مركز أبي الحسن الأشعري للدراسات والبحوت العقدية

الدورة التأهيلية الثانية في موضوع “حقيقة الإيمان ونبذ التكفير في المذهب الأشعري”

لا بد للعلماء
والباحثين والمختصين من القيام بحق الوقت في تجديد النظر الأشعري إلى
“ثنائية الإيمان والكفر”؛ تجديدا علميا يستوجب أولا الوقوف على مآتيها
اللغوية واستعمالاتها الشرعية وتداعياتها التاريخية، ثم استنباطَ الأصول
النظرية والقواعد العقلية التي يصدر عنها المذهب في تقرير أحكام الأسماء
الشرعية، والكد ثالثا في بعث روح التسامح والإعذار التي وجهت موقف جمهور
الأشاعرة من المخالفين في الاعتقاد من داخل دائرة “مقالات الإسلاميين”
وبرْي آليات الاشتباك مع دعاة التكفير لمناضلة هذه الظاهرة ـ الآفة سواء
في ثوبها القديم أو تجلياتها المعاصرة، مع الوعي ـ كلّ الوعي ـ بمكونات
الواقع الراهن على المستوى الحضاري والثقافي والحقوقي.. وهو تجديد
متعيَّن لا يتحقق إلا بالمكنة الشرعية اللازمة والإلمام بقواعد البحث
العلمي المعتبرة والفقه بمناطات إجراء الأسماء وتنزيل
الأحكام.
من أجل الظفر بهذه
الغايات النبيلة نظمت الرابطة المحمدية للعلماء عبر مركزها أبي الحسن
الأشعري للدراسات والبحوث العقدية، دورة تأهيلية ـ برحاب كلية الآداب
والعلوم الإنسانية بمرتيل ـ بعنوان “العقيدة الأشعرية: عطاء ونماء ـ
مفاتيح ومسارات” خُصِّصت لمطارحة موضوع: “حقيقة الإيمان ونبذ التكفير في
المذهب الأشعري: تحليل المفاهيم وتفكيك المقولات”. وقد اجتمع للمشاركة
في فعاليات هذه الدورة جلة من العلماء والباحثين المتخصصين انتظمت
مساهماتهم في ست مداخلات رئيسة، وعرف اللقاء حضورا بارزا من قبل
الأساتذة والطلبة والمهتمين بالشأن العقدي.
استهِلّ اللقاء بكلمات
ترحيبية وتأطيرية ابتدأها الدكتور مصطفى الغاشي (نائب عميد كلية الآداب
بمرتيل) فأفصح عن اغتباطه بالثمرات العملية الرائدة التي مافتئت تيْنع
بفضل الشراكة المتميزة التي تجمع كلية الآداب بالرابطة المحمدية للعلماء
للنهوض بالشأن العلمي محليا وإقليما ووطنيا، وهي الشراكة التي يندرج هذه
النشاط العلمي المتميز في صميم تنزيلها، متمنيا للحضور جميعا كريمَ
الوفادة برحاب الكلية وحسنَ الإفادة من فعاليات الدورة التأهيلية
المحضورة.
ثم تناول الكلمة مسير
الجلسة الدكتور أحمد عبادي (الأمين العام للرباطة المحمدية للعلماء)
عبّر من خلالها عن غامر سعادته ووافر اعتزازه بتنظيم هذه الدورة
التأهيلية والإسهام في برنامجها، مرحبا بضيوف الرابطة وكلية الآداب
وشاكرا لهم عناء الحضور وحسن الاهتمام، مشددا بعد ذلك على خطورة موضوع
التكفير وجسامته، ومنوها إلى ضرورة مجابهة خطاباته وتمظهراته عبر
المفاتشات العلمية والمطارحات الفكرية والتي تستلزم بدورها التحقق
بالكفايات التعليمية والتواصلية اللازمة للقيام بهذا الواجب الديني
والعلمي. وهو واجب قد اجتهد علماء الأشعرية قديما في النهوض به وفق رؤية
عقدية ـ كلامية عالمة رامت توضيح عقائد المسلمين وتحصينها ـ باعتبارها
“الهيكل العظمي” الذي تستند إليه باقي أعضاء الجسد؛ فإذا استوى كانت
مستوية وإذا اعوجّ اعوجت ـ ما جعل “من العقيدة الأشعرية” حصنا منيعا منع
من تسرّب أسباب الزيغ إلى أهله أو تشرّب شبهات إكفار عوام المسلمين
وتضليل معتقداتهم. وعلى منوال علماء الأشعرية الأقدمين يستأنف خلفهم
القيام بهذا الواجب الكفائي توضيحا لأحكام الإيمان والكفر، وتصحيحا
لجملة من المغالطات والتشغيبات التي علقت بهذين المفهومين العمدة في باب
الأسماء الشرعية  وأحكامها، وإشعاعا للمبادئ الإسلامية السمحة
القائمة على نبذ الغلو والتكفير والأخذ بالقصد والتوسط والتسامح. وهو ما
تنهض به المداخلات المدرجة في برنامج هذه الدورة التأهيلية.
في المداخلة
الأولى، قدم الدكتور جمال علال البختي (رئيس مركز أبي الحسن الأشعري)
معاقد التسامح العقدي وترك التكفير عند الأشاعرة من خلال الوقوف على
مقاربتهم الكلامية لجدلية الإيمان والكفر، مبتدئا باستهلال وصف فيه ما
كان للعامل السياسي ـ زمن الفتنة الكبرى ـ من يد طولى في زرع بذور
التكفير بين المسلمين، وهو الاجتيال العقدي الذي باء به الخوارج على علي
رضي الله عنه وانحرفوا به عن طرُق تدبير الاختلافات السياسية التي كانت
في زمن الخلفاء الثلاثة الأوّل التي امتازت بالبعد عن إصباغها بالصبغة
الدينية ووسْمها بالأحكام العقدية. ولم يكن لأهل السنة بدٌّ من مواجهة
هذا الغلو في الدين والانحراف في الحكم على المسلمين وتصنيف معتقداتهم؛
فقد انبرى الأشعري وأتباعُ  مدرسته ـ على غرار أسلافهم من أهل
السنة ـ لمقارعة هذا الخلل في فهم العقيدة ورفع الخلط بين المنازعات
السياسية والمفاتشات العلمية في تحديد أسماء الإيمان والكفر وتعيين
أحكامها، فكان أن أجمع علماء المذهب على انتفاء سبل إكفار أحد من أهل
القبلة بذنب خلافا للخوارج في تكفيرهم لمرتكبي الكبيرة أو المعتزلة في
سحب صفة الإيمان عنهم والقول بتخليدهم في النار، وقد قعدوا لتقرير هذا
الحكم جملة من القواعد الكلامية تقوم على التدقيق في حد مفاهيم:
“الإسلام” و”الإيمان” و”الكفر” و”الفسق” و”المعصية” و”الكبيرة”
و”التوبة” وطفقوا على شبهات الخصوم من المكفرة والمعتزلة ومقولاتهم
بالتفكيك والتحليل وبيان وجوه التغليط والتضليل المطوية فيها. ثم عرّج
الدكتور علال البختي على موضوع تكفير المقلدة في العقائد ـ والذي
يتناوله البعض شبهةً في اتهام الأشاعرة بالضلوع في تكفير عوام المسلمين
من جهة إيجاب النظر لمعرفة الله على جميع المكلفين ـ فأوضح ما قرره
جمهور الأشاعرة والتزموه في هذه المسألة من الإقرار بإيمان العوام
والمنع من الشك فيه. وفي هذا الصدد، وقف المتدخل على الفتنة الشهيرة
بفتنة ابن أبي محلي (ت. 1090هـ) التي وقعت في المغرب في القرن الحادي
عشر الهجري، والتي أثارها تكفير ابن أبي محلي لعوام المسلمين وطلبة عصره
لجهلهم بذات الله وصفاته وعجزهم عن تقرير العقائد والاستدلال عليها، وهي
الفتنة التي تصدى لها جلة من كبار علماء المغرب في مقدمتهم مبارك
العنبري (ت.1090هـ) صاحب كتاب “الكشف والتبيين في أن عبارات محمد بن عمر
في تكفير أكثر طلبة عصره وغيرهم خارقة لإجماع المسلمين”، وأبو سالم
العياشي (ت.1090هـ) صاحب كتاب “الحكم بالعدل والإنصاف، الرافع للخلاف،
فيما وقع بين فقهاء سجلماسة من الاختلاف، في تكفير من أقرَّ بوحدانية
الله وجهل بعض ما له من الأوصاف”، والحسن اليوسي (ت.1102هـ) صاحب كتاب
“مشرَب العام والخاص من كلمة الإخلاص”، وأبو عبد الله محمد المغراوي
شقرون (ت. 929هـ) الذي سبق هؤلاء جميعا بوضع كتاب “الجيش والكمين لقتال
من كفر عوام المسلمين”. وقد نقل الدكتور جمال نصوصا نفيسة من هذه الكتب
عزز بها موقف الأشاعرة المتسامح في تصحيح إيمان العوام، معللا القول
بوجوب النظر عند عدد من نظار المذهب بالبعد التعليمي الذي يهدف إلى
استنهاض العامة على فهم الدين والعقائد وحثهم على طلب الأدلة الإجمالية
لتحصين معتقادتهم والدفاع عنها ضد الانحرافات والخرافات. واختتم الدكتور
مداخلته بالتنبيه إلى ما سماه بـ”التكفير النسقي” الذي يمكن أن نجده عند
بعض المتكلمين، وعرّفه بكونه تكفيرا عقلانيا مجردا صادرا عن نسقية صارمة
من المسلمات والبديهيات يصدر عنها أتباع كل مذهب و”يكفر” بها الخصوم،
لذلك لا ينبغي توظيف التكفير النسقي توظيفا سياسيا أو فقهيا، لأنه مغاير
للكفر من جهة اعتباره حكما شرعيا.
أما المداخلة الثانية
فقد انطلق فيها الدكتور أحمد عبادي من الأرضية التعريفية لمفهوم
الإيمان، متأملا في معنييْ “التصديق” و”الأمن” الذيْن يكوّنان حقيقته؛
فالإيمان عند السادة الأشاعرة يرادف التصديق كما في قوله تعالى في سورة
يوسف: {وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين}، وهو أيضا ينطوي على دلالة
الأمن لاشتقاقه من مادة “أمان”؛ فيكون المؤمن مؤمَّنا من الخوف مطمئنا
على نفسه ومصيره. ومن هذه العلاقة الدلالية بين التصديق والأمن في مفهوم
الإيمان نفهم مجموعة من الأحاديث والآثار التي أقر فيها الرسول صلى الله
عليه وسلم بإيمان الناس بمجرد النطق بالشهادتين أو التعبير بما يفيد ذلك
ونهى عن التشكيك في صحة إسلام الناس أو الحفر والنقر في عقائدهم للتأكد
من إيمانهم. ويدل على التوجيه الأول “حديث الجارية” التي أقر لها الرسول
بالإيمان بمجرد جوابها عن سؤال: أين الله؟ بقولها: “في السماء” ولم
يكلفها أكثر من ذلك لخلع اسم الإيمان عليها، كما يدل على التوجيه الثاني
غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أسامة بن زيد لقتله رجلا نطق
بالشهادتين معتقدا أنه إنما فعل ذلك عصمةً لدمه، فنهره الرسول بقوله:
“هلا شققت على قلبه؟”.. مثل هذه النماذج ـ وغيرها كثير ـ يدل على “مقصد
اليسر” في تكليف العباد، وهو يتمانع بالكلية مع أسلوب محاكم التفتيش
التي يولع بها المكفرة والخوارج لإكفار الناس وإخراجهم من دائرة الإسلام
ليصوغوا بذلك إراقتهم للدماء وهتكهم للأعراض واستحلال أموال المسلمين
المكفَّرين. وإمعانا في تقرير هذا المقصد تصدى الدكتور عبادي لشبه أربع
كبرى يستمسك بها كلية أو جزئيا المجترئ على التكفير؛ أولاها أنه لا
ينبغي للمسلم أن يكون مقلدا في العقائد، وإنما عليه أن يطلب لكل معتقد
دليله على وجه التفصيل وهذا متعذر في وجه عموم الناس لتفاوت أفهامهم
وقدراتهم في التعبير والإفهام والاستدلال، وقد ذكّر المتدخل في هذا
الخصوص بالدمغة الفطرية التي فطر اللهُ الناسَ عليها مستشهدا بآية
الإشهاد. الشبهة الثانية تتمثل في انتداب فئة من الناس أنفسَهم ـ سماهم
النابتة ـ للنظر في إيمان العباد والنبش في قرارة النفوس، وهو تكليف
للنفس وللغير بما لم يكلفهم به الله تعالى. ثالثة الشبهات تتجلى في
الزعم القائل بأن العقيدة بناء ونسق من لا يعرفهما على وجه التمام
والتفصيل ويكون على دراية بمنهج انبنائهما فإن عقيدته مدخولة، وهذا أيضا
تكليف بما لم نُكلف به، وقد توسل الدكتور عبادي بحديث جبريل المشهور في
تعريف الإيمان للدلالة على وضوح أصول الإيمان. وأما الشبهة الرابعة فتخص
هوس النابتة بتصنيف عقائد الناس وتصنيفهم تصنيفا يخرجهم من “الفرقة
الناجية”، وهذا تحكّم ومدعاة إلى التكفير والتطرف. وبعد أن ذّكّر
المتدخل بفتنة ابن أبي محلي الشهيرة وما أحدثته من تكفير لعامة المسلمين
وقلاقل وصراعات في عصر من عصور المغرب، دعا فضيلته إلى الانبراء، اليومَ
كما علماء الأشاعرة بالأمس، إلى نبذ آفة التكفير والتطرف في الدين وبعث
روح التسامح بين المسلمين وإشاعة الطمأنينة بينهم معتبرا ذلك واجبا على
أهل الاختصاص.
وخدمة لهذا الواجب الذي
دعا فضيلة الأمين العام إلى القيام به، كان مركز أجيال للتكوين والوقاية
الاجتماعية ـ التابع للرابطة المحمدية للعلماء ـ قد نظم مسابقة دولية
للتحسيس بمخاطر التطرف لدى فئات الأطفال والشباب، وهي المسابقة التي
تفضل الدكتور عبد اللطيف شهبون في هذه الدورة التأهيلية بالتعريف بها
وبيان سياقها ومقاصدها من خلال مداخلة علمية شدد فيها على أهمية النهوض
بثقافة الأمن ببلادنا بل وفي العالم أجمع وخصوصا الأمن الروحي. وفي هذا
الصدد أشاد المتدخل بالعمل النوعي والمتميز الذي تقوم به الرابطة
المحمدية للعلماء ومختلف مراكزها البحثية التي تنتشر في جميع جهات
المملكة لمناهضة خطاب التطرف والإرهاب وفق منظور علمي متبصر ورؤية
جمالية بانية. ثم بعد ذلك عرض الدكتور شهبون لثمرة هذه المسابقة الدولية
والتي تمحضت في كتاب مطبوع يضم ثمان وثمانين مشاركة باللغتين العربية
والفرنسية ساهم بها مبدعون من مختلف البلدان العربية ومن أوربا وأمريكا.
وقد كان الغرض منها الإسهام في بناء آليات مواطنة تمكّن من الإحساس
بمخاطر التطرف والإرهاب والاقتدار على مواجهة الخطابات الهادمة استهداءً
بقيم الإسلام السمحة.
وفي كلمة بعنوان
«الأسماء والأحكام في المنظومة الأشعرية» تطرق
الدكتور عبد القادر بطار (جامعة محمد الأول-وجدة) إلى التكفير وحقله
الدلالي واستعمالاته الإصطلاحية بوصفه تسمية وحكما شرعيا على الناس،
ممهدا ورقته بالسياقات التاريخية الأولى للأشعرية في المغرب، ومدى
احتفاء المغاربة بهذا المذهب عمومـا، مبرزا إشادة القاضي عياض بالأثر
المشهور عن الأشعري في نفيه عن نفسه التكفير وأن الكل يشير إلى معبود
واحد وإنما صراع المتكلمين عبارة عن اختلاف الألفاظ والعبارات، وقد أكّد
الباحث أن الأشاعرة لا يكفرون، موضحا أنهم لا يستعملون هذا المصطلح في
منظومتهم، وأن لفظة التكفير غير موجودة في مجالهم التداولي، وإنما
الموجود كلمة «إكفار»، وهي لا تُستعمل حتى مع أشد
خصومهم وهم المعتزلة، ويرجع ذلك إلى طبيعة تناول الأشعري للفرق المخالفة
في كتابه «مقالات الإسلاميين»، فهو يؤكد في مقدمته
على أن الإسلام يجمع هؤلاء الفِرق ويشتمل عليهم، مدعما قول الأشعري بما
انتهى إليه الغزالي في كتابه «الاقتصاد في
الاعتقاد». ويرجع النهي عن التكفير إلى خطورة ما يترتب عليه
من أمور جسيمة تتعلق بالحقوق والمعاملات، وأهم مسألة مثّل بها المحاضر
هي قضية تكفير مرتكبي الكبيرة، ومدى دقة تعامل الأشاعرة معها من حيث
التدقيق في الاصطلاح والنظر، مبرزا الطريقة النظرية في حل معضلة تفشت
بين الفرق الكلامية، فجهة قامت بتكفير مرتكب الكبيرة، والأخرى جرّدت
الإيمان من كل عمل، مبينا أن توجه الأشاعرة قام على مبدأ شطرية العمل
بدل شرطيته، عبر التفرقة بين الإيمان بوصفه تصديقاً والعمل بوصفه أفعال
الجوارح، وهو رأي يخالف ما نسبه ابن حزم للأشعري كما وضح المحاضر. وختم
ورقته بتتبع بعض تجليات الأسماء والأحكام في مسائل من قبيل زيادة
الإيمان ونقصانه، وتكفير المقلد الذي أكّد تراجع السنوسي عن القول
به.
وقدم الدكتور خالد زهري
(الخزانة الحسنية-الرباط) ورقة بعنوان «الخطاب التكفيري
المعاصر: تفكيك المرجعية وتحليل الخطاب»، عالج فيها التكفير
من زاوية ادعاء أصحابه أنهم الممثل الحقيقي لأهل السنة والجماعة، كاشفا
عن المغالطات المنطقية في هذه الدعوى، وما يترتب عن ذلك من مقاصد
ورهانات، مستهلا كلمته بعرض ثلاث مقدمات ممهدات شخّص فيها تصورات
الجماعات التكفيرية، في الأولى أكد على قصور المقاربة الأمنية دون
الالتجاء إلى الحفر عن الأساس الإيديولوجي لهذه الجمـاعات. وفي الثانية
نبّه إلى أن هذه الجماعات تعتقد بتفردها تمثيل أهل السنة والجماعة
مقصيةً الفرق الأخرى، مبينا أن العلاقات بين الفِرق كانت علاقات حدود،
وأصبحت مع هؤلاء علاقات وجود. وفي الثالثة بيّن أن هذه الجماعات تجسيمية
في تعاملها مع مبحث الذات والصفات، ممثلا ببعض الكتابات المتداولة.
موضحا بعد ذلك هذه الدعوى من خلال مواقف أصحابها الأربعة، فهم بحسب
المحاضر مُجسّمة في الموقف من الذات والصفات، ونواصب في موقفهم من أهل
البيت، وخوارج في موقفهم من الإمامة، ومحاربون في موقفهم من الأمة،
مستنتجا مقاصد خطابهم، فهم في تحريمهم لعلم الكلام يقصدون القضاء على
المذاهب الكلامية من أشاعرة وماتريدية، ومقصدهم من تحريم التقليد
المذهبي فرض شذوذات المذهب الحنبلي، واستفاضتهم في خطاب الوعظ والإرشاد
الغرض منه شحن العقول والنفوس بانفعالات تسهل لهم استمالة العوام ودغدغة
عواطفهم، وبنية هذا الخطاب بحسب المتدخل تستند على مرجعية ابن تيمية،
وهي مرجعية تثير الكثير من التساؤلات من حيث المواقف المتباينة
والمتناقضة لابن تيمية، مستشكلا مدى صحة ما نُسب إليه. وفي الخاتمة قدّم
مقترحا دعا فيه إلى إنشاء مدونة تتضمن تقريرات عقدية على شاكلة مدونة
الأسرة.
وعن مقاربة مواقف
الأشاعرة من مشكلة التكفير قدمت الدكتورة إكرام بولعيش (باحثة في الفكر
الأشعري-تطوان) مداخلة بعنوان «مواقف الأشعرية من قضية
التكفير: وقفات ومقاربـات» عرضت من خلالها تصورا جمعت فيه بين
الوعي بتاريخ الظاهرة بوصفها بذرة تفتقت عن فكر الخوارج بدوافع سياسية
حكَّمت العقيدة في مآلاتها، وما ترتب عن ذلك من نزاع كلامي بين الفرق في
الأسماء والأحكـام، وبين النظر إلى الطرح الأشعري بوصفه مشروعاً إصلاحيا
يعيد الأطراف المتباعدة إلى نقطة الالتقاء ويبتغي السبيل بين الطرفين
ضمانا للتوازن، وذلك بتكريس الاعتراف بمشروعية الاختلاف لحل هذه المعضلة
التي تسببت في التفرقة والصراع، مؤكدة على ضرورة ضبط المفاهيم من أجل
استيعاب مساهمة الأشاعرة، وأهم مفهوم هو الإيمان الذي يجمعون على أنه
تصديق شرعي مخصوص مخصَّصٌ من عموم اللغة، والتصديق الشرعي محلُه القلب،
وعن هذا المعنى تترتب مجموع من المسائل فصّل فيها الأشاعرة، ونتيجتها
أنه لا يكفر إلا من أنكر ما علم بالضرورة مجيء الرسول به، وقد قامت
المحاضِرة بمحاولة تتبع الأصول النظرية الأولى للتكفير في التقعيد
العقلي، ممثلة لذلك بمسألة اعتبار الشاهد والغائب في إثبات العلم
بالصفات الأزلية، وهي مسألة توسط الأشاعرة فيهـا بشرط الجمع في صحته بين
التشبيه والتعطيل، مقتصرة في وجوه الجمع الأربعة على وجه واحد هو
«الدليل والمدلول»، ومبينة مدى الاختلاف في طبيعة
العلاقة اللزومية بين هذين الطرفين من حيث الطرد والانعكاس، فالبرغم من
إحكام البناء العقلي للعقائد على يد الباقلاني والجويني، بقدر ما فتح
بابا للتشكيك فيه؛ إذ لا يمكن أن تخضع ثبوت العقائد بأدلة عقلية بعينها
لزوما دون غيرها مع كون أدلة العقول لا بد أن تختلف بين النظار، لذلك
فإن مراجعة طريقة النظر من طرف المتأخرين خاصة في قواعدها المتعلقة
بالانعكاس عند المتقدمين وإبطال العلاقة اللزومية بين الدليل والمدلول
كان من شأنه أن فتح إمكانية وجود أدلة متعددة لمدلول واحد فلا يكفر أحد
بعدم معرفته دليلا معينا على العقائد.
وفي ختام هذه الدورة
فتح مسير الجلسة الباب للمناقشة، حيث كشفت الأسئلة والتعقيبات عن مدى
الاهتمام بقضية التكفير بوصفه إشكالية مؤرقة ذات أبعاد مركبة وعوامل
متعددة ومتباينة، وظاهرة معضلة تستنهض همم العلماء وأهل الفكر والنظر
للتصدي لها بالمقاربات المعرفية المنوطة بهم، ومنها الدعوة إلى إحياء ما
في تراثنا الكلامي في منحاه الأشعري من مسارات ومفاتيح تحاصر التكفير
بالتفكير، وظاهرته بالتفكيك، من أجل استلهام ما يتضمنه من عطاء ونماء
لإشاعة روح التسامح وفكر الوسطية ومنطق الاعتدال.

لا بد للعلماء والباحثين والمختصين من القيام بحق الوقت في تجديد النظر الأشعري إلى “ثنائية الإيمان والكفر”؛ تجديدا علميا يستوجب أولا الوقوف على مآتيها اللغوية واستعمالاتها الشرعية وتداعياتها التاريخية، ثم استنباطَ الأصول النظرية والقواعد العقلية التي يصدر عنها المذهب في تقرير أحكام الأسماء الشرعية، والكد ثالثا في بعث روح التسامح والإعذار التي وجهت موقف جمهور الأشاعرة من المخالفين في الاعتقاد من داخل دائرة “مقالات الإسلاميين” وبرْي آليات الاشتباك مع دعاة التكفير لمناضلة هذه الظاهرة ـ الآفة سواء في ثوبها القديم أو تجلياتها المعاصرة، مع الوعي ـ كلّ الوعي ـ بمكونات الواقع الراهن على المستوى الحضاري والثقافي والحقوقي.. وهو تجديد متعيَّن لا يتحقق إلا بالمكنة الشرعية اللازمة والإلمام بقواعد البحث العلمي المعتبرة والفقه بمناطات إجراء الأسماء وتنزيل الأحكام.

من أجل الظفر بهذه الغايات النبيلة نظمت الرابطة المحمدية للعلماء عبر مركزها أبي الحسن الأشعري للدراسات والبحوث العقدية، دورة تأهيلية ـ برحاب كلية الآداب والعلوم الإنسانية بمرتيل ـ بعنوان “العقيدة الأشعرية: عطاء ونماء ـ مفاتيح ومسارات” خُصِّصت لمطارحة موضوع: “حقيقة الإيمان ونبذ التكفير في المذهب الأشعري: تحليل المفاهيم وتفكيك المقولات”. وقد اجتمع للمشاركة في فعاليات هذه الدورة جلة من العلماء والباحثين المتخصصين انتظمت مساهماتهم في ست مداخلات رئيسة، وعرف اللقاء حضورا بارزا من قبل الأساتذة والطلبة والمهتمين بالشأن العقدي.

استهِلّ اللقاء بكلمات ترحيبية وتأطيرية ابتدأها الدكتور مصطفى الغاشي (نائب عميد كلية الآداب بمرتيل) فأفصح عن اغتباطه بالثمرات العملية الرائدة التي مافتئت تيْنع بفضل الشراكة المتميزة التي تجمع كلية الآداب بالرابطة المحمدية للعلماء للنهوض بالشأن العلمي محليا وإقليما ووطنيا، وهي الشراكة التي يندرج هذه النشاط العلمي المتميز في صميم تنزيلها، متمنيا للحضور جميعا كريمَ الوفادة برحاب الكلية وحسنَ الإفادة من فعاليات الدورة التأهيلية المحضورة.

ثم تناول الكلمة مسير الجلسة الدكتور أحمد عبادي (الأمين العام للرباطة المحمدية للعلماء) عبّر من خلالها عن غامر سعادته ووافر اعتزازه بتنظيم هذه الدورة التأهيلية والإسهام في برنامجها، مرحبا بضيوف الرابطة وكلية الآداب وشاكرا لهم عناء الحضور وحسن الاهتمام، مشددا بعد ذلك على خطورة موضوع التكفير وجسامته، ومنوها إلى ضرورة مجابهة خطاباته وتمظهراته عبر المفاتشات العلمية والمطارحات الفكرية والتي تستلزم بدورها التحقق بالكفايات التعليمية والتواصلية اللازمة للقيام بهذا الواجب الديني والعلمي. وهو واجب قد اجتهد علماء الأشعرية قديما في النهوض به وفق رؤية عقدية ـ كلامية عالمة رامت توضيح عقائد المسلمين وتحصينها ـ باعتبارها “الهيكل العظمي” الذي تستند إليه باقي أعضاء الجسد؛ فإذا استوى كانت مستوية وإذا اعوجّ اعوجت ـ ما جعل “من العقيدة الأشعرية” حصنا منيعا منع من تسرّب أسباب الزيغ إلى أهله أو تشرّب شبهات إكفار عوام المسلمين وتضليل معتقداتهم. وعلى منوال علماء الأشعرية الأقدمين يستأنف خلفهم القيام بهذا الواجب الكفائي توضيحا لأحكام الإيمان والكفر، وتصحيحا لجملة من المغالطات والتشغيبات التي علقت بهذين المفهومين العمدة في باب الأسماء الشرعية  وأحكامها، وإشعاعا للمبادئ الإسلامية السمحة القائمة على نبذ الغلو والتكفير والأخذ بالقصد والتوسط والتسامح. وهو ما تنهض به المداخلات المدرجة في برنامج هذه الدورة التأهيلية.

في المداخلة الأولى، قدم الدكتور جمال علال البختي (رئيس مركز أبي الحسن الأشعري) معاقد التسامح العقدي وترك
التكفير عند الأشاعرة من خلال الوقوف على مقاربتهم الكلامية لجدلية الإيمان والكفر، مبتدئا باستهلال وصف فيه ما كان للعامل السياسي ـ زمن الفتنة الكبرى ـ من يد طولى في زرع بذور التكفير بين المسلمين، وهو الاجتيال العقدي الذي باء به الخوارج على علي رضي الله عنه وانحرفوا به عن طرُق تدبير الاختلافات السياسية التي كانت في زمن الخلفاء الثلاثة الأوّل التي امتازت بالبعد عن إصباغها بالصبغة الدينية ووسْمها بالأحكام العقدية. ولم يكن لأهل السنة بدٌّ من مواجهة هذا الغلو في الدين والانحراف في الحكم على المسلمين وتصنيف معتقداتهم؛ فقد انبرى الأشعري وأتباعُ  مدرسته ـ على غرار أسلافهم من أهل السنة ـ لمقارعة هذا الخلل في فهم العقيدة ورفع الخلط بين المنازعات السياسية والمفاتشات العلمية في تحديد أسماء الإيمان والكفر وتعيين أحكامها، فكان أن أجمع علماء المذهب على انتفاء سبل إكفار أحد من أهل القبلة بذنب خلافا للخوارج في تكفيرهم لمرتكبي الكبيرة أو المعتزلة في سحب صفة الإيمان عنهم والقول بتخليدهم في النار، وقد قعدوا لتقرير هذا الحكم جملة من القواعد الكلامية تقوم على التدقيق في حد مفاهيم: “الإسلام” و”الإيمان” و”الكفر” و”الفسق” و”المعصية” و”الكبيرة” و”التوبة” وطفقوا على شبهات الخصوم من المكفرة والمعتزلة ومقولاتهم بالتفكيك والتحليل وبيان وجوه التغليط والتضليل المطوية فيها. ثم عرّج الدكتور علال البختي على موضوع تكفير المقلدة في العقائد ـ والذي يتناوله البعض شبهةً في اتهام الأشاعرة بالضلوع في تكفير عوام المسلمين من جهة إيجاب النظر لمعرفة الله على جميع المكلفين ـ فأوضح ما قرره جمهور الأشاعرة والتزموه في هذه المسألة من الإقرار بإيمان العوام والمنع من الشك فيه. وفي هذا الصدد، وقف المتدخل على الفتنة الشهيرة بفتنة ابن أبي محلي (ت. 1090هـ) التي وقعت في المغرب في القرن الحادي عشر الهجري، والتي أثارها تكفير ابن أبي محلي لعوام المسلمين وطلبة عصره لجهلهم بذات الله وصفاته وعجزهم عن تقرير العقائد والاستدلال عليها، وهي الفتنة التي تصدى لها جلة من كبار علماء المغرب في مقدمتهم مبارك العنبري (ت.1090هـ) صاحب كتاب “الكشف والتبيين في أن عبارات محمد بن عمر في تكفير أكثر طلبة عصره وغيرهم خارقة لإجماع المسلمين”، وأبو سالم العياشي (ت.1090هـ) صاحب كتاب “الحكم بالعدل والإنصاف، الرافع للخلاف، فيما وقع بين فقهاء سجلماسة من الاختلاف، في تكفير من أقرَّ بوحدانية الله وجهل بعض ما له من الأوصاف”، والحسن اليوسي (ت.1102هـ) صاحب كتاب “مشرَب العام والخاص من كلمة الإخلاص”، وأبو عبد الله محمد المغراوي شقرون (ت. 929هـ) الذي سبق هؤلاء جميعا بوضع كتاب “الجيش والكمين لقتال من كفر عوام المسلمين”. وقد نقل الدكتور جمال نصوصا نفيسة من هذه الكتب عزز بها موقف الأشاعرة المتسامح في تصحيح إيمان العوام، معللا القول بوجوب النظر عند عدد من نظار المذهب بالبعد التعليمي الذي يهدف إلى استنهاض العامة على فهم الدين والعقائد وحثهم على طلب الأدلة الإجمالية لتحصين معتقادتهم والدفاع عنها ضد الانحرافات والخرافات. واختتم الدكتور مداخلته بالتنبيه إلى ما سماه بـ”التكفير النسقي” الذي يمكن أن نجده عند بعض المتكلمين، وعرّفه بكونه تكفيرا عقلانيا مجردا صادرا عن نسقية صارمة من المسلمات والبديهيات يصدر عنها أتباع كل مذهب و”يكفر” بها الخصوم، لذلك لا ينبغي توظيف التكفير النسقي توظيفا سياسيا أو فقهيا، لأنه مغاير للكفر من جهة اعتباره حكما شرعيا. أما المداخلة الثانية فقد انطلق فيها الدكتور أحمد عبادي من الأرضية التعريفية لمفهوم الإيمان، متأملا في معنييْ “التصديق” و”الأمن” الذيْن يكوّنان حقيقته؛ فالإيمان عند السادة الأشاعرة يرادف التصديق كما في قوله تعالى في سورة يوسف: {وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين}، وهو أيضا ينطوي على دلالة الأمن لاشتقاقه من مادة “أمان”؛ فيكون المؤمن مؤمَّنا من الخوف مطمئنا على نفسه ومصيره. ومن هذه العلاقة الدلالية بين التصديق والأمن في مفهوم الإيمان نفهم مجموعة من الأحاديث والآثار التي أقر فيها الرسول صلى الله عليه وسلم بإيمان الناس بمجرد النطق بالشهادتين أو التعبير بما يفيد ذلك ونهى عن التشكيك في صحة إسلام الناس أو الحفر والنقر في عقائدهم للتأكد من إيمانهم. ويدل على التوجيه الأول “حديث الجارية” التي أقر لها الرسول بالإيمان بمجرد جوابها عن سؤال: أين الله؟ بقولها: “في السماء” ولم يكلفها أكثر من ذلك لخلع اسم الإيمان عليها، كما يدل على التوجيه الثاني غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أسامة بن زيد لقتله رجلا نطق بالشهادتين معتقدا أنهإنما فعل ذلك عصمةً لدمه، فنهره الرسول بقوله: “هلا شققت على قلبه؟”.. مثل هذه النماذج ـ وغيرها كثير ـ يدل على “مقصد اليسر” في تكليف العباد، وهو يتمانع بالكلية مع أسلوب محاكم التفتيش التي يولع بها المكفرة والخوارج لإكفار الناس وإخراجهم من دائرة الإسلام ليصوغوا بذلك إراقتهم للدماء وهتكهم للأعراض واستحلال أموال المسلمين المكفَّرين. وإمعانا في تقرير هذا المقصد تصدى الدكتور عبادي لشبه أربع كبرى يستمسك بها كلية أو جزئيا المجترئ على التكفير؛ أولاها أنه لا ينبغي للمسلم أن يكون مقلدا في العقائد، وإنما عليه أن يطلب لكل معتقد دليله على وجه التفصيل وهذا متعذر في وجه عموم الناس لتفاوت أفهامهم وقدراتهم في التعبير والإفهام والاستدلال، وقد ذكّر المتدخل في هذا الخصوص بالدمغة الفطرية التي فطر اللهُ الناسَ عليها مستشهدا بآية الإشهاد. الشبهة الثانية تتمثل في انتداب فئة من الناس أنفسَهم ـ سماهم النابتة ـ للنظر في إيمان العباد والنبش في قرارة النفوس، وهو تكليف للنفس وللغير بما لم يكلفهم به الله تعالى. ثالثة الشبهات تتجلى في الزعم القائل بأن العقيدة بناء ونسق من لا يعرفهما على وجه التمام والتفصيل ويكون على دراية بمنهج انبنائهما فإن عقيدته مدخولة، وهذا أيضا تكليف بما لم نُكلف به، وقد توسل الدكتور عبادي بحديث جبريل المشهور في تعريف الإيمان للدلالة على وضوح أصول الإيمان. وأما الشبهة الرابعة فتخص هوس النابتة بتصنيف عقائد الناس وتصنيفهم تصنيفا يخرجهم من “الفرقة الناجية”، وهذا تحكّم ومدعاة إلى التكفير والتطرف. وبعد أن ذّكّر المتدخل بفتنة ابن أبي محلي الشهيرة وما أحدثته من تكفير لعامة المسلمين وقلاقل وصراعات في عصر من عصور المغرب، دعا فضيلته إلى الانبراء، اليومَ كما علماء الأشاعرة بالأمس، إلى نبذ آفة التكفير والتطرف في الدين وبعث روح التسامح بين المسلمين وإشاعة الطمأنينة بينهم معتبرا ذلك واجبا على أهل الاختصاص.

وخدمة لهذا الواجب الذي دعا فضيلة الأمين العام إلى القيام به، كان مركز أجيال للتكوين والوقاية الاجتماعية ـ التابع للرابطة المحمدية للعلماء ـ قد نظم مسابقة دولية للتحسيس بمخاطر التطرف لدى فئات الأطفال والشباب، وهي المسابقة التي تفضل الدكتور عبد اللطيف شهبون في هذه الدورة التأهيلية بالتعريف بها وبيان سياقها ومقاصدها من خلال مداخلة علمية شدد فيها على أهمية النهوض بثقافة الأمن ببلادنا بل وفي العالم أجمع وخصوصا الأمن الروحي. وفي هذا الصدد أشاد المتدخل بالعمل النوعي والمتميز الذي تقوم به الرابطة المحمدية للعلماء ومختلف مراكزها البحثية التي تنتشر في جميع جهات المملكة لمناهضة خطاب التطرف والإرهاب وفق منظور علمي متبصر ورؤية جمالية بانية. ثم بعد ذلك عرض الدكتور شهبون لثمرة هذه المسابقة الدولية والتي تمحضت في كتاب مطبوع يضم ثمان وثمانين مشاركة باللغتين العربية والفرنسية ساهم بها مبدعون من مختلف البلدان العربية ومن أوربا وأمريكا. وقد كان الغرض منها الإسهام في بناء آليات مواطنة تمكّن من الإحساس بمخاطر التطرف والإرهاب والاقتدار على مواجهة الخطابات الهادمة استهداءً بقيم الإسلام السمحة.

وفي كلمة بعنوان «الأسماء والأحكام في المنظومة الأشعرية» تطرق الدكتور عبد القادر بطار (جامعة محمد الأول-وجدة) إلى التكفير وحقله الدلالي واستعمالاته الإصطلاحية بوصفه تسمية وحكما شرعيا على الناس، ممهدا ورقته بالسياقات التاريخية الأولى للأشعرية في المغرب، ومدى احتفاء المغاربة بهذا المذهب عمومـا، مبرزا إشادة القاضي عياض بالأثر المشهور عن الأشعري في نفيه عن نفسه التكفير وأن الكل يشير إلى معبود واحد وإنما صراع المتكلمين عبارة عن اختلاف الألفاظ والعبارات، وقد أكّد الباحث أن الأشاعرة لا يكفرون، موضحا أنهم لا يستعملون هذا المصطلح في منظومتهم، وأن لفظة التكفير غير موجودة في مجالهم التداولي، وإنما الموجود كلمة «إكفار»، وهي لا تُستعمل حتى مع أشد خصومهم وهم المعتزلة، ويرجع ذلك إلى طبيعة تناول الأشعري للفرق المخالفة في كتابه «مقالات الإسلاميين»، فهو يؤكد في مقدمته على أن الإسلام يجمع هؤلاء الفِرق ويشتمل عليهم، مدعما قول الأشعري بما انتهى إليه الغزالي في كتابه «الاقتصاد في الاعتقاد». ويرجع النهي عن التكفير إلى خطورة ما يترتب عليه من أمور جسيمة تتعلق بالحقوق والمعاملات، وأهم مسألة مثّل بها المحاضر هي قضية تكفير مرتكبي الكبيرة، ومدى دقة تعامل الأشاعرة معها من حيث التدقيق في الاصطلاح والنظر، مبرزا الطريقة النظرية في حل معضلة تفشت بين الفرق الكلامية، فجهة قامت بتكفير مرتكب الكبيرة، والأخرى جرّدت الإيمان من كل عمل، مبينا أن توجه الأشاعرة قام على مبدأ شطرية العمل بدل شرطيته، عبر التفرقة بين الإيمان بوصفه تصديقاً والعمل بوصفه أفعال الجوارح، وهو رأي يخالف ما نسبه ابن حزم للأشعري كما وضح المحاضر. وختم ورقته بتتبع بعض تجليات الأسماء والأحكام في مسائل من قبيل زيادة الإيمان ونقصانه، وتكفير المقلد الذي أكّد تراجع السنوسي عن القول به.

وقدم الدكتور خالد زهري (الخزانة الحسنية-الرباط) ورقة بعنوان «الخطاب التكفيري المعاصر: تفكيك المرجعية وتحليل الخطاب»، عالج فيها التكفير من زاوية ادعاء أصحابه أنهم الممثل الحقيقي لأهل السنة والجماعة، كاشفا عن المغالطات المنطقية في هذه الدعوى، وما يترتب عن ذلك من مقاصد ورهانات، مستهلا كلمته بعرض ثلاث مقدمات ممهدات شخّص فيها تصورات الجماعات التكفيرية، في الأولى أكد على قصور المقاربة الأمنية دون الالتجاء إلى الحفر عن الأساس الإيديولوجي لهذه الجمـاعات. وفي الثانية نبّه إلى أن هذه الجماعات تعتقد بتفردها تمثيل أهل السنة والجماعة مقصيةً الفرق الأخرى، مبينا أن العلاقات بين الفِرق كانت علاقات حدود، وأصبحت مع هؤلاء علاقات وجود. وفي الثالثة بيّن أن هذه الجماعات تجسيمية في تعاملها مع مبحث الذات والصفات، ممثلا ببعض الكتابات المتداولة. موضحا بعد ذلك هذه الدعوى من خلال مواقف أصحابها الأربعة، فهم بحسب المحاضر مُجسّمة في الموقف من الذات والصفات، ونواصب في موقفهم من أهل البيت، وخوارج في موقفهم من الإمامة، ومحاربون في موقفهم من الأمة، مستنتجا مقاصد خطابهم، فهم في تحريمهم لعلم الكلام يقصدون القضاء على المذاهب الكلامية من أشاعرة وماتريدية، ومقصدهم من تحريم التقليد المذهبي فرض شذوذات المذهب الحنبلي، واستفاضتهم في خطاب الوعظ والإرشاد الغرض منه شحن العقول والنفوس بانفعالات تسهل لهم استمالة العوام ودغدغة عواطفهم، وبنية هذا الخطاب بحسب المتدخل تستند على مرجعية ابن تيمية، وهي مرجعية تثير الكثير من التساؤلات من حيث المواقف المتباينة والمتناقضة لابن تيمية، مستشكلا مدى صحة ما نُسب إليه. وفي الخاتمة قدّم مقترحا دعا فيه إلى إنشاء مدونة تتضمن تقريرات عقدية على شاكلة مدونة الأسرة.

وعن مقاربة مواقف الأشاعرة من مشكلة التكفير قدمت الدكتورة إكرام بولعيش (باحثة في الفكر الأشعري-تطوان) مداخلة بعنوان «مواقف الأشعرية من قضية التكفير: وقفات ومقاربـات» عرضت من خلالها تصورا جمعت فيه بين الوعي بتاريخ الظاهرة بوصفها بذرة تفتقت عن فكر الخوارج بدوافع سياسية حكَّمت العقيدة في مآلاتها، وما ترتب عن ذلك من نزاع كلامي بين الفرق في الأسماء والأحكـام، وبين النظر إلى الطرح الأشعري بوصفه مشروعاً إصلاحيا يعيد الأطراف المتباعدة إلى نقطة الالتقاء ويبتغي السبيل بين الطرفين ضمانا للتوازن، وذلك بتكريس الاعتراف بمشروعية الاختلاف لحل هذه المعضلة التي تسببت في التفرقة والصراع، مؤكدة على ضرورة ضبط المفاهيم من أجل استيعاب مساهمة الأشاعرة، وأهم مفهوم هو الإيمان الذي يجمعون على أنه تصديق شرعي مخصوص مخصَّصٌ من عموم اللغة، والتصديق الشرعي محلُه القلب، وعن هذا المعنى تترتب مجموع من المسائل فصّل فيها الأشاعرة، ونتيجتها أنه لا يكفر إلا من أنكر ما علم بالضرورة مجيء الرسول به، وقد قامت المحاضِرة بمحاولة تتبع الأصول النظرية الأولى للتكفير في التقعيد العقلي، ممثلة لذلك بمسألة اعتبار الشاهد والغائب في إثبات العلم بالصفات الأزلية، هي مسألة توسط الأشاعرة فيهـا بشرط الجمع في صحته بين التشبيه والتعطيل، مقتصرة في وجوه الجمع الأربعة على وجه واحد هو «الدليل والمدلول»، ومبينة مدى الاختلاف في طبيعة العلاقة اللزومية بين هذين الطرفين من حيث الطرد والانعكاس، فالبرغم من إحكام البناء العقلي للعقائد على يد الباقلاني والجويني، بقدر ما فتح بابا للتشكيك فيه؛ إذ لا يمكن أن تخضع ثبوت العقائد بأدلة عقلية بعينها لزوما دون غيرها مع كون أدلة العقول لا بد أن تختلف بين النظار، لذلك فإن مراجعة طريقة النظر من طرف المتأخرين خاصة في قواعدها المتعلقة بالانعكاس عند المتقدمين وإبطال العلاقة اللزومية بين الدليل والمدلول كان من شأنه أن فتح إمكانية وجود أدلة متعددة لمدلول واحد فلا يكفر أحد بعدم معرفته دليلا معينا على العقائد.

وفي ختام هذه الدورة فتح مسير الجلسة الباب للمناقشة، حيث كشفت الأسئلة والتعقيبات عن مدى الاهتمام بقضية التكفير بوصفه إشكالية مؤرقة ذات أبعاد مركبة وعوامل متعددة ومتباينة، وظاهرة معضلة تستنهض همم العلماء وأهل الفكر والنظر للتصدي لها بالمقاربات المعرفية المنوطة بهم، ومنها الدعوة إلى إحياء ما في تراثنا الكلامي في منحاه الأشعري من مسارات ومفاتيح تحاصر التكفير بالتفكير، وظاهرته بالتفكيك، من أجل استلهام ما يتضمنه من عطاء ونماء لإشاعة روح التسامح وفكر الوسطية ومنطق الاعتدال.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق