أمير المؤمنين يترأس الدرس الثاني من سلسلة الدروس الحسنية الرمضانية
ترأس أمير المؤمنين، صاحب الجلالة الملك محمد السادس، نصره الله، مرفوقا بصاحب السمو الملكي الأمير مولاي رشيد وصاحب السمو الأمير مولاي اسماعيل، يوم السبت 13 يوليوز 2013 بالقصر الملكي بالرباط، الدرس الثاني من سلسلة الدروس الحسنية الرمضانية.
وألقى هذا الدرس بين يدي جلالة الملك، فضيلة الشيخ شوقي علام، مفتي جمهورية مصر العربية، وتناول فيه بالدرس والتحليل موضوع " ارتباط المعاملات بالأخلاق " انطلاقا من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق".
واستهل المحاضر درسه بالتأكيد على أن الأخلاق تمثل دور العامل الحاسم في صلاح الفرد والجماعة وتقدم الأمم والشعوب ، وكذلك تكون عاملا رئيسيا في فساد الفرد والجماعة، وتخلف الأمم والشعوب، مضيفا أن ما يميز الدين الإسلامي في هذا الجانب أنه أعطى لحسن الخلق اهتماما كبيرا وسلك في سبيل التأكيد عليه منهجا حكيما "إذ بحسن الخلق ينال المؤمن الشرف في حياته ويرجو به النجاة بعد موته".
وفسر الشيخ شوقي علام حسن الخلق بأنه مناط حب الله تعالى للعبد مستدلا على ذلك بما رواه عبد الرحمان بن الحرث المخزومي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال "إن الله يحب مكارم الأخلاق ويكره دقيقها وسفسافها" مضيفا أن غرس مكارم الأخلاق في النفوس هو مهمة الرسل والأنبياء عليهم السلام إذ بين الله تعالى أن من أهم أهداف إرسال الرسل خاصة خاتمهم عليه الصلاة والسلام هو تزكية النفوس حيث قال تعالى مبينا نعمته على الناس بإرساله سيد البشر صلى الله عليه وسلم (لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين.
وأبرز المحاضر أن ما يميز الأخلاق في الإسلام أنها تنشأ مع العقيدة وتسري في العبادات وتتفاعل مع المعاملات و"بذلك فالإسلام نظام كامل شملت الأخلاق فيه كل جوانب حياة الإنسان" مشددا على أن ما يؤكد عظم البعد الأخلاقي في معاملات الناس اليومية خاصة المالية منها، أن علماء الأمة لم يكتفوا بما سطروه في كتبهم الفقهية بخصوص هذا الشأن ، بل نبهوا على هذا الجانب في مؤلفاتهم الاقتصادية المتخصصة في شؤون المال قديما وحديثا.
وأضاف أن الناظر المتأمل في نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، يجد أنها قد سلكت في ترسيخ الأخلاق الحميدة في التعامل المالي بين المسلمين منهجا حكيما عبر ربطها بين الأخلاق في مجالات الإنسان المختلفة وبين العقيدة، وحثت على ضرورة الالتزام بالأخلاق في جميع أحوال الإنسان ومنها معاملاته المالية، وذلك من خلال مسلكين، أولهما ذم مظاهر الانحراف والفساد الخلقية، والثاني الدعوة إلى التزام مكارم الأخلاق ومحاسنها القائمة على الإحسان والتكافل والتعاون.
كما تدرجت نصوص القرآن الكريم -يضيف فضيلة الشيخ شوقي علام- في تشريعات بعض المعاملات المالية كالربا والتي تؤثر تأثيرا حقيقيا على فساد المجتمع أخلاقيا واقتصاديا واجتماعيا فاتخذت بشأنها أمورا تمهيدية وذلك لخلخلة ارتباط النفوس بما اعتادت عليه من مساوئ الأخلاق خاصة تلك الأخلاق التي أصبحت جزءا من الواقع المعيش الذي يمارسه الناس يوميا بحيث يكون النهي عنه دفعة واحدة عسيرا على النفوس، مضيفا انه حصل مزج في تقرير الأخلاق مع بيان كثير من الأحكام التكليفية إثباتا لمساواتها مع بقية أحكام الإسلام وتشريعاته للدلالة على أنهما في مستوى واحد من القوة التكليفية ولبيان عدم إمكانية الفصل بين أحكام العبادات وأحكام المعاملات وكذلك بين شؤون الدنيا وشؤون الآخرة.
وقال الشيخ شوقي علام إنه جاء التنبيه كذلك على أهمية اتباع الأخلاق الحميدة في سياق القصص ويكثر ورود ذلك في نصوص القرآن الكريم ،مشيرا إلى أنه استعمل في تقرير الدعوة إلى التزام حسن الأخلاق أسلوب الترغيب والترهيب و"إن هذا الأمر ملمح عظيم فالإنسان يميل بفطرته إلى جلب الخير لنفسه ودفع الشر عنها " مضيفا أن الدعوة إلى التزام الأخلاق الحسنة تكررت في أكثر من النصوص تأكيدا عليها وترسيخا لها في الأذهان حيث يفيد أسلوب التكرار في استحضار المعاني وتذكرها والاهتمام بالتوجيهات ، و"قد جاء ذلك عن طريق تكرار بعض المعاني المتعلقة بالتصرفات المالية".
وأكد أن الاسلام اتبع منهجا واضح المعالم، حكيم الإجراءات في تأصيله للأخلاق في المعاملات المالية، حيث أولى دعامتي المعاملات المالية (الاقتصاد) - العمل والمال- عناية خاصة وأسبغ عليهما أخلاقياته وقيمه و"بذلك عصم الإسلام المجتمع من الانهيار الاقتصادي إذا ما التزم أفراده بتلك الأخلاق والقيم، مبرزا أن من محصلة افتقاد القيم والأخلاق يؤدي إلى شيوع الفساد الأخلاقي والسياسي والاجتماعي الأمر الذي يترتب عليه انتشار الظلم والفساد والانحطاط الأخلاقي وافتقاد قيم الرحمة والتسامح وشيوع الغش والكذب في المعاملات والقسوة في التعامل مع الضعيف وقصر تطبيق القانون على المستضعفين واستثناء ذوي الجاه والنفوذ والسلطان فيتحقق بذلك الهلاك المؤكد بافتقاد تلك المنظومة من الأخلاق الكريمة.وعلى الرغم من كون الأخلاق التي جاء بها الإسلام كل لا يتجزأ - يضيف المحاضر- فإن بعض هذه الأخلاق لقوي الصلة من بعضها البعض بمجال المعاملات المالية ومنها وجوب الصدق والأمانة في البيع والشراء ، في الثمن والسلعة، مضيفا أن السلف الصالح كانوا ينزهون أموالهم من كل شائبة خشية الوقوع في الحرام "وهذا سر عظيم في فضلهم وعلو كعبهم في العلم والعبادة".
وأشار المحاضر إلى أن حسن المعاملة تعني السماحة في المعاملة وفي البيع وفي الشراء وفي الاقتضاء، موضحا أن السماحة في القضاء هي أن يرد الحق لصاحبه في الموعد المضروب ولا يكلفه عناء المطالبة أو المقاضاة ويشفع القضاء بالشكر والدعاء أو الهدية إن كان لها مستطيعا إلى غير ذلك مما ينطوي تحت المسامحة.
وبخصوص الأخلاق السيئة التي حذر منها الشرع الشريف والتي من شأنها تكدير المعاملات بين المسلمين، فقد أورد المحاضر نماذج تتعلق بالخصوص بالغش في البيع والشراء وما في معناه كالتدليس والخديعة وكتمان العيوب وخلط دنيء بجيد، مستشهدا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم "من غشنا فليس منا". وقال في هذا السياق إن كل كسب من الغش فإنه كسب خبيث حرام لا يزيد صاحبه إلا بعدا من الله في الدنيا والآخرة.
كما تطرق المحاضر للغرر في البيع وهو يجمع ثلاثة أوصاف أحدهما تعذر التسليم غالبا والثاني الجهل والثالث الخطر والقمار، وللنهي عن المنافسة غير المشروعة كالتناجش، وهو أن يتظاهر رغبته في البيع لسلعة ليزيد من ثمنها دون رغبة حقيقية في ذلك وهو أمر محرم موضحا انه يدخل في هذا الباب كل ما كان من شأنه أن يحدث اضطرابا في الأسواق.
وقال إن وقوع النجش في البيع عند الإمام مالك رضي الله عنه عيب من عيوب يخير المشتري إذا علم به وصح ذلك في رد السلعة المنجوشة أو أن يبقي عليها، مضيفا أن النجش يؤدي إلى إحداث ضرر كبير في السوق حيث يغرر بالناس ويرفع الأسعار بغير وجه حق لأنه قائم على الغدر والخديعة والمكر وبالتالي فهو يؤدي إلى فقدان الثقة بين الناس وانتشار الشك والريبة في كل تعاملاتهم.
وبخصوص إلزامية الأخلاق في الإسلام وآثارها في المعاملات قال فضيلة الشيخ شوقي علام إن الأخلاق في الإسلام ليست مجرد شعائر أو آدابا يحسن اتباعها، وإنما هي واجبات شرعية جاء بها الشرع الشريف ونهى عن أضدادها "فالالتزام بالجانب الأخلاقي في ألوان التعامل مع الناس عامة والمعاملات المالية خاصة أمر لم ينازع في وجوبه واهميته وفضله احد من المسلمين " مستشهدا بقول الله تعالى "فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي أؤتمن أمانته وليتق الله ربه ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه والله بما تعملون عليم".
و خلص الأستاذ المحاضر إلى أن الأخلاق لا تنفك أبدا عن أي معاملة تصدر عن الإنسان، إن لم تكن باعثا مهما في صدورها عنه، مشيرا إلى أنه بناء على ذلك الأثر فتترتب على ارتكاب الأخلاقيات المنهى عنها أحكام تكليفية كالحرمة والكراهة وخلاف الأولى ، إضافة إلى انه يتعلق في كثير منها أحكام الحكم الوضعي من الصحة والبطلان والفساد . وأكد أن الأخلاق الإسلامية قد شملت سلوك الإنسان في حياته الخاصة وحياته مع غيره في مختلف المجالات والتي ساهمت وما تزال تساهم في استقامة الحياة ونشر المودة والرحمة والسعادة بين المجتمع المسلم وهو ما حرم منه غير المسلمين خاصة دول الغرب حيث يهتم أهله بالقيم المادية والاقتصادية ويهملون القيم الدينية والمعنوية ومن ثم ضعفت مكانة الدين كما ضعف تأثيره في حياة الناس فانتشرت الجريمة وكثر الانحلال الخلقي وعم توالي حدوث الأزمات المالية والاجتماعية.