مركز الدراسات القرآنية

السنن الاجتماعية في القرآن الكريم المفهوم والوظيفة

يناير 18, 2018

في إطار أنشطته العلمية والفكرية، نظم مركز الدراسات القرآنية بالرابطة المحمدية للعلماء حلقة جديدة (13) من حلقات «منتدى الدراسات القرآنية» بمحاضرة علمية في موضوع: “السنن الاجتماعية في القرآن الكريم المفهوم والوظيفة” ألقاها فضيلة الدكتور محمد السايسي، أستاذ بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بمكناس، ورئيس المجلس العلمي المحلي لعمالة مكناس، وذلك يوم الخميس 01 جمادى الأولى 1439هـ، الموافق لـ 18 يناير 2018م، ابتداء من الساعة الثانية زوالا بمقر الرابطة المحمدية للعلماء بساحة الشهداء بالرباط .

افتُتِح هذا المنتدى العلمي بتلاوة آيات بينات من الذكر الحكيم، تلتها كلمة الدكتور محمد المنتار؛ رئيس مركز الدراسات القرآنية بالرابطة المحمدية للعلماء الذي أعلن من خلالها استئناف مركز الدراسات القرآنية لسلسلة منتدياته العلمية بمحاضرة فضيلة الدكتور محمد السايسي، منوها بنشاطه وإسهاماته العلمية في علوم القرآن، مشيدا بالموضوع الذي اختير ليكون موضوعا للمحاضرة في هذا المنتدى، ومرحبا بالحضور الكرام من أساتذة وباحثين وطلبة، ومؤكدا على أهمية الموضوع بالنسبة لباحثي الدراسات القرآنية لما يكتنفه من رُزمانات علمية معرفية….، شاكرا له تلبيته دعوة المركز لإلقاء هذه المحاضرة وإحياء الصلة العلمية بالمركز، ليحيل الكلمة في ختام افتتاحه للأستاذ المحاضر.

شرع الأستاذ المحاضر فضيلة الدكتور محمد السايسي كلمته بمقدمة تمهيدية أوضح من خلالها مناسبة اشتغاله بهذا النوع من الدراسة، ليعرض بعد ذلك محاور بحثه، حيث تضمنت دراسته «السنن الاجتماعية» كما وردت في القرآن الكريم، ثم استخلاص المفهوم القرآني لها، في سياق دراسةٍ عامةٍ لمصطلح «السنة»، ليعرض بعد ذلك أصناف تلك السنن في صياغة تقعيدية، قابلةٍ للإعمال في مجال الإصلاح الاجتماعي.

وعليه فقد تم عرض البحث عبر محورين رئيسين:

المحور الأول: مفهوم السنن الاجتماعية

المحور الثاني: السنن الاجتماعية: الصياغة والتوظيف

عرض في المحور الأول مفهوم السنة في اللغة والاصطلاح، ومفهوم السنن في الاستعمال القرآني، ومفهوم السنن الاجتماعية.

*    فأوضح أن مفهوم السنة في اللغة والاصطلاح العام تعددت وجوه استعمالها في اللغة، ومن ذلك أنها الطريقة والسيرة والمنهج والشريعة والبيان القويم والوضع والإتباع والعادة والاقتداء…، وحسن رعاية الشيء والقيام عليه، إذ بتعدد هذه المعاني وتقاربها في اللغة يتعدد مدلول لفظ «السنة» في الاستعمال الاصطلاحي، واتخذ المفاهيم التي تناسبه في التخصص العلمي المستعمل فيه، فالسنة في اصطلاح المحدثين ما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير أو صفة خُلقية أو خِلقية، والسنة في اصطلاح الأصوليين ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم أو فعله أو قرره، والسنة في عرف الفقهاء ما كان في مشروعيته دون الواجب وفوق المندوب، والسنة في عرف الشرع بصفة عامة: الطريقة المشروعة في الدين وهي هنا ضد البدعة.

*    أما عن مفهوم السنن أو السنة في الاستعمال القرآني فقد بيّن أن مفهومها في التصور الإسلامي مرتبط أساسا بالقرآن الكريم، من حيث أنه أساس بناء التصورات والمفاهيم العقدية والفكرية عند المسلمين، وأن اتضاح معنى السنة وتحديد مدلولها يتوقف على تتبع مفهوم السنن في القرآن الكريم.

مشيرا إلى أن تعدد المناسبات وتنوعها وكون الغرض القرآني منها ومن معنى السنة في كل الآيات التي ورد فيها، يقصد به معنى واحد هو: الاعتبار والاستبصار لما حكم الله به وجعله ناموسا في خلقه، بتكرر أسبابه وتوافر شروط إنفاذه.

ولتجلية الأمر وتوضيحه مثّل فضيلته لكل تركيب بمثال:

•    الأول: لفظ «سنة» مجردا عن الإضافة في قوله تعالى: ﴿ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ﴾ [آل عمران: 137].

•    الثاني: لفظ «سنة» مضافا إلى اسم الجلالة كقوله تعالى: ﴿ سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ﴾ [الفتح: 23].

•    الثالث: لفظ «سنة» مضافا إلى السابقين من الأمم والمرسلين، في قوله تعالى: ﴿ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ ﴾ [الأنفال: 38]

وقد أشار إلى أن تفاسير العصر الحديث قد زادت مفهوم السُّنة في القرآن الكريم تحديدا وبيانا بما استفادته من العلوم الإنسانية في عصرها وبخاصة علم الاجتماع، معتبرا تفسير المنار أكثر التفاسير الحديثة تحديدا للفظ السنة في اتجاه مدلوله الاجتماعي.

*    أما عن مفهوم السنن الاجتماعية؛ أوضح أن مصطلح السنن في المجال الذي نحن بصدده قد أخذ مفهومه واكتسب معناه الاصطلاحي بنفس المنهج الذي تخلق عليه في مجال العلوم الإسلامية المتخصصة، بحيث إن ظهوره هو أيضا ارتبط بظهور علم الاجتماع في العالم الإسلامي، وبالتحديد ـ على حد قوله ـ مع مدرسة المنار في التفسير، ومع جذوره الفكرية في مجلة العروة الوثقى مطلع القرن الرابع عشر الهجري وأواخر القرن التاسع عشر الميلادي، خالصا إلى كونها نواميس تحكم نظام الاجتماع الإنساني والعمران البشري على وجه الاطراد والثبات والشمول.

المحور الثاني: السنن الاجتماعية: الصياغة والتوظيف

من خلال هذا المحور أبرز لنا المحاضر مشكورا عن أوجه وظيفة السنن الاجتماعية، حيث إن تدبر كتاب الله تعالى وفقه قضاياه وما يدعو إليه يجعلنا ندرك أن موضوعه هو الإنسان، والأخذ بيده إلى هذا المنهج القويم ليستقيم عليه كما أمر، فقد وصف القرآن الكريم نفسه بأنه يهدي للتي هي أقوم وأنه هدى ورحمة، وفي هذا الصدد يعتبر عملية عرض السنن الاجتماعية من حيث الإعمال في حياة الناس اعتبارا لموضوعها ومجال تحكيمها وتوظيفها في أحوال أربعة وهي:
*  سنن التأسيس والبناء: إن أول ما يؤسس ويبني في هذا المضمار هو الجانب التصوري لدى الإنسان المسلم ومن ذلك:

•    سنة الابتلاء والامتحان، إظهارا لصدق الإيمان وإخلاص العمل، وإدراكا لطبيعة الحياة الدنيا، وذلك قوله تعالى: ﴿الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾ [العنكبوت:1،2،3].

•    سنن التدافع الحضاري ويمكن تسميتها سنن تنازع البقاء؛ وهي سنة اجتماعية تحكم سائر المجتمعات البشرية وتصطبغ بها كل مظاهر الحياة، الفردية والجماعية الإنسانية والحيوانية لقوله تعالى: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ …﴾ [البقرة: 251].

•    سنن التغيير والتحويل أخذا من قوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ [الرعد: 11]، وهذه السنة ـ حسب نظر المحاضر ـ هي أول خطوة توجه بها التفسير في العصر الحديث نحو المجتمع، وكانت هي المحور الذي تدور حوله السنن الاجتماعية الأخرى فيه بالتنصيص على مبدأين كبيرين: الأول: العمل على التغير والتحول في عالم الأشياء والأفكار بتعبير “مالك بن نبي”، والثاني: أن هذا التحول والتغير يبدأ مما بالنفس.

*    سنن الإحياء والتمكين: والمراد بها أن يعلم الإنسان من سنن الله في كونه إخراج الضد من الضد، وإخراج الحي من الميت، وإنقاذ الأمم المستضعفة من استعباد المتألهين، لكي لا يركنوا إلى ظلم الظالم وجور الطاغي مصداقا لقوله تعالى: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ﴾ [القصص: 5،6]

*    سنن التحصين والتحذير: حيث يؤكد القرآن الكريم ومعه الدراسات الاجتماعية التاريخية أن الكيان الاجتماعي لأمة ما كالكائن الحي، إذ يجب أن تتوفر له ظروف النشأة السليمة، فإذا استوى قائما احتاج للصيانة والرعاية تحصينا له، والقرآن الكريم كما اهتم بالتأسيس اهتم أيضا بالصيانة والتحصين.

*    سنن السقوط والانهيار: إذ بتدبرها وتعقّلها تحفظ بيضة الأمة من الهلاك والاندثار، ففي القرآن الكريم من نصب الأدلة وإقامة الحجة وبيان السنن ما لو تدبره الخلق لاستقاموا على الحق ولنجوا من السقوط والانهيار الحضاري والعمراني، وهذا مما يدل عليه قوله تعالى : ﴿فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ ﴾ [هود: 116].

وفي نهاية محاضرته نبه المحاضر مشكورا إلى أن هناك العديد من الآي في كتاب الله تعالى تنتظم فيها سنن الله ومشيئته في الأسباب والمسببات؛ في الأنفس والآفاق؛ في تربية الأمم والأفراد، وقد دعا إلى جعل هذه السنن علما من العلوم لتستديم ما فيها من الهداية العامة على أكمل وجه.

وأعقبت هذه المحاضرة تساؤلات ونقاشات وإضافات علمية منهجية في موضوع المحاضرة من قبل الحضور الكرام من السادة الأساتذة والباحثين والطلبة أغنت موضوع المنتدى في جل نواحيه.

إعداد: ذ. طه الراضي
مركز الدراسات القرآنية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق