مركز الدراسات والبحوث في القضايا النسائية في الإسلام

التحرير النسائي في القرآن الكريم – بناؤه النظري ووظيفته الإصلاحية- الجزء 3

 

مونية الطراز

مركز الدراسات والبحوث في القضايا النسائية في الإسلام

 

 

تحرير النساء من القيود الذاتية:

وأقصد بتحرير النساء من القيود الذاتية سعي القرآن الكريم إلى تفعيل الإمكانيات الذاتية للمرأة لتعمل عملها في استرجاع شخصيتها الإنسانية المكتملة، فعلى هذا الأساس نهج القرآن مسلكا خاصا في تحريك المدارك الإنسانية الكامنة في المرأة والرجل على حد سواء. من ذلك:

أ-التحسيس بالوظيفة الوجودية:

إن مسعى التحرير في القرآن الكريم إنما يتجه لتخليص الإنسان من الشوائب التي تحول بينه وبين أداء حق الخلافة: العلم والمساواة والحرية والكرامة وغيرها مما جُعل لآدم من الأوصاف قبل أن يعرضه الله تعالى على الملائكة، وهي خصائص تتعلق بالوظيفة الوجودية. وقصة الخلق في القرآن الكريم لها رمزية عميقة تتعلق باختبار الاختيار الواعي للذكر والأنثى، قال تعالى: ﴿وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ﴾[1]، هذه الآيات اختزلت إشارات مهمة إلى الوعي المطلوب من خلال زاويتين، الأولى: من جهة إشارتها إلى قدرة المخاطب على التمييز بما وُهب من أدوات الاختيار العقلية القادرة على استيعاب مضمون الأمر والنهي الإلهيين. والثانية من جهة تأكيدها على الإرادة والحرية، باعتبارهما شرطين لازمين لتحمل نتائج الأفعال وعواقب الاختيار، كما أنها إلى جانب هذا وذاك أسفرت بإيحائها الواضح عن مقصود المساواة في خطاب التكليف من غير تنقيص من قدرة أحدهما على حسن الاختيار أو اتهامه بضعف الاستيعاب، قال تعالى: ﴿أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ ﴾[2] وقال أيضا: ﴿قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾[3].

إن حسن العمل وحسن التدبير المأمول في أمر الاستخلاف لا يميّز بين ذكر وأنثى، ذلك لكونهما مدركين مُمكّنَين من أدوات التدبّر والتفكير البنّائين؛ فمسئوليتهما على الأمانة مؤكدة في حقهما معا لما لهما من أهلية ثابتة ثبوتا قطعيا لا ظن فيه ولا احتمال، ووعد الله لهما بالسعادة بعد حسن تدبير محقّق لهما معا حتما وبلا ريب ولا شك، وأما ما يشهد به واقع المسلمين ذكرانا وإناثا من تردي حضاري وهوان ذاتي فبفعل نكوصهما وإعراضهما معا. ومن هنا ينفذ خطاب التحرير في القرآن الكريم الذي لا زال يخاطبنا إلى اليوم ليذكّر الإنسان بنوعيه أنه حامل مشروع الاستخلاف، وقد تخلف اختيارا عن أمانته وترك فعل الإعمار طوعا حين أهمل عقله الواعي وتخلى عن مسئولياته ذكرا وأنثى. إلا أن المرأة تخلت مرتين: المرة الأولى حين أخلفت المَوعد مع مضمون الخطاب الوجودي بالاستخلاف كصِنوها الذكر، والمرة الثانية حين رضِيَت بالهامش واعتبرت نفسها موجودا من المستوى الثاني، غير معنية بالبناء الإنساني والعمراني، غير معنية بسلم أو بحرب ولا بسياسة ولا بشأن اقتصادي أو مالي ولا بقضية فكرية أو ثقافية، غير معنية على الجملة بأمر الناس وسعادتهم، وغير معنية بالوعي قبل أن تكون معنية بما يقتضيه، حتى تناست بسبب هذا الإهمال أن الأمانة التي تتحمل مسئوليتها مطلب شرعي ليس بيد الرجل حمله عنها، والفقه الذي يخصّه يخصها أيضا وليس لها فقه خاص يميّزها يمكن أن نسميه فقه النساء[4]، المرأة غابت عن وظيفتها غيابا كاملا ليس بفعلها فقط ولا بجسدها، وإنما غابت حين غاب عنها الوعي الذي انتقص بالتدريج، حتى بلغ تخليها ما بلغ من إهمال في العصور المتأخرة، لذلك فإن التحرر الذي يطلبه القرآن الكريم يتصل بالوعي بحقيقة الوظيفة والتي تتصل بالوجود، وإلا فسيبقى التحرير وسيلة بدون غاية وحركة بدون هدف.

ولقد سلك القرآن الكريم في سبيل تحرير المخاطبين ليعوا هذه الوظيفة منهجا متميزا يقود إلى استعادة الوعي والوظيفة، وذلك من خلال إثارة المحفزات الباطنية في الذات الإنسانية. وسعى كذلك إلى استفزاز العقل والحواس باعتبارها وسيلة لتحقيق المراد.

ب‌-           تنمية العقل والحواس: 

القرآن الكريم أثار في المخاطبين حواسهم وعقولهم منذ نزل أول مرة، فخاطب العقل المفكر، وأشار إلى العين المبصرة واليد المبطشة، ﴿أَفَلا يُبْصِرُونَ﴾[5] ﴿أَفَلا تَسْمَعُونَ﴾[6] ﴿وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ﴾[7] وقد وجّه القرآن الكريم كل هذه الحواس نحو العمل الواعي، ولم تكن هذه الإشارات عارضة في النصوص، وإنما بُثت في عموم الخطاب بشكل ومنهج مضبوط، غايته التنبيه على أهمية الإدراك في التكليف وبناء الشخصية اليقظة والمتبصرة، وسورة “إقرأ” وهي أول ما نزل نبّهت على هذه القوى المدركة وربطتها بالمحيط والمجال الذي تتم فيه عملية التفكير من أجل تحصيل القناعة الواعية القادرة على بلورة  فعل جاد ومسئول. وهذه الآيات من سورة العلق تضمنت إشارات إلى التعليم وحقيقة الوجود وأسرار التكوين البشري، وحقائق حول البنية النفسية للإنسان، وإلى التزام مبدأ الحرية وتجنّب التسلّط، وكل ذلك في إشارات جامعة تدل على ضرورة استثمار الوعي في عملية الإصلاح، وأما تفاصيلها فتوجد في عموم القرآن الكريم. لهذا يجدر بنا أن نَلفت انتباه المرأة إلى هذه الحقائق؛ فالمرأة اليوم تحتاج إلى عقد صلح مع التنزيل لتبادله الحوار، وهي التي غابت عنه لأزمان وضربت على عقلها مغاليق من الران، وهي مطالبة بأن تقرأ القرآن قراءة جديدة بعد أن تُجدّد عهدها به وتعي أنها معنيةً بخطابه، ولا يتحصل ذلك إلا بالعلم. ولتعلم المرأة أن القرآن الكريم قادر على استنهاض القوى الخامدة فيها إذا اتصلت به، فمن خصائصه أنه ينبّه إلى الوسائل المفضية للوعي حينا، كتوجيهه الناس نحو العلم، وأحيانا كثيرة يجنح إلى الإنكار على الإنسان عجزه عن تحصيل الوعي بأدواته الطبيعية، وفي كل مرة يجد القارئ فيه الإرشاد نحو المقاصد الكبرى التي تسموا بالمخاطبين ليكونوا شهداء على الناس وليكونوا خير أمة.

والمرأة بحكم دخولها في خطاب العموم تحتاج إلى أن تقرأ القرآن قراءة واعية حتى يجد الخطاب فيها صدى، فيفعل فعل التغيير فيها وينتج الفعل المحمود.

إن المنهج القرآني في بث الوعي في الناس، وهو كثير الورود في نصوص القرآن الكريم، نلمسه في حوارات الأنبياء مع أقوامهم، ونجده في قصة ملكة سبأ التي قادها عقلها للإيمان، وزوجة زكرياء التي استشكلت حملها وهي العجوز العقيم، وكلها شواهد نقلت وقائع حوارية كانت تقود إلى تحقيق الوعي واليقين في صفوف الرجال والنساء، ويتبعها العمل المسئول.

صور التحرير النسائي زمن النبي وصحابته:

ونساء عهد النبوة قدمن شواهد عن وعيهن بحقيقة استحقاقهن للتحرير وبحقيقة أدوارهن في الحياة، حيث أصبحن في ظل الإسلام أكثر وعيا وقدرة على الحجاج والجدل، صونا لمكتسباتهن وتعبيرا عن وعيهن بوظائفهن في الحياة وحقيقة التشريع، ومثال ذلك قصة خولة بنت ثعلبة التي رفضت الظهار بعدما تبيّن لها تكريسه للمهانة التي لا يقرّها التشريع. وقصة هند بنت عتبة التي بايعت واعية بما تبايع من أجله، وعائشة التي كانت بحق رائدة التحرير النسائي. ولا نقول إن استيعاب النساء لخطاب التحرير القرآني بلغ غايته دفعة واحدة، بل كان يتدرج بالمخاطبين ويربيهم شيئا فشيئا على القيم الجديدة وعلى الذوق الإسلامي الرفيع.

 وحتى لمّا أصبح التحرير حقيقة وأمرا واقعا في المجتمع الإسلامي الأول؛ إلا أن النساء لم يكنّ على مستوى واحد من استكناه حقيقته، فقد كانت بين الصحابيات فوارق في التأقلم مع الواقع الجديد، وهذا ما كشفت عنه مجموعة من الشواهد من حياتهن وخصوصا ما ظهر منها في قصة أم سلمة مع ممشطتها. فقد سمعت رضي الله عنها نداء النبي صلى الله عليه وسلم يقول: يا أيها الناس، وجاريتها تمشطها، فقالت لها استأخري عني، فقالت الجارية: إنما دعا الرجال ولم يدع النساء، فردت عليها: إني من الناس[8]. وكانت انتفاضة أم سلمة في هذه الحادثة تعبيرا عن رفض لفكر موروث يرى المرأة بعيدة عن الشأن العام، وهو الإرث الذي لم تتخلص منه الجارية.

آفاق التحرير النسائي المنشود:

لقد شكلت محدودية الوعي النسائي ومحدودية تجربة المرأة في الحياة في عصور الانحطاط الذريعة التي بُنيت عليها بعض الممارسات المنتقصة من حق المرأة، كما كانت هذه المحدودية سببا مباشرا وإن لم يكن وحيدا في تكريس التخلف الحضاري، فأخْلَت المجال في جميع الميادين للرجال، وتضاءل دورها في الحياة –نتيجة ذلك- حتى بقيت حبيسة جدران بيتها، ورضيت لنفسها بالبطالة عن العمل وعن الفكر، وأصبحت بالتبع مهدّدةً في كرامتها وإنسانيتها، وفرضت على نفسها العزلة والإقصاء حتى صارت على هامش الفعل، وأصبحت هموم الناس الكبرى حكرا على الرجال في مصنفات الفقهاء، سواء في القضايا الكبرى ذات الصلة بالقضاء والتعليم والتجارة والسياسة…إلخ، أو حتى في طريقة الحديث عن قضايا المرأة، حيث صارت فيها مخلوقا ثانويا، لا حول له ولا قوة، وانعكست هذه الرؤية على واقعها الذي تحياه.

واليوم حين بزغ فجر الحرية على العالم من جديد صرنا أمام دعوة لرفع الاضطهاد عن المرأة، فوُضعت النساء بموجب هذه الدعوة أمام خيارين: أولهما خيار الحرية المصحوب بالتهتك والتعري والابتذال، وثانيهما خيار الإقصاء والجهل والتقوقع والدونية والهوان. وبين هذين الخيارين يوجد سمو التشريع الذي نحتاج إلى صياغته رجالا ونساء، فكثيرة هي القضايا النسائية التي تحتاج إلى إعادة تأسيس نظري يُخرج النص من حيّز الأحكام الفرعية إلى آفاق الأحكام العامة، وكثيرة هي التصورات المتعلقة بالمرأة التي تحتاج إلى بناء صحيح من القرآن الكريم يتجاوز الفتاوى الموروثة التي طُبعت بظروف أزمانها، فلا معنى للتحرير بنقل فتاوى ورؤى فقهية تجنح إلى تقييد حرية المرأة وكرامة النساء، لذلك أقول إن النساء بعدما أدركن هذا المستوى غير المسبوق من الإدراك، قادرات على نفض الإهانات الجديدة من خلال ارتباطهن بالنصوص مباشرة، ولا يعني ذلك استبعاد الرجال فهم مسئولون أيضا عن رفع الالتباس الحاصل في الموضوع، بعد التسلح بالإمكانيات العلمية الكفيلة لخوض غمار هذه المعركة، والنساء اليوم جديرات بلا شك بتحقيق ذلك في أنفسهن مثلما هن جديرات بخلع كل مظاهر الدونية التي يكرسها خطاب الإصلاح الجديد الذي يبدو أن أصحابه غير واعين بأزماته وغير قادرين على رؤية آفاته بالعين المجردة.    

 


[1] البقرة 35.

[2] الأعراف 22

[3] الأعراف 23.

[4]  جرت العادة أن تعنى المرأة بالفقه في أبواب الطهارة والنفاس ولا تسأل عن غيره، وكأنها غير معنية بفقه التشريع ككل.

[5] السجدة 27.

[6] القصص 71.

[7] الأحقاف 26.

[8]  شرح النووي على مسلم، يحيى بن شرف النووي، مسألة رقم 2295.

 

 

 

نشر بتاريخ: 01 / 08 / 2014

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق