تقرير عن محاضرة الأستاذ بناصر البعزاتي المعنونة بـ “ابن الهيثم وإصلاح النظرية الفلكية”

عبد العزيز النقر
مركز ابن البنا المراكشي
نظم مركز ابن المراكشي - في إطار سلسلة محاضراته الدورية - يوم السادس والعشرين من شهر يونيو سنة 2024 محاضرة علمية بعنوان : "ابن الهيثم وإصلاح النظرية الفلكية". تفضل بإلقاء هذه المحاضرة الأستاذ د. بناصر البعزاتي (كلية الآداب-الرباط)[1]، بينما قام بتسيير فعالياتها الأستاذ جمال بامي (رئيس مركز ابن البنا المراكشي).
نشير بداية إلى أن نص هذه المحاضرة سينشر في إحدى المجلات المحكمة، كما سيُنشر التسجيل (الفيديو) الخاص بها لاحقا. لهذين السببين، فقد بدا لنا ألا نقدم هنا تقريرا مفصلا عن الأفكار المهمة التي تفضل بعرضها الأستاذ المحاضر. وسنقتصر، بدل ذلك، على الإشارة إلى الخطوط العريضة التي تضمنتها هذه المحاضرة. وإلى حين ظهور نص المقال مطبوعا، فإننا نعتقد أن تقديم هذا التقرير الموجز عن المحاضرة أمر قد لا يخلو من فائدة.
تطرق الأستاذ جمال بامي في تقديمه إلى بعض المعطيات البيوبيبليوغرافية المتعلقة بالأستاذ المحاضر. كما أشار أيضا إلى أهمية وجدية الدراسات العلمية التي أنجزها الأستاذ البعزاتي، خصوصا من حيث دقتها المفاهيمية ورصانتها التحليلية، هذا فضلا عن غنى موضوعاتها وتنوع مقارباتها. وختم المسير كلامه بشكر الأستاذ البعزاتي على تفضله بتلبية دعوة مركز ابن البنا المراكشي لإلقاء هذه المحاضرة العلمية.
افتتح الأستاذ البعزاتي محاضرته بالحديث عن الإطار العام الذي شهد فيه المسلمون عملية تلقي علوم الأوائل، هذه العلوم والمعارف التي تميزت بـ"تباين مناحيها" وبوجود "اختلافات جوهرية في بعض نواحيها النظرية". وقد ارتأى الأستاذ المحاضر أن يركز في هذا التقديم على علم الفلك، وذلك نظرا لارتباطه بموضوع المحاضرة، أي ابن الهيثم وعمله في إصلاح النظرية الفلكية الموروثة عن السابقين من علماء اليونان وعلماء الإسلام.
لا شك في أن من بين أهم المسائل التي شغلت الفلكيين على امتداد مدة غير يسيرة من الزمن هي مسألة التوفيق بين الجانب الرياضي - الهندسي والجانب الكوسمُلوجي - الفيزيائي. وفي هذا الصدد، يمكن القول إجمالا إن أصحاب التوجه الأول - الذين يمكن تسميتهم بـ"الفلكيين" - كانوا يركزون على الآليات الهندسية دون كثير عناية بالجانب المتعلق بـ"تعليل الظواهر"، أي إنهم يهملون الجانب المرتبط بـ"الوقائع". هذا في حين يُغلب على أصحاب التوجه الثاني - الذين يمكن تسميتهم بـ"الكسمُلوجيين" - الميل أكثر إلى "التفسير والتعليل والاهتمام بالوقائع" مع غض الطرف عن الجانب الرياضي - الهندسي.
لقد كان هذا الإشكال حاضرا لدى فلكيي اليونان أنفسهم، وقد أشار الأستاذ البعزاتي في هذا السياق إلى أن بطلميوس نفسه كان واعيا في كتابه "الاقتصاص" - الذي يُسمى أيضا بالمنشورات - بضرورة الاستناد إلى تصور كسمُلوجي معين. وبما أنه لم يكن في استطاعته ابتكار تصور كهذا، فقد لجأ إلى التصور الكسمُلوجي الأرسطي "اضطرارا". وصلت هذه الإشكالات الفلكية وغيرها إلى علماء الحضارة العربية الإسلامية، ولا ريب في أن ابن الهيثم كان واحدا من أبرز هؤلاء العلماء الذين ناقشوا هذه القضايا وحاولوا أن يسهموا بشكل من الأشكال في إصلاح بعض المشاكل التي تعانيها، أو على الأقل التخفيف من حدتها.
مثلت مقالة ابن الهيثم المعنونة بـ"في هيئة العالم" بدايات الاشتغال الهيثمي بعلم الفلك. لخص فيها التصورات الفلكية البطلمية دون أن يشير إلى أي جانب من الجوانب النقدية إزاء هذه الآراء الفلكية، حيث يبدو أن "الهفوات والثغرات البنيوية" التي طالت الهيئة البطلمية لن تتضح لابن الهيثم إلا فيما بعدُ. إن الجدير بالتنويه هنا هو أن الهيثم لم يعتبر تلك الثغرات مجرد مشاكل ثانوية، بل إنه رأى أن الأمر يستدعي، حسب الأستاذ المحاضر، "إصلاحا شاملا" للفلك البطلمي. هكذا، سيأخذ على عاتقه إنجاز هذه المهمة المتمثلة في "إعادة سبك علم الفلك برمته". من الملاحظ في هذا الصدد أنه رغم عدم استطاعته الخروج عن البراديغم البطلمي، إلا أنه استطاع، من منظور الأستاذ البعزاتي، أن يُقيم علم الفلك على دعائم أقوى وأدق. تجلت هذه الدعائم في معطيين اثنين : الاستناد إلى أرصاد فلكية أكثر ضبطا، وتقديم "نمذجة" هندسية أكبر دقة.
وقف الأستاذ المحاضر عند مجموعة من النقط المهمة التي ميزت التناول الهيثمي لعلم الفلك. نشير من بينها إلى استفادة ابن الهيثم من بعض التجديدات التي أدخلها هو نفسه على المعرفة الرياضية (خصوصا علم البصريات)، حيث استطاع أن يستثمر تلك المعرفة وذلك التجديد الرياضيين في إصلاحه للنظرية الفلكية. من بين أهم هذه المسائل دراسته لطبيعة الضوء الذي يرى أنه لا يسير بالضرورة حسب خط مستقيم، بل إنه يعتبر أن الضوء يسير وفق ما سماه بـ "الانعطاف". لقد استثمر ابن الهيثم هذا الأمر في دراسته وتحليله لبعض القضايا الفلكية المتعلقة بعملية رصد الكواكب وتقديم وصف دقيق لمساراتها (أي الكواكب). والجدير بالإشارة هنا أن الأستاذ البعزاتي قد خصص حيزا مهما من مجموع المحاضرة لتوضيح هذه النقطة بالغة الأهمية، كما قدم في هذا الشأن مجموعة من الشواهد النصية لابن الهيثم، مرفقا ذلك بتعليقات دقيقة وشروح مستفيضة.
من جهة أخرى، لم يغب عن الأستاذ المحاضر الإشارة في مناسبات مختلفة إلى العلاقات القائمة بين النصوص الهيثمية المخصصة بعلم الفلك، خصوصا كتاب "الشكوك على بطلميوس" ومقالة "في هيئة العالم". أرجع الأستاذ البعزاتي مسألة اختلاف موقف الهيثم من فلك بطلميوس في هذه الأعمال إلى "التطور" الذي شهده مساره (ابن الهيثم) العلمي الخاص بتناول المسائل الفلكية. إذ رغم نقد ابن الهيثم لبطلميوس في كتاب "الشكوك"، إلا أنه من الصعوبة بمكان القول بأنه قد خرج تماما عن النموذج البطلمي، والشاهد على ذلك أنه سيعود فيما بعد إلى نفس هذا النموذج بغرض إصلاحه من خلال إعادة سبكه بناء على معطيات فلكية (رصدية) ورياضية أكثر دقة.
إضافة إلى ما تقدم، فإن الأستاذ البعزاتي لم يقف عند حدود إبراز طبيعة الإسهام الفلكي لابن الهيثم من خلال عرض نقط عديدة توضح جدة وأهمية هذا الإسهام، بل إنه عمل، في الآن نفسه، على تقديم بعض الملاحظات الإبستمُلوجية المتعلقة بطبيعة اشتغال المعرفة العلمية، سواء على مستوى تفاعل مكوناتها الداخلية فيما بينها، أو على صعيد تفاعل تلك المعرفة مع بعض المسائل الخارجية (الاجتماعية وغيرها).
في ختام هذا القرير المقتضب، نشير إلى أن المحاضرة أعقبتها حصة خاصة بالمناقشة، حيث تفضل خلالها الأستاذ البعزاتي بمناقشة مجموعة من الأفكار التي طرحها الحاضرون، كما أجاب كذلك على العديد من الاستفسارات والتساؤلات التي طُرحت بخصوص المضامين العلمية التي قُدمت أثناء المحاضرة.
[1] - بخصوص بعض المعطيات البيوبيبليوغرافية المتعلقة بالأستاذ البعزاتي، يُنظر التقرير المنشور على الرابط التالي :