وهُو على صِراطٍ مسْتقِيمٍ. ولِلهِ غيْبُ السمواتِ والاَرْضِ، وما أمْرُ الساعةِ إِلا كلمْحِ الْبصرِ أوْ هُو أقْربُ، إِن الله على كُل شيْءٍ قدِيرٌ. واللهُ أخْرجكُم من بُطُونِ أُمهاتِكُمْ لا تعْلمُون شيْئًا، وجعل لكُمُ الْسمْع والاَبْصار والاَفْئِدة لعلكُمْ تشْكُرُون. ألمْ يروْاْ اِِلى الطيْرِ مُسخراتٍ فِي جو السماء ما يُمْسِكُهُن إِلا اللهُ، إِن فِي ذلِك ءلاياتٍ لقوْمٍ يُومِنُون﴾ (الآيات: 73-79)، وهي علاقة تتيح للإنسان أن يبني مع إلهه –جل شأنه – علاقة تسمح بتفتح طاقاته ونموها، فهو يحب الله – تعالى-، والله يحبه، وهو قد أبرم مع الله عهدًا على حبه وطاعته، والخلافة في الأرض، وإذا كانت التوارة والتلمود قد أكثرا من وصف الله بأنه “رب الجنود” فإن القرآن قد ذكر جند الله في قوله: ﴿وما يعْلمُ جُنُود ربك إِلا هُو﴾ (المدثر: 31)، وذكر الجنود في معرض الذم في قوله: ﴿هلْ اَتاك حدِيثُ الْجُنُودِ. فِرْعوْن وثمُود﴾ (البروج: 17-18).

ثالثًا: و”الألوهية” في عقيدتنا والربوبية قد أسقطت عليها الرواسب التاريخية والاجتماعية الجاهلية والكتابية التي كانت سائدة قبل نـزول القرآن المجيد والألوهية والربوبية. فتصحيح العلاقة بالله – تعالى-  وإعادة بنائها قرآنيا مدخل أساس للتخلص من الغلو والتطرف والانحراف في مجال الاعتقاد، بحيث لا يتوهم إنسان أن باستطاعته أن يفرض على الناس شيئًا نيابة عنه –تعالى– بدعوى أنه يطبق بسم الله الدين قسرًا على الناس. أو يدعي حاكمية إلهية يفرض على الناس بها فهمه للدين، فالفرق كبير بين فقه الدين وفقه التدين وبين فقه النـزول وفقه التنـزيل. فالله -تبارك وتعالى- جعل أمره شيئًا يمر عبر (توسط إرادي) ليتحقق عبر مجموعة من السنن والقوانين الموضوعية، والتفاعل مع الإنسان والواقع، آخذًا بكل مكونات الإنسان والظروف الموضوعية التي تحيط به قبل أن يتمثل في الواقع شيئًا مذكورًا. والله –تعالى– قد بلغ من تكريمه للإنسان أن احترم عقله ورأيه، فعلل إرسال الرسل بقوله: ﴿ليَلا يكُون لِلناسِ على اللهِ حُجةٌ بعْد الرسُلِ، وكان اللهُ عزِيزًا حكِيمًا﴾ (النساء: 164) فلو أن هناك استلابًا قهريا للإنسان لما علل إرسال الرسل بذلك. واتباع رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم– فيما يبلغه عن ربه ربط بحبه –تعالى-: ﴿قُلْ اِن كُنتُمْ تُحِبون الله فاتبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ ويغْفِرْ لكُمْ ذُنُوبكُمْ، واللهُ غفُورٌ رحِيمٌ﴾ (ال عمران: 31)، وأعلن –جل شأنه – أنه لا يكره العصاة، بل يكره أعمالهم، فان تابوا: فـ﴿إِن الله يُحِب التوابِين ويُحِب الْمُتطهرِين﴾ (البقرة: 220).

فتطهير العقيدة من الشوائب، وتنقية العلم الذي يشكل وعاءًا لها من تلك الإسقاطات من أهم المداخل التي تزيل الغلو عنها، وتعيد بناء علاقة الله بعباده بناءًا سليمًا.

ب‌.    علم الأصول

أما علم “أصول الفقه” فقد عرفوه بأنه مجموع طرق الفقه على سبيل الإجمال، وكيفية الاستدلال بها، وكيفية حال المستدل بها[32]. وقد تقدمت مراجعتنا له.

ـ موضوعه

الأدلة الشرعية السمعية من حيث إثبات الأحكام الشرعية بجزئياتها بطريق الاجتهاد بعد الترجيح عند تعارضها[33].

 ـ فائدته

 إيجاد القدرة على معرفة الأحكام الشرعية من الأدلة التي نصبها الشارع للمؤهلين للاجتهاد والمستوفين لشروطه.

أما ما يستفيده غير المؤهلين للاجتهاد من هذا العلم فهو معرفة مذاهب المجتهدين، ومدارك الأحكام عندهم بحيث تنمو لدى الأصولي القدرة على دراسة المذاهب وتحليلها والقدرة على الاختيار منها والترجيح بينها، والتخريج على قواعد الأئمة المجتهدين.

ـ العلوم التي استمدت مسائل العلم منها

علم أصول الفقه” في حقيقته علم قائم بذاته، مستقل عن غيره، ولكن له مقدمات لا يستطيع الأصولي الاستغناء عنها قد استمدت من علوم كثيرة:

أ‌.  فبعض هذه المقدمات قد استفيد من علم المنطق الأرسطي” الذي اعتاد الكاتبون في الأصول من المتكلمين أن يقدموا لكتاباتهم بها كمباحث الدلالات اللفظية وأقسامها، وانقسام اللفظ إلى تصور وتصديق، والحاجة إلى الكلام -بناءً على ذلك- عن مبادئ التصورات من الأقوال الشارحة والتعريفات وانقسامها إلى حدود ورسوم، ومبادئ التصديقات، والكلام على البرهان وكيفية استخدامه في إثبات دعوى المستدل ونقض كلام المعارض أو المعترض ونحو ذلك.

ب‌.    وبعض هذه المقدمات استقوها من “علم الكلام” ككلامهم عن “الحاكم” أهو الشرع أم العقل؟ وما لحق ذلك من الكلام عن “حكم الأشياء قبل الشرع” و”شكر المنعم أيجب بالشرع أم بالعقل؟

ج. وبعضها عبارة عن أحكام كلية للغات بلورها الأصوليون واستمدوها من المباحث اللغوية كالمباحث المتعلقة باللغات ووضعها، وانقسام الألفاظ إلى حقائق ومجازات، والكلام عن الاشتراك والاشتقاق والترادف والتوكيد والعموم والخصوص ومعاني الحروف ونحوها.

د. وبعضها قد استمد من علوم “الكتاب والسنة” ككثير من المباحث المشتركة –بحسب تصورهم- بين الكتاب والسنة؛ نحو الكلام على التواتر والآحاد، والقراءة الشاذة وحكمها، والجرح والتعديل، والناسخ والمنسوخ، والأحوال الراجعة إلى متن الحديث أو طريقه وغيرها.

ﻫ. كما أن الأمثلة التي يمثل بها الأصوليون مستمدة من “الفروع الفقهية” أو أدلتها التفصيلية من الكتاب والسنة وغيرهما.

ـ المباحث التي يتعرض لها الأصوليون غالبًا[34]

أ. مقدمات منطقية. تتبعها –غالبًا- مباحث الحكم والحاكم وما يتصل بها.

ب. مباحث اللغات.

ج. الأوامر والنواهي.

د.  العموم والخصوص.

ﻫ.  المجمل والمبين.

و. النسخ.

ز. الأفعال؛ “أفعال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- ودلالاتها”.

ح.  الإِجماع.

ط. الأخبار السنة”.

ي. القياس.

ك. التعارض والترجيح.

ل. الاجتهاد والتقليد.

م. الأدلة المختلف فيها.

واضعه: يُعد أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي -رضي الله عنه-، هو أول من دون في أصول الفقه على سبيل الاستقلال، صنف فيه كتاب “الرسالة”.

وبعد الشافعي -رحمه الله- كتب أحمد بن حنبل كتابًا في طاعة الرسول –صلى الله عليه وسلم- وآخر في الناسخ والمنسوخ، ولم يصل منها شيء تحت أيدينا اليوم. ثم  تتابع العلماء في الكتابة، وأخذوا ينظمون أبحاث هذا العلم ويوسعونه ويزيدون عليه[35].

ويقول ابن خلدون في مقدمته: “واعلم أن هذا الفن من الفنون المستحدثة في الملة، وكان السلف في غنية عنه، بما أن استفادة المعاني من الألفاظ لا يحتاج فيها إلى أزيد مما عندهم من الملكة اللسانية. وأما القوانين التي يحتاج إليها في استفادة الأحكام خصوصًا، فعنهم أُخِذ معظمها. وأما الأسانيد فلم يكونوا يحتاجون إلى النظر فيها، لقرب العصر وممارسة النقلة وخبرتهم بهم. فلما انقرض السلف، وذهب الصدر الأول وانقلبت العلوم كلها صناعة، احتاح الفقهاء والمجتهدون إلى تحصيل هذه القوانين والقواعد، لاستفادة الأحكام من الأدلة، فكتبوها فنًا قائمًا برأسه سموه أصول الفقه. وكان أول من كتب فيه الشافعي رضي الله تعالى عنه. أملى فيه رسالتة المشهورة[36].”

لقد ظن البعض أن الكشف عن “أصول الفقه” وجمعه وتدوينه في القرن الهجري الثاني كان كافيًا في الكشف عن “المنهج القرآني والمنهجية المعرفية” فيه!! وفي “أصول الفقه” كثير من الضوابط المنهجية ولاشك، وبعض المباحث الأصولية، كانت بوابة واسعة فتحت الطريق باتجاه “المنهج العلمي التجريبي” فمباحث القياس الأصولي أسست للبحت في العلل، وأرست دعائم “الاستقراء” و”السبر والتقسيم أو الحذف والإضافة” و”كيفية بناء التصورات” والتصديقات و”إقامة البراهين” وما إلى ذلك، ولا شك أن تلك المباحث الهامة أسست للمنهج العلمي، وأن علماء المناهج الذين بلغوا بالمنهج ما يقرب من الغاية، قد استفادوا أولا من كل من تلك المباحث، وراكمـوا عليهـا وبنوا فوقها، لكن “المنهج الأصولي” لم يعط الامتدادات اللازمة فانحصر إنتاجه في الدائرة الفقهية. ولا شك أن علماء المسلمين التجريبيين الذين كانت المعرفة تكاملية في عهودهم قد استفادوا بمستويات متنوعة بالمنهج الأصولي. ولكن هل نستطيع أن نقول: إن كتاب القانون لابن سينا أو جهود الأطباء المسلمين أمثال أبي معاذ الرازي وسواهما من عشرات الأطباء المسلمين تغني عن العلوم الطبية المعاصرة؛ لأنها أصلها وأساس نشأتها؟

لا يمكن القول بهذا أو الذهاب إليه بالرغم من احتفاظ تاريخنا بأسماء العشرات من الأطبـاء الأفذاذ، بل المئات من أولئك الذين ترجم لهم مؤرخون أمثال القفطي وابن أبي اصيبعة والبيهقي وغيرهم من الذين كتبوا في طبقات الأطباء. وكل أولئك لهم فضل في نشأة العلوم الطبيعية والطبية وتطورها، لكن العلوم الطبية تطورات تطورت كبيرة جدًا بعدهم. إن فتح علمائنا مجال البحث في المنهج والمنهجية يعد سبقًا لهم، ولكن عدم استكمالنا ذلك لنصل إلى بناء المنهج العقلي والمنهج العلمي التجريبي قصور منا قائم على اقتصار جهود الخلف بعد القرن الرابع على المناهج اللفظية التي تأثرت إلى حد كبير بالمنطق الأرسطي.

وهذا يطرح علينا مجموعة كبيرة من الأسئلة الهامة؛ في مقدمتها:

ـ لِم لم تتواصل البحوث المنهاجية بعد الكشف عن القياس الأصولي وإدراك أثـر التجريب والتعليل والاستقراء والحذف والإضـافة وغيرها؟ وما الذِي جعل آثار ذلك الكشف الخطير تتوقف ولا تتواصل؟!

ـ لم تعددت الضوابط المنهجية لتتوزع على مختلف العلوم النقلية؟ وهل أدى ذلك إلى اقتناع كل فريق بما وصل إليه في مجاله وتوقف عن البحث فيما عداه؟

ـ حفل القرآن المجيد ببيان سنن كونية واجتماعية وإنسانية وطبيعية. وقد كان من الممكن أن يكشف ذلك كله عن الترابط الدقيق بين العلل والمعلولات لو وجد المتدبرون المرتلون، كما اكتشف المتقدمون مبدأ تكرر الظواهر والدوران مع العلة وما إلى ذلك، وتلك -كلها- كواشف منهجية هامة كان من الممكن أن تصل مع الحلقات الأخرى إلى معالم منهج نام، يمكن أن يؤدي إلى ولادة المنهج العلمي في البيئة المسلمة منذ القرن الهجري الثالث؟

ـ النظر العقلي كان من أهم وسائل القرآن المجيد لإبراز دليل الخلـق ودليـل الإبداع ودليل التدبير وهِي أهم الأدلة التي عمل القرآن على لفت أنظار البشر إليها لقيادتهم إلى التوحيد الخالص، فلم لم نر لذلك تأثيرا ظاهرًا في بناء المنهج لدى المسلمين؟؟

ج‌.     علم الحديث

تعريفه: هوعلم يشتمل على نقل السنة المحمدية والبحث عن أحوالها وأحوال رواتها. وينقسم إلى:

1.  رواية: وهو العلم الذي يُبحث فيه عن أحوال الأحاديث وأحوال رواتها. وموضوعه الأحاديث من حيث أضافتها إلى الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم-.

2.  دراية: العلم الذي يبحث فيه عن معني لفظ الحديث وعن المعني المراد منه مبنيا على قواعد العربية وضوابط الشريعة ومطابقا لأحوال النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وموضوعه أحاديث الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- من حيث دلالتها على المعني المفهوم أو المراد منها.

ومسائله إما أن تكون باحثة عن أقواله -صلي الله عليه وسلم- وإما عن أفعاله وإما عن تقريراته بأن يسكت على ما يقال أو يفعل بحضرته.

وأقسام الحديث ثلاثة لا تخرج عنها “صحيح وحسن وضعيف”؛ لأنها ان اشتملت من أوصاف القبول على أعلاها فالصحيح، أو على أدناها فالحسن، وإن لم تشتمل على شيء منهما فالضعيف. ومنهم من قال هما اثنان وأدرج الحسن في الصحيح.

وواضعه: القاضي أبو محمد الرامهرمزي والحاكم ثم تلاهما آخرون كأبي نعيم وابن الصلاح[37].

وفائدته الاحتراز عن الخطأ في اعتقاد أحوال النبي -صلي الله عليه وسلم- والاقتضاء به فيما ينبغي فيه ذلك بأن لم يكن من أحواله الجبلية ولا من خصوصياته -صلي الله عليه وسلم- لتحصيل سعادة الدارين وجمع أحواله -صلي الله عليه وسلم- وحفظها عن الضياع لاستنباط الأحكام الشرعية منها عند الحاجة إلى ذلك، ونقل العزيزي عن الكرماني على البخاري أن غايته هو الفوز بسعادة الدارين.

د. علم التفسير

تعريفه: هو علم يبحث فيه عن أحوال القرآن المجيد من حيث دلالته على مراد الله تعالي بقدر الطاقة البشرية

موضوعه: القرآن المجيد من حيث دلالته على مراد الله تعالي وهو اللفظ المنـزل على سيدنا محمد -صلي الله عليه وسلم- للأعجاز بأي سورة منه المتعبد بتلاوته. والمشهور أنه القرآن منـزل من عنده تعالي على لسان جبريل عليه السلام بلفظه ومعناه.

ومسائله إما أن تكون باحثة عن الأمر أو النهي أو عن الوعد والعيد أو عن الوعظ أو عن أخبار السابقين كقولنا أقيموا الصلاة معناه الأمر بالصلاة ولا تقربوا الزنا معناه النهي عن الزنا، والمسائل المبحوث فيها عن معنى اللفظ المفرد راجعة إلى ما ذكرنا من الأنواع، بل بعض تلك الأنواع يرجع إلى بعض.

وفائدته زيادة التذكر والاعتبار عند تلاوة القرآن والاقتدار على استنباط الأحكام الشرعية عند الحاجة، فإنه أصل أدلة الأحكام الفقهية والعقائد التوحيدية لا يمتد بها ما لم تؤخذ من القرآن.

وفضله أنه أشرف من علوم العربية ومن علم الحديث لعظم فائدته وشرف موضوعه بالنسبة لها ونسبته لما عداه من العلوم التي يستمد هو منها.

 واسمه التفسير؛ لأنه يبين فيه معاني كلام الله تعالى والتفسير في اللغة الكشف والتبيين، واختص باسم التفسير دون بقية العلوم المشتملة على الكشف والتبيين؛ لأنه لخطر أمره واحتياجه إلى زيادة الاستعداد، حيث اشتمل على تبيين مراد الله تعالى من كلامه القديم كان كأنه هو التفسير دون ما عداه، وواضعه الإمام مالك بن أنس، وأما ما نقل عن ابن عباس وغيره من الصحابة والتابعين فلم يكن على سبيل التدوين والاحاطة بجميع ذلك الفن.

وحكمه الوجوب العيني أو الكفائي أو الندب كما في علم الحديث.

 واستمداده من علوم العربية ومن الأصول ومن الكتاب والسنة والإجماع، بل والقياس كتفسير آية بمعنى لم يرد فيها عن الشارع قياسًا على تفسير آية أخرى بذلك وارد عن الشارع، ولما كان متعلقًا بالركن الأعظم من أدلة الفقه وهي الكتاب والسنة والإجماع والقياس المبحوث عنها في الأصول، كان الأصول هنا مؤخرًا عنه، بل هو بالنسبة للأصول بمنـزلة الجزء من الكل والكل مؤخر عن الجزء، فكذا هو بمنـزلته وهو علم الأصول.

والقرآن -اليوم- قد كثر قراؤه وقل الفاقهون فيه، وكثرت خطوطه ونافس بعضها بعضًا في الجمال والاستقامة وقل متدبروه. وكثرت فضائياته وإذاعاته وقل مرتلوه. وتوثقت العلاقة بألفاظه، وأهملت روحه ومعانيه، وكثر المنادون به، وقل التالون له حق تلاوته المنفعلون به الذين يجعلونه نبراس حياتهم ومنطلق شهودهم وشهادتهم، وعطلت حاكميته، وأهملت شريعته، وذلك –كله- يعد أقسى أنواع الهجر وأشدها فأي شيء هو “الهجر” إن لم يكن ذلك الذي سقطت الأمة فيه؟!

المراد بالهجر

الهجر والهجران من المفاهيم القرآنية الهامة التي تعني مفارقة الإنسان غيره. وهذه المفارقة تكون بالبدن وباللسان وبالقلب والوجدان والمشاعر. ولذلك فإنه مفهوم يتعلق أحيانًا بما هُو حسي وأحيانًا بما هُو معنوي، وقد استعمل القرآن المجيد هذا المفهوم في الأوجه -كلها- فمن الهجران الحسي والبدني قوله تعالى: ﴿واهْجُرُوهُن فِي الْمضاجِعِ﴾ (النساء: 34)، ومنه قوله تعالى: ﴿واهْجُرْهُمْ هجْرًا جمِيلاً﴾ (المزمل: 9)، فالأمر يحتمل الثلاثة. والوصف بالجميل يعطيه –صلى الله عليه وسلم- حرية الاختيار لنوع الهجر أو أنواعه دون التفريط بهذا الوصف. وكذلك قوله تعالى: ﴿واهْجُرْنِي ملِيا﴾ (مريم: 46)، وقوله تعالى: ﴿والرجْز فاهْجُرْ﴾ (المدثر: 5)، فهي حث على القيام بجميع أنواع المفارقة وبالأوجه كلها. وقوله تعالى: ﴿وقال الرسُولُ يا رب إِن قوْمِي اتخذُوا هذا الْقُرْءان مهْجُورًا﴾(الفرقان: 30)، فهي شاملة للهجر باللسان وذلك بعدم القراءة، وبالقلب بعدم التفكر والتذكر والتدبر والتعقل والتلاوة والترتيل، وشاملة لهجر الألفاظ وهجر المعاني. ولعل لنا أن نستخلص من كل ما تقدم: أن الأمة في وقتها الحالي وإن أكثرت من قراءة القرآن وطباعته ومدارسة تفسيره وقراءته وخصصت المحطات القرآنية والفضائيات لترديد آياته، فإنها في حالة هجر للقرآن الكريم من حيث العمل به، وتدبر معانيه ودلالاته، ومعرفة المراد به وبناء الحياة بمقتضاه وإن انشغلت ألسنتها وأسماعها به. فذلك لا يخرجها من الاتصاف بحالة الهجر. ولن تخرج من ذلك حتى تصبح صلتها به ألفاظًا ومعاني وتأويلاً وتطبيقًا ومعايشة كاملة، فزوال وجه من أوجه الهجر لا يخرجها من صفة الهجر. وهجر القرآن خطيئة كبيرة وخطأ عظيم ما كان لمؤمن ولا مؤمنة أن يقع فيه. إذا تبين هذا فلا بد لنا من تتبع مظاهر الهجر لنعرف كيف نتجاوزها، وكيف نتخلص منها، وكيف ننقذ أنفسنا من الوقوع بين أولئك الذين اتخذوا هذا القرآن مهجورًا.

من مظاهر الهجر للقرآن المجيد

يعد هاجرًا للقرآن الكريم كل منْ لم يعرف قدره ويؤمن بذلك إيمانًا قاطعًا يربط به على قلبه بأن هذا القرآن المجيد هُو المحجة البيضاء والمنهج الذِي يهدي للتي هِي أقوم في سائر الشئون والشجون، وأنه حبل الله المتين وصراطه المستقيم، وأنه الكتاب المهيمن على ما سبق وما لحق، والمرجع للتصديق وإثبات الحق ونفي الباطل في سائر تراث الإنسانية ورسالات النبيين ومعطيات الحضارات.

ويعد هاجرًا للقرآن المجيد منْ لم يؤمن إيمانًا قاطعًا بأنه هدى للمتقين، وبشرى للمؤمنين، وهدى للناس كافة، وبينات من الهدى والفرقان. وأن الله –سبحانه وتعالى- نـزله على قلب نبيه مصدقًا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين.

ويعد هاجرًا للقرآن الكريم منْ لم يوقن قلبه بأنه كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير. وأنه كتاب فصله الله -تبارك وتعالى- على علمه، فهو محيط بالوجود وحركته، مستوعب للإنسان واحتياجاته.

ويعد هاجرًا للقرآن المجيد من لم يوقن قلبه وعقله ووجدانه بأن هذا القرآن أنـزل بالحق ليخرج الناس من الظلمات إلى النور. وأنه لا ريب فيه ولا اختلاف فيه. بالحق أنـزله الله وبالحق نـزل، وأنه نـزل به الروح الأمين على قلب مُحمد –صلى الله عليه وسلم-؛ ليكون من المنذرين، وأنه لم يدخله حرف واحد من حروف شياطين الإنس أو الجن أو من غير الشياطين: ﴿وما تنـزلتْ بِهِ الشياطِينُ وما ينبغِي لهُمْ وما يسْتطِيعُون. إِنهُمْ عنِ السمْعِ لمعْزُولُون﴾ (الشعراء: 210-211) وأن رسول الله –صلى الله عليه وسلم-؛  “تلقى القرآن الكريم من لدن حكيم عليم”.

ويعد هاجرًا للقرآن العظيم منْ لم يمتلئ قلبه بحبه، والتعلق بكل حرف فيه والإيمان التام بأنه أحسن الحديث ﴿اللهُ نـزل أحْسن الْحدِيثِ كِتابًا متشابِهًا مثانِي، تقْشعِر مِنْهُ جُلُودُ الذِين يخْشوْن ربهُمْ ثُم تلِينُ جُلُودُهُمْ وقُلُوبُهُمُ إِلى ذِكْرِ اللهِ، ذلِك هُدى اللهِ يهْدِي بِهِ منْ يشاءُ، ومن يُضْلِلْ اللهُ فما لهُ مِنْ هادٍ﴾ (الزمر: 22)، وأنه شفاء لما في الصدور، وأن كل آية فيه إنما هِي آية تامة مثل الشمس ومثل القمر ومثل أي آية من آيات الله سبحانه وتعالى، وأنه نـزل بالحق والميزان والشرعة والمنهاج، وأنه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم.

ويعد هاجرًا للقرآن المجيد منْ لم يؤمن الإيمان -كله- بأن الله –سبحانه وتعالى- قد ضرب للناس في هذا القرآن من كل مثل. وأن هذا القرآن المجيد كاف للبشرية بمنطوقه ومكنونه وبكلياته وتفصيلاته لو أحسنت البشرية التفكر فيه والتدبر لآياته، وأدركت أنه لو أنـزل على جبل لرأيته خاشعًا متصدعًا من خشية الله -تبارك وتعالى-. فالقلوب التي لا تخبت وهي تتلوه، ولا تخشع وهي تسمعه، ولا ترق وهي ترتله، ولا تلين وهي تقرؤه، إنما هِي قلوب قاسية، النار أولى بها والويل لها.

ويعد هاجرًا للقرآن المجيد من لا يؤمن ويوقن بأنه واجب الاتباع وسبيل التزكية ومنبع الحكمة والبركة، وأنه الكتاب المبين والقرآن الحكيم دليل المتقين ومرشد المؤمنين لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه لا ريب فيه صرف الله -تبارك وتعالى- فيه للناس من كل مثل. وضرب الله -تبارك وتعالى- فيه للناس من كل مثل ليحملهم على التفكر والتدبر.

ويعد هاجرًا للقرآن الكريم من لم يوقن بأن هذا القرآن الكريم يهدي للتي هِي أقوم وأن اتباع غيره موصل إلى الضلال.

ويعد هاجرًا للقرآن المجيد منْ لم يؤمن بأن هذا القرآن كافٍ للمؤمنين لهدايتهم وتوحيد كلمتهم وإصلاح أوضاعهم وإحاطتهم بالرحمة وشمولهم بالمغفرة: ﴿اَولمْ يكْفِهِمُ أنا أنـزلْنا عليْك الْكِتاب يُتْلى عليْهِمُ، إِن فِي ذلِك لرحْمةً وذِكْرى لِقوْمٍ يُومِنُون﴾ (العنكبوت: 51).

ويعد هاجرًا للقرآن المجيد الذِي لا يذكر ربه في القرآن وحده، أو الذِي لا يسمع له ولا ينصت ولا يسجد إذا قرئ عليه، ولا تزيده آياته إيمانًا، ولا يخشع قلبه حين يسمعه أو يتلوه، ولا يجعل القرآن الكريم بينه وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابًا مستورًا.

ويعد هاجرًا للقرآن الكريم منْ لم يؤمن بأن هذا القرآن قد قص على الأمم أكثر الذِي كانوا فيه يختلفون، فهو مرجع البشرية -كلها- لحسم الاختلافات الأساسية، لا يمكن أن يكون المؤمنون على شيء حتى يقيموا القرآن المجيد ويتشبثوا بمنهجه ويؤمنوا بعصمته، وأنه الكتاب الذِي أنـزل: ﴿قُلَ اَنـزلهُ الذِي يعْلمُ السر فِي السمواتِ والاَرْضِ، إِنهُ كان غفُورًا رحِيمًا﴾ (الفرقان: 6)، وإنه لتذكرة للمتقين وذكر للعالمين: ﴿إِنْ هُو إِلا ذِكْرٌ للْعالمِين. ولتعْلمُن نبأهُ بعْد حِينٍ﴾ (ص: 85 -86).

ويعد هاجرًا للقرآن المجيد من لم يتله حق تلاوته ويرتله حق ترتيله ويؤمن باشتماله على الذكر الإلهي -كله- وأنه لا نسخ فيه ولا تبديل يعتريه، وأنه كلمة الله -تبارك وتعالى- تمت صدقًا وعدلاً لا مبدل لكلماته. وأن كل ما جاء به هُو الحق وهو الأحسن تفسيرًا، وهو الأقوم في كل شيء.

ويعد هاجرًا للقرآن المجيد منْ لم يلتزم منهجه ويحل حلاله، ويحرم حرامه، ويؤمن به ويتبع سبيله ويتمسك بشرعته ومنهاجه، ويعتصم بسبيله وبحبله.

ويعد هاجرًا للقرآن المجيد من لا يجعله مرجعيته في كل ما يأخذ وفي كل ما يدع، وفي كل ما يحل وفي كل ما يحرم، فهو الشرعة وهو المنهاج وهو الكافي الوافي في الأخلاق والسلوك ونظم الحياة وتحقيق العدل والأمانة.

علوم الفقه

تعريفه: الفقه كما يقول الإمام الرازي في (المحصول) عبارة عن: العلم بالأحكام الشرعية، العملية، المسُتدل على أعيانها بحيث لا يُعلم كونها من الدين بالضرورة[38]. أو هو: العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية[39].

موضوع علم الفقه إذًا هو: فعل الإنسان المكلف، ومسائل الفقه تتكون من فعل هذا الإنسان المكلف وحكم الله -تعالى- فيه كقولنا (الصلاة واجبة)، (أكل الربا حرام)…الخ.

وقيل إن موضوعه أفعال المكلفين من حيث تكليفهم بها كالصلاة والصوم، أو بتركها كالزنا والقتل، أو تخييرهم فيها كالأكل والشرب وأما حرمت عليكم أمهاتكم، وإنما حرم عليكم الميتة ونحو ذلك من الأحكام المتعلقة بالذوات والأعيان؛ فهو على تقدير محذوف؛ أي استعمال ذلك بالتمتع في الأول وإلا كل في الثاني والأصل في ذلك أنه لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها والأعيان ليست في وسع العبد ولا داخلة تحت اختياره من حيث ذاتها، بل من حيث الأفعال المتعلقة بها.

ومسائله إما أن تتعلق بالعبادات أو بالمعاملات أو بالمناكحات أو بالجنايات، ولذا اشتهر تقسيمه إلى أربعة؛ لأن الغرض منه انتظام أحوال العباد في المعاش والمعاد، وذلك بكمال قواهم النطقية والشهوية والغضبية، فما به كمال النطقية هو العبادات، وما به كمال الشهوية أن تعلق بالأكل ونحوه، فالمعاملة أو بالوطئ ونحوه فالمناكحة وما به كمال الغضبية هو الجنايات ونحوها.

وفائدته العمل بمقتضى الشرع الشريف من عبادة الخالق ومعاملة الخلائق على وجه الصحة والفوز بالنجاة من النار ودخول الجنة مع الأبرار لمن استمسك بعراه وعمل بمقتضاه.

وفضله أنه أشرف من علوم العربية ومن علم التفسير والحديث والأصول باعتبار فائدته؛ لأنها كلها وسائل إليه وإن كان لها شرف عليه باعتبار موضوعها، لكن الظاهر أن شرف الثمرة فوق شرف الموضوع ونسبته لما عداه أنه بعد ما تقدم ذكره من العلوم التي هي وسائل إليه وبعد التوحيد؛ لأن التقليد فيه كاف بالإجماع وفي التوحيد فيه نـزاع، لكن ذلك لمن أراد تحصيله عن الأدلة واستنباطه منها. وأما من أراد تحصيله تقليدًا كما هو الجاري في هذه الإعصار المتأخرة فذلك لا يتوقف على سبق تلك العلوم، بل ينبغي التعجيل به ولو قبلها مسارعة إلى تصيح العبادة والمعاملة.

وواضعه الأئمة المجتهدون السابقون وأولهم أبو حنيفة -رضي الله عنه-.

وحكمه الوجوب العيني إن توقف عليه صحة العبادة والمعاملة وإلا فالكفائي إلى أن يحيط بمعظم الأحكام فيكون حكمه الندب.

وطريق استمداده الكتاب والسنة والإجماع والقياس مع مراعاة العربية والأصول، ثم أن مجرد العمل به لا يعتبر شرعًا إلا بعد صحة العقائد الإسلامية؛ لأنها أساس القواعد الدينية وقد وضعوا لها فن التوحيد ولكن لما كانت تلك العقائد متقررة عند العباد وكان معظم الباعث على تدوينها؛ فمع أهل العناد بخلاف أحكام الفقه كان الفقه أهم من التوحيد بهذا الاعتبار، ولذلك أخرت مباديه وإن كان ينبغي تقديم تحصيله.

الفكر الفقهي وتأثير الإسرائيليات

إن بعض الفقهاء قد توسعوا في بحث المسائل ومد سلطان “الأرأيتيين” وبسطه على مختلف جوانب الحياة، فاضطروا للتوسع في الأدلة تحت ضغط تصور خاطئ بأن النصوص متناهية والوقائع غير متناهية، وقد رد ابن حزم وغيره مثل هذا الادعاء فشفى وكفى، فليراجع في موضعه من “إحكام الأحكام في مباحث القياس والاستحسان”، خاصة في الباب التاسع والثلاثين منه، ولقد بلغ عدد الأدلة المختلف فيها عند بعض متأخري الأصوليين سبعة وأربعين دليلاً بعضها لم تبن عليه إلا مسألة واحدة من مسائل الفقه.

ولاشك أن هذا قد فتح بابًا واسعًا لدخول كثير من الفقه الدخيل إلى هذه الأمة في سائر الأبواب، وإنا ذاكرو بعض الأمثلة التي نقل ابن حزم في الأحكام جملة منها في 5/161 وما بعدها قال: حرم بعض المالكيين ما وجد من ذبائح اليهود ملتصق الرئة بالجنب، وهذا مما لا نص في القرآن ولا في السنة على أنه حرم على اليهود، ولا هو متفق عليه عندهم، لكنه شيء انفردت به الربانية منهم، وأما العاناتية والعيسوية والسامرية فإنهم متفقون على إباحة أكله لهم.

يقول ابن حزم معقبًا على ذلك بلهجته الساخرة القاسية… فتحرى هؤلاء القوم -وفقنا الله وإياهم- ألا يأكلوا شيئًا من ذبائح اليهود فيه بين أشياخ اليهود -لعنهم الله- اختلاف، وأشفقوا من مخالفة هلال وشماي شيخي الربانية، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

واحتجوا أيضًا في إباحة قتل المسلمين وسفك الدماء المحرمة بدعوى المريض أن فلانًا قتله، ورسول الله –صلى الله عليه وسلم- يقول: “لو أعطى قوم بدعواهم لادعى رجال دماء قوم وأموالهم[40]“، فأباحوا ذلك بدعوى المريض.

واحتجوا بما ذكره بعض المفسرين من أن المقتول من بني إسرائيل لما ضُرب ببعض البقرة عادت إليه الحياة، وقال: فلان قتلني.

قال أبو محمد: “وهذا ليس في نص القرآن”، وإنما فيه ذكر قتل النفس والتداري فيها، وذبح البقرة وضربه ببعضها، وكذلك يحيي الله الموتى، فمنْ زاد على ما ذكرنا في تفسير هذه الآية فقد كذب وادعى ما لا علم لديه، فكيف أنْ يستبيح بذلك دمًا حرامًا ويعطي مدعيًا بدعواه، وقد حرم الله تعالى ذلك، فمن أعجب ممن يحتج بخرافات بني إسرائيل التي لم تأت في نص ولا في نقل كافة، ولا في خبر مسند إلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- في مثل هذه العظائم.

ثم استعرض أبو محمد أقوى ما أورد في تفاصيل قصة بقرة بني إسرائيل من آثار ملأت مطولات التفسير والآثار لم يتعرض القرآن المجيد لها، بل جاءت في روايات الآثار فقال: … وهذه؛ “أي الروايات” مرسلات وموقوفات، لو أتت فيما أنـزل علينا ما جاز الاحتجاج بها أصلاً، فكيف فيما أنـزل في غيرنا؟

ثم ذكر من استنباط من قوله تعالى: ﴿وداوُودَ وسُليْمانَ إِذْ يحْكُمانِ فِي الْحرْثِ إِذْ نفشتْ فِيهِ غنمُ الْقوْمِ، وكُنا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِين. ففهمْناها سُليْمان﴾ (الاَنبياء: 77-78)، وجوب جذ ما أتلفت الغنم من زرع أو كرم ليلاً على أصحابها، وبين بطلان ذلك ثم ذكر استدلال الفقهاء بقوله تعالى: ﴿وكتبْنا عليْهِمْ فِيها أن النفْسَ بِالنفْسِ والْعيْنَ بِالْعيْنِ﴾ (المائدة: 47) فخطأ المستدلين بهذه الآية الكريمة على القصاص، وقال: … أما نحن فلا نأخذ بهذا؛ لأننا لم نؤمر به، وإنما أُمر به غيرنا.

ثم استدل على إيجاب القصاص بالآيات التي خوطبنا بها نحو قوله تعالى: ﴿فمنِ اِعْتدى عليْكُمْ فاعْتدُوا عليْهِ بِمِثْلِ ما اعْتدى عليْكُمْ﴾ (البقرة: 193)، وقوله تعالى: ﴿وإِنْ عاقبْتُمْ فعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ﴾ (النحل: 126) ﴿وجزآؤا سيئةٍ سيئةٌ مثْلُهَا﴾ (الشورى: 37).

ثم استعرض جملة من الأحكام المتفق على نسخها مما ورد في شرائع السابقين، وتوقف عند تلك التي تمسك مخالفو الظاهرية من الفقهاء بها وناقشها، ومنها قول بعضهم بوجوب رجم اللوطي؛ أي منْ يفعل فعل قوم لوط متخبطًا أو مستأنسًا برجم الله قوم لوط وقراهم بالحجارة[41] ومن اللافت للنظر أن هناك نماذج في كل باب من أبواب الفقه تقريبًا على هذا النوع من المذاهب والأقوال، بل إن أفكار المسخ التي كانت سائغة قبل الإسلام، ورحم الله البشرية منها بالإسلام، أخذت تفرض نفسها على بعض الفقهاء ليقولوا فيها كلمتهم مثل تشكل الجن بأشكال الإنس، إذا حدث هذا فهل يحسب هؤلاء في نصاب المصلين يوم الجمعة؟ وموضوع زواج الإنس بالجن، وادعاء الزانية الحبل من جني، وهل يُدرأ الحد به أم لا؟ وقد نقل “جولدتسهير” بعض هذه الاهتمامات الفقهية بطريقته، وشنع عليها[42]، ومن المفيد أنْ نورد هنا ما قاله المعلقون الأفاضل -من العلماء المسلمين- على ما أورده “جولدتسهير قالوا -رحمهم الله-:

العلاقات الجنسية بين الإنس والجن ضرب من الأساطير، انتقل بطريق غير مباشر من الأفكار البابلية إلى العقل اليهودي، ثم إلى القصص الشعبي عند العرب، ومن ثم إلى الخيال الشعبي لدى المسلمين، فتذكر فيها الشخصيات العربية القديمة وغيرها من الأمم الأخرى التي كانت ثمرة هذا الاتحاد المختلط، والجاحظ يسفه هذه الخرافات وينكرها[43]، ويسمى الأشخاص الذين يسلمون بصحتها: علماء السوء، ويعمد إلى إغفالهم ولا يذكرهم إلا في حذر وحيطة[44].

وقد وردت في أعمال جمعية البحث الأثري الخاص بالتوراة[45] أمثلة عن المعتقدات الشعبية الإسلامية، توهم أن مثل هذا الزواج مستمد من القرآن استنادًا إلى قوله تعالى: ﴿واسْتفْزِزْ منِ اِسْتطعْتَ مِنْهُمْ بِصوْتِك وأجْلِبْ عليْهِم بِخيْلِك ورجِلِك وشارِكْهُمْ فِي الاَمْوالِ والاَوْلادِ وعِدْهُمْ، وما يعِدُهُمُ الشيْطانُ إِلا غُرُورًا﴾ (الاِسراء: 64) وغيرها من الآيات الكريمة الأخرى.

ومن وجهة نظر الشرع الإسلامي أثبت بعض العلماء بطلان هذا الزواج استنادًا إلى قوله تعالى: ﴿واللهُ جعل لكُم منْ اَنْفُسِكُمْ أزْواجًا﴾ (النحل: 72) واستنادًا على أن اختلاف الجنس مانع يحول دونه، غير أن هذا لا يقره جمهور العلماء[46].

ومما هو مثار الخلاف استحالة هذا الزواج شرعًا، ومما يؤيد ذلك أن يحيى بن معين وفقهاء آخرين من أهل السنة، ينسبون ما كان عليه بعض العلماء الذين ذكروا أسماءهم من الذكاء وسرعة الخاطر إلى أن واحدًا من آبائهم كان من الجن[47]. ويحكي “الفرديل” أن أهل تلمسان يعتقدون أن واحدًا من أهل مدينتهم توفي حديثًا سنة 1908م كان له فضلًا عن زوجته الشرعية علاقات جنسية جنية “أهل تلمسان المسلمين[48]“، وقد بحث العلماء من الوجهة الشرعية مسألة ما إذا كان للملائكة والجن حق الملك[49]، ويمكن هنا أن نشير إلى الشافعي، الذي خالف النـزعة الغالبة على جمهور الفقهاء، فقد روي عنه هذا المبدأ العام: “منْ زعم من أهل العدالة أنه يرى الجن أبطلنا شهادته” لقول الله تعالى: ﴿إِنهُ يراكُمْ هُو وقبِيلُهُ مِنْ حيْثُ لا تروْنهُمْ﴾ إلا أنْ يكون نبيا، ولا نبي بعد محمد –صلى الله عليه وسلم-[50] قلت: لكن مذهب الإمام الشافعي لم تسلط عليه الأضواء في هذه المسألة، ولذلك استمر المسلمون إلى عهد قريب جدا يلقبون بعض المفتين بأنه مفتي الثقلين؛ أي الإنس والجن، وهناك منْ ينسب إلى بعض الأفاضل الأحياء المعاصرين أنه يتحدث إلى الجن، وأن هناك منْ دخل الإسلام منهم على يديه، بل إن هناك منْ أخذ يُجري مقابلات صحفية ينشرها مع زميل له يبدو أنه من هيئة الإعلام أو وزارة الإعلام لإخواننا الجن: كأن المسلمين المساكين لا تكفي لإذهاب ما بقي من عقولهم أجهزة الإعلام المعاصرة العملاقة فاستعانوا عليهم بإعلام إخواننا الجن. وقد اطلعتُ -مؤخرًا- على كتاب مطبوع تحت عنوان: “حديث صحفي مع الجني المسلم الأخ كينجور”.

فقه المخارج والحيل

نعود إلى الفقه وما دخل إليه، وما احتمله مركبه تحت ضغط ذلك التراث المختلط، والإصر والأغلال التي استحييت والتي لابد من أنْ تحل قيود وأغلال الأمم بالكتاب المنير والنور الذي جاء به القرآن والهدى الذي حمله خاتم النبيين؛ إذ بذلك التراث يحيط بنا ويدفع بعض الفقهاء إلى اللجوء إلى ما عرف بفقه المخارج والحيل.

وقد عُرفت الحيل الفقهية بأنها الطرق الخفية، التي يلجأ إليها للتوصل إلى غرض ممنوع فقهًا، وما كان المسلمون يعرفون الحيل إلا بأنها ما يكون مخلصًا شرعيا لمنْ ابتلي بحادثة دينية، ويسميها بعضهم المخارج.

وعرفها الشيخ محمد الطاهر بن عاشور بأنها: إبراز عمل ممنوع شرعًا في صورة عمل جائز، أو إبراز عمل غير معتد به شرعًا في صورة عمل معتد به… أما السعي إلى عمل مأذون بصورة غير صورته أو بإيجاد وسائله فليس تحيلاً ولكنه يسمى تدبيرًا أو حرصًا أو ورعًا.

وما كان المسلمون بحاجة إليها لو التفتوا للقواعد التي اشتمل القرآن العظيم عليها والمبادئ التشريعية التي تقوم على التيسير والتخفيف والرحمة ورفع أي حرج، وكيف يحتاج الناس إلى مخارج وحيل تخلصهم من شريعة بنيت كل قواعدها على نسخ الإصر والأغلال التي كانت على الأمم السابقة وتبنت في سائر قواعدها التخفيف والرحمة واليسر؟

لاشك أن تلك الاتجاهات الفقهية التي أشرنا إلى بعض معالمها قد وضعت على المسلمين قيودًا وإصرًا وأغلالاً، ثم عادوا يبحثون عن حيل ومخارج يؤصل لها، ويلجأ إليها، ولم تكن إطلاقية القرآن، ومنهجيته المعرفية الضابطة لكل صغيرة وكبيرة، باعتباره كتابًا يتضمن الوحي الإلهي المهيمن على ما سبق بحاكميته وخاتميته، والمهيمن على ما يلحق بإطلاقيته، بحاجة إلى فقه يسمى بـ فقه المخارج والحيل. فصدور هذا الفقه والتأصيل له -في حد ذاته- دليل ارتباك وإحساس بالحرج أمام جملة من القضايا الفقهية والأحكام التي تبدو فيها الشدة، وذلك يتعارض مع روح هذه الشريعة ومقاصدها في التخفيف ورفع الحرج واعتبار الأصل في المنافع الحل، والأصل في المضار المنع، فطرح فكرة المخارج والحيل ضمن الأصول والفروع، وبالذات في مجال الفقه والتشريع أدى إلى بروز مشكلات في مجالات كثيرة، وآثار عقلية ونفسية لا تخفى على المراقب الفاحص المتتبع لأطوار الفكر الإسلامي.

ومن تلك المشكلات التغافل عن الكثير من الكليات والغايات والمقاصد القرآنية، والانصراف الكلي إلى الدليل الجزئي ومناهج تأصيله وقراءته والاستدلال به، وذلك شأن العقليات التقنينية الجزئية، أما النبوة، فإنها تعمل على إيجاد العقلية الكلية المقاصدية، ولذلك حددت المهام الأساسية للنبوة بقوله تعالى: ﴿يتْلُوا عليْهِمُ ءاياتِهِ ويُزكيهِمْ ويُعلمُهُمُ الْكِتاب والْحِكْمة﴾ (ال عمران: 164).

فالنبوة تقرن بين تعليم الكتاب والحكمة والتزكية والتطهير، ولا يتم ذلك إلا بتلاوة، لا مجرد قراءة الحرف، فذلك قد يُحدث فصامًا بين النظرية والتطبيق، ويقضي على فقه التدين، أما التلاوة فمن شأنها التدبر والتأمل والتعلم، ولا يتحقق ذلك من غير رد الفروع إلى الأصول، والجزئيات إلى الكليات، وربط الأعمال كلها بالمقاصد والغايات.

أما فكرة التعبد، بمعنى تجاوز الحِكم والعلل والمقاصد وتعضية القرآن وإعمال التجزئة والتشطير والتقنين القائم على ملاحظة الجزء باعتباره كيانًا مستقلا عن الكل، فكل تلك الأفكار لا يمكن أنْ تنسجم مع مهام النبوة ولا الخلافة التي على منهاجها وهي تصطدم بختم النبوة، وختم الوحي وعالمية الرسالة وشمولها، ويضطر الناس في إطار ذلك الفهم الجزئي إلى البحث عن الحيل والمخارج، والتفلت من الضوابط الجزئية بشكل قد يحملهم على إهمال الكليات، وتجاوز الغائية والتشبث بالشكليات والغفلة عن الحِكم والمقاصد.

فحين ضاق الناس ببعض الأحكام الفقهية التي استنبطت بتلك الطريقة التجزيئية، واشتد عليهم الضنك في حياتهم نتيجة لذلك، وللأخذ بما يشبه شرائع الإصر والأغلال المنسوخة -أصلاً- لجأوا إلى هذا النوع من فقه المخارج والحيل والتأصيل له، ولو رجعوا إلى الأصل القرآني وإلى خصائصه التشريعية الأساسية في التخفيف والرحمة ورفع الحرج، لما احتاجوا لأنْ يبتكروا نوعًا جديدًا من الفقه يبقى على هذه الازدواجية المفتعلة والمدسوسة، ويحاول التخفيف من آثارها.

وفي الوقت الذي حاول فيه بعض الفقهاء الخروج من أزمات الفقه الذي دخله سرطان الإصر والأغلال، بما يسمى بـ”المخارج والحيل”، حاول فريق آخر التخلص من الدليل الشرعي أو النقلي وتقليص دوائر عمله -ما أمكن- موجهين إلى هذه الأدلة النقلية من الكتاب والسنة اتهامات التشابه والتعارض؛ لينصرفوا عنها نحو الدليل العقلي، فتلك الأدلة في نظر بعضهم لا ينبغي أنْ يتصل بها الناس؛ لأنهم لن يفهموها كما يستطيعون فهم أقوال الأئمة ناسين أو متناسين خاصية القرآن الأساسية: ﴿ولقدْ يسرْنا الْقُرْءان لِلذكْرِ فهلْ مِن مدكِرٍ﴾ (القمر: 17، 32، 40).

فبالإضافة إلى ما ذكره الكرخي، يمكن أنْ يُفهم في هذا الإطار ما ذكره إمام الحرمين في البرهان وما نقله فخر الدين الرازي وغيره من المتكلمين عن البعض من أن الأدلة اللفظية لا تفيد إلا الظن لبنائها على مقدمات ظنية، ولتوقف القطع بالدليل اللفظي على القطع بأمور عشرة[51]. كما يمكن أنْ تفهم تلك المعارك، وردود الأفعال التي أدت إلى مزيد من التشبث بالدليل اللفظي حتى لو كان مجرد أثر من آثار الصحابة، وظهور القول بحجية قول الصحابي، وظهور من عُرفوا بعد ذلك بالحشوية، الذين اتُهموا بقبولهم كل حشو مفهوم أو غير مفهوم من الروايات، كما عرف بهم بعض الكاتبين في الفرق، كصاحب كتاب الحور العين في مواضع عديدة[52].

على أنْ ترك الدليل العقلي كذلك لم يقتصر خطره على ما ذكر، بل قد ولد مشكلات أخرى عديدة، فمن خلال فهم خاطئ ادعى بعضهم وجود ما هو مشكل في القرآن الكريم من الآيات، وتحول الحديث فيما عرف “بمشكل القرآن” إلى علم من علوم القرآن، وفي هذا الإطار كتب ابن قتيبة كتابه المعروف “تأويل مشكل القرآن” كما كتب كتابًا آخر أسماه “تأويل مشكل الحديث” وحاشا كتاب الله أنْ يكون فيه مشكل وتنـزه رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وصحيح حديثه أنْ يكون فيه شيء من ذلك.

فلم يكن هناك مشكل لا في القرآن ولا في الحديث الصحيح المرفوع، ولكنه الفهم الخاطئ لمفهوم “المتشابه” من ناحية، ولوجود قطاع كبير من المشتغلين بالمعارف العقلية أراد أنْ يقلص من مساحة وعمل نفوذ الدليل النقلي لحساب الدليل العقلي وغيره في إطار ذلك التصور الرافض لشرعة الإصر والأغلال والرافض لفقه المخارج والحيل، بذات الوقت حاول البعض أنْ يبحث عن المخارج الجزئية في الدليل العقلي.

بل إن الآلاف من البحوث والدراسات المتعلقة “بحجية السنة لو جرى تتبع دقيق لمحاولات تحليل وتفسير منهجي لمعرفة كيفية ظهورها لوجد أنها قد أعدت في إطار محاولة معالجة هذه الإشكالية نفسها، وفي جو من المساجلات الكلامية، وذلك بعد أنْ وجدت طوائف كثيرة من الأُمة تتجادل حول وسائل الخروج من ذلك الحرج الذي أحاط بحياة الناس في إطار ذلك السقف من الفهم والمعرفة للكتاب الكريم والسنة النبوية، فظن أن لا مخرج من ذلك الحرج إلا باعتماد العقل وتعزيز مكانته خاصة من بعد شيوع الوضع والدس على السنة، ومساهمات بقايا يهود في تأجيج تلك المعارك.

وقد أحدثت هذه النقلة العقلية بدورها، خاصة على مستوى السنة إشكاليات عديدة؛ إذ أصبحت مصدرًا لإثارة الكثير من القضايا وبعضها يندرج في إطار الاعتقاد الإسلامي، وأثرت في تصورات الإنسان المسلم، وشُوهت كثيرًا من معالم تصوره ومنهجيته، فبرزت الإشكاليات المتعلقة بصفات البارئ -عز وجل- والتأويل وما ترتب على ذلك من مشكلات صادرت من المسلمين محجتهم البيضاء التي تركهم عليها الرسول –صلى الله عليه وسلم.

من هنا تبدو إشكالياتنا الفكرية مع تراثنا بأنواعه إشكاليات كبيرة، سواء في مجال التفسير أو السنة أوالأصول الفقهية أو في مجال الفقه ذاته أو في مجال علم الكلام وغير ذلك من المجالات الفرعية ذات العلاقة، مما يستدعي استنفار جهود وعقول أذكياء الأمة كافة؛ لمعالجة تلك المشكلات وتحرير العقل المسلم من آثارها، والخروج من سائر الفتن بكتاب الله المخرج منها وسنة نبيه –صلى الله عليه وسلم- اللذين لا شك في قدرتهما على تزويد أمم الأرض كلها بفقه عمراني يحقق السعادة في الدارين، ومن لم يكفه النوران العظيمان فلا كفاه الله.

إن دراسة هذه الأمور وكثير غيرها من خصائص ذلك العصر ستساعد كثيرًا في عمليات المراجعة لتراثنا، وقد نجد أنفسنا بعد ذلك في حاجة إلى تأسيس معارف كثيرة وتخصصات تضاف إلى علوم القرآن، وغيرها من معارفنا النقلية وقد نعيد خارطة تصنيف علومنا النقلية -كلها- بناءً على ذلك. وقد نتوصل – بعد تلك الجهود- إلى إطار مرجعي منهاجي؛ لإعادة قراءة تراثنا وبناء وتشكيل علومه، وإعادة بناء علوم اجتماعية موازية تقوم على “الجمع بين القراءتين”، قراءة الوحي وقراءة الكون بخصائص معينة ومنهاجية القرآن المعرفية.

ـ طبيعة المنهج الإسلامي

يمكن تعريف المنهج: أنه وسيلة معرفية إلى قيادة العقل الإنساني إلى الحقيقة، أو إلى ما يغلب على الظن أنه الحقيقة، حتى لو لم تكن هِي الحقيقة في الواقع ونفس الأمر؛ فالحقيقة مثل كنـز دفين يبحث الإنسان عنه بوسائل متعددة: كالحفر وقراءة التاريخ والخرائط، والتفكر والنظر العقلي والتذكر والتدبر وما إليها، وقد يصادف الإنسان الحقيقة وقد يخطئها، وهو مثاب مأجور أصاب أم أخطأ، المهم أنْ يبذل كل جهوده وطاقاته وقدراته المعرفية بصدق وإخلاص وبوسائل ومنهج سليم لمقاربتها[53]، وإنما قلنا: “يقود إلى الحقيقة” ذلك لأن هناك قطعيات لا تقبل تعددًا في الحقيقة الواحدة الثابتة؛ ويؤخذ بنقيضها أيضًا؛ فعدم مصادفة الحقيقة الواحدة الثابتة لا يقبل عذرًا فيها، وتلك القطعيات لا تبلغ هذه الصفة إلا بعد المرور بكثير من الحواجز المنهجية، وهذه الحقائق من شأنها أنْ تكون لها علامات وأدلة تقود إليها عندما تُكتشف،  واكتشاف تلك العلامات والأدلة يقع في دائرة الممكن لقوى الوعي الإنساني أنْ توصل إليه. في حين يُقبل في الظنيات غلبة الظن بأنها “الحقيقة” حتى لو لم يصادفها الباحث. وللإمام الغزالي تفصيل حسن في هذا المجال؛ حيث قال: “النظريات قطعية وظنية، والقطعية كلامية وأصولية وفقهية، ونعني بالكلامية: ما يدرك بالعقل من غير ورود السمع: كحدوث العالم، وإثبات المحِدث وصفاته، وبعثة الرسل؛ (قلت: وسنن الكون وقوانينه تندرج في هذه القطعيات) وأما الأصولية فمثل حجية السنة… إلخ[54].”

والمنهج ضابط صارم يُحدد للعقل مساره بمنتهى الصرامة، سواء أمارس العقل التحرك في الكون،  أم في نصوص الوحي بحثًا عن الحقيقة؛ ولذلك فإنه من المتعذر أنْ يتصالح المنهج مع العقل الفطري أو الطبيعي.

والمنهج وسيلة وأداة لبناء قواعد التفكير، وإرساء دعائم ضوابط البحث العلمي والمعرفي، التي من شأنها أن تعصم الذهن من الوقوع في الخطأ في الفكر وفي البحث العلمي[55].

وإذا كان “المنهج” علمًا بالطرق المنتجة الموصلة إلى الغاية، وإدراكًا ووعيًا بالخطوات والوسائل والوسائط التي تحقق ذلك فإنه في هذا يؤدي دور الموجه والدليل والقائد الذي يساعد في معرفة سلامة الخطوات المنهجية، وتتابعها واتصالها بحيث تكون كل خطوة معززة مساندة لما قبلها، مؤدية لما بعدها دون ضلال في الطريق، أو انحراف في الغاية، أو تيه عن القصد.

وعند دراسة الظواهر فإن الخطوات المنهجية العلمية تسير بالتسلسل التالي: 1. الملاحظة، 2. الوصف، 3. الفهم، 4. التحليل، 5. التفسير: وهنا يبدأ بناء النموذج المعرفي لينطلق المنهج والنموذج متضافرين، 6. التنبؤ، 7. التحكم. وتنطبق الخطوات المنهجية السبعة بشكلٍ تام على العلم الطبيعي؛ حيث يؤدي المنهج أهم وظائفه وهي: 1. الفهم، 2. التفسير، 3. التنبؤ، 4. التحكم.

وقد برزت فلسفة العلوم كفرعٍ هام مستقل في العلم الحديث، ومهمته التحليل النقدي لمناهج العلوم وافتراضاتها ومصادرها ومعطياتها؛ وذلك يعطينا فكرة عن العلاقة بين “المنهج وفلسفة العلوم”.

المنهج في القرآن     

إن كلاً من المنهج والمنهجية لدينا نحن المسلمين قد وُلد بعد نـزول القرآن المجيد، الذِي بدأ بتهيئة العقل البشري وتحضيره لاستقبال القراءة ثم القراءتين والجمع بينهما[56]” ليبدأ تتابع نـزول نجوم القرآن في عمليات منهجية لتغيير واقع كانت تحكمه وتهيمن عليه قيم الشرك، وتحويله إلى واقع تحكمه قيم “التوحيد والتزكية والعمران” بدلًا من قيم الشرك والجاهلية.

 وردت كلمة “منهاج” في قوله تعالى: ﴿لِكُل جعلْنا مِنكُمْ شِرْعةً ومِنْهاجًا﴾ (المائدة: 50)، ومع أنها لم ترد بلفظها هذا في القرآن سوى هذه المرة الفريدة، بيد أنها كانت بمثابة إعلان وتنبيه للمتدبرين عن وجود هذا المفهوم في هذا الكتاب الكوني العظيم الذي نـزل: ﴿تِبْيانًا لكُل شيْءٍ﴾ (النحل: 89)، ولتستغني البشرية به عن كل ما عداه ﴿اَولمْ يكْفِهِمُ أنا أنـزلْنا عليْك الْكِتاب يُتْلى عليْهِمُ، إِن فِي ذلِك لرحْمةً وذِكْرى لِقوْمٍ يُومِنُون﴾ (العنكبوت: 51).

وأي رحمة وذكرى أهم وأعظم وأجدى وأكبر من أنْ يكون بين يديك كتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، كتاب أحكم الله بعلمه آياته، ثم فصلها على علمه أيضًا؛ ليكون كتابًا كونيا يهدي للتي هِي أقوم، ويهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام؛ ليقوم الناس بالقسط وهم يقومون بمهمة الاستخلاف في الأرض، مسلحين بالأمانة: أمانة الاختيار، ومهيئين لتحقيق “العمران” في الكون المسخر لهم، المهيأ لممارساتهم وأفعالهم؛ ليقود الإنسان المستخلف “قوافل التسبيح الكوني” لخالق الكون والحياة والإنسان، فيفي -آنذاك- بعهده مع الله -سبحانه وتعالى- حين قال مجيبًا له سبحانه: “بلى شهدنا” وهو لا يزال في “عالم الذر”!!

إن “مفهوم المنهاج” القرآني أهم المفاهِيم القرآنية بعد التوحيد ولذلك لا ينبغي أن تكون آية سورة المائدة هي المنبع الوحيد لصياغة المفهوم قرآنيا، بل ينبغي قراءة جميع الآيات التي أوردت شبكة من المفاهيم الفرعية والمصطلحات القرآنية الإلهِية التي أحاطت بمفهوم “المنهاج” كما تحيط حبات العقد بواسطته؛ ليزداد بينها تألقًا وبريقًا ولمعانًا وتزداد به ترابطًا، ومن هذه المفاهيم والاصطلاحات القرآنية: الصراط المستقيم والسبيل الأهدى والسبيل السوي وسبيل الله والهدى والنور والاتباع والاقتداء والشفاء والأسوة الحسنة والطريق الواضح البين الذِي لا يخشى سالكه تيهًا أو ضلالاً، فهو محاط بالنور المبين ومزود بكل معالم الهداية، التي لاتسمح بالانحراف عنه لمنْ يسلكه؛ إذ ﴿لا ترى فِيها عِوجًا ولا أمْتًا﴾ (طه: 104) فاستقامته ووضوحه، وبروز معالمه، ووضوح طرفي البداية والنهاية يجعل سالكه مستيقنًا بأنه على الهدى، آمنًا من الوقوع في الضلال، وتتضافر آيات الكتاب-كلها- بعد ذلك في العقيدة والشريعة والسلوك والقصص والعبر والأمثال والوعظ والتوجيه والوعد والوعيد على إبراز هاتيك المعالم المنهجية والسنن والقوانين الكونية والاجتماعية وسنن الخلق وقواعد العناية ونظم الإبداع؛ لتجعل هذا “المنهج الكوني القرآني” بحيث تبصره البصائر وتشاهده الأبصار، وتعيه الآذان، وتدركه الأفئدة والقلوب التي في الصدور، ولاتخطئه العقول.

وذلك يعني أن سالك هذا الطريق أو ناهجه يستطيع الاطمئنان إلى أنه بالغٌ الغاية وواصلٌ إلى المراد ومدركٌ للبغية؛ ولذلك قرن الله –سبحانه وتعالى- “المنهاج بالشرعة” فهناك شرعة يريدها الناس ويحتاجون إليها بحثًا عن الاستقامة في تنظيم حياة الخلق،  تحقيقًا لمهام الاستخلاف وفقًا لشرعة الحق،  وتحقيق العدل فيهم وذلك ما لا يتحقق إلا بمنهاج واضح بين؛ وذلك المنهاج هُو الذِي رسم القرآن المجيد معالمه وأبانها وأوضحها؛ أي أن اقتران “الشرعة” “بالمنهاج” يوحي بأن الله قد جعل في القرآن شريعةً مقترنةً بمنهاجٍ يوضح ويبين منهاج تطبيقها واتباعها، وتشكيل الحياة بمقتضاها بجوانبها كلها، كما يستلزم أنْ يكون “المنهاج” ضابطًا صارمًا للفهم والوعي، وإدراك المقاصد والغايات، وضبط السلوك والاتباع وسلوك سبيل الهداية، والوصول إلى النور، كما يضبط المنهج سلوكنا في فقه التدين وممارسته واتباع القرآن فيه،  والتأسي بسيدنا رسول الله –صلى الله عليه وسلم- في ممارسته لنصل إلى النور والشفاء والهداية بضوابط، فكان القرآن بيانًا ومبينًا ونورًا وهداية وصراطًا مستقيمًا يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ومناهج الاطمئنان والأمن والأمان والعمران والاستقرار.

فإذا وجهنا أنظارنا نحو بعض أحاديث رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فإننا نجد ما نبهنا إليه ظاهرًا بينًا في تلك الأحاديث وفي مقدمتها قوله –صلى الله عليه وسلم-: قدْ تركْتُكُمْ على المحجة الْبيْضاءِ ليْلُها كنهارِها لا يزِيغُ عنْها بعْدِى إِلا هالِكٌ منْ يعِشْ مِنْكُمْ فسيرى اخْتِلافًا كثِيرًا فعليْكُمْ بِما عرفْتُمْ مِنْ سُنتِى وسُنةِ الْخُلفاءِ الراشِدِين الْمهْدِيين عضوا عليْها بِالنواجِذِ وعليْكُمْ بِالطاعةِ وإِنْ عبْدًا حبشِيا فإِنما الْمُؤْمِنُ كالْجملِ الأنِفِ حيْثُما قِيد انْقاد[57].” وعلى هذا فإن الحديث يضيف إلى شبكة المعاني التي تتصل بالمنهاج لفظًا آخر هُو “المحجة”، وما قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-ذلك إلا لينبه إلى أن المنهج الذِي اشتمل القرآن عليه، وبينه رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بتلاوته واتباعه لكتاب الله، وتحويل ما جاء الكتاب به من عقيدة وشريعة ونظم حياة وممارسات وعلاقات صارت كلها واضحة بينة، وإذا التبس على الناس شيء بعد غيابه -صلوات الله عليه وسلامه-،  فإنهم سيجدون في المنهاج القرآني ومحجته البيضاء، ما يستطيعون الرجوع إليه والاهتداء به والعودة إلى وضوح الطريق، واستقامة السبيل، واستنارة الصراط بذلك المنهج، فهو منهاج للتأسيس وللتجديد كذلك، وفيه جميع الضمانات المطلوبة للأمن من التيه والضلال الذِي قد يقع الإنسان فيه بطول الأمد وقسوة القلوب، وعوامل الضعف البشري!!

ومن هنا يتبين أن قراءة مفهوم “المنهاج” القرآني يعني قراءة جميع آيات الكتاب الكريم ذات العلاقة بالمنهج إضافةً إلى المواقف والأفعال والأقوال النبوية ذات العلاقة بالنهج.

إن الخطاب القرآني ذو وجودين: وجود واقِعِي خارجي يتمثل فيما بين الدُفتين من سور وآيات تندرج في أجزاء وأحزاب، ووجود معنوي تدل عليه الألفاظ المضمنة في آيات وسور، وهي مدلولات الآيات والسور ومعانيها،  فكأن الآيات والسور دالٌ والمعنى مدلول عليه، وكأن اللفظ -آنذاك- يأخذ دور علامة تدعو الباحث للنظر والتأمل والتدبر والتفكر والتذكر والتعقل ليكتشف الارتباط والعلاقة بين الدال والمدلول، فالمعنى والمدلول هما المعرفة التي نبحث عنهما، ونريد الوصول إليهما، والوعاء المعرفي الذِي نسعى للوصول إلى المعرفة الكامنة فيه، والكشف عنها. أما الألفاظ فهي العلامات والأشكال الصوتية أو الإيقاعية للمعنى؛ وذلك يجعل الإيقاع عين معناه على المستوى التمثيلي،  وقد اقترب الشاعر الأخطل من هذا المعنى بقوله المشهور:

إن الكلام لفي الفؤادِ وإنما       جُعِل اللسانُ على الفؤادِ دليلا

 واللفظ علامات دالة على ذلك المعنى بمستويات مختلفة: فهي تدل أحيانًا بالمطابقة، وثانية بالتضمن، وثالثةً بالالتزام، وأحيانًا تدل بعبارة النص وفحواه ولحنه وإشاراته[58]، وعلوم العربية من نحو وصرف وبديع ومعانٍ وبلاغة وفصاحة -على وجه الإجمال– وعلم التفسير والكثير من علوم القرآن مخصصةٌ للتعامل مع الألفاظ وعوارض الألفاظ، ومهمة المنهج توظيف كل ما يحتاج إليه منها باعتباره أدوات ووسائل وأساليب للوصول إلى المعنى أو المغزى وإلى الحقيقة الكامنة فيه التي جُعل اللفظ علامة دالة عليها. والطريق بين الألفاظ والمعاني طريق طويل، لا كما يتوهم الكثيرون بأنه طريق قصير، ولذلك احتجنا إلى كل تلك المعارف والأدوات للاستعانة بها على اختصار الطريق والوصول إلى المعنى المراد،  ومقاربته بكل ما تتيحه الطاقة البشرية من إمكانات. كما أن استخدام المنطق أمر لابد منه على أنْ يكون منطقًا قرآنيا،  ذلك لأنه كما كان للقرآن منهجه،  فإن له منطقه.

ويمكن التعامل مع الخطاب القرآني كظاهرة، والظاهرة القرآنية[59] ظاهرة فريدة،  فلأول مرة في تاريخ البشرية ولآخر مرة ينـزل للبشرية وحي الله وكلمته بشكل متحد معجز للخلق كافة، وفي مقدمتهم النبيون والمرسلون، وهو خطاب مطلق كذلك، يتعالى على الزمان والمكان أو”الزمكان”، ويستوعبهما ويتجاوزهما، وهو مستوعب في الوقت -نفسه- لتجارب الأنبياء والمرسلين وتعاليمهم، ويستهدف هذا الكتاب أن ينشئ ويبني أمة قطبًا ووسطًا، ويخرجها نموذجًا ومثالاً للناس باعتبارها خير أمة، إلى غير ذلك من خصائصه ومزاياه، وكلها ظواهر وجودية ذات وجود واقعي.  

المحددات المنهجية القرآنية

المحدد الأول: التوحيد محور الرؤية الكلية القرآنية

لقد جعل القرآن المجيد التوحيد[60]” منذ البداية محور “الرؤية الكلية[61]” وبها أصبح الإنسان قادرًا على بلوغ مستوى “الاستقامة والحيدة العلمية[62]” في فهمه لما حوله وتفسيره له، وفهم خواصه، وتحديد وسائله وأساليبه؛ لأن التوحيد من شأنه تحرير الإنسان عقلًا ونفسًا وقلبًا ووجدانًا من الخرافة والأوهام، والمشاعر السلبية وسائر الضغوط والتحيزات التي من شأنها أنْ تقلل الطاقات المعرفية الواعية لدى الإنسان.

و”التوحيد” مدخل تفسيري ذو قابليات هائلة، وقدرات متنوعة لتفسير آلاف الظاهرات النفسية والسلوكية والنظمية والمعرفية في مختلف المستويات، والتفسير الذِي يقدمه القرآن المجيد يؤدي إلى الفهم العميق لتلك الظاهرات، ويمكن من صياغة الأسئلة المعرفية، وتعليم الإنسان طرق الإجابة عنها، كما يمكنه من وضع المقدمات بأدق ما يستطيعه العقل البشري،  وتجنيبه الخطأ؛ فتصبح عملية الوصول إلى النتيجة منضبطة تستوعب “التنبؤ المنهجي” وتتجاوزه، وقد أطلق القرآن العقل البشري من عقاله بمنهج النظر الذِي جاء به، وحرره تحريرًا تاما من سلطان الكهانة والسحر والشعوذة، وقاده لمعرفة الطبيعة وغيرها مما يهم الإنسان معرفته ومنحه الشجاعة التامة والجرأة، والثقة بنفسه من خلال دعوته للعقل بأنْ يتفكر ويتدبر، ويتذكر ويفقه ويُبْصِر، ويتعـقل، ويُعلم ويتعلم، ويعرف،  ويدرك، ودربه على ألا يتهيب اقتحام أقطار السموات وحبكها، وفجاج الأرض وطبقاتها، ولا ظلمات أعماق البحار والمحيطات وتضاريسها، وألا يتردد في بناء وعيٍ عقلي وإدراك منطقي تسدده وتهديه وترشده أنوار الوحي وهدايته،  ليؤمن عن برهان ويسلم عن يقين؛ ويؤهل لممارسة “التزكية” في ذاته وأسرته ومجتمعه، و”العمران” في الكون الذِي استخلف فيه؛ وبذلك أسس القرآن للعقلانية التوحيدية.

المحدد الثاني: الجمع بين القراءتين

المنهج القرآني يساعد في الكشف عن القراءة التجزيئية والمعضّاة وتجاوزها إلى القراءة الجامعة و”الجمع بين القراءتين” قراءة الوحي وقراءة الكون، فالوحي ينبه إلى ما في الكون من عناصر ومؤثرات، وإلى ترابط الأسباب بالمسببات، وبين فعل الغيب في الواقع، وكيف يمكن رصد آثار هذا الفعل، وأين يبدأ الدور الإنساني وأين ينتهي أو يتوقف، والكون يساعد على فهم الوحي والوعي عليه وعلى قضاياه، وحسن قراءته، وكيفية استدعائه للحضور الدائم والشهود المستمر لترشيد المسيرة الكونية، وتحقيق أهداف وغايات الحق من الخلق.

ومحدد الجمع بين القراءتين يربط بين الغيب والواقع ويمكن من استخلاص محددات يُقرأ الواقع بها، ويمكن من الصياغة الدقيقة لإشكاليات الواقع والعروج بها إلى القرآن المجيد في “وحدته البنائية” للوصول إلى هديه في معالجتها.

وهكذا ينبغي أنْ نفكر في الآفاق وفي الأنفس حتى ترسخ في الأذهان والعقول والقلوب أن التغيرات التي تجري في عالم الخلق إنما هِي تغيرات نوعية تنبثق عن “صيرورة جدلية”، وأن حضارة عصرنا هذا، إنما هِي حضارة تقوم على ضوابط علمية للمنهج الوضعي، وهكذا سيكتشف العقل العلمي أن “الجمع بين القراءتين” على هذا المستوى الإدراكي كفيل بتقديم الحل الكافي والعلاج الشافي لأزمات هذا الواقع القائم على ما ذكرنا؛ لأن ذلك الحل بمستوى الأزمة، لا أقل منها ولا مقاربًا لها ولا مقارنًا لها، بل هُو مستوعب لها، ومتجاوز لأنه أرقى منها بكثير فيستوعب “الصيرورة وجدليتها”، ويستوعب “التغيرات النوعية”، ويستوعب «ضوابط المنهج العلمي» ويستوعبها بعد أنْ يقوم بنقدها وبيان ما يعتريها من قصور ناجم في جملته على الاعتماد على قراءة واحدة منفردة في الكون،  وإهمال لقراءة الوحي الإلهي والقراءة به.

وفي الوقت نفسه تقوم “المنهجية المعرفية القرآنية” باستيعاب وتجاوز “العقلية السكونية” التي انبثق عنها “فكر التكرار والتعاقب والتراكم والسببية” بدلاً من “الصيرورة والتغير النوعي وضوابط المنهج العلمية”.

إن “الفكر الماضوي السكوني” القائم على ما ذكرنا قد انحرف بكثير من المفاهيم الإسلامية وقطعها عن غاياتها وبيئاتها، وفهمها بطريقة تعد غاية في القصور، منها “قضية التجديد” حيث ربطت التجديد بواحد -فرد من الناس- يأتي في كل قرن ليقوم بعملية التجديد، وفي ذلك إلغاء للصيرورة وللمتغيرات النوعية وتجاهل لمجموعة كبيرة من السنن المرتبطة بها، فما يجري في قرن ما، أو في سنة يمكن تكراره وإعادة إنتاجه في قرن أو عقد أو سنة تالية، وفي إطار فردي، ولذلك فإن ابن عربي خرج بفكرة أن النبوة لم تختم بل انتقلت إلى الولاية، فكأنها انعكست على الولاية التي تقوم بمهام التجديد[63] بديلاً عن تتابع النبوات في الأمم الأخرى، وهذا أمرٌ مرفوض، فختم النبوة عام شامل.

إن سنن الله وقوانينه وآياته في الآفاق وفي الأنفس تحكم الإنسان وتحكم المظاهر الطبيعية كذلك، فمنْ أراد شيئًا فعليه أنْ يعمل على تحقيقه بمنهج وعلى علم؛ فلكسب الحروب والمعارك وسائلها وأدواتها ومناهجها، ولتكوين الثروات وسائله وأدواته ومناهجه، وكذلك الحال في كل شأن من شئون الدنيا والآخرة.

لمحدد الثالث: الوحدة البنائية للقرآن الكريم والاستيعاب الكوني

ومن هذا المنطلق ينبغي أنْ يجري التعامل معه باعتباره مصدر المنهجية الكونية، فلا تجوز تجزئته بحال، ولا يجري تجاوز شيء منه بحجة أنه “حمال أوجه[64]” أو أية حجة أخرى “تعالى الله عما يقولون علوا كبيرًا” ولا ينبغي تصنيفه إلى محكم ومتشابه، فكله محكم  ﴿كِتابٌ أُحْكِمتَ ـاياتُهُ ثُم فُصلتْ مِنْ لدُنْ حكِيمٍ خبِيرٍ﴾ (هود: 1) وكله يشبه بعضه بعضًا في إحكامه وإعجازه وتحديه والتعبد به ولغته وأساليبه وهدايته وتأثيره[65]. كما لا يجوز تصنيفه إلى محكم وشاذ، وإلى ناسخ ومنسوخ وغير ذلك مما يتداول الناس ولا يزالون يتداولونه حتى يومنا هذا. فذلك –كله- مخل بإطلاقيته، منافٍ لوحدته البنائية، عائد على إعجازه بالنقض؛ فالله –جل جلاله- قد قال: ﴿ولوْ كان مِنْ عِندِ غيْرِ اللهِ لوجدُواْ فِيهِ اخْتِلافًا كثِيرًا﴾ (النساء: 81) وأي اختلاف أكبر من الاختلافات بين الناسخ والمنسوخ والشاذ من القراءات والمتواتر منها، والمحكم والمتشابه وغير ذلك، والإيمان بالوحدة البنائية للكتاب الكريم يتجاوز بنا هذه المزالق كلها.

وذلك لأن القرآن -كما أكدنا- ولا نمل نؤكد يضم “منهجية كونية” وأنه بذلك يتميز “بوحدة بنائية” في كل آياته وفي سوره كافة، وهذه الوحدة تجعل من المحال أنْ يقع في القرآن تضارب أو اختلاف أو نسخ أو تعارض، وأن كلماته، بل وحروفه لا يمكن أنْ تكون ميدانًا للتأويلات الشاذة المتضاربة إذا تلي حق تلاوته، فمفرداته منضبطة في دلالتها انضباط النجوم في مواقعها من السماء؛ لأنها مصطلحات ومفاهيم إلهية، والفرق كبير بين اللغة التي يستخدمها وينطق بها الخالق البارئ المصور وبين اللغة التي يستخدمها البشر، فالمفردة القرآنية أحكم وضعها في الآيات، كما أن الآيات أحكم وضعها في السور لتكون -كلها- كتابًا محكمًا مفصلًا على علم الله –سبحانه وتعالى- متشابهًا مثاني يحدث من الآثار في العقل والنفس وفي الفرد والمجتمع ما لا يمكن لكلام آخر أنْ يحدثه مهما اجتهد المجتهدون في صياغته وبنائه،  ومهما علت درجة فصاحته وبلاغته.

ومن هنا نستطيع أنْ نتبين أن الرزية الأولى كانت حين تم إسقاط أحكام اللسان العربي البشري المتداول على القرآن،  فأدى ذلك إلى نسبة الترادف والاشتراك والتواطؤ والكناية والاستعارة والتورية والمجاز إليه، وأن هذه الأحكام حين طُبقت عليه فتحت أبوابًا واسعة للتأويلات التي تجاهلت منهجيته وغطت عليها، وجعلت عمليات إدراك العائد المعرفي المحدد لكل كلمة من كلماته أمرًا في غاية الصعوبة بعد أنْ أُلقيت على لغته كل تلك القضايا وظلالها، وكان من الواجب أنْ تسمو الهمم إلى إعداد أحكام خاصة بلغة القرآن تتناسب وإعجازه وتميزه، وتستمد من داخل البنائية القرآنية نفسها، فحين يقول الله تعالى: ﴿ولِتُصْنعَ على عيْنِي﴾ (طه: 39) فيجب أنْ ترتبط بواحد من الأدلة التي بناها القرآن للاستدلال على الألوهية، وذلك لأن لدينا محددًا نظريا منهجيا أكده القرآن؛ ألا وهو كونه –سبحانه وتعالى- أزليا منـزهًا عن الجوارح وعن الشبيه والمثال، وما قد يلازم ذلك، وأنْ تستمد معناها منه لتفيد “العناية” دون أنْ تحتاج إلى إخضاعها لقوانين الكلام العربي المذكورة، فتقول: هِي مجاز في العناية حقيقة في الجارحة،  أو أنها حقيقة في الجارحة لغةً، وحقيقة في العناية شرعًا، أو غير ذلك مما يفتح بابًا لتمييع المفاهيم والمصطلحات والكلمات القرآنية وإعطاء الفرصة لكل مفسر أو فقيه أنْ يختار أو ينتقي المعنى الذِي يرغبه فيضيع المنهج، ويصبح القرآن كتابًا لا يتحكم فيه نظمه وأسلوبه وعاداته في التعبير وسياقاته ومنطقه ومنهجه،  بل يحكمه القاموس اللغوي القائم على كلام البدو ومنطقهم، أما إذا أخذت المفردة القرآنية معناها، والعائد المعرفي لها في إطار المنهج القرآني ذاته، ومن ملاحظة نظمه وسياقه فإنها تنضبط في دلالتها المعرفية في إطار دليل كلي -هو “دليل العناية”- عناية الله الأزلي بعباده المؤمنين، والتأكيد على مزيد من العناية بذلك الذِي تم اصطفاؤه للرسالة.

إن هذه الفكرة أو المسألة لم تكن بعيدة تمامًا عن أذهان كبار فقهاء الصحابة الذين عايشوا رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وصحبوه وشاهدوا حرصه التام على ضبط النص القرآني بمنتهى الدقة، ومنعه القطعي من قراءته أو روايته بالمعنى، فذلك يؤكد أهمية الكلمة القرآنية في لغة القرآن، وكونها في مستوى المصطلح أو المفهوم لا يجوز تغييرها أو استبدالها بأي لفظ آخر، كما أن المسارعة إلى جمع القرآن وحفظ بعض كلماته كما نـزلت بقطع النظر عن فهمهم لمعناها -في إطار لغتهم القبلية- أو عدمه– مثل كلمة (أبا) في سورة (عبس). فكلمة (أبا) لم يفهمها القرشيون، وفي مقدمتهم عمر بن الخطاب الذِي تساءل عنها، ثم أبدى ندمًا على تساؤله ذلك، وحين أخبره الهذليون أنها من مفردات كلامهم وأن معناها (التبن) لم يقل: فلنستبدل (أبا) التي لا يعرف غير الهذليين معناها (بالتبن) التي هِي أكثر شيوعًا ويعرف معظم العرب معناها، بل توجه إلى نفسه وقال قولته المشهورة: “ما ضرك يا ابن الخطاب أنْ تجهل كلمة في كتاب الله” يعني؛ هل أحطت به –كله- لتجعل من تلك الكلمة سؤالا ضاغطًا عليك؟!

إن المحددات الثلاثة التي ذكرناها، وفي مقدمتها “الجمع بين القراءتين” ستكشف لنا عن استيعاب القرآن المجيد لمبدأ “الصيرورة”، ويعطي للصيرورة مدلولًا كونيا يستوعب المعنى الوضعي ويتجاوزه، وسنكتشف أن القرآن المجيد حين أكد أن سنن الله وقوانينه لا تتحول ولا تتبدل، فإن ذلك لم يكن لنفي التحولات والمتغيرات النوعية في الكون، بل لبيان أن هذه السنن والقوانين مستقيمة بريئة من التناقض؛ فهناك سنة وقانون خلق الكون، وسنة وقانون خلق آدم، وسنة وقانون استخلافه واصطفائه، وهناك سنة وقانون الوحي وإنباء الرسل والأنبياء وإرسالهم إلى البشر، وهناك سنة وقانون اختصاص نيل العهد الإلهي بالمتقين، وأنه ﴿لا ينالُ عهْدِي الظالِمِين﴾ (البقرة: 123)، فتلك هِي سنن الله، وليس في ذلك -كله- ما ينفي التغيرات النوعية.

مما تقدم يتضح أن القرآن المجيد كتاب واحد في بنائه و”وحدته العضوية البنائية”، وكل مفردة من مفرداته محفوظة بهذه “الوحدة البنائية”، وأن “الجمع بين القراءتين” أهم خطوة منهجية وأبرز محدد منهاجي يساعد على كشف وتحديد بقية المحددات المنهاجية القرآنية، واتضح لنا مما تقدم أن في مقدور القرآن العظيم الذِي أنـزله الله –سبحانه وتعالى- وجعله كتابًا كونيا مطلقًا محيطًا بالكون وحركته، ولكل لفظ من ألفاظه دلالة مصطلحية يكشف عنها من خلال “الوحدة البنائية” له، وبالقراءات المتدبرة المتعقلة المتفكرة المتذكرة المرتلة.

و”الجمع بين القراءتين” الذِي أمرنا به ليس من قبيل التنويه بفضيلة من فضائل القرآن، بل لندرك أن الجمع إنما هُو خطوة منهجية تتوقف على معرفة منهجية وفلسفة العلوم الطبيعية، ليتم الجمع بينهما وبين منهجية القرآن المعرفية بالشكل المنهجي.

ـ أزمات المنهج العلمي المعاصر

لقد أفضى الفكر القائم إلى أن الظاهرة الطبيعية والعلمية ظاهرة غير قابلة للتكرار بنفسها، كما أنها لا تتعاقب بل هِي ظاهرة سائلة على مدى الزمان، وكذلك المكان فهِي “صيرورة” تؤدي إلى “التقدم” المستمر نحو الأمام؛ إلا أن هذه الصيرورة تتقطع على ما يعرف “بالجدل”. و”الجدل” يقوم بتكوين “المتغيرات”، فالصيرورة لا توصل إلى حكم محدد قاطع أو جامد، ولكنها تنتهِي إلى أمر نسبي أو احتمالي، والنسبية والاحتمالية لو تركتا على حالهما، فإنهما سيهدمان “المنهج” في النهاية، وسيقضيان على أهم ما فيه من ضبط وصرامة، وتلافيًا لهذا برز ما يمكن تسميته “بعلم الفوضى[66]“؛ أي علم كيفية محاولة التحكم في الفوضى، وهو علم يحاول أنْ يؤسس «للناظم المنهجي» في ظل النسبية والاحتمالية ليتجاوز بعض مظاهر الفوضى الحاصلة بسببهما؛ فهو محاولة لاستيعاب أو تقليل آثار النسبية والاحتمالية على “صرامة المنهج وضبطه”؛ إذ أن المنهج لو انهار لأدى ذلك إلى انهِيار الصرح العلمي الذِي بلغته البشرية كله، ولدمرت إنجازات البشرية عبر قرون.

إن الأمر يشبه عند بعض العلماء وضع حدود إطارية مرنة لاستحالة التنبؤ بالتقلبات المناخية المفاجئة أو معالجة الأعداد الكسورية عند الرياضيين. لذلك فيمكن اعتبار الفوضى جزءًا لا يتجزأ من النظام ذاته، ولكنه قابل للاحتواء أو يمكن اعتبارها نقطة تفرد عارية (بالتعبير الفيزيائي المعروف) بوصفها استثناءً من القاعدة ينحو أحيانًا،  نحو التوسع.

وفي ظل تلك الجهود التي لا تتوقف لاحتواء النقائض ومواجهة الإشكاليات تم التأسيس لفرع آخر من فروع المعرفة وهو ما عرف “بعلم الجهل”، ولا ينبغي أنْ يتبادر إلى أي ذهن أن “علم الجهل[67]“، إنما يؤسس للجهل، لا بل هُو علم يحاول -أيضًا- الإعانة على احتواء آثار “النسبية والاحتمالية[68]” على المنهج العلمي وتجاوزها، وذلك بطريق الحيلولة بين الإنسان ورفض ما يجهل، فما يجهله الإنسان؛ لأنه لا يخضع لمقاييسه المنهجية، أو لم ينبثق عنها لا ينبغي أنْ يرفضه، بل ينبغي أنْ يتابع جهوده في دراسته ومحاولة معرفته، وهنا تسقط القاعدة القائلة: “كل ما لا يخضع للحس والتجربة فهو مما لا يعد داخلا في نطاق العلم” فيمكن أنْ يكون خرافة أو ميتافيزيقيا أو أي شيء آخر إلا أنْ يكون علمًا. وهذه القاعدة مما لا تزال قاعدة دستورية لدى اليونسكو المعبرة عن رؤية مشتركة إلى حد كبير بين دول العالم. فـ”علم الجهل” يؤكد ضرورة استمرار البحث لمعرفة ما لم نعلم، ولا يحق لنا إخراجه من ميادين البحث لمجرد عدم إمكان إدراجه تحت مناهجنا البحثية والحتمية القائمة وضوابطها. فهناك أمور كثيرة في هذا الكون لا نستطيع رفضها لمجرد عدم قدرة مناهجنا التجريبية والحسية على الكشف عنها، أو التعامل معها، ومنها ظاهرة “الوحي” أو “الغيب” بعامة، وذلك قد أوجد استعدادًا لدى العقل الإنساني المعاصر للبحث فيما يجهل أيًا كان هذا الذِي يجهله ولو بمناهج أخرى، وأغلب دراسات علم الباراسيكولوجي وغيرها من غرائب القدرات والملكات الاستثنائية تقوم على هذا المنطلق. ولعل في ذلك شيئًا من دلالات قوله تعالى: ﴿سنُرِيهِمُ ءاياتِنا فِي الاَفاقِ وفِي أنفُسِهِمْ حتى يتبين لهُمْ أنهُ الْحق﴾ (فصلت: 52). وبقدر ما في هذه الأمور من فوائد، فإن فيها مخاطر كبيرة على الإنجازات المعرفية الهائلة التي بلغتها البشرية، وهذه الأزمات تمثل جانبًا أساسيا من جوانب “أزمة المنهج”.

ومما يبرز أزمة المنهج مقولات نهاية التاريخ وصراع الحضارات التي تمثل ردة حقيقية عن المنهج والعلم ومعطياته، وتجعله بمثابة جاهلية حقيقية، أو تصيره مندرجًا تحت العلم المذموم، وما هُو بذلك. فللعلم قواعد ومناهج وله روح وغايات ومقاصد، فإذا فصل بين العلم وروحه فقد تأثيره العمراني وتحولت منتجاته ومعطياته إلى وسائل دمار شامل كما هُو حاصل اليوم.

وليس صحيحًا ذلك التصور القائل إن الحضارة المعاصرة تملك الوسائل التي تمكنها من تصحيح مسارها ذاتيا، وتجديد ما يُبلى من وسائلها بنفسها؛ إذ أن أي مصدر غير كوني لا يملك أنْ يقدم اليوم للبشرية العلاج الناجع من داخل الفكر البشري بعد أنْ بلغت الحضارة هذه المديات من التأزم، وبلغت التحديات التي تواجهها مثل ذلك المستوى، ونخشى لو استمر العلم يترنح في أزماته على أيدي ذلك النوع من أنصاف العلماء الذين ﴿يعْلمُون ظاهِرًا من الْحياةِ الدنْيا وهُمْ عنِ الاَخِرةِ هُمْ غافِلُون﴾ (الروم: 6) أنْ يتراجع تراجعًا خطيرًا باتجاه الخرافة، أو الغيبية السلبية والغنوصية[69] ونحوها من الاتجاهات البائدة.

ـ ضرورة المراجعة

احتلت قضايا المراجعات في تراثنا الإسلامي وتاريخنا الفكري أهمية كبيرة، ذلك لأن علماءنا أدركوا في وقت مبكر أن منْ لا يراجع تراثه بنفسه ومن منطلق الالتزام به، فسوف يراجعه له خصومه وأعداؤه بعين سخط، وقد تنال منه فتزيف قضاياه، وتشوه موضوعاته، وتغير طبيعته.

إن علم المراجعات جدير بأنْ نعمل على إرساء مبادئه وقواعده؛ ليأخذ شكله العلمي الدقيق المتميز، وتتيسر دراسته، والمهارة فيه وإتقانه وتداوله بين الباحثين؛ لتنضجه حوارات العلماء وجهود الباحثين؛ ويصبح بذلك علمًا يتخذ من “العلوم والمعارف النقلية” خاصة -دون نفي لإمكان التعميم- موضوعًا وميدانًا لبحثه ودراسته، فيعمل على دراسة وتحليل النظم والأنساق المعرفية التي تكونت هذه المعارف في إطارها، ومراجعة نظرياتها المعرفية ومصادرها ونماذجها ومناهجها وفلسفتها وتاريخها وآثارها ونتائج تفاعلها مع الإنسان والكون والحياة.

ـ أُسس وقواعد المراجعة

في هذا الميدان الذي نعمل على تأسيسه وبناء قواعده وأركانه ليصبح علمًا، يمكن أن نطلق عليه “علم المراجعات” ننبهه إلى أننا وفقًا لقواعد هذا العلم الوليد نعمل على مراجعة “علومنا الشرعية”، و”معارفنا النقلية” المروية وفقًا لمجموعة من القواعد والأسس في مقدمتها:

1. مدى اتصال تلك المعارف أو العلوم بالكتاب الكريم اتصالا يجعلها قادرة على الاستجابة لقواعد التصديق والهيمنة القرآنية والاستيعاب والتجاوز القرآنيين كذلك” باعتبار القرآن المجيد هو المصدر المنشئ للعقيدة والشريعة والنظم التي بني الإسلام عليها، والذي هو مدار هذه المعارف كافة سواء أكانت علوم مقاصد أو وسائل.

كما أن القرآن المجيد اشتمل على الكليات والمقاصد العليا الحاكمة -التي نستطيع بمقايسة هذه العلوم النقلية إليها أن نبين ما إذا كانت هذه العلوم قادرة على خدمة تلك المقاصد والغايات أو لا؟ وخاصة “المقاصد القرآنية العليا الحاكمة” “التوحيد التزكية العمران”.

وفي الوقت نفسه يتضح لنا بذلك ما إذا روعيت تلك الكليات في تناولات تلك العلوم ومسائلها، والملفات التي تكونها.

2. مدى اتصالها بالسنة النبوية، حيث مثلت هذه السنة في حياته –صلى الله عليه وسلم- إضافة إلى تبليغ القرآن وتعليم الناس آياته وتزكيتهم بها، تطبيق ما جاء القرآن به وتأويله وتفعيله في الواقع المعيش، فكان شخصه -صلى الله عليه وسلم- يمثل المنهج” الذي على كل من يريد اتباع القرآن التأسي به في تطبيقه وتحقيق ما جاء به في واقع الحياة.

أما بعد وفاته –صلى الله عليه وسلم- فكانت روايات أصحابه وأهل بيته وآله – لكل تفاصيل حياته الشريفة وممارساته بمثابة المنهج البديل الذي يساعد في حسن تطبيق ما جاء الكتاب الكريم به، وتمثيله في واقع الحياة، ولذلك فإن مقايسة هذه العلوم إلى السنن النبوية تعد مسألة أساسية؛ لأنها بمثابة عرض المسائل الجزئية والفرعية على “المنهج الكلي” للتحقق من انضباط تلك الجزئيات والفرعيات بالمنهج النبوي الدقيق الصارم المسدد بالوحي الإلهي.

3. إن علماء الأمة بعد عصر التدوين قد حددوا لهذه العلوم جملة من المبادئ بحسب تعبيرهم، اعتبروا تحقق أي علم بتلك المبادئ -كلها- شرطًا أساسيا لاعتباره علمًا وهي حده، وغايته، وفائدته، ومصادره، وموضوعه، والملكة التي يمكن له أن يكونها في نفس المتلقي له.

4. ونود أن نضيف هنا، عاملا آخر، وهو عامل “الزمن”. إذ أنه ما دام لكل علم تاريخ ولادة وظروف نشأة، فذلك يعني أنه ذو ارتباط بزمان ومكان وبيئة ومجتمع، من المهم -جدًا- عند مراجعة ذلك العلم، ومحاولة الكشف عن إيجابياته وسلبياته ملاحظة ذلك كله، وهذا ما يطلق عليه “علم اجتماع المعرفة”، وهو أحد فروع “علم الاجتماع” التي جاوزت الستين علمًا.

إن للظرف الزماني تأثيرًا على المنتج المعرفي، فأحيانًا نلاحظ أن المنتج المعرفي يتذبذب بين حالتي اعتدال وتعصب، وحالتي تجديد و تقليد، وأحيانًا نلاحظ “اعتدالا علميا أو معرفيا” يحملنا على الإحساس بأن وراء ذلك الاعتدال فكرة مدروسة بعناية انعكس نقاؤها على ذلك المنتج ليجعل منه منتجًا معتدلا، وكذلك قد نلاحظ عكس ذلك.

ـ مداخل المراجعة

المدخل الأول: المراجعة في ضوء النسق القرآني

تتأسس عمليات المراجعة على فهم “النسق القرآني” الذي عمل رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بالقرآن على تأسيسه، وإرساء دعائمه، وتوريثه للذين أورثهم الله الكتاب، واصطفاهم لحمله: ﴿ثُم أوْرثْنا الْكِتاب الذِين اَصْطفيْنا مِنْ عِبادِنا، فمِنْهُمْ ظالِمٌ لنفْسِهِ، ومِنْهُم مُُقْتصِدٌ، ومِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ، ذلِك هُو الْفضْلُ الْكبِيرُ﴾ (فاطر: 32).

فما المراد بالنسق القرآني؟ وما مفرداته الأساسية؟

يراد بـ”النسق القرآني” تلك المنظومة المترابطة المحكمة التي تمثل إطارًا يُرجع إليه، ويُنطلق منه في بناء الأفكار الإسلامية -على تنوعها- ومراجعتها وتقويمها واختبار نتائجها، ويقوم النسق القرآني -على سبيل الإيجاز- على ما يلي:

1.   التوحيد

يُعد “التوحيد” أس الهرم وقمته في هذا النسق القرآني، و”التوحيد” هو الإقرار والاعتراف النابع من اليقين بأحدية الله –سبحانه وتعالى- ووحدانيته، وتفرده –سبحانه وتعالى- تفردًا مطلقًا في كل ما هو مختص به، من الألوهية والربوبية والأسماء والصفات، والإقرار -عن يقين- كذلك بانتفاء أضدادها ومنافياتها عنه –جل جلاله. و”التوحيد” أساس الدين -كله- فما من أمر كلي أو جزئي، أصلي أو فرعي، مقاصدي أو تعبدي، عقدي أو شرعي، نظمي أو أخلاقي، إلا هو قائم على “التوحيد” منبثق عنه، وإن لم يكن كذلك فليس من الدين، ولا يكون من التدين في قليل ولا كثير، بل هو إلى البدعة والانحراف أقرب. فالتوحيد جوهر رسالات الرسل والأنبياء كافة: ﴿ولقدْ بعثْنا فِي كُل أُمةٍ رسُولاً اَنِ اعْبُدُواْ الله واجْتنِبُواْ الطاغُوت، فمِنْهُم منْ هدى اللهُ، ومِنْهُم منْ حقتْ عليْهِ الضلالةُ، فسِيرُواْ فِي الاَرْضِ فانظُرُواْ كيْف كان عاقِبةُ الْمُكذبِين﴾ (النحل: 36).

وللتوحيد انعكاسات وتجليات متنوعة على جوانب كثيرة وهامة من مناحي الحياة المختلفة[70]، وما يهمنا في هذا المجال هو انعكاسات وتجليات “التوحيد” على قضايا المعرفة، حيث إن للتوحيد تجليات كثيرة مؤثرة على الدواعي والدوافع المحركة للإنسان نحو المعرفة وموضوعاتها، وتحديد مصادرها، ومسائلها، ومضامينها ومناهجها، وطرق بنائها وإيجاد ملكاتها، وللإجابة عن أسئلتها، ومنها: “ما هو”؟ و”أي شيء هو”؟ وماذا؟ وكيف؟ ولماذا؟ وتحديد ما يليق أن يكون موضوع تساؤل، وما لا ينبغي أن يكون موضوع تساؤل و”التوحيد” يمثل حجر الزاوية في تكوين وبناء “الرؤية الكلية” للكون والحياة والإنسان. كما أن “التوحيد” يوضح حدود وأبعاد الدور الإنساني في الكون والحياة، وفي الوقت نفسه يحقق “التوحيد” قدرة هائلة على صياغة المفاهيم الضرورية لبناء فاعلية الإنسان وقدراته على تحقيق التزكية وتشكيل دوافع العمران والتسامي فيه.

كما أن “التوحيد” يمكن الإنسان من معرفة جملة القضايا التي عجزت الفلسفات البشرية ومصادرها عن بيان حقائقها، ومنها حقيقة الإنسان ومكانته، ودوره في الحياة، ومصادر تقييم فعله، وعلاقته بالكون والطبيعة، وحقيقة الحياة وحقيقة الموت، والتاريخ والصيرورة، وحقيقة الزمن واليوم الآخر، والدار الآخرة، وعلاقة الخالق بالمخلوق، وكيفية التمييز بين الحق والباطل، والإجابة عن “الأسئلة النهائية” وغيرها من أمور لا يمكن أن تُحدد علاقات الإنسان بواقعه الاجتماعي بدونها، وحين نريد القيام بمراجعات للمعرفة للتأكد من سلامة مناهجها، وعلمية مسائلها، وصحة متعلقاتها، ودقة ما تكون من ملكاتها في عقلية الإنسان، وقدراتها على تحقيق مقاصدها فإن “التوحيد” يهيئ للباحث منهجًا في غاية الدقة لمراجعة ذلك -كله- ونقده، والتأكد من أن المعرفة التي تجري مراجعتها من الممكن أن تعاد إلى وضع يحقق مقاصدها وأهدافها بشكل سليم.

و”التوحيد” في هذا المجال لا يمكن الاستعاضة عنه بأي شيء سواه لمراجعة “العلوم النقلية” التي تأسست في مناهجها ومسائلها ومبادئها وقضاياها وملكاتها ومقاصدها وأهدافها لاستجلاء معاني الكتاب الكريم، وبيانه العملي والتطبيقي والقولي في منهج قائم على صحيح السنة النبوية المطهرة؛ فالتوحيد ثم بقية محددات “النسق القرآني” هي الأقدر على تقويمها ونقدها، ومعرفة مدى التزامها بمبادئها الأساسية التي يفترض أن تُقاس إليها وبها. كما أن “التوحيد” ثم بقية محددات “النسق القرآني” تشكل مداخل نقدية أساسية لا يمكن الاستغناء عنها في أية مراجعة معرفية جادة لأي جانب من جوانب المعرفة، خاصة “معارفنا النقلية أو الشرعية”.

كما أن “التوحيد” مدخل تفسيري شديد التأثير، كبير القدرة على تفسير كثير من الظواهر الاجتماعية والعمرانية، ومضاداتها ومنافياتها، إضافة إلى قدراته المتنوعة في التنبيه على السنن والقوانين المبثوثة في الأنفس والآفاق، التي لا تخفى ضرورة معرفتها العلمية والمعرفية.

2.   التزكية

للعلم والمعارف والخبرات والتجارب وظائف وأدوار أساسية، فالقرآن المجيد لم يطلب من الإنسان التعلم وطلب المعرفة لذات العلم والمعرفة، أو للاستعلاء والاستكبار في الأرض، ودعوى الاستقلال عن الله –سبحانه وتعالى- بالعلم، ولذلك فإن القرآن المجيد ربط بين العلم والتزكية، فالتزكية غاية من أهم غايات التوحيد، ومقصد من أهم مقاصد الدين، ومحور من أهم المحاور الثلاثة التي دارت حولها آيات الكتاب الكريم.

و”التزكية” باعتبارها مفهومًا واسعًا، ودعامة من دعائم المقاصد والقيم العليا الحاكمة، تمثل ثمرة من ثمار العلم، ونتيجة من نتائجه. كما أن التزكية تؤدى إلى أن يمارس العلم والتعلم ممارسة إسلامية هادفة يتلازم فيها العلم والعمل في إطارٍ من القيم، وإذا كانت التزكية تعود على العملية التعليمية بما يعرف بـ”الاستقامة العلمية” فإن “العلم والمعرفة” تزكية للعقل وإنماء “لقوى الوعي الإنساني”، وجعلها قادرة على ممارسة دورها بالشكل الذي رسمه الخالق البارئ المصور لها، فلا تكون معطلة محجوبة مثل قوى أولئك الذين وصفهم الله تعالى بقوله: ﴿لهُمْ قُلُوبٌ لا يفْقهُون بِها ولهُمُ أعْيُنٌ لا يُبْصِرُون بِها، ولهُمْ ءاذانٌ لا يسْمعُون بِها، أُوْلئِك كالاَنْعامِ بلْ هُمُ أضل أُوْلئِك هُمُ الْغافِلُون﴾ (الاَعراف: 179) فهؤلاء خرجوا بتعطيل قوى الوعي فيهم، وأُلحقوا بالأنعام والبهائم والدواب، فلم تعد تلك القوى قادرة على مساعدتهم وإعادتهم إلى حالة “التزكية” ليكونوا بشرًا سويا، قادرين على حمل الأمانة، ومهام الاستخلاف، والوفاء بالعهد الإلهي، والنجاح في اختبار الابتلاء، فالتزكية تصبح ميزانًا نـزن به فنون العلم والمعرفة؛ لنميز بين العلم النافع والعلم الضار والقبيح منه والحسن، والممدوح منه والمذموم، وتصبح التزكية مع المحدادت الأخرى “بوصلة هادية” في ميادين العلم، وآفاق المعرفة والفنون والآداب، والتقوى ثمرة “التزكية” والملكة التي تتكون بها وأساسها في الوقت ذاته، وقد ربط الله –سبحانه وتعالى- بين التقوى وتعليمه الإنسان ربطًا محكمًا، فقد قال جل جلاله: ﴿واتقُواْ الله، ويُعلمُكُمُ اللهُ﴾ (البقرة: 281) فهي ملكة إذا حصلت للإنسان ومارسها هيأت قوى وعيه، وشحذتها، وجعلتها ذات قدرة على إدراك الحقائق كما هي، وأضعفت كثيرًا من موانع المعرفة الحقيقية والصوارف عنها، وأبعدتها عن العقل والمنهج، وحين غُض النظر عن مبدأ الارتباط بين المعرفة والقيم برزت مجموعة من المشكلات الكبرى، التي هددت وما تزال تهدد البشرية كلها في أمنها وسلامتها وبيئتها، وكل شيء فيها.

3.  العمران

ثم يأتي “العمران” بعد “التوحيد” و”التزكية” وهو ثالث “القيم العليا الحاكمة”. و”العمران” جوهر الفعل الإنساني في الكون وغايته، وبه تتجلى استفادة الإنسان من التسخير الإلهي للكون، وجعله تحت تصرف الإنسان المستخلف؛ ليحقق غاية الحق من الخلق في إعمار الكون، فأي نوع من المعارف أو العلوم ينافي هذه المقاصد العليا، أو يعارضها كلا أو جزءًا فإن تلك المنافاة أو المعارضة تخرج ذلك النوع من العلم والمعرفة من دوائر العلم النافع والمحمود. كما أن طلب العلم إذا لم يكن لغاية وهدف تدخله في أسس أو وسائل تحقيق هذه المقاصد، فإنه يصبح نوعًا من العبث.

أما المعارف التي تخدم هذه القيم وتعززها، فإنها علوم ومعارف نافعة من المطلوب تعلمها ونشرها، والعناية بها.

المدخل الثاني: المراجعة في ضوء القرآن المجيد باعتباره المصدر المنشئ للعقيدة والشريعة

مراجعة العلوم النقلية على القرآن المجيد، باعتباره المصدر المنشئ للعقيدة والشريعة؛ لتحديد صلاتها وعلاقاتها بالقرآن أصولاً وقواعد وكلياتٍ وجزئيات، فللقرآن المجيد -كما تقدم- مقاصده العليا الحاكمة، وكلياته، وسننه وقوانينه، ومحدداته المنهاجية، وخصائص فهمه وفقهه ومحاوره، وخصائص شريعته، وسننه في بناء العلاقات المتنوعة، ومنهجه في نظم وسنن قيام الأمم والحضارات وقوانين تراجعها، فإلى أي مدى اعتمدت هذه العلوم في نشأتها وسيرورتها وتطورها وتكوين مسائلها على القرآن المجيد؟!

ويؤكد القرآن الكريم على “الجمع بين القراءتين” قراءة الوحي بالكون، وفهم أبعاده وسياقاته به، وقراءة الكون بالوحي لفهم علاقاته وسننه وقوانينه، والجدل الذي يدور بينه وبين الإنسان والغيب، وكل ما هو هام لتحقيق مهمة الاستخلاف الإنساني والعمران الكوني، كما أن القرآن يذكر دائمًا بضوابط “المعرفة العلمية”. والفرق كبير بين أن نعتمد في إنشاء معارفنا على القرآن ومنهجه وبين أن ننشئ تلك المعارف ثم نعضدها بشواهد قرآنية.

المدخل الثالث: المراجعة في ضوء مقومات العصر النبوي

أن تُراجع تلك العلوم في ضوء مكونات ومقومات العصر النبوي، باعتباره عصر التلقي والتطبيق، بمنهج يقوده الوحي ويسدد حركته في الحياة بالتوجيه الإلهي الذي شكل السيرة والسنة المطهرة.

المدخل الرابع: المراجعة في ضوء المبادئ العشرة

أن تُراجع تلك العلوم في ضوء مبادئها العشرة[71] التي حددها لها علماؤها، لمعرفة مدى انضباطها بتلك المبادئ، وهل حدثت في مسيرتها انعطافات عن تلك المبادئ؟ وما تلك المنعطفات؟ فذلك يمكننا من تحديد ما ينبغي علينا أن نوليه عناية أكبر عند المراجعة.

المدخل الخامس: المراجعة في ضوء آثار تلك العلوم في الواقع

أن تُراجع تلك العلوم في ضوء آثارها الايجابية والسلبية في الواقع بكل مكوناته وعناصره؛ أي آثارها في الثقافة والحضارة والفكر والتصورات، والفاعلية والدافعية والإرادة في ضمير الأمة. ودورها في حماية الحريات وتدعيم وحدة الأمة، وإيجاد القنوات اللازمة لاستيعاب القوى والطاقات الجديدة التي يفرزها المجتمع[72].

المدخل السادس: المراجعة في ضوء الفاعلية في معالجة قضايا الأمة

أن تُراجع تلك العلوم في ضوء فاعليتها في معالجة قضايا الأمة، ومدى قدرتها على تطوير مؤسساتها.

المدخل السابع: المراجعة في ضوء الاستقامة العلمية

أن تُراجع العلوم النقلية في ضوء الموضوعية والحيدة والاستقامة العلمية، ومدى تحققها فيها، ونسبة الذاتي والمعرفي والمنهجي فيها، ومدى قدرة مسائلها وقضاياها على بلوغ مستوى العلمية، والقدرة على استيعاب المستجدات ومعالجة الجديد من المشكلات.

المدخل الثامن: المراجعة في ضوء نوع العقل الذي صيغت بتأثيره

أن تُراجع تلك العلوم في ضوء الصياغات العقلية، وتحديد نوع العقل الذي أثر في صياغتها، أهو العقل الفطري أم العقل الوضعي أم العقل الموضوعي أم العقل العلمي أم العقل الاجتهادي أم العقل الاستنباطي أم العقل التقليدي؟!

المدخل التاسع: المراجعة في ضوء القابلية للنقد المنهجي

أن تُراجع تلك العلوم -أيضًا- في ضوء قدرتها على تقبل النقد المنهجي وصمودها أمامه، وقابليتها للانضباط بالمناهج المتطورة والاستفادة بها، والثبات عند العرض عليها.

المدخل العاشر: المراجعة في ضوء القدرة على التجدد الذاتي

أن تُراجع تلك العلوم -كذلك- في ضوء قدراتها على التجدد الذاتي في أصولها وفروعها ومسائلها، أو قبول التجديد عندما تتعرض له، ومدى قدرتها على استيعاب المستجدات من القضايا والمسائل والمناهج والنماذج المعرفية، وقدراتها الكامنة التي يمكن أن تُسهم في هذا التجدد؟ وهل يمكن أن تتوقف هذه العلوم عند مستوى معين؟

هذه المداخل أو المبادئ المعرفية تستطيع أن تُشكل أسسًا لبناء “علم للمراجعات” حيث يمكن أن يتشكل من المعايير والموازين السابق تفصيلها، بالإضافة إلى أية معايير أخرى يُمكن أن تُكتشف في عمليات المراجعة.

فلابد لمن يقوم بهذه المراجعات أن يكون ذا علم بالقيم القرآنية، والكليات القرآنية، والمقاصد القرآنية العليا الحاكمة، وسنن القرآن الكونية والاجتماعية وقوانينه، والمفاهيم القرآنية وما يُطلق عليه البعض “النظريات القرآنية”، وكيفية التعامل مع المحددات المنهاجية القرآنية، ومنها: “الوحدة البنائية” و”الجمع بين القرائتين” و”التصديق” و”الهيمنة” و”الاستيعاب” و”التجاوز”.

وهذه المداخل والمبادئ التي ذكرناها لا تعتبر نهائية -كما أشرنا- إذ يمكن الإضافة إليها أو إدخال تفصيلات عليها، وذلك شأن العلوم في بدايتها، تحتاج إلى كثير من المرونة والانفتاح إلى أن يجري تداولها بين المختصين وتنضجها أقلامهم ومداولاتهم؛ لتستوي على سوقها وتتكامل في بناءها بعد أن تنضجها حوارات العلماء وجهودهم ومراجعاتهم وإضافاتهم.

ـ عوائق أمام المراجعة

أستطيع أن ألخص بعض الأسباب التي حالت بين كثير من علمائنا وبين مراجعة التراث.

1. عدم الربط بين تردي أوضاع الحاضر وكسب الناس

قليلون جدا هم الذي يستطيعون أن يدركوا العلاقة الوثيقة بين تردي أوضاع حاضر معين وثقافة وأفكار ماض متجذر، فلو سألنا علماءنا الذين عاصروا غزو الصليبيين لبلاد المسلمين، أو الذين عاصروا غزو التتار لبلاد المسلمين عن هذه العلاقة بين الماضي وهذا الحاضر، فسوف نجد قليلا جدا من الإشارات التي تشتمل على تحليل ضعيف، وكثيرًا ما تحال هذه الأمور إلى عموميات مثل الانحراف عن الكتاب والسنة، والانحراف عن سيرة الصدر الأول، وغير ذلك. وهذا صحيح ولكن على مستوى العموميات، وفرق كبير بين أن تحيل الأمر إلى شيء عام وتترك للناس أن يحملوا هذا العام على الواقع، وبين أن تضع أيديهم على تفاصيل ترجعها إلى أشياء محدودة.

أذكر أن ابن السبكي –وهو من علماء أواخر القرن السابع وأوائل القرن الثامن الهجري- له كتاب لطيف جدا حتى في عنوانه “معيد النعم مُبيد النقم” يتوقع مثلي حينما يقرأ هذا الكتاب أن يجد فيه نوعًا من التحليل لقضية البلاغ للأوضاع وللأحداث التي مرت بها الأمة؛ لكن ذلك لم يتم كما يجب. هذا مع أن القرآن الكريم يمكن أن يُبْنى منه على تام من أوله إلى آخره ممكن أن تسميه علم الحضارات. كيف تنشأ الحضارات، وكيف تسمو، وكيف يبدأ خط الانحدار؟

ثقوا لو أننا تتضافرنا على دراسة القرآن الكريم مع شيء من الوعي على قضايا العمران، كما جاءت عندنا، وبعقل خلدوني لاستطعنا أن نخرج بعلم كامل. ولكن مع ذلك أدبياتنا ذات الصلة، وهي كثيرة جدّا، ومنها كتاب السبكي، تخلو من عمليات التحليل الدقيق التي يمكن أن يمسكها الخلف حتى يتجنبوا الوقوع في دائرة التراجع والانحسار.

وحين ساد الفهم الجبري وأساء المسلمون فهم القضاء والقدر وأصبحت الأمور تحال إلى القدر. فالله سبحانه وتعالى هو الذي سلط علينا الاستعمار، وأصابنا بكل الذي نشكو منه، دون أن تحصل مراجعة لما كسبت أيدينا مع أن الله تعالى قال: ﴿ما أصابك مِنْ حسنةٍ فمِن اللهِ، وما أصابك مِنْ سيئةٍ فمِنْ نفْسِك﴾ (النساء: 78) فابحث في نفسك، في فكرك في عملك، ابحث في سياستك، ابحث في تراثك، لكي تدرك أين موطن القصور، بالنسبة إلى عصرنا هذا، أصبحت قضية المراجعة للتراث تقريبًا عند بعضنا هي والإلحاد والانحراف بمستوى واحد، فأيّة دعوة للمراجعة وأي صوت يرتفع داعيا إلى المراجعة، يوصم بالانحراف وعلى الأقل يواجه بالريبة وسوء الظن.

2. المحافظة على الهوية وبراءة الماضي

يلزمنا أولاً فك الارتباط بين معطيات التراث ونصوص الكتاب والسنة. ومن الإشكاليات التي يلزمنا مواجهتها، نحن أبناء هذا العصر، أن المحافظة على الهوية؛ هويتنا، شخصيتنا، تاريخنا، تكويننا، ثوابتنا، أمر لا ينفصل عن التراث، وأيّ مس بهذا التراث زعزعة لثقتنا بثقافتنا وبأنفسنا، خاصة وأن القرنيين الأخيرين كانا فترة صراع بيننا وبين خصوم أشداء، فأوروبا قسمت ديارنا وأساءت إلينا وفرضت علينا ما تشاء، ولم نستطع أن نستجمع ما بقى من قوانا للتخلص من استعمارهم المباشر إلا ببقايا الهوية، التعرض للتراث يعتبر بمثابة التعرض للهوية، وبالتالي فإنه واجه أشد المقاومة وأشد الرفض النفرة. كما أن قيادات حركة الإصلاح خلال القرنيين الأخيرين استعملت التراث كأداة تحريضية، ثم ولتكثيف ثقتنا بهويتنا لكي تصمد أمام الاجتياح، ولكي ترد هذا الاجتياح وتقاومه لدينا، تذكر بأن الماضي أي ماضي حتى ماضي والدي أو ماضي أنا قبل 20 عامًا أو 30 تحكم عليه بالبراءة والأفضلية، وتحكم له بأنه خير من الحاضر أيا كان، والماضي بريء، الماضي صالح.

أمسي أحسن من يومي، نـزعة أصبحت جزءًا من نفسيتنا وحاجزًا من الحواجز والحجب الكثيرة التي لا تسمح لنا بعملية النقد؛ بل أحيانًا نؤصل له، نحمل قول الله جل شأنه ﴿تِلْك أُمةٌ قدْ خلتْ، لها ما كسبتْ، ولكُمْ ما كسبْتُمْ، ولا تُسْئَلُون عما كانُوا يعْملُون﴾ (البقرة: 140) على غير وجهة، اترك الماضي ما دام أنت لا تريد أن تبرئه وتؤمن ببراءته وبوجوب إعادة إنتاجه، أو يقول: دعونا نتجاهله؛ لأن البحث فيه يخشى أن يوصلنا إلى ما لا نحب.

بينما يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿ولقدْ اَهْلكْنا الْقُرُون مِنْ قبْلِكُمْ لما ظَلمُوا﴾ (يونس: 13)، ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الاَرْضِ ثُم انْظُرُوا كيْف كان عاقِبةُ الْمُكذبِين﴾ (الانعام: 12)، ﴿ولقدْ اَتوْا على الْقرْية التِي أُمْطِرتْ مطر السوْءِ، أفلمْ يكُونُوا يروْنها﴾ (الفرقان: 40). ومئات الآيات تجدها تشير إليه. ابحث عن نقاط الضعف ونقاط القوة فيه، حاول أن تعرف مواطن الإصابة، مواطن القوة، خطوط الاستقامة والانحراف عبر تاريخك وعبر تاريخ سواك، ليس تاريخك وحدك. والقرآن الكريم يكاد يكون ثلث آياته مكرسًا للنظر في ذلك. أما الانطلاق من الآية الكريمة ﴿قال اَدْخُلُوا فِي أُممٍ قدْ خلتْ مِنْ قبْلِكُمْ مِن الْجِن والاِنْسِ فِي النار،ِ كُلما دخلتْ أُمةٌ لعنتْ أُخْتها﴾ (الاعراف: 36) فهو شأن الذين يحاولون أن يبرئوا أنفسهم وينسبون مصائبهم لسواهم في ماضٍ أو مستقبل أو في حاضر دون دراسة تاريخهم، لا، وهؤلاء لن تجديهم هذه المحاولة شيئًا. إن دراسة التاريخ وأخذ العبرة منه أمر لا يمكن تجاوزه؛ لأنه الأساس في بناء الحاضر والمستقبل.

وكذلك نحمل قول رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- “خير القرون قرني” على غير وجه، فالرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- قال أيضًا: “أمتي كالغيث لا يدري أوله خير أم آخره، الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- حكيم في خطابه، يأخذ بالمناسبة ووضع الناس الذين هم فيه: “جاء رجل إليه… قال يا رسول الله أي الأعمال أفضل؟ قال: الصلاة على وقتها. وجاء ثان… وقال الجهاد في سبيل الله.. وآخر قال: بر الوالدين”.

سؤال واحد وبهذا التعميم وتتعدد الإجابة؛ الأول كان متساهلا في الصلاة، الثاني كان مهملا في قضايا الجهاد، والثالث كان مهملا في بر والديه.. شيء من ذلك. الرسول الكريم -صلى الله عليه وآله وسلم- وفي 23 سنة يريد أن يبني أمة، يجد معنوياتها هابطة “… إلى متى يبقى أحدنا لا يستطيع أن يقضي حاجته إلا وهو حاملا سيفه…” يقول لهم لن تصبروا إلا قليلا حتى تسير الضعينة من الحيرة إلى صنعاء لا تخشى إلا الله والذئب. يقول في موضع آخر أنتم أفضل “إن تهلك هذه العصابة لن تعبد في الأرض…” يريهم ما يثبت أفئدتهم.

“خير القرون قرني” عندما نتعامل مع السنة، تعاملا مطلقًا، وكأنها عبارات مطلقة وتسقطها كما هي على كل زمان وكل مكان دون النظر إلى الإطار الكلي الذي تنطلق منه ودون النظر إلى المناسبة والإطار الجزئي، في هذه الحالة يحصل اللبس خلاص الدنيا… ولكن ﴿وتِلْك الاَيامُ نُداوِلُها بيْن الناسِ﴾ (ال عمران: 140)، أمتي كالغيث… لذلك التعامل مع السنة تعامل في غاية الخطورة، ويقولون: “إن القرآن حمال أوجه” والسنة أسهل، والسنة ترتبط بالأعراف.

والقرآن بحكم إطلاقيته يعطيك من المعاني أيسر وأسهل مما تعطيك السنة، النظر الجزئي له نتائج سلبية، خير القرون قرنه -صلى الله عليه وآله وسلم- هم حملة رسالة الإسلام الأولون، أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- لن يجتمعوا على خطأ لن يجتمعوا على ضلالة.

هذه خصائص يجب أن نفحصها في دائرة بناء الإطار المرجعي، منهجية التعامل مع القرآن الكريم والسنة الشريفة، كل هذا متوقف على أن هذا القرآن الكريم وهذه السنة حملها قوم عدول نثق بهم، نثق بعدالتهم، نثق بفقههم، نثق بخبراتهم.

مشكلتنا مع إخواننا الشيعة لم يؤمنوا بهؤلاء لم يبقى شيء، هم خير القرون وأفضلهم، والقرون ربما يقصد بها الأجيال، وآخر الصحابة موتًا سنة 103ﻫ هي المائة الأولى والله أعلم.

3. ضغط التقاليد وحصانة الأشخاص

ومن العوامل التي تشكل ضواغط علينا وتحول بيننا وبين مراجعة التراث أننا ورثة تقاليد ذات حساسية شديدة لأي مراجعات وبالذات لأفكار ومذاهب ذات علاقة بشخصيات كُرست مكانتها التاريخية ومشروعيتها في العقول والقلوب والنفوس، وذلك لإصابة فكرية قديمة كانت تخلط بين الرأي وقائله، فليس هناك تمييز بين الرأي، من حيث هو رأي، وبين قائله، وبالتالي إذا آمنت بسلامة وصحة واستقامة شخصية ما، قبلت كل ما تأتي به، والشيء نفسه إذا تحفظت على شخصية ما، تحفظت على كل ما تأتي به.

فما حذر منه الإمام علي -رضي الله تعالى عنه- من معرفة الحق بالرجال، وقعت، وقعت به هذه الأمة منذ وقت مبكر ولا تزال تعيشه، فنحن في كتلنا السياسية أحيانًا نتحول إلى عشائر؛ رأس الكتلة يعتبر مثل رئيس العشيرة، يحترمونه ويعزونه وكلنا ننصر مولانا، فأي نقد يوجه برأي قال به أو تبناه أحد القيادات التاريخية يعتبر كأنه نقد للشخص نفسه. كان لي شيخ –عليه رحمة الله- هو الشيخ أمجد الزهاوي من أكابر العلماء، يقول فيه الشيخ الحكيم إمام الشيعة الشيخ الزهاوي هذا: “لو ضاع فقه و(فكر) أبي حنيفة لاستطاع أن يمليه عن ظهر قلب” وفعلا كان الرجل آية في الذكاء، وكان حينما يكون في الدرس ونقرأ عليه قد ينقد آراء بعض العلماء، كنا نقرأ عليه نصوصًا في كتاب “الهداية في الفقه الحنفي”، فيقول ناقدا: أفندي الإمام أبو حنيفة ليس له حق أن يقول هذا القول؛ إذ لا دليل عليه، وكان ينبغي أن يقول كذا، فهو قد حاكم آراء أبو حنيفة محاكمة دقيقة أثناء الدرس. وانتهى الموضوع ونسي هذا الأمر، فإذا قلنا له بعد الدرس: شيخنا الإمام أبو حنيفة مذهبه في الموضوع الفلاني لا نرى وجه الصواب فيه، يغضب ويقول: لا يا بني، احذر؛ إياك أن تتطاول على هؤلاء العلماء، إياك أن تتحدث بشيء من هذا. يقول الطالب: إنك كنت قبل ساعة تنتقد وتسفه وتخطئ. فيقول: لا؛ لا ينبغي أن نتوسع في هذا المجال أبدًا، لأنه لو فسح المجال لذلك فقد تحدث مشاكل كثيرة. هي وجهة نظر، هذا صحيح ولكن لها تفسيرًا ولها معناها الذي لاحظه الإمام. لأن شيخنا كان يخشى أن تهتز مكانة الإمام الأعظم –رحمه الله- في عيون الناس من ناحية، ويخشى أن نسئ الأدب مع أسلافنا من ناحية أخرى.

وابن عباس -رضي الله تعالى عنه- روي عنه أنه حيث ذهب سيدنا عمر -رضي الله تعالى عنه- في مسألة معروفة في الفرائض هي مسألة العول، والعول يعني أن الأنصبة تكون أكثر من رأس مال المسألة فتعول فتصير مثلا ثلثين ونصفا وثلثا فيجري نوع من التغير في المسألة ليجعل المحاسب قادرًا على أن يعطي الورثة أنصبتهم، فيقول ابن عباس: إن الذي أحصى رمل عالج (منطقة معروفة) لم يجعل في المسألة ثلثين ونصفًا وسدسًا، فقيل له: لِم لمْ تقل ذلك لعمر في حياته. فقال: “هبته، كان والله مهيبًا”. هذه الهيبة التي جعلت مفهوم النقد يخرج في تراثنا من أن يكون مفهومًا معروفًا باعتباره وسيلة من أهم وسائل التعليم، ومن أهم وسائل المعرفة إلى أن يكون انتقادًا للقائل لا للقول، فحينما تنتقد قولا فكأنك تسب قائله، والحال مختلف؛ “فالنقد” أداة معرفية ووسيلة من وسائل المعرفة لا يمكن أن يستغني نظام معرفي عن ممارسة “النقد” على الإطلاق. والسب مسألة أخرى مختلفة تمامًا، والخلط بينهما لا يقبل!.

القاضي عبد الجبار الهمذاني من أكابر علماء المعتزلة ويوصف بأنه من أذكياء الزمان كان يقلد الإمام الشافعي في الفروع، أما في الأصول والقضايا الاعتقادية فله منهجه، فحينما نقل له عن الشافعي في مسألة ما يعارضه هو فيها قال: إن أخطاء العظماء على أقدارهم، وهذا القول هفوة من هذا الإمام الكبير وهفوات الكبار على أقدارهم واستمر يقلده في فروع الفقه وهو يقول فيه هذا. وكان الأئمة يتحاورون وينقد بعضهم بعضًا بهذا الشكل، وكان أبو يوسف ومحمد كثيرًا ما يردون آراء أبي حنيفة، لو فتحت أي كتاب لوجدت آراءً لأصحاب أبي حنيفة تخالف آراءه، ولوجدت آراء لأصحاب الشافعي تخالف آراءه، وأراء لأصحاب مالك تخالف مالكًا، وآراء ومذاهب لأصحاب أحمد تخالف آراءه. ولم يكونوا يرون في هذا شيئًا؛ لأن النقد كان يمثل لهم قضية معرفية مقبوله، وليس أداة انتقاص أو تجريح أبدًا.

أن أجد للعالم عشرة أخطاء أو خمسة عشر مسألة أخطأ فيها لا يعني شيئًا مهمًا فقد أصاب في آلاف المسائل، فلا يضره ولا ينقص من قدره أن يخطئ في عدد محدود.. ليس هناك معصوم من الخطأ في الفتوى إلا رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- وإذا وقع في فتياه شيء من ذلك يسدده الوحي. فإذا وجدنا أخطاء معدودة للعالم، ونقدناها وحللناها وفسرناها فذلك دليل على جلالة قدر العالم.

ومن ذا الذي تُرضي سجاياه كلها     كفى بالمرء نُبلاً أنْ تُعد معايبه

إن احترام الأكبر في السن والمقام تقاليد متأصلة في ثقافتنا والحمد لله تعالى، ولكن قد صاحب هذه التقاليد نوع من المبالغة أو الانحراف في مفهوم الاحترام، كما انحرفنا بمفهوم “النقد” أصبح هذا الاحترام انحرافًا. وما دمت أحترمك إذن قبولي لرأي من يخالفك يعتبر انتقاصًا من ذلك الاحترام لك. وكأن احترامي لك يوجب علي أن أقبلك بقضك وقضيضك، بصوابك وخطأك، وأرفض خصومك أو مخالفيك بذات المستوى؛ هذا أمر أيضًا قد ورد في تراثنا. راجعت امرأةُ عمر زوجها في شيء فغضب، قالت: لِم تغضب من مراجعتي وابنتك حفصة تراجع الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- والوحي ينـزل عليه؟ فقال: أو تفعل ذلك؟! قالت: نعم. فذهب عمر إلى حفصة مغضبًا وسألها وأخبرته بصحة ذلك وبأن ذلك جزء من خلق رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- فهو الذي يشجعهن على هذه المراجعة، فظن أن ابنته تفعل ذلك متأثرة بما تفعله عائشة لصغر سنها وجمالها وقربها من رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- لكن حفصة نفت ذلك وقالت: لا يا أبت إن هذا هو سلوك رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- معنا وهو الذي يحملنا عليه، يعني هو الذي يطالبنا بأن نراجع وأن ننقد. واستدركت عائشة على الصحابة -رضي الله تعالى عنهم- استدراكات معروفة التي جمعها الزركشي في كتاب مطبوع. لكن على من ينقد أن يكون نقده من منطلق موضوعي بحت، وليس من منطلق تجريح أو استنقاص، ومحاولة النـزول بمرتبة من ينقد بأي سبب من الأسباب؛ لأن ذلك يساعد على إشاعة تلك المفاهيم الخاطئة. لقد كان الصحابة -رضي الله تعالى عنهم جميعًا- كانوا يراجعون رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، وعندنا تراث هائل في هذا الموضوع.

وكما ضغطت على أجيال الأمة فكرة “الحصانة والقداسة” للأشخاص، كذلك كانت فكرة “حصانة الأجيال والقرون السابقة” وعجز القرون اللاحقة وعدم عصمتها أو الهبوط بمكانتها يمارس ضغطًا نفسيًا. ومن هنا وردت فكرة استنكار التفسير المرحلي للقرآن المجيد. نعم؛ بالتأكيد هناك تفسير مرحلي للقرآن الكريم، ولا يعني ذلك أن أي أحد يستطيع أن يفسر القرآن الكريم كما يعجبه، بل يفسره أهل العلم المتخصصون الذين يعرفون منهجية هذه الأمة، ويعرفون ثقافتها، ومصادرها. إذا لم نقل إن هناك تفسيرًا مرحليا؛ فمعنى ذلك أنه ليس هناك مرحلة نقف عندها في التفسير. فلو قلنا لا تفسير يقبل بعد القرن الأول الذي اشتمل على الأجيال الثلاثة معنى ذلك أن كل من كتب تفسيرًا بعد ذلك القرن كان يتطاول على القرآن. إذا قلنا فقط يسمح للأقدمين، فبأي دليل شرعي؟ هل يسمح للفخر الرازي أن يترك لنا تفسيرًا بحوالي 30 مجلدًا؟ وسيد قطب الذي ما تم تفسيره إلا قبل أن يستشهد بسنوات معدودة. هل يجوز أن يفعل أي ممن عاش بعد القرون الثلاثة ذلك؟ وما أدلة الحصر؟

إن كتاب الله جاء إلى البشرية كلها وسيبقى الكتال الكوني الأوحد إلى يوم الدين. والبشرية كلها أمرها الله بأن تتدبر هذا القرآن الكريم وأن تتفكر فيه، وأن تتعقل هذا القرآن وتعمل به. فإذا قيل: ليس لكم أن تفهموا إلا ما فهمه السابقون، فكأنك تقول: هذا القرآن خطاب لمرحلة معينة يقف الخطاب عندها وليس لأحد بعدهم أن يفهم منه غير ما فهموه وهذا غير صحيح.

4. الإجماع السكوتي وأخطار مخالفته

الإجماع السكوتي هو أمر رابع يحول دون قيام علم مراجعة التراث، أو التأصيل لمراجعات تراثية نقدية علمية من قبلنا نحن أهل التراث. فنحن أمة أصلت لمبدأ “الإجماع”، وهي فكرة لم تكن موجودة في جيل التلقي، ولا في جيل الشيخين -رضي الله عنهما- ولم يعتمد عليه في قضايا تشريع إلا عند هذه الأمة التي اعتبرت الإجماع دليلا من أدلتها الشرعية، ومن أنواع هذا الإجماع، الذي عرفته أمتنا في تاريخها ولو في نطاق ضيق، ما يسمى بالإجماع السكوتي. لم تعرف أمة -فيما أعلم- هذا الذي يسمى بـ”الإجماع السكوتي” كدليل وكجزء من الإجماع. و”بالإجماع السكوتي” هو أن يتكلم بعض الناس ويسكت بعض الآخرون، سكوت البكر علامة رضاها بالخاطب، ولم تعتد أُمة ومنها أمتنا بنسبة قول إلى ساكت أو اعتبار سكوت العلماء عن أمر ما يعني الرضا والقبول والانضمام إلى أصحاب الإجماع، مع العلم أن بعض العلماء قد لا يستطيعون التعبير أو الاعتراض خوف السيف أو السجن فيسكتون فلا ينكرون على الحاكم وحاشيته ومن هم في ركابه من فقهاء السلطان، ولا ينضمون إليهم تورعًا، ومع ذلكم فإن القائلين “بحجية الإجماع السكوتي” فرضوا عليهم أقوالهم ونسبوا إليهم. وهذا ما يسمى بالإجماع السكوتي.

فعندما يكون جزء من فكرنا، أو قطاع من ثقافتنا يتسم بقبول هذا التوجه ويذهب إلى تبنيه، فمن الطبيعي أن يكون هناك إصابة فكرية قد تبدأ “بثرة” بسيطة ثم تتحول بعد ذلك إلى “سرطان جلد” أو إلى ما هو أكبر منه إذا لم تعالج. وكم من عالم أصيب ونسب إليه ما لم يقل بقضية “الإجماع السكوتي” هذا؛ فبهذا “الإجماع السكوتي” قتل مجموعة من العلماء عبر تاريخنا لاتهامها بالخروج على الإجماع!!، ولو راجعنا كتب التراجم تراجم العلماء وطبقاتهم منذ عصر التدوين في القرن الثالث إلى قيام الدولة العثمانية لوجدنا عشرات في من قتلوا بمخالفة ما يسمى “بالإجماع السكوتي”؛ لأن العالم أو الناطق يخاف من السلطان الجائر فإذا قال ما يعتقد، ونقل ذلك إلى السلطان اتهِم بالخروج أو بالردة، وشيخ الإسلام ابن تيمية من بين هؤلاء الرجال تحدث في مسألتين فقهيتين وثالثة قال: إن الطلاق الثلاث بلفظ واحد لا يقع ثلاثا وإنما يقع واحدة؛ لأن السنة بينت لنا كيفية الطلاق. ونفى وقوع الطلاق البدعي؛ لأنه منهي عنه “والنهي يقتضي الفساد”. ونهى عن التوسل برسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- وأمر بالتوسل بما أمر رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- بالتوسل به من صالح الأعمال.

الله شرع الطلاق كما شرع الزواج، فإذا اكتشف الزوجان أنهما لا يستطيعان العيش مع بعضهما، فيطلقها على طهر ثم ينتظر حتى تأتي الدورة الثانية ثم يطلقها الثانية، ثم ينتظر حتى تأتي الدورة للمرة الثالثة ويطلقها الثالثة وهكذا يكون الطلاق المشروع، أما أن يتحول إلى شروط أو إلى يمين في مسائل الطعام والشراب وأمور الضيافة والمعاملات كما هو شائع في بعض الأقطار، فهذا لعب في حدود الله كما يرى شيخ الإسلام ابن تيمية وكثيرون غيره من أهل العلم. أن ربنا قد جعل للعلاقة بين الزوجين حدودًا وحصانة. ﴿تِلْك حُدُودُ اللهِ، فلا تعْتدُوها﴾ (البقرة: 227)، ﴿تِلْك حُدُودُ اللهِ، فلا تقْربُوها﴾ (البقرة: 186)، فالنكاح والرضاع والنفقة أمور هامة وخطيرة. قالوا: لا؛ أنت خالفت الإجماع، إجماع الأمة على أن الطلاق الثلاث بلفظ ثلاث يقع ثلاثًا كما قرره عمر. ففي عهد عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- رأى أن الناس قد استهتروا في أمر الطلاق: سأمضيه عليهم. قال قال ابن تيمية: الحجة في قول الله -تعالى- وفي قول رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- لا في مذهب عمر -رضي الله تعالى عنه- على جلالة قدره. المهم قالوا له: تتراجع أو تدخل السجن. فقال: ربي السجن أحب إلي مما يدعونني إليه. وبقى في سجنة بسبب هذه المسائل الثلاثة حتى مات وشيع من سجنه إلى قبره الواقع في جامعة دمشق الآن.

لقد توقفت مناهج النقد عندنا منذ القرن الخامس الهجري وبعدها أصبح من يمارس النقد يتهم بالخروج عن الجماعة ونحوها، أحيلكم إلى كتاب التراجم “البدر الطالع في أعيان القرن التاسع” تجدون فيه تراجم لبعض العلماء يذكر الكتاب تاريخ ولادة العالم والسنوات التي عاشها، ثم يذكر أنه سُجِن في آخر حياته بتهمة الاجتهاد. أمة يتحول الاجتهاد الذي هو أول المطالب في دينها يتحول إلى تهمة يسجن ويعاقب عليها الإنسان، وتصبح قضية تؤدي إلى السجن. كما تحول النقد عندنا إضافة إلى ما تقدم إلى أنه محاولة لتفريق كلمة الأمة، فالناقد إذا مارس النقد أي نقد، يتهم بأنه يحاول تفريق كلمة الأمة، نعم هناك من يستغل أخطاء معينة، لكن لا بد من التفريق بين الأمرين، ولابد من نصب معيار وميزان إيقاد ومصباح نميز به بين النقد المعرفي وهو من النقد المنهجي الذي يدخل دائرة الالتزام بالإسلام والالتزام بالإيمان، وبين النقد الذي يهدف إلى عمليات هدم وتفريق بين أبناء الأمة.

الإمام أبو حنيفة معروف أنه توفي بالسجن لامتناعه عن القضاء ولنقده المنصور ورفضه ولاية القضاء له.

إذن، من يجرء أن يأتي الآن إلى فقه أو أصول أو قواعد أو تراث من هذا النوع ويقوم بعملية مراجعة؟!

صحيح أن بعضنا يسمع عن هذه الأحداث لأول مرة، لكن هي أصبحت في اللاوعي عندنا، داخلة في اللاشعور، وأي واحد منا يحاول أن يتجنب التعرض لهذه القضايا حتى تحولت أخطاء كثيرة إلى مسلمات لا يجرأ أحد على نقدها أو الاعتراض عليها، لكن لو راجعنا بعض الأقوال أو الفتاوى التي روج لها بين الأمة، نجد أن المصدر عالم واحد، لكن هذا العالم كانت له مدرسة منتشرة وجاء من تبنى مذهبه وآراءه. فانتشرت ولم تراجع أو تنقد فصارت من المسلمات.

بعد الفتنة الكبرى والاختلاف بين المسلمين اشتهر مفهوم “الفرقة الناجية”، واستدل له بالحديث المعروف. “ستفترق أمتي بضعًا وسبعين فرقة، وكلها في النار إلا واحدة”… إلخ، بقطع النظر عما في هذا الحديث من مشكلات في السند والمتن. فهناك من تناولوه بتدقيق شديد -ونحن منهم- ووفق قواعد نقد الحديث. ولنا فيه مقال لكن الاتجاه والأثر العقلي والنفسي الذي أحدثه هذا الحديث ونظائره لا يمكن أن يزول إلا بتدبير إلهي، فالمسلمون -اليوم- ضحايا هذه النظرات الضيقة، وأن هذه الأمور سوداء أو بيضاء، يوجد أي منطقة أخرى، نجاة أو هلاك، جنة أو نار، خطأ أو صواب، حق أو باطل، لا شيء آخر. مجال الرؤية أو القول بأن هناك مراتب أخرى في قضايا الاجتهاد. وبالتالي تكرس عندنا أنه ما دامت هذه الأمور مما عليه “أهل السنة والجماعة” وهم “الفرقة الناجية”، إذن، فإن أي ممارسة للنقد لا تصدر إلا عمن ينتمون إلى فرق هالكة.

هل راجع “أهل السنة”، مثلا، مصطلح “أهل السنة والجماعة”، وهو مصطلح أطلقته الحكومة العباسية في عهد المتوكل – على الناس الذين لم يكونوا يعارضونها أو يرون الخروج عليها و”أهل السنة وأهل الجماعة” المتمسكون برسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- وهل يتمسك بمرويات أحادية وأخبار منسوبة إلى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- وقد يتجاهل كتاب الله والعياذ بالله أو يقدمها عليه أو على ظاهره، ومع ذلك فإنه يعد نفسه في “الفرقة الناجية” ومنهم من يتجاهل ما شرعه الله ورسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- عمليا من وجوب الاجتهاد، ووجوب المراجعة.

خاتمة

هذه العلوم التي تسمى “بالإسلامية” لم تنبثق من القرآن الكريم بالشكل المطلوب، وكان ينبغي أن يتم هذا الانبثاق عن منهجية القرآن المعرفية وكليات القرآن المجيد وسُننه ومقاصده العليا، وهذا هو الأساس والمنطلق في بناء هذه العلوم والتأسيس لها موضوعات ومقاصد ومسائل وأبعاد. ولكي تكون ثمرة ونتيجة لتفاعل الإنسان مع القرآن واتباعه له والتزامه به. فإن المسلمين قد بدأ علمهم بالجمع بين القراءتين وتكونت معارف جيل التلقي بالقرآن المجيد ومنهج رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم- في اتباع آياته وتفعيلها في الواقع، فكان ينبغي ألا تنفصل العلوم الإسلامية سواء منها علوم المقاصد أو علوم الوسائل عن المدار القرآني ومنهجيته المعرفية. ولذلك فإننا نجد أن من الضروري بناء وتأسيس علم المراجعات في تراثنا الإسلامي بحيث نقوم بمراجعتها على مقاصد القرآن ومنهجيته المعرفية ثم نراجعها في ضوء آثارها في واقعنا التاريخي وما أوصلت إليه وكذلك في ضوء المبادئ التي عرفت بمبادئ العلوم التي لم يخلُ علم منها أو من اعتبارها في تقرير جزئياته. والله أعلم.


1. راجع: ابن منظور، لسان العرب،  مادة “ع، ر، ب” وكذلك “أساس البلاغة” للزمخشري و”المفردات” للراغب الأصفهاني مادة “عرب”.

2. راجع القاموس وشرحه تاج العروس “باب الياء فصل العين” والحديث كما رواه ابن حبان (الإحسان: 362) عن حديث أبي ذر الطويل: “منهم أربعة من العرب هود وصالح وشعيب ونبيك يا أبا ذر” ضعيف: فيه إبراهيم بن هشام بن يحيب الغساني “منهم” ومن طريق آخر نقله السيرخي في البدر المنثور عن ابن عساكر عن نوف الشامي بلفظ “خمسة من الأنبياء من العرب محمد ونوح وهود وصالح وشعيب” الدر المنثور (3/480) ومع ذلك لم يرد فيه ذكر إسماعيل عليه السلام.

3. راجع ابن تيمية، اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم، (161- 162).

4. المصدر نفسه.

5. المصدر نفسه، ص161، ومن المفيد الاطلاع على كتاب ناجي معروف –رحمه الله– “عروبة العلماء في إيران”، نشر في بغداد في (4 مجلدات). وقد ترجم فيه للرازيين والمراوزة وغيرهم من علماء استوطنوا بلاد فارس، فعدهم البعض فرسا وهم من صميم العرب.

6. راجع: تاج العروس للزبيدي.

7.  المصدر نفسه، ص143.

8. المصدر نفسه ص165.

9. بيرك، جاك. إعادة قراءة القرآن.

10. سواء القرآن المكي والمدني ﴿إنا أنـزلناه قرءانا عربيا لعلكم تعقلون﴾ (يوسف: 2)، ﴿ويقول الذين كفروا لولا أنـزل عليه ءاية من ربه، قل اِن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من اَناب﴾ (الرعد: 28)، ]قرءانا عربيا غير ذي عوجٍ لعلهم يتقون﴾ (الزمر: 27)، ﴿كتابٌ فصلت ـاياته قرءانا عربيا لقومٍ يعلمون[ (فصلت: 2)، ﴿إنا جعلناه قرءانا عربيا لعلكم تعقلون﴾ (الزخرف: 2)، ﴿ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة، وهذا كتابٌ مصدقٌ لسانا عربيا لتنذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين﴾ (الاحقاف: 11).

11. ابتكرت الهيئات التنصيرية منذ مؤتمر “كولورادوا” للمنصرين فكرة شيطانية تستهدف خداع الشعوب المسلمة غير العربية، وذلك بالإقرار بنبوة رسول الله محمد –صلى الله عليه وآله وسلم-، ورسالته، مع التوكيد بأنه مرسل إلى العرب –وحدهم- بدليل أن القرآن نفسه يقول: ﴿وما أرسلنا من رسولٍ اِلا بلسان قومه ليبين لهم، فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء، وهو العزيز الحكيم﴾ (ابراهيم: 5) ويتجاهلون كل ما ورد في عالمية الرسالة.

12. تفسير الطبري، تحقيق الشيخ أحمد شاكر، ط مؤسسة الرسالة (5/411). وانظر تدوين السنة، إبراهيم فوزي، ص338.

13. مقدمة ابن خلدون، بيروت: دار القلم، ص439.

14. على ما ذكر الذهبي في تاريخ الإسلام، وتابعه السيوطي في تاريخ الخلفاء سنة 143ﻫ.

15. ابن الحجر العسقلاني، هدي الساري مقدمة الباري شرح صحيح البخاري، بيروت: دار المعرفة للطباعة والنشر، ط2، ص8.

16. وقد أشار الشيخ محمد أبو زهرة في كتابه مالك، ص66 إلى قول ابن الصلاح حين سئل عن معنى هذا الكلام فقال: السنة هنا ضد البدعة، فقد يكون الإنسان عالما بالحديث، ولا يكون عالما بالسنة. ثم يعلق على هذا الكلام الشيخ أبو زهرة بقوله: ونحن نرى أن المراد بالسنة العلم بأقضية الصحابة وفتاويهم، وكذلك العلم بأقضية التابعين وفتاويهم.

17. أبو زهرة، مالك، ص168.

18. المرجع نفسه، ص170 وما بعدها.

– ابن عبد البر، الانتقاء، ص40.

– القاضي عياض، المدارك، ص232.

19. الخطيب البغدادي، الكفاية، ص341. إبراهيم فوزي، تدوين السنة، ص107.

20. انظر: شاه ولي الله الدهلوي، حجة الله البالغة، كراجي، مكتبة نور محمد، (1/132) وما بعده.

21. ابن حجر العسقلاني، مقدمة فتح الباري، م، س، ص8.

22. المرجع نفسه.

23. صحيح مسلم، باب المساقاة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات، ورقمه 1599.

24. البعض ينسب كثيرا من التبدلات إلى “الزمن” ولا شك أن “الزمن” ظرف للسنن وذو علاقة لا تخفى فيها؛ فالزمن في المنظور القرآني خلقٌ من خلق الله ﴿الشمس والقمر بحسبانٍ﴾ (الرحمن: 3) ﴿وجعلنا اليل والنهار ءايتين فمحونآ ءاية اليل وجعلنا ءاية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب، وكل شيءٍ فصلناه تفصيلا﴾ (الاِسراء: 12) وكون هذه الآية الكريمة ترد في سورة الإسراء له دلالته الكبيرة؛ فالإسراء هي السورة المفتتحة بالربط بين أهم بقعتين على وجه الأرض، لا قديما فحسب، بل حديثا كذلك فقد ربط بينهما أولا إبراهيم الخليل في مثلث تجواله. ثم ربط بينهما خاتم النبيين عندما أسرى به ليلا من أول بيت وضع للناس، وجعله الله محرما إلى المسجد الأقصى الذي جعله الله مباركا فتم الربط بين المحرم والمقدس ليكون الدين -كله- لله. ولتكون مصدر إيحاء دائم للبشرية “بوحدة الدين”.

ـ نـزول القرآن في الأرض المحرمة في ليلة القدر على خاتم النبيين مثل لحظة انطلاقة حداثة إن صح التعبير بالنسبة للتراث الإبراهيمي واليهودي والنصراني:

وتم الربط بين الزمان والمكان، وأدوار أمتين كان لهما أثرهما الكبير في التاريخ: أمة أدخلت الأرض المقدسة، وأمة أخرجت من الأرض المحرمة، وتم استكمال صناعتها بين حرم الله ومدينة رسوله –صلى الله عليه وسلم- لقد مثل نـزول القرآن المجيد في الأرض المحرمة في ليلة القدر على رسول ذي قدرٍ، رفع الله له ذكره وختم به النبيين لحظة انطلاقة “حداثة” إن صح التعبير بالنسبة للتراث الإبراهيمي الذي كاد يندثر، ثم اليهودي خاصة والنصراني كذلك: ﴿ما ياتيهم من ذكرٍ من ربهم محدثٍ اِلا استمعوه وهم يلعبون﴾ (الاَنبياء: 2)، ﴿ما كان حديثا يفترى، ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيءٍ وهدى ورحمة لقومٍ يومنون﴾ (يوسف: 111). فالزمان والمكان لابد من ملاحظتهما في المجال الفقهي.

25. انظر: الطاهر ابن عاشور، أليس الصبح بقريب، القاهرة: دار السلام 2006. ص163-168 (بتصرف).

26. رجب الصالحي، تحقيق مبادئ العلوم الأحد عشر، ص28.

27. انظر: محمد أبي عليان الشافعي، اللؤلؤ المنظوم شرح مبادئ العلوم، (مخطوط)، بتصرف.

28. اللؤلؤ المنظوم.

29. تحقيق مبادئ العلوم، م، س، ص30.

30. انظر اللؤلؤ المنظوم، م، س.

31. تحقيق مبادئ العلوم، م، س، ص31.

32. فخر الرازي، “المحصول في علم أصول الفقه” دراسة وتحقيق طه جابر العلواني، الرياض جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ط1 (1399ﻫ/1979م)، (ج1/94).

33. مذكرة أساتذة كلية الشريعة في الأزهر لسنة (1382ﻫ/1963م) في أصول الفقه ص22.

34. هناك عدد من المباحث الأخرى وهي: تعليل النصوص، الحكم، مصادر الأحكام الشرعية “القرآن”، “السنة” “الإجماع” “القياس” “الأدلة المختلف فيها”.

35. علي جمعه، كتاب الحكم الشرعي عند الأصوليين، ط دار السلام، ص24-26.

36. مقدمة ابن خلدون ص262.

37. تحقيق مبادئ العلوم، م، س، ص92.

38. المحصول في علم أصول الفقه، م، س، (1/79).

39. الأسنوي، التمهيد في تخريج الفروع على الأصول.

40. لو يعطى الناس بدعواهم… إلخ: روي في جامع البخاري (04552)، ومسلم (01711/01)، وابن حبان (05082)، و(05083)، وسنن ابن ماجة (02321)، والبيهقي الكبرى (10803) (10585)، و(11447) (11229) و(20712) (20501) و(21197) (20986) و(21199) (20988) و(21200) (20989) و(21201) (20990) والدارقطني (04268)، والنسائي الكبرى (05994)، وشرح معاني الآثار للطحاوي (04662) و(04663) و(04677)، ومسند أبي عوانة(06005) و(06006)، وأبي يعلى (02588) (02595)، وأحمد (03188) و(03292) و(03427)، ومصنف عبد الرزاق (15272) (15193)، ومعجم الطبراني الأوسط (07971)، والكبير (11223) و(11224) و(11225).

41. الإحكام: 5/168-169.

42. انظر: العقيدة الشريعة، ص174.

43. انظر: الحيوان. ج1 ص85 وما بعدها.

44. انظر: الدميري. ج 2 ص 25، مادة سعلاة.

45. بقلم ر. كامبل ثومبسون. م28، ص83. وفي كتاب الفوكلور، ج2 ص 388 سنة 1900 للسايس.

46. السبكي، طبقات الشافعية، ج 5 ص45.

47. كما في تذكرة الحفاظ للذهبي ج2 ص149، وقد ذكر ابن خلكان وفيات رقم 763، أن شخصا كان أخا لجني في الرضاع، وانظر أيضا أبحاث في فقه اللغة العربية. لجولدتسهير ج2/108 وحديثا كتاب مكدونالد الموقف الديني والحياة والإسلام. ص143 وما بعدها، ص155.

48. مستخرج من مجلة الدراسات البشرية والاجتماعية سنة 1908.

49. طبقات الشافعية. ج5 ص179. انظر أيضا أبحاث في فقه اللغة العربية. ج1 ص109.

50. طبقات الشافعية، م، س، ج1 ص258.

51. سردها في المحصول 1/547 وما بعدها، والمحصل31 والأربعين 424- 426، ونهاية العقول.

52. ويمكن الاطلاع على بعض المراجع التي تحدثت عن هؤلاء في حاشيتنا على المحصول 1/540.

53. القانون العلمي من شأنه أن يحكم علاقة الباحث بالحقيقة، وذلك بعد الكشف عن طبيعة العلاقات الارتباطية التي تحيط بظاهرة معينة، وتحكم تحركاتها المتلاحقة، وأسلوب الوصول إلى الحقيقة مشكلة مستقلة عنها، وراجع: حامد ربيع، “مقدمة عامة للتعريف بالمنهاجية العلمية: مذكرات غير منشورة لطلاب النظرية السياسية (جامعة القاهرة: مكتبةكلية الاقتصاد والعلوم السياسية) هذا وقد اهتم علماء الأصلين في تراثنا: أصول الدين وأصول الفقه بمسألة وحدة الحقائق وتعددها اهتماما كبيرا؛ وذلك لما يترتب عليها من انقسامهم في موقفهم من تصويب المجتهدين كافة، أو اعتبارهم مخطئين والمصيب واحد غير معروف؛ فراجع المسألة واختلافهم فيها، وتعدد مذاهبهم، وطرائق مناظراتهم فيها في: أبو الحسين البصري،المعتمد”، بيروت: دار الكتب العلمية، 1983، 2/370-93. الجويني، “البرهان في أصول الفقه”، المنصورة: دار الوفاء، 1992، 2/859-68. الغزالي، “المستصفى”، بيروت: دار الفكر، د. ت، 2/363-78.

وراجع كتابنا المشترك للشهيدة الراحلة أم الفضل د. منى أبو الفضل والفقير إليه -تعالى- “نحو بناء علوم الأمة الاجتماعية والشرعية: مراجعات منهاجية وتاريخية” طبع ونشر دار السلام- ط1، القاهرة: (1430ﻫ/2009م).

54. نقله التفتازاني عنه وأورده العطار في حاشيته على جمع الجوامع. انظر: ابن السبكي، “جمع الجوامع” (القاهرة: الحلبي، د. ت.) 2/428.

55. لقائل أن يقول: إن “قواعد المنطق” هي التي تستخدم لعصمة الذهن من الوقوع في الخطأ عند ممارسة التفكير، فهل تريدون بهذا التسوية بين المنهج والمنطق؟ والجواب: أن المنهج في جوهره: ترتيب مقدمات صحيحة بحسب المطلوب للوصول إلى نتائج، فالمقدمات تشتمل على المعلوم الذي يوصل إلى المجهول، وهناك حوار وجدل كبيران بين المتكلمين المسلمين في هذا الأمر تجده مفصلا بإسهاب كبير في: المواقف للإيجي، المرصد الخامس في “النظر” الذي عرف بتعريفات كثيرة، منها: إنه “الفكر الذي يطلب به علم أو غلبة ظن”، ومنها: إنه “اكتساب المجهولات من المعلومات”.

وراجع ذلك -كله- في: عضد الدين الإيجي، “المواقف”، بيروت: دارالكتب العلمية، 1998م، 2/196 ففيها فوائد جمة.

56. راجع مرادنا بكل من القراءتين وبالجمع بينهما في دراستنا الوجيزة “الجمع بين القراءتين” وهي الحلقة الثانية من سلسلة “دراسات قرآنية” التي صدرت عن مكتبة الشروق الدولية في القاهرة. كما أن القراءة هي أول ما يبدأ الإنسان به؛ وذلك حين يبدأ الطفل بقراءة الصور والأشكال من حوله، فترى الطفل أحيانا يبتسم عندما تأتي أمه أو أبوه أو شخص يحبه، ويصرخ ويجهش بالبكاء إذا جاء شخص آخر، وما ذلك إلا لقراءته لصور وأشكال من يحبهم ويألفهم ويطمئن إليهم، وصور من يخافهم لغربتهم عنه أو عدم قدرته على قراءتهم أو معرفتهم، أو تحديد موقفهم منه، فهي قراءة منه للأشخاص، وكذلك حين يعبث بما حوله لدرجة كسر أو تفتيت تلك الأشياء، إنما هي محاولات منه للقراءة، فالقراءة للإنسان وظيفة حياتية أساسية مثل التنفس، وتنمو حاسة القراءة مع الإنسان وتكبر معه كلما تقدم في العمر، فالقراءة تسبق الكتابة في النشأة والتطور، وهي التي تشكل بداية عملية اندماج الفرد في المجتمع، وتدريب قوى الوعي الإنساني، وإنماء الاستعدادات المعرفية له، وحين تنمو مدارك الإنسان، ويتجاوز مرحلة الطفولة والمراهقة والشباب، قد يختص بجانب من جوانب العلم فيمارس القراءة فيه، فعالم الفلك يقرأ الأفلاك والنجوم، ويميز بينها بالقراءة فيها، ويقرأ المهندس الأرض وتربتها وطبيعتها ليصل إلى نتيجة مفادها أنها تصلح لنوع البناء الذي يريده أو لاتصلح، وإذا رأى بناء قائما قد يقوم بقراءته.

57. الحديث معناه صحيح؛ ولذلك صححه بالسبر من صححه أما إسناده فلا يصح من خلال موسوعتين على حاسوب به نحو (265000) طريق، ونحو (136000) ترجمة مع التكرار، وبدقة على مسئولية منتجي برنامجي الألفية والموسوعة الذهبية. وفي هاتين الموسوعتين لهذا الحديث 32 طريقا.  منها: عشر طرق تدور على خالد بن معدان عن عبد الرحمن بن عمرو السلمي، كما في سنن البيهقي الكبرى (20338) (20125)، والترمذي (02676/2) (022539/2) و(02676)، والدارمي(00095)، ومستدرك الحاكم (00330)، ومسند أحمد (17144) والشاميين(00437)، و(01180)، ومعجم الطبراني الكبير(15294) (18/0617) و(15295) (18/0618)، وثلاثة طرق على خالد كما في معجم الطبراني الكبير(15298) (18/0621)، و(15301) (18/0624) و(15319) (18/0642)، وخمسة طرق على عبد الرحمن كما في سنن ابن ماجه (00043)، ومستدرك الحاكم (00332)، ومسند أحمد (17142)، والشاميين (01379)، ومعجم الطبراني الكبير (15296) (18/0619)، وأربعة طرق على عبد الرحمن وحجر بن حجر كما في جامع ابن حبان (00005)، وسنن أبي داود (04607) ومستدرك الحاكم (00333)، ومسند أحمد (17145). وخمسة طرق على يحيى بن أبي المطاع عن العرباض بن سارية كما في سنن ابن ماجه (00042)، ومستدرك الحاكم (00334) ومسند الشاميين (00786)، ومعجم الطبراني الأوسط (00066)، و(15299) (18/0622). وطريق واحد على أبي إسحاق السبيعي كما في مستدرك الحاكم (03336) وطريقان على رجل مجهول العين كما في مسند الحارث (00055)، و(00056)، أما خالد وأبو إسحاق فمدلسان ولم يصرحا بالسماع، وأما عبد الرحمن وحجر فلم يوثقهما أحد، إنما ذكرهما ابن حبان في ثقاته وهو مشهور بتوثيق المجاهيل.  وأما يحيى بن أبي المطاع فلم أجد توثيقا له عن معاصر له. إنما وثقه دحيم عبد الرحمن بن إبراهيم الدمشقي وذكره ابن حبان في ثقاته ولم يدركاه، وقد أنكر سماعه من العرباض أبو زرعة الرازي ودحيم.  ففي (01تهذيب الكمال للمزي) (08251) (ق) يحيى بن أبي المطاع، قال أبو زرعة الدمشقي حدثني عبد الرحمن بن إبراهيم، قال: حدثنا محمد بن شعيب، قال: أخبرني الوليد بن سليمان بن أبي السائب، قال: صحبت يحيى بن أبي المطاع إلى زيزى، فلم يزل يقرأ بنا في صلاة العشاء وصلاة الصبح في الركعة الأولى بقل هو الله أحد وفي الركعة الثانية بقل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس، قال أبو زرعة، فقلت لعبد الرحمن بن إبراهيم: تعجبا لقرب عهد يحيى بن أبي المطاع وما يحدث عنه عبد الله بن العلاء بن زبر أنه سمع من العرباض بن سارية، فقال: أنا من أنكر الناس لهذا وقد سمعت ما قال الوليد بن سليمان، قال عبدالرحمن قال محمد بن شعيب قال الوليد بن سليمان، فحدثت أيوب بن أبي عائشة بهذا، فأخبرني أنه صحب عبد الله بن أبي زكريا إلى بيت المقدس، فكان يقرأ في العشاء بقل هو الله أحد وفي الركعة الثانية بالمعوذتين. فكانت هذه أيضا إذ يحكيها الوليد بن سليمان عن يحيى بن أبي المطاع لأيوب بن أبي عائشة فيحدثه بمثلها عن بن أبي زكريا أكبر دليل على قرب عهد يحيى بن أبي المطاع وبعد ما يحدث به عبد الله بن العلاء بن زبر عنه من لقيه العرباض والعرباض قديم الموت. ومنها طريقان يدوران على إسماعيل بن عياش عن مهاجر بن حبيب كما في مسند الشاميين (00697)، ومعجم الطبراني الكبير(15300) (18/0623) أما إسماعيل فمختلف في توثيقه، وأهل المصطلح على أن الراوي إذا اختلفوا فيه بين مجرح ومعدل فالجرح عندهم مقدم؛ لأن المعدلين بنوا تعديلهم على أصل، هو أنهم لا يعلمون عن هذا الراوي شرا، فجعلوا عدم علمهم هذا أصلا بنوا عليه تعديله، في حين بنى المجرحون جرحهم على أصل أنهم يعلمون عن هذا الراوي شرا، فجعلوا علمهم هذا أصلا بنوا عليه تجريحه والقول المبني على علم مقدم على القول المبني على عدمه. وأما مهاجر بن حبيب فلم أجد توثيقا له عن معاصر له، إنما وثقه أبو حاتم الرازي والعجلي وذكره ابن حبان في ثقاته ولم يدركوه. هذا فضلا عن عورات أخرى بالأسانيد.

58. من العلوم التي اهتمت بالألفاظ والمعاني المفردة: علم المنطق، ويتناول المنطق مبحث الألفاظ كمقدمة لبناء القضايا التي تؤلف مقدمات القياس، وتبتدئ مباحث المنطق عادة بمبحث دلالة الألفاظ وبيان وجوه دلالتها ونسبتها إلى المعاني وتقسم الألفاظ من حيث دلالتها على المعاني ثلاثة أقسام:

1. دلالة المطابقة: دلالة اللفظ على تمام ما وضع له كدلالة الإنسان على مجموع الحيوان الناطق.

2. دلالة التضمن: دلالة اللفظ على جزء المعنى في ضمنه كدلالته على الحيوان أو الناطق في ضمن الحيوان الناطق.

3. دلالة الالتزام: دلالة اللفظ على أمر خارج عن المعنى لازم له كدلالته على قبول وصفة الكتابة على ما فيه.

انظر: أبو حامد الغزالي، معيار العلم في فن المنطق، بيروت: دار الأندلس، 1983م 41-3، أحمد الدمنهوري، إيضاح المبهم من معاني السلم في المنطق، القاهرة: مصطفى البابي الحلبي، 1948م، 6-7 وراجع: طه العلواني، المحصول في علم أصول الفقه، بيروت: مؤسسة الرسالة، 1992، 1/219 ومابعدها.

عبارة النص: دلالة اللفظ على ما كان الكلام مسوقا لأجله؛ أصالة أو تبعا، وعلم قبل التأمل أن ظاهر اللفظ يتناوله، وسميت عبارة؛ لأن المستدل يعبر من النظم إلى المعنى ولأن المتكلم يعبر من المعنى إلى النظم، فكانت هي موضع العبور، فإذا عمل بموجب الكلام من أمر ونهي، سمي ذلك استدلالا بعبارة النص، وسمي أيضا عين النص، مثالها قوله تعالى: ]وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع[ (النساء: 3)، فالمقصود الأصلي من هذه الآية إباحة تعدد الزوجات، وأما المقصود التبعي منها فهو إباحة النكاح من حيث الأصل؛ فدلالة الآية على كلا المقصودين دلالةٌ بعبارة النص، ولئن كان الكلام قد سيق من حيث الأصل للمقصود الأصلي، فإنه قد سيق من حيث التبع للدلالة على المقصود التبعي أيضا.

إشارة النص: دلالة اللفظ على حكم غير مقصود مباشرة، ولا سيق له النص، ولكنه لازم للحكم الذي سيق الكلام لإفادته وليس بظاهر من كل وجه، ما يدل عليه اللفظ بغير عبارته، ولكنه يجيء نتيجة لهذه العبارة، فهو يفهم من الكلام، ولكنه لا يستفاد من العبارة ذاتها، مثالها قوله تعالى: ]فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم[ (النساء: 3)، فهذه الآية يفهم منها بالعبارة أنه لا يحل للمسلم أن يتزوج بأكثر من واحدة إذا تأكد أنه لا يعدل بين أزواجه، ويفهم بالإشارة أن العدل في معاملة الزوجة واجب دائما، سواء أكان متزوجا واحدة أم كان متزوجا أكثر من واحدة كما يفهم منها بالإشارة أن ظلم الزوجة حرام مطلقا.

دلالة النص: دلالة اللفظ على ثبوت حكم المنطوق به للمسكوت عنه لوجود معنى فيه، يدرك كل عارف باللغة أن الحكم في المنطوق به كان لأجل ذلك المعنى من غير حاجة إلى نظر أو اجتهاد، وتسمى هذه الدلالة “دلالة الدلالة”؛ لأن الحكم فيها يؤخذ من معنى النص، لا من لفظه، وتسمى أيضا “مفهوم موافقة”؛ لأن مدلول اللفظ في محل المسكوت، موافق لمدلوله في محل النطق، فما دلت عليه العبارة وما دلت عليه الدلالة متوافقان في موجب الحكم، ولهذه الدلالة صورتان هما:

1. فحوى الخطاب: وهو أن يكون المسكوت عنه أولى بالحكم من المنطوق به، مثاله قوله تعالى: ﴿فمن يعمل مثقال ذرةٍ خيرا يره. ومن يعمل مثقال ذرةٍ شرا يره﴾ (الزلزلة: 8-9)، فإذا كانت رؤية ذرة خير أو شر ممكنة، فإن رؤية ما هو أكبر من الذرة من باب أولى.

2. لحن الخطاب: وهو أن يكون المسكوت عنه مساويا لحكم المنطوق به، مثاله قوله تعالى: ﴿إن الذين ياكلون أموال اليتامى ظلما اِنما ياكلون في بطونهم، نارا وسيصلون سعيرا﴾ (النساء: 10)، فإذا كان أكل مال اليتامى حراما، فإن إحراقه أو تبديده هو الآخر حرام لاشتراك الأكل والإحراق في تفويت استفادة اليتامى من أموالهم. انظر: قطب سانو، معجم مصطلحات أصول الفقه، دمشق: دار الفكر، 2000 459-68.

59. لمالك بن نبي -يرحمه الله- كتاب مهم يحمل هذا العنوان: “الظاهرة القرآنية” جدير بالقراءة والاطلاع مع مراعاة الفروق الدقيقة بين المنطلقات المنهجية لنا والمنطلقات الحضارية لمالك. انظر: مالك بن نبي، الظاهرة القرآنية، بيروت: دار الفكر المعاصر، 1992.

60. راجع دراستنا: طه العلواني، التوحيد والتزكية والعمران: محاولات في الكشف عن القيم والمقاصد القرآنية الحاكمة، بيروت: دار الهادي، 2003.

61. هناك أسئلة أساسية حول حياة الإنسان وخلقه وإيجاده وخالقه وغايته، تسمى “بالأسئلة النهائية” والإجابة الدقيقة عن تلك الأسئلة من شأنها أن تعبر عن “الرؤية الكلية” للإنسان وبعبارة أخرى: ما تقدمه العقيدة من إجابات لتلك الأسئلة والرؤية التي تنبثق عن ذلك هي ما يطلق عليه “الرؤية الكلية”. وقد يطلق عليها “التصور” كما كان اختيار سيد قطب –يرحمه الله– في عنوان كتابه “خصائص التصور الإسلامي”.

62. لم نختر استخدام المصطلح المترجم: الموضوعية، وإنما كان اختيارنا للاصطلاح الإسلامي: الاستقامة العلمية.

63. قال ابن عربي تحديدا: إن نبوة التشريع هي التي ختمت، ولكن من الأولياء من هم أنبياء (-عفا الله عنه- ليته قال: “مثل الأنبياء) لا يأتون بتشريع جديد، ولكنهم يأتون على تشريع خاتم الأنبياء التشريعيين (محمد –صلى الله عليه وسلم-)، والنبوة هنا تفصيل لباطن التشريع الحاوي لأسرارٍ لم يصرح بها آنذاك، كما أنها؛ (أي النبوة) مقام بين القطبانية ونبوة التشريع.

64. نقل هذا القول عن الإمام علي -رضي الله تعالى عنه- وأنه أوصى عبد الله بن عباس لما بعثه لمحاججة الخوارج بقوله: “لا تخاصمهم بالقرآن فإن القرآن حمال أوجه، ذو وجوه تقول ويقولون، لكن حاججهم بالسنة فإنهم لم يجدوا عنها محيصا”. وقد عزا السيوطي ذلك القول إلى طبقات ابن سعد في طبقاته “الإتقان النوع التاسع والثلاثون في معرفة الوجوه والنظائر” وقد عد السيوطي هذه العبارة، عبارة مدح لأنه فسر الوجوه أو الأوجه بأنها الألفاظ المشتركة التي تستعمل في معاني عدة وليس الأمر كذلك، وكذلك ذهب مقاتل وسواه إلى ذلك. وقد عزا السيوطي القول في “الدر المنثور” (1/40) من طريق عكرمة، وجاء بلفظ آخر في “الفقيه والمتفقه” للخطيب البغدادي (1/560) وسائر أسانيده فيها مقال، أما متنه ففيه الكثير مما يستدعي النظر، إذ يفترض أن الخوارج لا يحكمون غير القرآن الكريم، فلو جادلهم أحد بغيره لقالوا: أنت تجادلنا بما لا نراه دليلا. الأمر الثاني: إن القرآن الكريم مبين وبيان، وكل ما نسب إليه من التورية والكناية والاشتراك فإنه جار على قواعد كلام البشر وكلام اللغويين ولا ينبغي أن يطلق على القرآن الكريم، وقد كتبت في ذلك مقالات كثيرة للعلماء في القديم والحديث، حتى نفى ابن تيمية المجاز فكيف بالاشتراك؟! والعلماء الذين قالوا: إن لفظ “قرء” ونحوها تعد ألفاظ مشتركة، فإنها ليس ألفاظ مشتركة ولكنها استعمالات لقبائل عربية منها من يطلق “القرء” ويريد به الطهر، ومنها من يطلقه ويريد به الحيض؛ وهذا لا يعد في الاشتراك.

65. راجع دراستنا قيد الإعداد للنشر: نحو موقف قرآني من إشكالية المحكم والمتشابه.

66. “الكايوس” أو “الفوضى” chaos عكس الكوزموس فإذا كان الكوزموس هو الكون النظامي، الذي يسير كالساعة المنضبطة، فإن «الكايوس» أو الفوضى هو المعرفة التي ترى الكون المشوش العشوائي الخاضع لعديد من الاحتمالات، والذي يستحيل أن نحدد سلفا مسارا دقيقا محتما لأحداثه؛ لذلك يمكن القول إن الكايوسي chaotical أقرب إلى الفوضوية. لقد انهارت صورة الكون الذي يسير في أدق تفاصيله كالساعة المضبوطة، وكشف العلم عن العديد من البنيات والتراكيب العشوائية الخاضعة فقط لمنطق الاحتمال، وثمة علم صاعد وواعد الآن يتكاتف لتشييده رياضيون وفيزيائيون وفلاسفة ومناطقة هو علم “الكايوس” الذي يدرس البدائل الممكنة لتداخل احتمالات عديدة، ولم يتم الاتفاق على مقابل عربي دقيق لمصطلح علم الكايوس، قيل “العلم العشوائي” و”علم الفوضى” لذلك لا بأس من تعريب المصطلح واستعمال لفظة الكايوس والكايوسي. انظر: يمنى الخولي، فلسفة العلم في القرن العشرين، الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، ديسمبر2000، 194-229.

67. ولكارل بوبر كتاب في “الحدوس الافتراضية” والتفنيدات عقد فيه فصلا في “مصادر المعرفة ومصادر الجهل”.

68. يحاول بعض المعنيين “بعلوم المناهج” أن يقدموا “النسبية والاحتمالية” على أنهما “تطور طبيعي في إطار المنهج” وأنهما بذلك لا يشكلان تهديدا للمنهج، وأن مخاوفنا تلك محل نظر لديهم. ولكننا مع تقديرنا واهتمامنا بما ذكروا مانـزال نرى أن “المنهج” في أزمة وخطر، وأن القرآن المجيد يملك الحل باعتباره كتابا كونيا فيه طاقات استيعاب وتجاوز لا يحملها سواه.

69. الغنوصية هي: الاتجاه الروحي الذي يتصل ببواطن الاعتقادات أو ديانات الأسرار من حيث هي ما وراء الظاهر من حقائق خاصة تتعلق، في جوهرها، بالمضنون على غير أهله من أشكال ودلالات.

70.  عرضنا لأهمها في كتابنا الخاص بـ”التوحيد” باعتباره حلقة من حلقات ثلاث، خصصناها لمعالجة “المقاصد العليا الحاكمة” الثلاثة في القرآن، وهي “التوحيد والتزكية والعمران” وقد صدرت طبعته الأولى في بيروت عن دار الهادي، 2003م. وحين نعتبر القيم أو المقاصد الثلاثة الحاكمة مكونات للنسق القرآني فذلك لا ينافي كونها قيما ومقاصد قرآنية عليا حاكمة.

71. هي الحد والموضوع والغاية والمصادر والموارد والمسائل وحقيقة العلم، ومرتبته بين العلوم، وشرفه واسمه.

72. وهذا يجعل عملية المراجعة عملية معرفية منهجية تحتاج إلى فرق بحثية جماعية، تضم علماء في مختلف التخصصات، إذا أريد لها الدقة والنجاح.

الدكتور طه جابر العلواني

• رئيس المجلس الفقهي بالولايات المتحدة الأمريكية سابقا
• رئيس جامعة قرطبة الإسلامية بوشنطن سابقا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق