«القرآن الكريم والعلوم الاجتماعية»
في إطار أنشطته العلمية والفكرية، نظم مركز الدراسات القرآنية بالرابطة المحمدية للعلماء حلقة جديدة (7) من حلقات «منتدى الدراسات القرآنية» بمحاضرة علمية تحت موضوع: «القرآن الكريم والعلوم الاجتماعية» ألقتها الدكتورة فاطمة الزهراء الناصري، الأستاذة الباحثة بمركز الدراسات القرآنية، بالرابطة المحمدية للعلماء، وذلك يوم الثلاثاء 30 دجنبر 2014م.
افتُتِح هذا المنتدى العلمي بتلاوة آيات بينات من الذكر الحكيم، لتتلوها كلمة الدكتور محمد المنتار رئيس مركز الدراسات القرآنية الذي أكد فيها على أهمية الموضوع، ومشيدا بالدكتورة فاطمة الزهراء الناصري الباحثة بمركز الدراسات القرآنية، وإسهاماتها العلمية القيمة، ومشاركاتها في أنشطة الرابطة المحمدية للعلماء.
بعد ذلك، افتتحت الدكتورة مداخلتها بمقدمة تمهيدية حول ماهية العلوم الاجتماعية، وأبرز النظريات الغربية فيها كالنظرية الوضعية التي تقوم على النظرة المادية تقوم على النظرة المادية للعالم والإنسان والحياة، والنظرية التطورية الدروينية التي تقوم على المرجعية الإلحادية في أصل الحياة والإنسان،وتقرر مبدأ البقاء للأقوى، والنظرية الماركسية الرأسمالية في مجال الاقتصادي ترجع النظرتين إلى الخلفية الصراعية في تناول العلاقة الاقتصادية بين أفراد المجتمع، والنظرية الفرودية التي تقوم على تغييب الجانب الروحي في الكيان الإنساني وتعتبر اللذة هي المحرك للنشاط الإنساني.
في مقابل ذلك قدم القرآن الكريم رؤية متكاملة شاملة لكل ما يحتاجه الإنسان في الجوانب النفسية، وهذا ما حاول أن يكشف عنه الكثير من المفكرين كالدكتور مصطفى محمود في كتابه «علم نفس قرآني»، وكتاب «علم النفس في التراث الإسلامي» الذي أصدره المعهد العالمي للفكر الإسلامي في ثلاثة مجلدات.
لكن الحضارة الغربية حينما أرّخت للعلم أقصت جهود الحضارة الإسلامية في مجال العلوم الاجتماعية وبدأت بالحقبة اليونانية، ثم العصور الوسطى، ثم عصر النهضة، لتنتقل إلى المرحلة الحديثة.
لقد أولت المؤسسات العلمية اهتماما كبيرا بالتنظير للعلوم الاجتماعية من خلال القرآن الكريم منها: المعهد العالمي للفكر الإسلامي الذي كشف عن جوانب مهمة من الإعجاز في مجالات العلوم الاجتماعية في القرآن الكريم. وقد ركزت المحاضرة في مداخلتها على قضية الإعجاز في مجال العلوم الاجتماعية باعتباره خطوة علمية متطورة في تناول موضوع القرآن والعلوم، انطلاقا من قوله سبحانه: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾ [فصلت: 53]، وقوله سبحانه: ﴿وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا . وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا . وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا . وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا . وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا . وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا . وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا . فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾ [الشمس: 1ـ8]
أما ضوابط البحث في موضوع الإعجاز القرآني في العلوم الاجتماعية، فذكرت منها:
- ألا يستهدف البحث الكشف عن التطابق بين النظريات التي قال بها علماء العلوم الاجتماعية وما جاء في القرآن الكريم، وإنما المستهدف إخضاع البحث في العلوم الاجتماعية لما جاء في القرآن الكريم .
- الله سبحانه هو خالق الإنسان وهو سبحانه القادر علي الكشف عن سلوكياته والسنن التي تحكمها. وهذه السلوكيات هي المجالات التي تعمل عليها العلوم الاجتماعية وتصوغها في قوانين ونظريات، ولذلك يكون ما جاء في القرآن الكريم عن هذه السلوكيات هو الضابط الحقيقي لها.
- يؤسس القرآن الكريم النموذج الأمثل للحياة الاجتماعية بكل عناصرها، اقتصاد وإدارة وسياسة وتربية...؛ ولذلك فإنه عندما تعمل الحياة الاجتماعية وفق النموذج القرآني تتطابق القوانين والنظريات التي يقول بها علماء العلوم الاجتماعية مع ما جاء في القرآن الكريم.
- القول بعدم وجود حقائق قطعية الثبوت في العلوم الاجتماعية، سببه قصور الإنسان في إدراك واكتشاف العوامل التي تحدد سلوكيات الإنسان. - السنن الإلهية ليست قاصرة علي المجالات الكونية وإنما تشمل ما يتعلق بالإنسان من كل جوانبه الاقتصادية والإدارية والتربوية والسياسية وغيرها. وهذه السنن مرشدة للإنسان إلى وجود قوانين علمية في المجالات الاجتماعية.
بعد ذلك تطرقت المحاضرة إلى بعض الإشكالات المثارة ضد العلوم الاجتماعية: التحيز: كما عرفه نصر محمد عارف هو التمحور أو التمركز حول «الذات» ورؤية «الآخر» من خلالها وقياسا عليها ونفي الآخر نفيا كاملا خارج إطار التاريخ والوجود والعلم والسعي نحو استبدال ماهيته أو هويته بمحتوى يتفق ومعطيات «الذات» وأهدافها.
المحدودية: وهي أن أي انتاج علمي وضعي منطلق من العقل والواقع البشري ومؤسس عليهما ومحدود بحدودهما لابد أن بنطبع بخصوصيات هذا العقل وذلك الواقع.
عدم الانضباط: ويرجع ذلك لطبيعة الظواهر محل الدراسة فظاهرة المجتمع الحي العاقل تختلف عن طبيعة المادة غير الحية وغير العاقلة، ولذلك فالقوى الفاعلة في المجتمع الحي لا نخضع لعلاقات نمطية.
التعارض: وذلك أن كل نظرية تستند إلى عوامل مختلفة في تفسير التغيرات الاجتماعية.
لهذا كانت العودة بهذه العلوم الاجتماعية إلى الوحي هو السبيل الأمثل لتجاوز كل أشكال القصور والمحدودية والتعارض، وتخليصها من النظريات الأحادية التجزيئية، مع تحديد ما هو ثابت وما هو متغير.
وقد ختمت الدكتورة فاطمة الزهراء مداخلتها بخلاصات ونتائج الدراسة لخصتها في: 1) إن مفهوم الفطرة السوية هو المعيار الأساسي للحكم على السلوك الاجتماعي وتقويمه، 2) إن القرآن المجيد في تناوله لهذه العلوم يتجاوز الرصد والوصف والتقييم ولا يقف عند ما هو كائن بل يتجاوزه إلى ما يجب أن يكون. 3) اعتماد القرآن الكريم كمرجع في هذه العلوم هو الكفيل بتجاوز كل الإشكالات التي تعرفها النظريات الاجتماعية. 4) تجاوز منطق المقاربة والمقارنة في التعامل مع ما أنتجه الغرب في مجال العلوم الاجتماعية ، إلى التأسيس لهذه النظريات من داخل القرآن الكريم. 5) قبول كل ما لا يتعارض مع الحقائق الثابتة في الوحي باعتماد المنهج المعياري. 6) العلوم الإنسانية مرتبطة بالإنسان تتأثر بأفكاره وقيمه وتوجهاته الخاصة، وهي تحتاج إلى تقويم وتوجيه. 7) التعارض بين الإيديولوجية العلمية ليس أمر حثميا بل يمكن تجاوز هذا التعارض إلى حلة من الانسجام باعتماد الوحي كمصدر إلهي يرتفع عن الأهواء ويتميز بالحياد والعدل والحق.. 8) يقدم الوحي منهجا متكاملا في تنظيم العلاقات الإنسانية وهو الوحيد القادر على تصحيح أخطاء علم الاجتماع، ويملك إجابة على كثير من الإشكالات. 9) المعيارية ضابط مهم في التعامل مع العلوم الاجتماعية. 10) اعتماد الوحي في العلوم الاجتماعية هو الكفيل الوحيد لتجاوز الخلط الحاصل فيها بين النسبي والمطلق والثابت والمتغير في هذه العلوم.
كما أثرت هذه المنتدى مناقشات علمية حول مجموعة من النقاط الأساسية في مداخلة الدكتورة فاطمة الزهراء الناصري من قبل أساتذة وباحثين في مجال الدراسات القرآنية.
وقد ختم الدكتور محمد المنتار رئيس مركز الدراسات القرآنية هذا المنتدى العلمي بذكر جهود بعض المدارس التي قاربت موضوع العلوم الاجتماعية في القرآن الكريم كالجامعة الإسلامية ومركز الجزيرة في السودان وهو امتداد للمعهد العالمي للفكرالإسلامي، وجمعية علماء المسلمين،.. مؤكدا أهمية «نظرية المعرفة» باعتبارها الراصدة
والضابطة لعلاقة العلوم فيما بينها.