مركز الدراسات والبحوث في القضايا النسائية في الإسلام

التحرير النسائي في القرآن الكريم – بناؤه النظري ووظيفته الإصلاحية- الجزء 1

 

إعداد: مونية الطراز

باحثة بالرابطة المحمدية للعلماء

 

 


مقدمة:

جاء التفكير في هذا الموضوع في سياق التباس ظاهر حول مفهوم التحرير النسائي، والتباس مثيل حول منطلقاته؛ ذلك أن حركة التحرير النسائي – كما هو معلوم- نشأت رهينة التصورات النمطية ذات المنبت الغربي، موصولة برؤاها الفلسفية، ومتشبعة بنظرتها الخاصة  لقضايا الإنسان، بل أصبحت هذه الحركة مع الوقت، مرآة تعكس تفاعلات هذا الفكر المهيمن، الذي لا يعترف بالحدود الثقافية ولا بالخصوصيات الحضارية؛ مما يهدد الثقافات المخالفة في وجودها وينذر بزوالها، خصوصا مع ما يستند إليه هذا الفكر من دعائم وآليات حقوقية وسياسية وإعلامية من شتى الصنوف، وما يوظفه من أدوات للإلزام، مسنودة بسلطة العولمة.

المشكلة أن العالم الإسلامي نقل بدوره حمأة النقاش حول قضايا المرأة بطعم الدعوة إلى “التحرير النسائي”، ونال كذلك أثرا من هذه الفلسفات الغربية، مع أنه لم يُصَب من قِبل التيارات المتطرفة بمثل ما أصيبت به المجتمعات الغربية؛ ففي خضم النقاش المحموم حول قضية المرأة بما هي موضوع للتحرير، وتحت تأثير تفاعلات الفكر الغربي، نشأت تيارات التحرير النسائي في الوطن العربي، ومنها تفتقت حركة ممانعة عنيدة، أظهرت تشبّثا واضحا بالقيم الأصيلة، وأبانت عن وعي راسخ بأن التحرير النسائي بطابعه الغربي هو مسعى لا يعكس جوهر الحرية التي تناسب المرأة المسلمة وتحفظ لها انتماءها؛ بل فضلا عن ذلك أعلنت هذه الحركة الممانعة، أن مطالب التحرير العالمية تبطن في عمقها حربا على الخصوصية الثقافية والقيم الاجتماعية للمجتمعات الإسلامية والتي تستمدها من قيم التشريع وأساسها القرآن والسنة، وهذا خلاصة ما ميّز دعوات التحرير النسائي ذات الخصوصية الإسلامية، وهو ما عُبّر عنه في خطاب الحركات النسائية الإسلامية بالمرجعية الإسلامية.

ومع ما ظهر من حرص هذه الحركات على شد التحرير النسائي إلى هذه المرجعية، إلا أن الظاهر أن مبادراتها لم تَبْن المرجعية حق البناء؛ حيث بقيَ مفهوم تحرير المرأة في الإسلام غبشا لم ينل حقه من التأصيل الواعي والاستنباط السليم. وهذا ما كنت قد عبّرت عنه من قبل بأزمة الفكر وأزمة المنهج في مبادرات الحركة النسائية الإسلامية[1].

مشكلة المقاربة الإسلامية لقضية التحرير النسائي – حسبما يبدو- اتسمت عند كثير من دعاتها بالاندفاعية تارة وبالاستحياء تارة أخرى، وأعتقد أن الدافع إلى ذلك يرجع بالأساس إلى موقع الدفاع الذي لم يكن في مستوى الطرح الفلسفي للتصورات الوافدة، فمن هذه الزاوية يمكن أن ننظر إلى ما أنجزه الخطاب النسائي الإسلامي المعاصر حول موضوع تحرير المرأة، وعلى ضوء الأخطاء التي نراها في هذا الخطاب يمكن تصحيح المسار.

ومداخلتي اليوم لا تقصد البحث في مثالب هذه الحركات وأطروحاتها للتحرير وإن عرضنا لبعضها؛ بل تروم بالأساس لفت النظر إلى ما يستبطنه التصور القرآني من رؤى لقضية تحرير المرأة، ليس من باب الدراسة الممحِّصة، فلذلك مجالاته الواسعة، ولكن من باب التلميح إلى مواطن القوّة التي تمتاز بها رؤية التحرير النسائي في القرآن الكريم، سواء على المستوى النظري الخالص الذي يمكن أن يُستنبط من عموم النص القرآني أو من السنة النبوية باعتبارها الممارَسة العملية للوحي، أو من حيث التمثل الذي سرى في واقع الصحابة، وخصوصا في صفوف النساء. وحريّ بنا أولا أن نقف عند مفهوم الحرية نفسه؛ إذ عليه ينبني موضوعنا، وهو الذي يؤطر مضمونه ويوجّه مقصده.

المفهوم العام للحرية:

   المعنى العام للحرية يقصد به ضد الرق والعبودية، و”بالعودة إلى جذر المصطلح في العربية (حرر) نجد سائر تصاريف الكلمة تدل على معان فاضلة ترجع إلى الخلوص والخيار من كل شيء، والفعل الحسن واستقلال الإرادة، ومنها تحرير الحرير أي تخليصه من الشوائب”[2].

ويذهب الشيخ ابن عاشور إلى أن لفظ الحرية في كلام العرب أطلق على معنيين أحدهما ناشئ عن الآخر، الأول: ضد العبودية، وهي أن يكون تصرف الشخص العاقل في شؤونه بالأصالة تصرفا غير متوقف على رضى أحد آخر، الثاني: ناشئ عن الأول بطريقة المجاز في الاستعمال وهو تمكّن الشخص من التصرف في نفسه وشؤونه كما يشاء دون معارض”[3].

وقد ورد ذكر مصطلح الحرية في القرآن الكريم بصيغة التحرير في خمسة مواضع، وبصيغة الحر في موضعين، وفي كل المعاني كان يرد دالا على ضد العبودية، إلا في قوله تعالى: ﴿إني نذرت لك ما في بطني محررا﴾ (آل عمران: 35) حيث جاء بمعنى أنه مخلّص لخدمة بيت الله. وهنا يظهر أن مجال ورود التحرير باللفظ الصريح قليلة مقارنة مع مواضع ورود الحرية، من حيث هي مفهوم واسع يشدّد على كرامة الإنسان ويتطرق إلى كل ما يعيق إرادته ويعرقل تصرفاته، وهذا ما نقصده بالتحرير في القرآن الكريم، وهو ما نجده مبثوثا في عموم نصوصه، دالا مرة على الإرادة وأخرى على المشيئة، وكذا على الاختيار والمسئولية وغير ذلك من المعاني التي يصعب حصرها.

وفي القرآن الكريم ترد بعض العبارات تفيد أن الإنسان يمتلك حق التصرف في كل ما يصدر عنه من قول أو فعل أو حركة، ولذلك نجد في نصوصه أشباه قوله تعالى: ﴿من أطاع﴾ ﴿من ضل﴾ ﴿من اهتدى﴾ ﴿من اتبع﴾، وأمثال قوله تعالى: ﴿إن تلوا أو تُعرضوا﴾، ﴿إن تحسنوا وتتقوا﴾ ﴿إن تستفتحوا﴾ وغير ذلك من العبارات الدالة على حرية الفعل والاختيار الإنساني. وهناك آيات أخرى تفيد صراحة تمكين الإنسان من الحرية الكاملة، من قبيل قوله تعالى: ﴿اعملوا على مكانتكم إني عامل﴾ ﴿إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا﴾ ﴿وهديناه النجدين﴾ ﴿لو شاء ربك لآمن من في الأرض﴾ ﴿ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون﴾ ﴿من شاء فليومن ومن شاء فليكفر﴾.

 إن الحرية الإنسانية في القرآن الكريم مطلب لا يمكن حصره في مصطلح، بل هي جوهر حي في نصوص التنزيل؛ بل أكثر من ذلك، هي بمثابة الخيط الذي ينظم درر العقد التشريعي، وهي تبدأ في القرآن الكريم مرتبطة بأصل الخلق، يقول تعالى: ﴿وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ (البقرة:35)، ويقول أيضا -معلقا مسئولية الاختيار على آدم وزوجه-: ﴿أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ﴾ (الأعراف:22).

 ولا ترد القصص في القرآن الكريم عبثا، بل لغاية ومقصد، وقصدها هنا أن كل التكاليف على الأرض معلقة على حرية الاختيار، وأن الاختيار كيفما كان يتحمل مسئوليتَه الإنسان. وهذا المبدأ هو ما سعت إليه الرسالات من بعد آدم، وأكّده ما جاء في التنزيل من إقرار حرية العقيدة وعدم الإكراه في الدين، وهذا يظهر أيضا وبشكل جلي في حوارات نوح عليه السلام،  وإبراهيم وموسى وعيسى وباقي الأنبياء مع أقوامهم كما نقلها القرآن الكريم. ولعل هذا الوضوح هو ما دفع الطاهر ابن عاشور إلى دمج مبدأ الحرية ضمن الكليات الشرعية والمقاصد العامة للتنزيل، في كتابه “مقاصد الشريعة”، وكان محقا في ذلك.

لهذا، فإن الحديث عن التحرير النسائي يجد مسوغه الطبيعي في النصوص الشرعية، بما لهذا المصطلح من دلالة على عملية هي من اختصاص الإصلاح الديني، وعلى وظيفة رسالية تختص بجزء من وظيفة الأنبياء؛ فالحرية التي سعى إلى إقرارها الرسل وأكّدت عليها الرسالة الخاتمة، يطلبها أيضا دعاة الإصلاح في العصر الحديث، تحت مسمى التحرير، حيث جعلوا للفظ الحرية صيغة دالة معلومة بإضافة التفعيل الذي يحتمل معنى زائدا، ذلك أن التاء في أول الكلمة للطلب، فكان مقصود التحرير طلب الحرية بعد أن فُقدت. وهذا مطلب شرعي أصيل، يدخل في جوهر التنزيل وأساس مقاصد الشريعة.

 


 انظر مقال “الحركات النسائية الإسلامية بين أزمتين” مونية الطراز  المنشور في جريدة المساء وفي موقع هسبريس.[1]

[2]  ترتيب القاموس المحيط، الزاوي، 1/616.

[3]  مقاصد الشريعة، الطاهر ابن عاشور. ص 371-372.

 

 

نشر بتاريخ: 04 / 06 / 2014

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق