محاضرة الدكتور عباس أرحيلة: مواقف في عارضة الأحوذي للقاضي ابن العربي (ت 543ه)
الحمد لله رب العالمين به نستعين، وصلوات ربنا وسلامه على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه والتابعين
وبعد؛ فاستطالة لحبْل الاِحتفاء بالعطاء العلمي الزاخر، وردّاً لأعجاز الحديث على صدور التجديد لذكرى العلامة ابن العربي المعافربي (ت 543 ه) الألفية في أقطار العالم الإسلامي (مغربا ومشرقا) بعد حلول الإبّان؛ أَحْيت هيئة الإشراف العلمي بمركز الحافظ أبي عمرو الداني المراكشـي (الدكتور توفيق العبقري (سلمه الله)) على وجه التتميم والتثمير والتثوير والتكميل ... بتاريخ الخميس 08 دجنبر 2022 دعوة علمية صريحة بمقرّ المركز، من الساعة الحادية عشـر صباحا إلى الساعة 15 زوالا، إذ استُؤْتي لتوفية شؤون هذا الغرض وانتهض لشدِّ الوثاق في نشـر معالمه وأحواله نخبة زكية من ذوي الحصافة النقدية والتوريخ الأدبي وجلَّة المتتبعين لظواهر التراث الإسلامي (أعلاما، مدارس، أدبيات ومصطلح إفادة، ...)وما إليه، فحاز الأستاذ الدكتور عباس أرحيلة شرف التقدمة ونال مرتبة اعتلاء مرقبة البيان والتبيين، رُفقة الأستاذ الدكتور عبد الوهاب الأزدي (أستاذ اللغويات، جامعة محمد الخامس الرباط) لقبْس نماذج منتقاة من ضنائن تراث القاضي أبي بكر ابن العربي (ت 543ه) ومكنون مشاركاته في شتى المعارف المجرَّبة وألوان الفنون الأدبية (مقدمة قانون التأويل)، وَفْق نهج ظريف في الأسلوب ونمط طريف في الصوغ وجذب القلوب، يخبُر جواسّ الأنفاس ويُذْكي مشاعر الإحساس بما أوتي من بلاغة الترسُّل والبراعة وجمال الأخماس واليراعة، فلله دره وعلى الله برُّه وأجره مِن رجل عالم ...
ثم بعد افتتاح الجلسة وتوزيع فقراتها من لدن الباحث الدكتور عبد الجليل الحوريشـي تناول الدكتور الكريم عباس أرحيلة فصوّر شؤون الرحلة المشـرقية (نيّفت على العشر سنين) للعلامة ابن العربي صحبة والده (رحلة الشيخ الوزير الصَّلود والفتى المتعلّم الصَّيود) ثم الظروف التي كنفتهما والبواعث القسرية التي دفعت بهما إلى ارتياد الآفاق (عام 485ه) من إشبيلية إلى مالقة إلى غرناطة إلى المرية إلى بجاية إلى عنّابة تونس وسوسة والمهدية إلى الحجاز طلبا للأمن المعرفي والنفسـي والرسالي ... والاستزادة من مشارب ذلك والعَلل من أسبابها؛ وعليه فقد نزل أبو بكر ابن العربي ووالده بالإسكندرية ثم إلى القاهرة (485ه) زمن الفاطميين والتسلط الجريئ ثم توجّه إلى الشام فمكث برحاب بيت المقدس ثلاثة أعوام ونيّف والحكم فيها إذ ذاك للسلجوقيين، فشرب من معين العلامة أبي بكر الفهري الطرشوشي(...) ما انفتح له به كل باب من أبواب العلم والعمل، فصار قدوته وخاصته مثل التفسير والحديث والتاريخ والسير ...، إلى جانب الجدل والكلام ومسائل الخلافيات ... مما لم يشعَّ نجمه بعدُ بالأندلس، ففي نواحي هذه البقاع المقدسية تجوَّل وبرسم شرق الأردن تنفَّس إذ دخل نابلس وعسقلان وغيرهما، ثم بعد جذب وترك بين النفس ونيّتها الأولى (حج البيت)، انقلب عن موضعه ميمِّما شطر دمشق (489ه) عاصمة السلاجقة ربّة العلماء ومعاهد الفكر، ثم هتف هاتف المشـي إلى دار السلام العراق (معقل شيوخ العلم) في شعبان عام (489ه)، وبها مقرُّ أعظم جامع في المشـرق الإسلامية المعروف بالمدرسة النظامية نسبة لمؤسسها نظام الملك [المنتخب المختار 137]، قضى فيها زهاء ثلاثة أشهر مزاحما بالرُّكَب مجالس العلماء مُعْرباً عن قدْر نفسه ومبينا عن علو كعبه وجودة طبعه وذهنه ...، ثم في هذه الأثناء غَشيه هاجس رغبة والده الحَرون في أداء فريضة الحجّ فقصد وجهة الحجاز وأَمَّ مثابته، فبينما هو في شغل الحج بمكة المكرمة اغتنم الموسم ليصدع بتذييع سيرة بلده المغرب وبأميره يوسف بن تاشفين ()وحلمه وعدله وشمائله وفضله؛ طمعاً في وحدة الخلافة الإسلامية وجمع شتات أمرها وما إليه [رسالة الغزالي إلى ابن تاشفين]، ثم اتصل بأجلّ شيوخ الموسم من العلماء والفضلاء والصلحاء ...، وأما بالمدينة المنورة– على صاحبها أزكى الصلوات وأتم التسليم – فقدطاب مقامه ومقيله في الروضة الشريفة بين القبر والمنبر مُستمليا لأحاديث شيوخه عن صاحب القبر صلى الله عليه وسلم.
ثم قفل ابن العربي بعد أداء الحج إلى بغداد مرة أخرى لبلوغ الأمنية ولقاء الجلة من أشياخ العلم والإفادة أمثال أبي حامد الغزالي (ت 505 ه) وذلك عام (490 ه) فأدناه منه وقرّبه وخصه بالكشف والبوح بالمكنون، مدة عامين، فكأنما توسم فيه سمْت السالكين أولي الاهتداء، فسمع عليه مثل الإحياء واستفاد عقيدته ومذهبه وما إليه، وأوغل في الإفادة من أحواله وأوضاعه وإملاءاته بل زاد عليها صار ينتقد شيخه ويعترض على بعض قيله، مما تشهد به دواوين التاريخ وسير العلماء، ولم يكتف ابن العربي في التحصيل والسماع ببغداد وحدها بل جاب العراق فدخل البصرة والكوفة والكرخ والموصل وغيرها، كما يذكر ابن خيرون في الفهرسة (ص437)، وقد شفع ابن العربي هذه الرغبة في النهم العلمي شغفه بالاتصال برجالات الدولة والسياسة ببغداد خاصة (ونعم العون على العلم الرياسة) كما في قانون التأويل له، كما أن له فيما رما إليه نزعة عرْقية ضاربة به في أعماق الأعمال السلطانية والاستظلال بوريف ظلّها، فقد كان جده لأمه أبو حفص الهوزني من كبار وزراء المعتضد (..)، ثم والده من بعدُ وزيراً للمعتمد(..) ومستشاره الخاص، فلا غرو ولا عجب، أن يصير ابن العربي الابن قاضيا ومستشاراووزيرا ...فقد كان تحمّل هو وأبوه وهما بدمشق كتاب (توصيات ومراسيم الملوك) واليها وطائفة من رؤسائها إلى الوزير عميد الدولة في بغداد [قانون التأويل ..]،
ففي نص الخطاب الذي أزجاه الإمام الغزالي إلى ابن تاشفين وهو بالأندلس، منوّها فيه بمحاسن أخلاقه واستمساكه بالعدالة ونبذ التعسف ومجاوزة الحقوق، يشيد كذلك بالحِمْل العظيم الذي قام به ابن العربي ووالده والإيصاء بهما خيرا لأهليتهما وأحقيتها بالتبجيل والإكرام لما حازاه من العلوم والمعارف في الرحلة المشـرقية خاصة بغداد، إذ قال: (والشيخ أبو بكر قد أحرز من العلم في وقت تردده إليّ ما لم يحرزه غيره، مع طول الأمد، وذلك لما خصّ به من توقد الذهن وذكاء الحس وإنفاذ البصيرة، وما يخرج من العراق إلا وهو مستقل بنفسه، حائز قصب السبق بين أقرانه ... ) [شواهد الجلة ...]
ومثل ذلك في تبريز شأن أبي بكر بن العربي وتبيين منزلته ما ورد آخر رسالة لأبي بكر الطرطوشي إلى ابن تاشفين على وجه بذل النصح ولزوم سبيل الصبر على أعباء مشروعه في الدعوة والمرابطة إذ قال: (... والفقيه أبو بكر محمد بن عبد الله بن العربي؛ ممن صحبنا أعواما، يدارس العلم ويمارسه، بلوناه وخبرناه، وهو ممن جمع العلم وعاناه، ثم تحقق به ورعاه، وناظر فيه وجد حتى فاق أقرانه ونظراءه، ثم رحل إلى العراق؛ فناظر العلماء وصحب الفقهاء وجمع من مذاهب العلم عيونها، وكتب من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وروى صحيحه وثابته ...) [شواهد الجلة] وغير ذلك من الشهادات العلمية المبينة عن قدر العلامة أبي بكر بن العربي ومنزلته ...
ثم عاج الأستاذ عباس أرحيلة فطاف على أهم السمات التى يحتاجها الدراس في كتاب العارضة على الترمذي (منهجا وتقديما وعرضا لأبواب الكتاب وجردا لمسائله وما إليه) ثم موقفه من ظروف تأليف الكتاب وذكر ملابساته النفسية والاجتماعية والسياسية ...، قال القاضي ابن العربي رحمه الله: (فخذوها عارضة من أحوذي علم كتاب الترمذي ...).
وفي ختْم المجلس وقبل انفضاضه تلقّف الأساتذة البحثة أطراف ما قيل وألقي وتجاذبوه على جهة الاستكمال والتثمير والتكثير ... والخوض فيما يرجع إلى معالم التأليف عند القدامي والمحدثين وتعيين ضوابطه المسعفة في نقله وإسعاف جمهرة النشء حتى الإحاطة به والدراية لمنتخباته وما إليه لأن من ألف فقد استهدف، وخير المثال على ذلك ما جادت به عارضة العلامة الفقيه القاضي أبي بكر بن العربي (ت 543ه) برَّد الله ضريحه، آمين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبع