وحدة الإحياء

الإنسان والأرض: أية علاقة؟

سبق للرابطة المحمدية للعلماء أن نظمت ندوة علمية في حلقتها الأولى حول موضوع: “الإنسان والأرض: أية علاقة؟” بالرباط، يوم 08 ربيع الثاني 1428ﻫ (26 أبريل 2007)، بمشاركة الباحث الدكتور عبد المجيد الطريبق الفائز بجائزة محمد السادس للفكر والدراسات لعام2007 م في موضوع:” منظور الإسلام إلى المحافظة على البيئة”، والبروفيسور مولاي أحمد العراقي “كاتب الدولة السابق في البيئة”، والدكتور أحمد عبادي “الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء”.. ونظرا لأهمية وراهنية ما طرح في هذه الندوة العلمية من قضايا وتصورات وأفكار، واستحضاراً للأجواء التحضيرية، لمؤتمر الأمم المتحدة حول المناخ cop 22 ارتأينا أهمية أن نعيد نشر هذه المادة.

مشكلة البيئة.. والقطيعة مع المقدس

تحدث بيير رابحي عن الأسباب التي جعلته يوَلِّي اهتمامه شطر الأرض والإنسان، وبالخصوص الفلاحة؛ حيث سلط الضوء على ما يعانيه العالم من فقدان التوازن والتناغم بسبب الممارسة الإنسانية الخاطئة. وأشار إلى أن الفلاحة المعاصرة مهووسة بالإنتاجية، حيث تحولت النظرة إلى الأرض من أرض تُطعم الإنسان إلى أرض توفر المال والمزيد من المال فقط.

وكانت النتيجة أن بدأت الأرض تموت، بفعل التكنولوجيا التي استحالت الأرض إلى أرض مسمومة  نتيجة إدخال المواد الكيماوية لتسريع الإنتاجية. وهي مواد لها تأثيرات سلبية على الصحة والأرض.

ومن بين التغيرات التي رصدها رابحي في مداخلته ما عرفته البشرية من قطيعة مع الطبيعة نتيجة التمركز في المدن، ونتيجة نظرة تجعل من الإنتاجية، فقط، هدفا للفلاحة. بمعنى أنه لم يتم النظر إلى الأرض كشيء مقدس، وإنما، فقط، من أجل استثمارها كيفما كانت الوسيلة.

في هذا السياق، بين صاحب مبدأ “واحة في كل مكان” (Oasis en tous lieux) أن النموذج التكنولوجي المعاصر جعل العالم بكل مكوناته يعاني.

ومن خلال مجموعة من الدراسات، يضيف رابحي، تم الوصول إلى أنه إذا كان كل مواطن يريد أن يعيش مثل الإنسان الأمريكي، الذي يشكل 5 % فقط من الساكنة الكوكبية، فإننا نحتاج 6 إلى 7 من كوكبنا… وإذا أراد أن يعيش مثل فرنسي فإننا نحتاج إلى 3 من كوكبنا.

ولتبيان المخاطر المحدقة بكوكبنا أحال رابحي على كتاب الباحثة الأمريكية راشل كارسون Rachel carson المعنون بالربيع الصامت (1962-Printemps silencieux)، وهو ربيع صامت لأن الطيور لا تغرد نتيجة إصابتها بالتسمم الناتج عن الديدان التي سمّمتها الأرض المسمومة جراء المواد الكيماوية… وهكذا، فكل السلسلة تم تسميمها، والحياة تم تدميرها. إنه مسلسل لا يُحتمل، يقول رابحي!!!

وفي نقطة أخرى، أشار إلى أن 60 % مما راكمته البشرية من تنوع بيولوجي طيلة 12000 سنة، قد انقرض.

إن المشكلة بدأت –في رأي رابحي- عندما بدأ الإنسان يحس بالاستغناء عن الطبيعة والماورائيات، والاعتماد، فقط، على عقله، وعندما أحدث قطيعة مع المقدس، وإن النموذج المؤسس على مبدأ “النمو بدون حدود” غير منسجم مع قدرة الأرض على تجديد مواردها.

طبعا يعترف رابحي بكون الحضارة المعاصرة قد وفرت للإنسان هاتفا نقالا وسيارة، وصحيح أن هذه الحضارة مكنت الإنسان من الوصول إلى القمر… إلا أن ما لم تحققه له هو أن يتمتع بمستوى جيد من التغذية، وأن توفر له لباسا يواري سوءاته!

وهذا ما جعل رابحي يقرر بِأسى أن هناك على كوكبنا ناسا لا يصلون إلى الحياة من أجل الحياة إنما من أجل الموت.

وفي نقد للمنحى الذي سار فيه الاقتصاد المعاصر، تساءل رابحي: ما هو الاقتصاد؟ فأجاب: إن الاقتصاد هو تخصص ينطلق من مبدأ “تسيير المنزل”، كما تفعل جداتنا أثناء تسييرهن لموارد البيت. ثم يضيف: إن مبدأ تسيير موارد المنزل لم يطبق على الأرض التي هي منزل البشرية جمعاء.

وفي نهاية مداخلته، استعرض رابحي الجهود التي بذلها من أجل إعادة الحياة للأرض والفلاح، وذلك عن طريق الاعتماد على طرق طبيعية تمكن من حماية الطبيعة، وهو ما أطلق عليه بالفلاحة البيئية (agroécologie)، التي تعتمد على “قوانين الطبيعة” وتحافظ على البيئة ولا تدمر، وتنطلق بالأساس من إشكالية التغذية.

وقد تم تجريب هذه الطرق في بلدان كثيرة، ففي بوركينافاسو مثلا -يقول رابحي- اقترحنا على الفلاحين الأكثر احتياجا في بداية الثمانينيات طرقا زراعية بدون مواد كيماوية، تمكنهم من تجديد أرضهم وإصلاحها، فكان النجاح كبيرا. حيث تم الرفع من الإنتاجية كما وكيفا وبآثار جيدة على الصحة، في منطقة كانت قد تعرضت في السبعينيات لجفاف دمر كل شيء من السينغال إلى إثيوبيا.

واليوم، يضيف رابحي، هناك أكثر من مائة ألف فلاح بوركينافي  يطبق هذه الطرق بارتياح كبير، لأن هذه الطرق تمكن الإنسان من التغذية بشكل جيد، وتجعل الأمراض تقل والتكاليف تنخفض.

كما أشار رابحي إلى أنه يبذل مساعي حثيثة من أجل تطبيق تلك الطرق في المغرب، وذلك لإحداث “ثورة” من أجل الاعتماد على الذات. ولم يفته في ثنايا مداخلته أن يقرر بأسف أن السياسيين ليسوا معنيين كثيرا بالمسألة البيئية، وبأن الذكاء لم يمنح لنا من أجل آفة التدمير، إنما من أجل فضيلة الحب. وهذا الحب لن يتحقق إلا إذا تم استعادة البعد الروحي الكامن في الإنسان.

المنظومة الإسلامية.. وواجب الحفاظ على البيئة

ركز د. عبد المجيد الطريبق في مداخلته على الرؤية الإسلامية المؤطرة للشأن البيئي. حيث استطاع أن يستخرج من مجموعة من النصوص القرآنية والحديثية، وكذا من القواعد الشرعية والفقهية معالم هادية للحفاظ على البيئة.

ومنذ البداية تجنب الباحث السقوط في التعريف التجزيئي للبيئة، ووضع كبديل له تعريفا ينسجم في رأيه مع المنظومة الإسلامية، وبهذا فإن البيئة –في نظره- هي كل وضع استخلاف بشري تنبني عليه علاقات خاصة بين مجموعة من المكونات الحية وغير الحية، المادية والروحية، المشاهَدة والغيبية، وبين الإنسان وأخيه الإنسان، وبين الإنسان وخالقه، في أي مرحلة من مراحل الوجود الإنساني.

والمطلوب وفق الرؤية القرآنية التي تحدد علاقة الإنسان بالأرض لخصها الطريبق في عبارة: “أن يحمل الإنسان الأرض وتحمله”، لكن هذا الحمل هو حمل مسؤولية وعلم.

وأشار الباحث إلى أن أهم ما اهتدت إليه أحدث النظريات في الحقل البيئي هو أن أخذ المجتمعات المحلية لموضوع البيئة والحفاظ على الموارد على عاتقها، هو من الحلول النهائية التي اهتدى إليها الجميع…

و طبعا يوضح الباحث في مداخلته أن المصطلح البيئي تعترضه جملة من المشاكل القانونية والقضائية، لأن تفعيل قوانين البيئة على المستوى القضائي استعصى على الجميع.

وبعد أن استعرض الباحث طائفة من النصوص القرآنية والحديثية التي تناولت القضايا المتعلقة بتسخير الكون للإنسان، واستخلافه في الأرض، وعمارة الأرض… انتقل إلى تفصيل القول في مجموعة من القواعد الفقهية المعززة لواجب حماية البيئة، وذكر منها: (لا ضرر ولا ضرار)، (درء المفاسد مقدم على جلب المصالح)، (يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام)، (الضرر يزال قدر الإمكان)، (الضرورات تقدر بقدرها)…

وفي ثنايا حديثه عن هذه القواعد الهاديات ركز الباحث عن دور مفهوم الأجر في التنمية. حيث رأى أنه لا بد من استحضار الأبعاد الروحية في تأسيس المشاريع.

كما بين عبد المجيد الطريبق أن كل عبادة تتضمن حرصا على البيئة، وفي هذا الصدد توقف الباحث مليا عند الرؤية الإسلامية لقضايا الحرب، وأشار إلى أنه عندما ودَّع أبو بكر جيش أسامة بن زيد (رضي الله عنهم) أوصاهم قائلا: لا تقتلوا امرأةً ولا شيخاً ولا طفلاً، ولا تعقروا نخلاً، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، وستجدون رجالاً فرغوا أنفسهم في الصوامع، فدعوهم وما أفرغوا أنفسهم له.

كما سلط الضوء على الحديث الشريف الذي يحض على إماطة الأذى عن الطريق. وعلق الباحث بقوله: لو طبقنا، فقط، هذا الحديث لما احتجنا إلى الشركات التي تجمع الأزبال في أزقتنا!

السياق المعاصر.. وتسليع الكل

أما الدكتور مولاي أحمد العراقي فقد اختار لمقاربة الوضع البيئي في عالمنا المعاصر مدخلا آخر، حيث ركز في مداخلته على مسألة العولمة، وبين أن في كل الحضارات قدرا معينا من العولمة، إلا أن هذه الأخيرة تختلف باختلاف النظم والقيم.

بعد ذلك توقف العراقي عند العولمة المعاصرة كما تُقدَّم لنا، وأوضح أن تطورها ارتبط بمجموعة من المحطات، منها: الاعتراف العالمي الكوني بحقوق الفرد (1987)، وبمبدأ “التنمية المستدامة” (1987) كنوع من التنمية يهدف إلى إشباع الحاجات الراهنة بدون أن يكون ذلك على حساب الأجيال المتعاقبة.

وفي هذا الإطار أكد العراقي أن السياق الحالي، خاصة بعد انهيار جدار برلين، يتميز بهيمنة مجتمع الاستهلاك، وببروز سلط جديدة في الاقتصاد والاجتماع والسياسة. وبأن هذا السياق نزَّاع إلى تسليع الكل.

ومن بين المحطات الأخرى التي رافقت تطور العولمة ما سماه مولاي العراقي ب”تكييف الطبيعة للإرادة البشرية” (اتفاقية ريو ذي جانيرو 1992). وفي هذا السياق، قال الباحث إن هناك مشكلة على مستوى حماية البيئة، رغم كل ما يسطر من استراتيجيات وسياسات. وقدم مثالا باتفاقية كيوطو التي اعتبرها اتفاقية لا علاقة لها بحماية البيئة، وبين أن الترجمة الفعلية لهذه الاتفاقية هي أن الأغنياء أكثر يمكنهم الاستمرار في تلويث البيئة.

بعد هذه المحطات الثلاث توقف الباحث عند محطة رابعة تتمثل في بروز النقد، وأصوات تدق ناقوس الخطر من جراء مآلات العولمة المعاصرة، كما كشف عن تناقضاتها. وفي هذا السياق تطرق الباحث لمشكلة الهجرة من الجنوب إلى الشمال، وقال: يقولون إن طريقة عيش الغرب جيدة، ويطالبوننا بأن تكون معيشتنا مثلهم، وعندما تتم الهجرة إليهم توضع في وجوهنا كل أنواع العراقيل!!!

وفي الأخير تحدث الباحث عن القدرات والإمكانات التي يتوفر عليها المغرب من الناحية الاقتصادية، والتي إن تم استغلالها بشكل جيد ستمكن المغرب من إحداث تنمية في المستوى المطلوب.

لقد فُقد التوازن في الكون!

الدكتور أحمد عبادي أوضح في مداخلته أن الإنسان المعاصر يتصرف بأنانية رهيبة ومريبة، دون أن يقيم أي حساب للأجيال القادمة… هذا الإنسان اكتشف سلاح التكنولوجيا، لكنه سخره بكل جشع الذي يمكن أن يُتصور كمونه في نفسية الإنسان. أمام هذا الوضع الخطير تساءل الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء: ما العمل؟

وكإجابة على هذا السؤال/الإشكال، تم التأكيد على ضرورة أن يكون الإنسان قادرا على الإحساس والتجاوب مع الكون.

وكتفصيل لماهية هذا الإحساس قال الدكتور عبادي: إن هذا الإنسان جزء من رحم كوني واسع، وأنه عنصر في موكب كبير من التسبيح… فالإنسان بمقدوره أن ينسلك في هذا الموكب من التسبيح، والسجود لله.. وأن يحدد دوره، وتسبيحه، ويمكنه أن ينفصل… ويضيف: إن انسجامه واندماجه حالة شكران، وانسلاخه وابتعاده حالة كفران.

ولذلك، فكل ما يمكِّن هذا الإنسان –يقول الدكتور عبادي- من أن يحس، ويعود إلى أصله الساجد المسبح ضمن موكب التسبيح والسجود، هو الذي سيجعله قادرا على أن يتجاوب مع الكائنات الأخرى.

ولبيان صغر حجم الإنسان في هذا الكون، قال الأمين العام: كل الكائنات التي ترد في سورة الشمس (الشمس-القمر-النهار-الليل-السماء-الأرض) تردُ مُعرَّفة، إلا الإنسان (ونفسٍ)… ويفصل الدكتور أحمد عبادي هذه الالتفاتة بقوله: أنت أيها الإنسان وإن كنت ضمن موكب السجود، فأنت مكلف بوضع الألف واللام التي تختارها إلى جانب ذاتك، لكي تظهر في مكان آخر من القرآن (يا أيتها النفس المطمئنة)، (النفس اللوامة)… فأنت وحدك القادر على الاختيار.

إن كوكبنا، يؤكد الدكتور أحمد عبادي، ليست فيه فقط الحياة، إنما هو كوكب الحياة، وهو كوكب يئن، ويمكن أن نسمع أنينه؛ كوكب يحتج عندما نرى هذا الميلان، وهذه الزلازل، وهذه الأمواج من تسونامي التي تقول: لقد فُقد التوازن!

وفي هذا الصدد وجه الدكتور عبادي نداء للإنسان بقوله: ألم يان الأوان لك أيها الإنسان أن تكف عن هذا الابتزاز، وأن تكف عن هذا الطعن في صدر أمك الحنواء، التي هي أنا وأنت…

إن الحل في نظر الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء يكمن في أن يصبح الإنسان قادرا على الإحساس، وعلى الوعي بأنه ضمن هذا الموكب عليه أن يندمج في رحمه الكونية بالشكران وليس بالكفران. لكن ما الذي يُمكن هذا الإنسان من أن يقوم بطريقة مستدامة بالإحساس، وبتمريره بين الأجيال؟ وكإجابة على هذا السؤال ذكر خمسة عناصر أساسية:

أولا: تربية الذات، وتربية المحيط على قيمة الصلاح. ثانيا: العلم ببعديه القلبي والمعرفي. ثالثا: المحبة التي هي أمر قلبي، ووجب أن تُبنى بالعلم والتربية. رابعا: التعاون، فالبشرية تحتاج اليوم إلى أن تتعلم التواضع الذي يمكنها من الاستماع والوقوف على مدى احتياج عناصرها بعضها لبعض. خامسا: الإيثار، بمعنى أن أزرع قيمة الإيثار الكوني وقيمة التضحية من أجل الآخرين، وأن أعطي من الفضل الذي عندي لمن ليس عنده شيء.

وفي نهاية مداخلته، أورد الدكتور أحمد عبادي مجموعة من الاخضرارات التي نحتاج إليها: أولها الاخضرار القيمي؛ أن تصبح القيم التي نحملها قيما خضراء وجميلة، فيها الوعي بأن الإحساس والشعور والقدرة على الاستماع في هذا المحيط الكوني مطلوب ومطلب ملح. الاخضرار الثاني: هو أن تخضر العلوم الإنسانية. فعلم الاقتصاد إذا لم يصبح إنسانيا سيكون علما فاتكا إمبرياليا استعماريا. وثالثها: إذا اخضرت هذه العلوم الإنسانية ستخضر العلوم البحتة، وسوف ينتقل هذا إلى مختبراتنا ومدارسنا ومؤسساتنا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق