مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبية

(مجالس في البلاغة ( 3

انعقد بمركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبية، المجلس الثالث من مجالس البلاغة وذلك مساء يوم الجمعة 26 رجب 1439هـ، الموافق لـ 13 أبريل 2018م، بإشراف الدكتور محمد الحافظ الروسي رئيس المركز لفائدة الباحثين به.

وقد استهل الدكتور محمد الحافظ الروسي حديثه بالكلام عن إغفال علماء اللغة والنحو عزوَ الشواهد الشعرية إلى أصحابها، ونوّه بـ«كتاب الشعر» لأبي عليّ الفارسيِّ، ذاكراً ما بيَّنه الدكتور محمود الطناحي عند تحقيقه للكتابِ، وهو أن أن كثيرا من شواهد اللغة والنحو قد جاء في الكتب غير منسوبٍ لكن عدم تسمية قائله في كتب الأوائل لا تعني أنه غير معروف النسبة، ولا يوجبُ الغضَّ منه وعدمَ الثقة به؛ لأنهم لم يكونوا يحفلون كثيرا بتسمية قائل الشعر لقربهم من المنابع الأولى بالرواية والتلقي والمشافهة.

وأشار الطناحي إلى قول العلامة البغدادي في الموضوع عندما قال: « وَيُؤْخَذ من هَذَا أَن الشَّاهِد الْمَجْهُول قائلهُ وتتمته إِن صدر من ثِقَة يُعْتَمد عَلَيْهِ قُبِل وَإِلَّا فَلَا، وَلِهَذَا كَانَت أَبْيَات سِيبَوَيْهِ أصح الشواهد، اعْتمد عَلَيْهَا خلف بعد سلف مَعَ أَن فِيهَا أبياتا عديدة جُهل قائلوها وَمَا عِيب بهَا ناقلوها، وَقد خرج كِتَابه إِلَى النَّاس وَالْعُلَمَاء كثيرٌ والعنايةُ بِالْعلمِ وتهذيبه وكيدة وَنُظر فِيهِ وفُتِّشَ فَمَا طَعن أحد من الْمُتَقَدِّمين عَلَيْهِ وَلَا ادَّعَى أَنه أَتَى بِشعر مُنكر».

وقد أشار الدكتور محمد الحافظ الروسي أيضًا إلى أن عذوبة الشعر متعلقة بأبسط مُكوّن فيه، وهو الحرف في علاقته مع باقي أجزاء البيت، ووَقف على نصٍّ للباقلاني قال فيه: «وعذوبة الشعر تذهبُ بزيادة حرفٍ أو نقصان حرف، فيصير إلى الكزازة، وتعود ملاحته بذلك ملوحة، وفصاحته عيا، وبراعته تكلفا، وسلاسته تعسفا، وملاسته تلوّيا وتعقّدًا». وعلى أساس هذه القاعدة كرهوا أن تكون الحروف في البيت متقاربة المخارج، وهو ما سماه البلاغيون بالتنافر وسماه ابن جني بالاستكراه. وقدم لذلك مثالا، وهو قول أبي تمام، يقول:

كَرِيمٌ مَتَى أَمْدَحْهُ أَمْدَحْهُ وَالوَرَى= مَعِي، وَمَتَى مَا لُمْتُهُ لُمْتُهُ وَحْدِي

وفي هذا الصدد ذكر الباقلاني في «إعجاز القرآن» أن الصاحب بن عباد جارى أبا الفضل بن العميد في محاسن هذه القصيدة، حتى انتهى إلى هذا البيت، فذكر له في أن قوله: «أمدحه أمدحه» معيب لثقله من جهة تدارك حروف الحلق. ووجه العيب في بيت أبي تمام هو تلاحق ثلاثة أحرف من أحرف الحلق هي الحاء والهمزة والهاء، في قوله: «أمدحه»، ثم إن مخرج الهمزة والهاء كليهما من أقصى الحلق مما يؤدي إلى غاية الاختناق عند النطق بهذه الأحرف.

وخلص الدكتور محمد الحافظ الروسي إلى أن أول مقياس يستخلص من مقاييس جودة موسيقى الحروف هو ضرورة تباعد مخارجها خاصة حروف الحلق منها ولعله أهم مقياس يمكن أن يوجد في هذا المجال على الصعيد النقدي، وهنا نبه إلى ضرب من الجناس انتبهَ إليهِ الدكتور عبد الله الطيب وسمَّاهُ بالجناس السجعي الحرفي، ويقوم على تكرار حرف واحد أو حرفين من دون تعمد إلى أن تتشابه الأصول، ومثل له ببيتٍ أورده الحاتمي في حليته، وهو:

لَمْ يَضِرْهَا وَالحَمْدُ للهِ شَيْءٌ= وَانْثَنَتْ نَحْوَ عَزْفِ نَفْسٍ ذَهُولِ

فالشطر الثاني من البيت يتبرأ بعض ألفاظه من بعض، لتقارب حروف الحلق الذي أضفى عليه ثقلًا، وذلك في قوله: «وانثنت نحو عزف نفس ذهول»؛ فقد اجتمعت فيه الحاء والعين والهاء، فالعرب لا يكادون يجمعونها إلا بحواجز لتنافرها.

وفي معرض حديثه ذكر أن الأصمعي عاب شعرا لإسحاق لكثرة الحاءات فيه وأن ابن وهب الكاتب انتقد على الأعشى قوله:

وَقَدْ أَرُوحُ إِلَى الحَانُوتِ يَتْبَعُنِي= شَاوٍ مِشَلٌّ شَلُولٌ شُلْشُلٌ شَوِلُ

وأضاف أن الأعشى في رأي صاحب البرهان قد تم له المعنى قبل تمام البيت فاحتاج إلى حشوه بما لا فائدة فيه من اللفظ.

وعرج الدكتور محمد الحافظ الروسي إلى الحديث عن أحوال الكلام، وذكر أنه إما خبر أو إنشاء؛ لأنه إن كان لنسبته خارج تطابقه أو لا تطابقه فخبر، وإلا فإنشاء. والخبر لا بد له من مسند إليه ومسند وإسناد، والمسند قد يكون له متعلقات إذا كان فعلا أو في معناه. وأشار إلى أن صدق الخبر هو مطابقته للواقع وكذبه عدمها، وقيل: مطابقته لاعتقاد المخبر ولو خطأ، وعدمها بدليل قوله تعالى: (إِذَا جَاءَكَ المُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ واللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ واللهُ يَشْهَدُ إِنَّ المُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ). [سورة المنافقون، الآية:1]،  ورُدَّ هذا بأن المعنى:  لكاذبون في الشهادة أو في تسميتها أو في المشهود به في زعمهم. وقد تحدث أيضا عن النقاش الشديد بين العلماء في تحديد المراد بالصدق والكذب..

وأشار كذلك إلى أن المخبر قد يقصدُ بخبره إفادةَ المخاطب الحكمَ فيسمَّى فائدة الخبر، أو كونه عالما به، فيسمى لازمَها، وقد ينزل العالم بهما منزلة الجاهل لعدم جريه على موجب العلم فينبغي أن يقتصر من التركيب على قدر الحاجة، فإن كان خالي الذهن من الحكم غيرَ متردّد فيه استغني عن مؤكدات الحكم ، وإن كان مترددا فيه طالبا له حسنَتْ تقويته بمؤكد، وإن كان منكرا وجب توكيده بحسب الإنكار، ومثل لذلك بقوله تعالى: (إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ). [ سورة يس، الآية: 13] إذ كذبوا في المرة الأولى، وفي الثانية ِ(إنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ). [سورة يس، الآية: 15]  ويسمى الضرب الأول ابتدائيا والثاني طلبيا والثالث إنكاريا.

ثم ذكر أنه كثيرا ما يخرج الكلام على خلافه فيجعل غير السائل كالسائل إذا قدم إليه ما يلوح له بالخبر فيستشرف له استشراف المتردد الطالب، نحو: (وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُون). [سورة هود، الآية: 37] ونحوه قوله تعالى: (وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ)،  [سورة يوسف، الآية: 53] جاء ذلك على لسان امرأة العزيز حيث لوحت بالخبر وأحدثت ذلك الحدث وأنها راودت يوسف عن نفسه فاحتاجت أن تقول أن ذلك يقع فقالت «إن النفس لأمارة بالسوء»، فقد استعملت التوكيد دون الاستغراب الذي هو نوع من التردد. 

كما مثل لهذا بقول بعض العرب:

فَغَنِّهَا وَهْيَ لَكَ الفِدَاءُ= إِنَّ غِنَاءَ الإِبِلِ الحُدَاءُ

وبقول بشار بن برد:

بَكِّرَا صَاحِبَيَّ قَبْلَ الهَجِيرِ= إِنَّ ذَاكَ النَّجَاحَ فِي التَّبْكِيرِ

وختم الدكتور محمد الحافظ الروسي حديثه بما ذكره عبد القاهر الجرجاني في دلائله، وهو قول الشاعر:

جَاءَ شَقِيقٌ عَارِضاً رُمْحَه= إِنَّ بَنِي عَمِّكَ فِيهِمْ رِمَاحْ

ذلك أن مجيئه هكذا مدلا بنفسه وبشجاعته قد وضع رمحه عرضا، دليل على إعجاب شديد، وعلى اعتقاد منه أنه لا يقوم له أحد، حتى كأنْ ليس مع أحد منا رمح يدفعه به، وكأنا كلّنا عزل.

وإذا كان كذلك، وجب إذا قيل إنَّها جواب سائل، أن يشترط فيه أن يكون للسائل ظن في المسؤول عنه على خلاف ما أنت تجيبه به. 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق