وحدة الإحياءأعلام

أبو إسحاق الشاطبي.. الفقيه المجتهد المربي

المبحث الأول: الشاطبي المجدد

تعريف موجز بالشاطبي وعصره

أبو إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي اللخمي. فقيه كبير وأصولي شهير من أهل غرناطة توفي بها عام 790: 1388م أخذ عن جماعة من علماء الأندلس والمغرب ذوي اليد الطولي والإتقان الكامل للعلوم على اختلافها وتنوعها، حتى تفقه ونبغ وكان له فضل تجديد علم أصول الفقه.

ترجم له أحمد النتبكتي السوداني في (نيل الابتهاج) وصفه بالعلم والحفظ والتحقق والاجتهاد، فضلا عن التقوى والورع وحسن الخلق والعفة. وذكر أنه كانت له مناقضات مختلفة مع عدد من العلماء المعاصرين له كالقباب[1] والفشتالي[2] وابن عباد[3] في مشكلات المسائل. دلت هذه المناقشات على غزارة علمه وبعد نظره وقوة حجته.

له مصنفات عديدة ذات قيمة في علوم اللغة والأدب والفقه والأصول، منها:

  • شرح الخلاصة في النحو. في أربعة أسفار.
  • الإفادات والإنشادات.
  • الاعتصام.
  • الموافقات في أصول الشريعة.

تعلم الشاطبي في غرناطة وبها مكث حتى وفاته. وعايش فيها أهم فترات الدولة النصيرية التي حققت بعض الانتصارات العسكرية على الإسبان واسترجعت منهم بعض الثغور.

وخلال هذه الفترة أيضا كانت غرناطة محط رحال كثير من المسلمين الأندلسيين الذين سقطت مدنهم في يد الإسبان، أدت هذه الهجرات إلى كثافة سكانية كبيرة، وكان من نتائجها تنوع الأنشطة المهنية والتجارية التي تلبي حاجات السكان المتزايدة. وصاحب ذلك ازدهار حلقات العلم وظهور طوائف ومذاهب دينية وفكرية مستحدثة. كما ظهرت بوادر الترف في الحياة الغرناطية التي انعكست آثارها على أزياء المسلمين وحياتهم ومأكلهم.

لكن هذه الأحوال لم يكتب لها الدوام، إذ سرعان ما ظهرت بوادر الأزمة بعد عجز بيت مال الدولة عن تحمل نفقات المواجهة العسكرية، مما حتم فرض خراج على الناس لتغطية هذه النفقات التي منها بناء أسوار الحصون والمدن فأثر ذلك على حياة الناس وأحوالهم الاجتماعية والمالية، وكان لزاما عليهم التضحية بامتيازات كثيرة[4].

الشاطبي: المصلح المجدد

أهم ما تميز به هذا العصر هو التعدد المذهبي وانتشار الفرق والطرق الصوفية وكثرة البدع والفتن. وقام علماء المغرب والأندلس بمحاولات الإصلاح والتجديد، وكان الشاطبي أحد أهم رواد الإصلاح الديني والفكري بفضل ما تميز به من نظر شمولي واجتهاد.

وفي كتابه الإعتصام، تصدى لكثير من مظاهر الانحراف العقائدي، فتحدث عن البدع وأنواعها وأصحابها وميز بين المحدثات المتعلقة بشؤون الدين وتلك المتعلقة بشؤون الدنيا، وفرق بين الابتداع والاجتهاد والالتزام بالصراط المستقيم، معتمدا في ذلك على منهجية أصولية متميزة، فصل الحديث عنها في كتابه الموافقات[5]، ووفق المنهجية نفسها، جدد الشاطبي علم أصول الفقه. هذا العلم الذي يعتبر بمثابة القانون العقلي والفكري للمسلمين في المجال الفقهي بسعته وشموله وقواعده. فهو دستور الفقهاء في مجال عملهم.

يقول الأستاذ عبد القادر العافية عن فتاوي الشاطبي أنها تتجه إلى إصلاح جذري يستهدف الحفاظ على الثوابت الأساسية للشريعة الإسلامية، فهي حوار مع العلماء والفقهاء لتصحيح بعض القضايا الاجتهادية أو لتقويم اعوجاج او انتقاد السلوك حاد به أصحابه عن الجادة، أو تذكير بالمقاصد الأساسية للشريعة الإسلامية[6].

كانت فتاويه تستهدف الإصلاح الجذري، إذ كان يرى أن مجتمعه في أمس الحاجة إليه، فكان يستقيها من الأصول الشرعية مسترشدا بمقاصد الشريعة وأهدافها وغاياتها. فلم يكن يقنع بكل تأويل أو اجتهاد غير سليم أو فهم قاصر.

وهي تترجم بصدق منهجه في إدراك مقاصد الشريعة وما توحي به نصوصها من دلالات وأهداف، وهو ما تحدث عنه بتفصيل في كتابه الموافقات الذي وضع فيه أسس المنهج في الفتوى وحدد شروط الإفتاء والاجتهاد[7]. إلا أن الرد على أصحاب البدع في الأندلس لم يكن سهلا، فقد عانى الشاطبي في سبيل ذلك كثيرا. وتعرض للمحن والمشقة ووجهت إليه تهم شتى، يقول عنها (تارة نسبت إلى الرفض ونقض الصحابة.. وتارة أضيف إلى القول بجواز القيام على الأئمة. وتارة أحمل على الالتزام الحرج والتنطع في الدين، وإنما حملهم على ذلك أني التزمت في الفتيا الحمل على مشهور المذهب، لا أتعداه، وهم يتعدونه ويفتون بما يسهل على السائل ويوافق هواه.. وتارة ينسب إلي معاداة أولياء الله وسبب ذلك إني عاديت بعض المبتدعين المخالفين للسنة المنتصبين بزعمهم لهداية الخلق، وتكلمت للجمهور على جملة من أحوال هؤلاء الذين نسبوا أنفسهم إلى الصوفية)[8].

فالشاطبي يصور بهذا الكلام ما كان يعانيه من خصومه الذين تفننوا في إلصاق التهم به، وفي إذايته لإزاحته من الساحة العلمية حتى يصفو لهم الجو ولا يحال دون انسياقهم وراء أهوائهم وشهواتهم.

إلا أنه في الوقت نفسه حظي هذا العالم المصلح بتقدير وتنويه علماء عصره ومن جاء بعدهم، فشكروا لم ما التزم به من الصراحة في القول والبعد عن المداهنة، وذكروا مناقبه ونوهوا بجهوده الخادمة للسنة والفقه ومحاربة البدع، حتى لقبوه بناصر السنة[9].

والشاطبي لم يكن مصلحا اجتماعية فحسب، بل هو صاحب اتجاه تجديدي في المنهج العقلي، كما أنه لا ينفرد بجهده التجديدي في تاريخ المغرب والأندلس. بل إن الاتجاه التجديد الذي عرفه المغرب والأندلس، منذ أوائل القرن الخامس الهجري، كان من أقطابه إلى جانب الشاطبي، ابن حزم وابن باجة وابن رشد وابن خلدون وآخرون غيرهم. ووحدة الفكر بين هؤلاء تتجلى في توظيف جملة من المبادئ والمفاهيم والإجراءات المعرفية التي كانت تؤسس التفكير العملي البرهاني المعتمد على الاستنتاج والاستقراء بدل قياس الغائب على الشاهد واعتماد المقاصد بدل دلالات الألفاظ، والقول بالسببية واطراد الحوادث بدل القول بالتجويز والعادة[10].

جهد الشاطبي التجديدي في ميدان الأصول لم يتجه إلى المحتوى، وإنما انصب على المنهج، أي الطريقة التي اعتمدها الأصوليون منذ الشافعي. لم يقف الشاطبي عند المشاكل ولم يكتف بتقديم فتاوي تبين حكم الشرع فيما يعرض له من الأمور والمستجدات، والنوازل بل وجه خطابه في الكتاب للعلماء والفقهاء وبصفة خاصة المتنورين المجتهدين المتحررين من التعصب للمذهب[11] الباحثين عن حقائق أكمل العلوم الطالبين لأسمى نتائج الحلوم، المتعطشين إلى أحلى موارد الفهوم[12]، عارضا عليهم طريقة جديدة في التفكير يستطيع العلماء على ضوئها تجاوز المنهجية التقليدية في الأصول والتي تقوم على التفسير والاستنباط[13].

فبتجديد المنهج يتجدد الفكر والعقلية، وقد كان المنهج الأصولي عند السابقين يقوم على الاستنباط والقياس اللذين يعتمدان على التأويل والظن، واجتهد الشاطبي في استبداله بمنهج يقوم على الساتنتاج والاستقراء المستندين إلى أسس العقل، تماما كما هو الشأن في الرياضيات الحديثة[14].

فإذا كان الفضل في وضع قواعد علم أصول الفقه يعود إلى الشافعي وتلاميذه، فإن الشاطبي اجتهد في تأصيل هذه الأصول بإعادة بناء هذا العلم على القطع بدل الظن.

بعدما كان الأصوليون منذ الشافعي يعتمدون في بناء الأحكام على استنباط المعاني من النصوص أو قياس ما ليس فيه نص على ما فيه نص، وكانوا يرددون بأن الشريعة في مجملها تقوم على الظن. وكذلك القياس يقوم على العلة المفترض أنها مقصودة بالحكم.

أما الشاطبي فقد أثبت عكس ذلك وبرهن أن الأصول تقوم على القطع، والدليل على قطيعتها أنها راجعة إلى كليات الشريعة. وما كان كذلك فهو قطعي. والتجديد المنهجي الذي اهتدى إليه الشاطبي يتمثل في ثلاث خطوات أساسية:

  1. الاستنتاج أو القياس الجامع. وتتمثل هذه الخطوة المنهجية في أن كل دليل شرعي فمبني على مقدمتين:

أ. نقلية تثبت بالنقل عن الشارع نقلا صحيحا.

ب. نظرية، تثبت بضرورة الحس أو بضرورة العقل أو النظر أو الاستدلال.

  1. الاستقراء، كخطوة لاستخلاص كليات الشريعة التي هي كليات استقرائية.
  2. قصد الشارع، لأن الكليات الشرعية الثابتة بالاستقراء يؤسسها قصد الشارع[15] فالشارع لم يكلف العباد بما كلفهم به من واجبات دون مقاصد معينة. فقد اتفقت الأمة على أن الشريعة وضعت للمحافظة على الضروريات الخمس.

المبحث الثاني: الأهمية التربوية لنظرية المقاصد

مقاصد الشريعة والتربية

يطلق لفظ الشريعة على ما شرعه الله لعباده من الدين. وهو الذي ترشد إليه الآية الكريمة ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾ (المائدة: 51) أ] شريعة تتبعونها وطريقا واضحا تسلكونه.

ويستعمل العلماء لفظ الشريعة للدلالة على ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من عند الله سواء لبيان العقيدة الإسلامية أو ما نزل لإتمام مكارم الأخلاق، وما شرع لتدبير أمور الناس في الدنيا وإصلاح المعايش والمجتمع البشري.

فالشريعة الإسلامية إذن هي القرآن الكريم والسنة المطهرة[16] وهي تضع للمكلفين حدودا في أفعالهم وأقوالهم واعتقاداتهم لا يجوز للعقل أن يتعداها[17].

لأحكام الشريعة توجهات، بينها الشاطبي في كتابه الموافقات، كما تكلم عنها كثير من الأصوليين والفقهاء. ومن هذه التوجهات:

  • توجه تربوي يقوم على إقرار عبودية الإنسان لله عز وجل (فالشرع إنما جاء بالتعبد[18] وهو ما ترشد إليه الآية الكريمة ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ (الذاريات: 56) وهذا التوجه يتضمن تربية الفرد حتى يكون منبع خير لجماعته، يجسد بسلوكه وفكره معاني العبودية الشاملة من العلم والإيمان والعمل.
  • التوجه الثاني ضمان مصلحة العباد، يقول الشاطبي (أينما توجد المصلحة فتم شرع الله) وهذا يوجب خدمة هذه المصالح وحمايتها والحفاظ عليها. لأن المصالح مبنية على حفظ الضروريات الخمس[19].
  • التوجه الثالث إقرار الحاكمية لله، عز وجل، فالشارع هو الله. وهو ضامن العدالة وحامي المصالح وسيد العباد المتحكم فيهم[20].

وفي تعريف المقاصد يستند خوجة على شطري التعريف الواردين في الموافقات وهما:

  • إن الشارع قد قصد بالتشريع إقامة المصالح الأخروية والدنيوية، وذلك على وجه لا يختل لها به نظام، لا بحسب الكل ولا بحسب الجزء[21].
  • القصد الشرعي من وضع الشريعة، إخراج المكلف من داعية هواه حتى يكون عبدا لله اختيارا كما هو عبدا لله اضطرارا[22].

ويقول خوجة: مقاصد الشريعة هي إقامة مصالح المكلفين الدنيوية والأخروية على نظام يكونون فيه عبادا لله اختيارا كما هم اضطرارا[23].

وإقامة مصالح المكلفين لا تنتهي بانتهاء مرحلة الطفولة، فترة تأثير الوسائل والمؤسسات التربوية عادة، بل هي ممتدة من الميلاد أو قبله إلى الوفاة أو بعدها، باعتبار رعاية الحامل وتزويد المسلم بما يواجه به من امتحان الملائكة في قبره.

ومراعاة مقاصد الشريعة في تفسير النصوص كانت بمثابة سياج يمنع من الزلل في فهم هذه النصوص ويحول دون اتباع الهوى في ذلك. لأن دلالة ألفاظ النصوص على معانيها قد تحتمل عدة وجوه، والذي يرجح واحدا من هذه الوجوه هو الوقوف على مقصد الشارع إذ أن الأخذ بوجه يتنافى مع مقصد الشارع إنما هو باطل[24].

ومن هنا تأتي أهمية التربية المقاصدية التي هي (توجيه سلوك المكلف لإخراجه من داعية هواه ليكون عبدا لله اختيارا كما هو اضطرارا، بحث السلوكات العقلية والانفعالية والبدنية التي تحقق مصالحه في العاجل والآجل).

وأهداف هذه التربية لا تخضع للمتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، بل تحددها الشريعة وتستنبط من مقاصدها.

يقول الأستاذ مصطفى بنحمزة: شخصية المقصد التربوي الإسلامي متميزة أصيلة، لأن القصد متسم بالاستقرار والمرونة في نفس الوقت.

  • والاستقرار فيه نابع من كون التربية الإسلامية جزءا مما أوحى به الله عز وجل إلى الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، أوحاها موضوعا وهدفا.
  • ومرونتها من مرونة الاجتهاد المقاصدي الذي يواكب الحياة بكافة مستجداتها الأساسية والاقتصادية والاجتماعية، ويجعل المسلمين في مستوى مواجهة هذه المستجدات والتعامل معها[25].

وآراء الشاطبي التربوية التي يمكن استخلاصها من كتابه الموافقات تستقي حتما من الأصول الإسلامية والنصوص الدينية المرجعية: القرآن الكريم والسنة المطهرة وآثار الصحابة. فهذه الأصول تعالج الوضع الذي يعيشه الإنسان في دنياه وترفعه إلى الصورة التي يريدها الله.

يتين لنا من كلام الشاطبي أن الهدف من تكاليف الشريعة يتمحور حول صيانة مجموعة من المقاصد المرتبطة بالحياة الاجتماعية والفردية للإنسان وحفظها سواء منها الضرورية أو الحاجية أو التحسينية[26].

وصيانة هذه المقاصد يكون بإقامة أركانها وتثبيت قواعدها، وبرعاية الشروط التي تحمي كيانها وتحافظ عليه في صفة السلامة والكمال والتوازن، وبدرء الاختلال الواقع أو المتوقع فيها بالحيلولة دون ما من شأنه أن يعرضها للتلف والضعف والنقصان.

ويستفاد من كل ذلك أن حفظ تلك المقاصد يتم من خلال تشبع الأفراد بنظام من القيم يتصف بالكمال. ومن خصائص الكمال أن تكون تلك القيم ملامسة لشغاف الفطرة التي فطر الله الناس عليها لصيقة بها لا تنفك عنها وهذا النظام القيمي الإسلامي هو قوام النظام التربوي الإسلامي ويتشكل منه النظام الاجتماعي ويقوم على أساس راسخ من الإيمان بالله والإقرار بالعبودية الخالصة له[27].

والقيم التربوية الإسلامية من تعاون وتكافل وصدق في القول وإخلاص في العمل واحترام لكرامة الإنسان وغيرها، لا يمكن أن تينع وتسود إلا مع الاعتقاد الصادق في الله ومراقبته بصفة دائمة، وهو الشرط الكفيل بضمان الحفاظ على المقاصد التي رمت إليها الشريعة.

والقيم الإسلامية ترتبط بصلة وثيقة مع الكليات الخمس، وتمتد لتنسج خيوطها مع دائرتين أخريين هما دائرة الحاجيات والتحسينيات، فهذه القيم تنشر أجنحتها على سلوك الإنسان في جوانبه الدقيقة لتضمن لها الارتقاء والتدرج في مستويات الكمال والذوق الرفيع[28].

والشاطبي صاحب الاجتهاد المقاصدي، ورائد نظرية المقاصد الأصولية ذات البعد التربوي، تقوم منهجيته الأصولية على اعتبار مقاصد الشريعة التي هي إقامة مصالح المكلفين الدنيوية والأخروية على نظام يكونون فيه عبادا لله اختيارا كما هو اضطرارا.

ووسيلة الشريعة إلى إقامة هذه المصالح وعلى هذا النظام هي التربية المقاصدية، التي ترشد المكلف وتوجهه، وتضبط سلوكه وتزوده بالمعايير القارة للتمييز بين المصالح والمفاسد والحفاظ على التوازن والنظام الكوني.

ويضيف الشاطبي بعد تعريف المقاصد (إن المكلف حين يفهم مراد الشرع من قيام أحوال الدنيا، يسلك في حياته مسلكا يتحدد بمقتضى هذه المعرفة من الإقدام على العمل أو تركه)[29].

 ومن وسائل تحقيق التربية المقاصدية أهدافها:

  • توعية المكلف وتبصيره بحقيقة الوجود، بالخالق والمخلوقات وما بينها من علاقة.
  • رسم منهج للسلوك الفردي والجماعي الكفيل بتحقيق المصالح ورعايتها، هاديا إلى الأسلوب الأصلح في الممارسة والتطبيق والتفكير.

فالتربية عملية حث أو تغيير أو إبقاء على سلوكات وأعمال عقلية أو انفعالية أو عاطفية أو بدنية.وحين تهتدي بالشريعة وتخضع لضوابطها وتسترشد بأهدافها، ينمحي كل ما يمكن أن يبدو من عوائق تقف في وجه بناء الإنسان أو تحول دون توحيد جهوده وتكامل قواه وتحقيق كماله.

أهمية شمولية العبادة

يتميز الشاطبي بنظرته الشمولية ويدافع عنها، فالنظرة التجزيئية إلى الموضوعات خطأ منهجي، لأنها تحجب الحقيقة ولا تساعد على الوصول إلى معرفة كنهها، ولا تتفق مع شمولية الدين الإسلامي[30].

ونظرية المقاصد تعكس بوضوح هذه الشمولية. فالشاطبي يرى أن غاية المقاصد هي إصلاح الإنسان وسعادته في الدنيا بإبعاد المفاسد والشرور عنه وسعادته في الآخرة بنيل رضوان الله عز وجل.

فغاية التربية المقاصدية يجب أن تستنبط من المقاصد وتجسد مطامح واختيارات الدين الإسلامي، وترتبط بقيمه ومبادئه، وتساهم في إصلاح الإنسان وتحقيق سعادته في الدارين.

(إن الشرع قد جاء ببيان ما تصلح به أحوال العبد في الدنيا والآخرة)[31] في حياته الفردية والجماعية. تناول الشاطبي هذه القاعدة الفقهية بالشرح والتحليل في مواضع كثيرة من كتابه مستدلا بالقرآن الكريم والسنة الشريفة وآثار الصحابة، وعلى ضوئها بين أحكام التربية والتعليم والمعرفة.

ذكرنا فيما سبق أن من التوجهات التربوية للشريعة إقرار عبودية الإنسان لله عز وجل وشرح الشاطبي كيف أن الشرع قد جاء بالتعبد. وجعل العبادة حكمة الإيجاد للناس، والعبادات التي فرضت على المسلمين تتضمن أحكاما خلقية وآدابا وقواعد للسلوك. والعلم أهم وسائل هذه العبادة، به يفهم المكلف مقاصد الشرع فيما جاء به. فالله يعبد بالعلم والعلم ضرب من ضروب العبادة، كما أن العبادة في الإسلام لا يقتصر معناها على الصلاة والصيام والحج، ولا تعني الانقطاع عن العمل والتجرد عن الدنيا، فالمكلف خلق ليعبد الله على هذه الأرض وفيها. يقول الشاطبي (إن البناء على المقاصد الأصلية تصير تصرفات المكلف كلها عبادات كانت من قبيل العبادات أو العادات، لأن المكلف إذا فهم مراد الشرع من قيام أحوال الدنيا، أخذ في العمل على مقتضى ما فهم، إنما يعمل من حيث طلب منه العمل وسيترك إذا طلب منه الترك. فهو أبدا في إعانة الخلق على ما هم عليه من إقامة المصالح باليد واللسان والقلب)[32].

والشارع لم يكلف الناس ما كلفهم به من واجبات في العبادات والمعاملات من دون قصد. فقد اتفقت الأمة بل سائر الأمم على أن الشريعة وضعت للمحافظة على الحقوق الخمسة الدين والنفس والمال والعقل والنسل. وبرعاية هذه الحقوق تتم عمارة الأرض وحفظ نظام التعايش فيها واستمرار صلاحها بصلاح المستخلفين فيها، وفي قيامهم بما كلفوا به حفظ نظام التعايش وضمان صلاح الدنيا. والله لا يستفيد من كل ذلك، إنما الإنسان هو المستفيد الأول والأخير.

إن صلاح الدين والدنيا غاية تتفرع عنها ثلاثة أهداف:

  • تنشئة أجيال مسلمة مؤمنة مستنيرة، تعبد الله وتستعينه وتسلك مهتدية بالصراط المستقيم الذي نهجه في حياته رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة البررة، رضوان الله عليهم، حتى تنعم بالجنة التي أعدها الله.
  • تعهد الذات البشرية عقلا ودينا حتى تحقق كمالها وتشمو بنفسها. والعلم أحد أهم وسائل تكميل الذات وترقية الإنسان وإخراجه من داعية هواه وتقييد أعماله بمقتضى أحكام العلم، فالعلم حاكم.
  • تعمير الحياة على الأرض وتنميتها وحمايتها. وهو واجب يتحقق بالعمل الإنتاجي والاستثمار وحماية الحياة بدفع ما يتهددها.

إن غاية تكليف الإنسان هي صلاح أمره في الدنيا والآخرة. وصلاح أمره في الدنيا يعني استقامة أحواله فيها لتستقيم له أمور الآخرة. وأهمية هذه الغاية تأتي لإقامة التوازن بين أمور الدنيا وأمور الآخرة والحفاظ عليه. لذلك أوجبت الشريعة على الإنسان أن يتعلم ما ينفعه في دينه أولا ثم في دنياه. وكل علم لا يفيد المرء في دينه أو دنياه فالاهتمام به باطل وغير جائز.

المبحث الثالث: تجديد العقل المسلم

كان الشاطبي صاحب اتجاه تجديدي في المنهج العقلي الأصولي، جهد الشاطبي التجديدي في ميدان الأصول لم يتجه إلى المحتوى، وإنما انصب على المنهج، أي الطريقة التي يتعامل بها العقل مع ما يواجهه من قضايا.

والتجديد قصد به الشاطبي إعادة العقل المسلم إلى حاله الذي كان عليه خلال العهود الإسلامية المشهود لها بالفضل، عهد الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين، حيث كانت العقلية الإسلامية نقية من الأدران والخرافات، عقلية مجتهدة تحكم البشريعة ولا تخضع لأهواء النفس.

كانت هذه العقول حديثة عهد بالإسلام الذي رفع عنها الحجر والوصاية وأطلقها من قيودها، وحرضها على التفكير والتأمل. فتحملت عقول المسلمين هذه الأمانة بجدارة وتفجرت بفضل ذلك ينابيع العلوم والفنون والإدراك والاجتهاد الذي يعتبر في الإسلام إطلاقا لقوى العقل.

والشاطبي المربي حدد غاية التربية في تثبيت الإيمان في نفس المكلف. الإيمان الذي يحرك السلوك ويؤدي إلى العمل الموحد لله عز وجل، في كافة أشكال هذا العمل ومظاهره، سواء كان في نطاق العبادات أو المعلومات أو عمل العقل والجوارح. والإيمان هو اعتقاد عقلي مؤثر في وجدان المؤمن وعواطفه وسلوكه. لكن من أشد الأخطار التي يواجهها هو تسرب الخرافات والفهوم الخاطئة عن الدين إلى العقل. ثم إن التعبد والتكليف شرطهما العقل لهذا كانت عناية الشاطبي كبيرة بالعقل، وجه اهتمامه إلى العقل المسلم وعني بإيقاظه وانتهاض قدراته واستعدادته.

والتعامل مع العقل المسلم لإصلاحه يتطلب التصدي لكل العوامل المؤثرة فيه كالعقيدة والثقافة والخرافات وغير ذلك، فكلها عوامل لها أهميتها في تشكيل العقل وتجديد مكوناته[33].

كما أن للعقل معان متعددة تفيد الإدراك والتمييز، وهما عمليتان تتطلبان تدخل مهارات عقلية أخرى كالذكاء والتفكير والتذكير. ومدلول العقل عند الشاطبي هو الاستدلال العلمي الذي يستند إلى منطلقات أولية تستنتج منها استنتاجات منسجمة معها خالية من التناقض[34].

وهذا المدلول ينسجم مع مدلول العقلانية التي هي موقف فكري وسلوكي اتجاه القضايا يتمثل في اعتبار العقل هو القيمة العليا والمعيار الأساس[35] وهذا العقل يبقى محكوما بالشريعة لا يجوز له أن يتعدى الحدود التي وضعتها للمكلفين.

تناول الشاطبي، كسائر الأصوليين، قضية العقل وعلاقته التبعية بالشريعة وأوامرها، ودوره في توجيه السلوك السليم كنتيجة من نتائج هذا الارتباط بالشريعة التي تضع له الحدود التي يتعين عليه مراعاتها وعدم تخطيها[36].

واستنادا على الشريعة وضع الشاطبي مخططا للنهوض بالعقل المسلم، يتضمن هذا المخطط الخطوات التالية:

  • إحاطة العقل بمقتضيات الشريعة الإسلامية وحدودها ومبادئها ومقاصدها.
  • تنمية القدرة على التحليل والتمييز والنقد والنظر الشمولي لضمان حسن استيعاب الشريعة وسد الباب أمام ما يمكن أن يتسرب إلى العقل من خرافات وأوهام وتصحيح الفهوم الخاطئة السائدة عن هذه الشريعة.
  • التصدي للمناهج المدرسية بكل مكوناتها المعرفية المنهجية لأهميتها في التأثير على العقل ونموه وتشكيله لإعداد وبناء خطة تعليمية محكمة تنبني على تصنيف دقيق للعلوم يسترشد بالشريعة. وتضمينه علوما يتحقق فيها مبدأ التوحيد والعبودية، واختيار طرق تعليم تضمن تحقيق هذه الأهداف والمقاصد.
  • الدعوة إلى الاجتهاد والنهوض به وتقنينه وتحدي شروطه. حتى يظل مواكبا للحياة الإسلامية المتجددة والمتطورة، محافظا على الثوابت الإسلامية القارة.

يبدو جليا من كتابات الشاطبي عنايته الخاصة والفائقة بالعقل وبمنهج المعرفة، فالشاطبي مجدد منهج، مجدد فكر، مجدد عقلية أصولية. وجهده الإصلاحي انصب أساسا على المنهج، أي الطريقة التي اعتمدها الأصوليون منذ الشافعي.

تصحيح الفهوم الخاطئة

بناء المعقولية

كانت العقلية الفقهية عامة والمنهج الأصولي خاصة منذ الشافعي يقومان على الاستنباط والقياس اللذين يعتمدان على التأويل والظن، مما يفقد هذا المنهج المصداقية والأسس العلمية، ويجعل النتائج التي يتوصل إليها موضع شك وظنون. بينما العلم الحقيقي هو القطعي الذي تكون نتائجه لا مجال للشك فيها[37] فكيف يمكن بناء المعقولية في الشرعيات على العقل بدل الظن؟ والشرعيات وضعية تعتمد على النقل وليست عقلية أي من إنشاء العقل. يجيب الشاطبي على هذا السؤال الكبير بأن ذلك ممكن لأن الوضعيات قد تجاري العقليات في إفادة العلم القطعي، وذلك باعتماد الطريقة البرهانية في بناء أصول الفقه على (كليات الشريع) وعلى (مقاصد الشرع)[38].

فكليات الشريعة تقوم مقام الكليات العقلية في العلوم النظرية، بينما مقاصد الشرع هي السبب الغائي الناظم للمعقولية. والوصول إلى الكليات الشرعية من خلال القضايا الجزئية المتمثلة في الأوامر والنواهي الشرعية[39].

مواصفات البرهانية

يتوصل إلى هذه الكليات عن طريق الاستقراء، استقراء الجزئيات واستخلاص الكليات منها. وهذه الكليات تفيد القطع كما في العلوم البرهانية الأخرى، ومواصفات هذه البرهانية الثلاثة وهي التي تحدد الفرق بين ما هو ظني وما هو علمي قطعي.

  • العموم والاطراد: فأحكام الشريعة تتصف بها لأنها تعم المكلفين جميعا، ولا تختص بزمان أو مكان أو شخص معين.
  • الثبات وعدم التغيير: وأحكام الشريعة هي كذلك فالحلال بين والحرام بين، وما وضع سببا أو شرطا يبقى كذلك.
  • القانونية: أي كون العلم حاكما لا محكوما عليه فالشريعة أوامر ونواه لا شيء يعلو عليها[40].

وهكذا فالشريعة تتوافر فيها شروط العلم البرهاني، فلا يجوز أن تحوم حولها الشكوك والظنون[41].

ودعوة الشاطبي للعلم القطعي هي أصلا دعوة للعقل، خصوصا وأن نظريته تقوم على مراعاة الحكمة والغاية التي هي في نهاية الأمر تحقيق مصالح العباد في العاجل والآجل. واشترط أن يكون مدلول العقل هو الاستدلال العلمي الذي يستند إلى منطلقات أولية تستنتج منها استنتاجات منسجمة معها خالية من التناقض[42].

إنها منطلقات مقبولة عقلا وشرعا لأن استقراء الشريعة يؤكدها من ذلك مثلا لا ضرر ولا ضرار، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها، وإنما الأعمال بالنيات.

تصنيف العلوم

أقسام العلم

لتصنيف العلم عند الشاطبي غاية تربوية تعليمية، فهو لم يحص ما كان سائدا في عصره من علوم ومعارف مثلما فعل كثر ممن خاضوا في هذا الفن فأحصوا العلوم ورتبوها وبوبوها وعنوا بتعرف حدودها ومناهجها وتفريعاتها.

فتصنيف العلوم عند الشاطبي تصنيف فقهي أصولي، معاييره محددة في الغاية العلمية من العلم والمعرفة.

انطلق في تصنيفه من تحديد شروط العلم ومعاييره الثابتة وراعى في تقسيم العلوم مدى تحقق هذه المعايير فيها وتوفرها على الشروط الدقيقة التي توضح الفرق بين ما هو قطعي وما هو ظني.

قسم الشاطبي في المقدمة التاسعة العلم إلى ثلاثة أقسام:

  • ففي القسم الأول رتب الأصل المعتمد وهو العلم القطعي الراجع إلى أصل قطعي وتوضع الشريعة في هذه الطبقة لأنها قطعية منزلة على هذا الوجه لذلك كانت محفوظة في أصولها وفروعها وهو ما ترشد إليه الآية الكريمة(إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون(لأنها ترجع إلى حفظ المقاصد التي يتم بها صلاح الدارين[43] فهي علم أصل راسخ الأساس ثابت الأركان لأن العلم بها مستفاد من الاستقراء العام الناظم لأشتاتها حتى تصير في العقل مجموعة في كليات مطردة عامة ثابتة حاكمة غير محكومة.

خواص العلم القطعي المرتب في هذه الطبقة ثلاثة:

  • العموم والاطراد.
  • الثبوت من غير زوال.
  • الحاكمية القانونية.
  • القسم الثاني يرتب فيه العلم الظني أو ما كان قطعيا في الأصل لكنه تخلف في خاصية أو أكثر من الخواص الثلاث السابقة. ومن الأمثلة التي يسوقها الشاطبي للتخلف في هذه الخواص:
    • استخراج الحكم لما لا يعقل معناه على الخصوص في التعبدات.
    • لزوم ما لا يلزم من الكيفيات في كل الأخبار.
    • التأنق الزائد في طلب الحديث.
    • الأخذ من الرؤيا باعتبارها وسلة علم.
    • بناء الفروع العلمية على المسائل التي يختلف فيها.
    • الاستناد على الأشعار في تحقيق المعاني العلمية والعملة.
    • الاستدلال بكلام المتصوفين.
    • حمل بعض العلوم على بعض في قواعده، كحمل الفقه على اللغة.

3- القسم الثالث ويضم ما ليس من صلب العلم ولا من ملحه، أي العلوم التي لا ترجع إلى أصل قطعي ولا ظني كالسفسطة والسحر.

ويذكر الشاطبي أن العلم المصنف في القسم الأول، يمكن أن يتقهقر عن طبقته إذا أخضع لمنهج العلوم الأخرى المرتبة في الطبقات الدنيا، فيختل بذلك شرط من شروطه الثلاثة الأساسية، كالفيقه يبني فقهه على مسألة نحوية أو قاعدة حسابية. فالعلوم وإن كان يخدم بعضها بعضا وتتكامل فيما بينها، فلا يجب التذرع بهذه القاعدة للخلط بين العلوم، فلكل علم مناهجه الخاصة به[44].

ومن خلال هذا التصنيف، نستخلص معالم لما كان سائدا في الواقع الثقافي العلمي في عصر المؤلف، وتحدياته المتمثلة في شيوع الخرافات وانتشار البدع وآراء المتصوفة ومذاهبهم، وهيمنة التقليد في أبشع صوره. هذا الواقع الذي حرص الشاطبي على نقده وتصحيحه وتنقيته، وتوجيه العقلية الإسلامية نحو الاختيار والتمحيص والتدقيق، بعد تربية هذه العقلية وتزويدها بالمعايير الدقيقة للتمييز بين المعارف والعلوم، وكيفية التعامل معها بالنقد والتمحيص والبحث الدقيق.

وانطلاقا من هذا التقسيم وتأسيسا عليه يعرض الشاطبي أنواع العلوم التي يتعين على المتعلم المسلم طلبها، معروضة في شكل منهاج تربوي يستفيد منه العلماء المربون وطالبو العلم المتربون.

أنواع العلوم

نحا الشاطبي في تقسيمه العلوم منحى تأصيليا بإخضاعه العلوم للضوابط الشرعية الإسلامية. وهذا المنحى مختلف كليا مع المنهج التقليدي الذي كان سائدا لدى الفلاسفة قبله أمثال الفارابي وابن سينا.

أقام الشاطبي تصنيفا ميز فيه بين أنواع العلوم على أساس ارتباطها بالعمل والعبادة وهو ما حرره من التأثير اليوناني الذي كان حاضرا في تصانيف غيره، وتصنيف الشاطبي يفيد في بناء منهاج دراسي ينسجم مع واقع المجتمع الإسلامي وحاجتهم الثقافية، ويسهل طلب العلم والمعرفة على المسلم بما يتناسب مع الغايات السامية لحياته كما رسمتها عقيدته، لهذا جاء هذا الترتيب بمثابة برنامج تعليمي ديني.

قاعدة هذا الترتيب هو مدى استقامة العلوم وأغراضها مع ميزان الشرع الذي جاء أساس بالتعبد، كما بسط الحديث عنه في فصول من كتابه الموافقات. لهذا سيكون المنهاج الدراسي يكتسي بعدا دينيا شرعيا واضحا، يؤدي إلى استجلاء الحقيقة الدينية في مختلف مظاهرها، يبدو فيه ترتيب العلوم واقعيا، وتكامل المواد الدراسية ممكنا وهادفا إلى مساعدة المتعلم على إدراك مضامين تلك المواد وتمثلها[45].

يقول الشاطبي في المقدمة الخامسة: إن العلم المطلوب هو الذي ينبني عليه عمل، عمل القلب أو عمل الجوارح من حيث هو مطلوب شرعا..

  • فهناك علم العمل.
  • وعلم قريب الغرض من العمل، كالحساب والهندسة والتفسير واللغة.
  • وعلم بعيد الغرض عن العمل، كالسحر والسفسطة والطلسمات.
  • فعلم العمل هو علم مفروض فرض عين، تعلمه واجب على كل مسلم، ويتضمن العلم بكيفية العمل الواجب وقت وجوبه.
  • أما العلم القريب الغرض من العمل، فهو الذي يندرج في بابا فروض الكفاية، وهي كل علم لا يستغني عنه قوام أمور الدنيا، كالحساب فإنه ضروري في المعاملات وقسمة الفرائض، والتفسير فإنه يفيد في معرفة أحكام الدين.

وهذه العلوم لو خلا البلد منها أو ممن يقوم بها وقع أهل البلد في حرج، وإذا قام به واحد كفى وسقط الغرض عن الآخرين.

كما أن هذه العلوم مساعدة للعلوم الدينية، تساعد النس على تحقيق القصد من خلقهم وهو تعمير الأرض واستثمارها، وتضم كذلك العلوم التي من شأنها أن تساهم في تثقيف الفرد وتكوينه تكوينا خلقيا، ومن ذلك الأدب واللغة والشعر الذي لا سخف فيه، وعلم الأخبار والتاريخ.

  • أما العلم البعيد الغرض عن العمل كالسحر والطلسمات والسفسطة فهو علم محظور.

وهذا الترتيب هو للتمييز بين مختلف العلوم على أساس مضامينها وغاياتها، ومعيار هو الغاية العملية من العلم والمعرفة. دون إغفال التكامل بين مختلف العلوم انطلاقا من ترتيبها وحاجة بعضها إلى بعض.

لم يجرد الشاطبي العلم الشرعي من بعده التربوي، بل قدمه على أنه الباعث على العمل والتدين تماما كما كان في القرون الثلاثة الأولى المشهود لها بالخير. إذ لا علم شرعي إلا وهو مفيد للتربية، ولا قيمة لعلم لا يفيد العمل وفي ذلك يقول (العلم المعتبر شرعا أعني العلم الذي مدح الله ورسوله أهله على الإطلاق هو العلم الباعث على العمل الذي لا يخلي صاحبه جاريا مع هواه كيفما كان، بل هو المقيد لصاحبه بمقتضاه، الحامل له على قوانينه طوعا وكرها[46]. فالعلم الشرعي هو حامل على العمل والتعبد والصلاح، وشرط ذلك التعمق فيه والمثابرة عليه حتى يصل المتعلم إلى درجة المربي العالم العامل (إذ المثابرة في طلب العلم والتفقه وعدم الإجزاء باليسير منه يجر إلى العمل ويلجيء إليه)[47].

المبحث الرابع: النهوض بالاجتهاد

لعل من أسباب تردي العقل المسلم القول بسد باب الاجتهاد الذي أعلنه بعض المقلدين. وكان من نتائج ذلك تخلف المسلمين وعدم قدرتهم على تصحيح أخطائهم في عباداتهم ومعاملاتهم، وتسرب الخرافات والبدع والفهوم الخاطئة عن العقيدة. لأن سد باب الاجتهاد معناه إلغاء العقل المسلم وتجميده ومنعه من مسايرة الحياة ومستجداتها والتصدي لمشاكلها ونوازلها.

فالاجتهاد كمصدر تشريعي أغنى وأعطى الكثير وأجدى على المسلمين أيام نهضتهم وضمن للشريعة صلاحيتها لكل زمان ومكان. فالإسلام رفع الحجر والوصاية عن العقل وأطلقه من قيوده وحرضه على التفكير والتأمل.

لذلك حرص الشاطبي على تجديد العقل المسلم حتى يصبح قادرا على تحمل مسؤوليته في التفكير، وعلى ممارسة حقه في الاجتهاد، ويحتل مكانته التي بوأه إياها الإسلام، ويعود بالفقه إلى عصره الذهبي، ويسترجع المكاسب العظيمة التي حققها في العصور السابقة.

يرى الشاطبي أن الاجتهاد ضرورة من ضروريات الحياة لأنه مرهون بالتكليف فلا يمكن أن ينقطع حتى ينقطع التكليف، وذلك عند قتام الساعة. وهو فرض لازم للأمة الإسلامية ويقوم به الفرد المؤهل الذي تتوفر فيه شروطه واستكمل أدواته وتهيأت له أسبابه، فهو لا يتبع أهواء الأفراد. فالحكم الشرعي لا يقوم على ما يستحبه المجتهدون دون دليل، أو يوافق أهواء الحكام أو المستفتين ويستجيب لحاجاتهم، وإنما ينبني على المصلحة التي شهد لها الشرع بالاعتبار، والتي تحافظ على مقصود الشارع[48].

فالشرطان الأساسيان اللذان ينبغي أن يتوافرا في المجتهد بعد البلوغ والعقل والعدالة:

– فهم مقاصد الشريعة وكمالها.

– التمكن من الاستنباط بناء على فهمه فيها.

درجات الترقي في العلم

لبلوغ الشرطين سالفي الذكر يمر الفقيه بمراحل ثلاث يترقى عبر درجاتها حتى يصل إلى رتبة الرسوخ التي تؤهله للاجتهاد والإفتاء والتربية، هذه الدرجات يعرضها الشاطبي مرتبة على الشكل التالي: مرتبة التقليد، مرتبة الاستدلال، مرتبة التحقيق.

  • مرتبة التقليد: ويصنف فيها طالب العلم الذي لم يحصل بعد على كماله. وهذه الرتبة تقوم على التصديق لا البرهان.

في هذه المرحلة ينتبه عقل المتعلم إلى النظر فيما حفظ البحث عن أسبابه، وينشأ هذا عن شعور بسره وحكمته بمعنى ما حصل، لكنه مجمل بعد، وربما ظهر له مفصلا في بعض أطراف المسائل جزئيا لا كليا، وربما لم يظهر بعد، فهو ينهي البحث نهايته. ومعلمه عند ذلك يعينه بما يليق به في تلك الرتبة، ويرفع عنه أوهاما وأشكالا تعرض له في طريقه، يهديه إلى مواقع إزالتها في الجريان على مجراه، مثبتا قدمه ورافعا وحشته. حتى يتسنى له النظر والبحث على الصراط المستقيم.

فهذا الطالب حين بقائه هنا ينازع الموارد الشرعية وتنازعه، ويعارضها وتعارضه، طمعا في إدراك أصولها والاتصال بحكمها ومقاصدها، ولم تتلخص له بعد[49].

يحث فيها الطالب على العلم بالترغيب، وإن اقتضى الحال بالترهيب والزجر والعقاب. وجميع أهل العلم يمرون بهذه المرحلة قبل الانتقال إلى المرحلتين التاليتين[50].

صاحب هذه الرتبة مقلد لا يصح منه الاجتهاد فيما هو ناظر فيه لأنه لم يتخلص له سند الاجتهاد، ولا هو منه على بينة بحيث ينشرح صدره فيما يجتهد فيه. فاللازم له الكف عن الاجتهاد والاكتفاء بالتقليد[51].

  • مرتبة الاستدلال: أو رتبة الخروج عن التقليد، بالوقوف على البراهين التي يشهد لها النقل ويصدقها العقل.

صاحب هذه المرتبة يتقبل ما قام عليه البرهان ويكتسب وصف العلم دون أن يكون عالما لأن مواقفه تبتعد أحيانا عن واقع علمه.

لا يتوفر فيه شرط فقه النفس أي لم يصر الفقه سجية ملازمة له بعد. فهو في مسيرتهالعلمية انتهى إلى تحقيق معنى ما حصل على حسب ما أداه إليه البرهان الشرعي، بحيث حصل له البرهان ولم يعارضه شك. بل قد تصير الشكوك- إذا وردت عليه- كالبراهين على صحة ما في يده.

وصاحب هذه المرتبة لا يصح منه الاجتهاد هو كذلك، لأنه غير متمكن فيها غير حاكم لها، فهو محكوم عليه فيها، وكل رتبة حكمت على صاحبها دلت على عدم رسوخه فيها[52].

هؤلاء لا يكفي معهم الاعتياد على الجزاء والعقاب فحسب، إنما لابد من تحفيزهم بالعادات الحسنة والمراتب اللائقة حسب ما ينسجم مع طبيعة مرتبتهم[53].

  • مرتبة التحقيق والرسوخ: ويرتب فيها الذي صار له العلم وصفا من الأوصاف الثابتة والأمور البديهية.

هذا هو العالم المجتهد الراسخ في العلم. لا يروي الفقه، لكن يعطي الفتيا لاكتسابه ملكة الإبداع والاجتهاد من خلال تعامله مع قضايا الشرع حفظا واستقراء واستنتاجا، يمكنه من إدراك المقصود الشرعي الذي تنزل عليه الفتوى حسب مقتضيات الأحوال والأوقات[54].

تفكيره مبدع، لا يقف عند الحفظ والتكرار، إنما يستند إلى الاستدلال والاستنساج، كما هو الشأن في الفكر الرياضي[55].

لا خلاف في صحة الاجتهاد ممن رتب في هذه الطبقة (يستحق الانتصاب للاجتهاد والتعرض للاستنباط) لأنه متمكن فيها حاكم لها غير مقهور فيها، فهي تحت نظره وقهره، وهو صاحب التمكين والرسوخ، فبعدما تدرج في الرتبتين وتحقق بالمعاني الشرعية المنزلة على الخصوصيات الفرعية، بحيث لا يصده التبحر في الاستبصار بطرف عن التبحر بطرف آخر، فهو لا يجري على عموم واحد منهما دون أن يعرضه على الآخر. وفي خاصته أمران:

– أحدهما؛ أنه يجيب السائل بما يليق به في حالته على الخصوص، وإن كان له في المسألة حكم خاص.

– والثاني؛ أنه ناظر في المآلات قبل الجواب عن السؤالات.

يسمى صاحب هذه المرتبة الرباني والحكيم والراسخ في العلم والعالم والفقيه والعاقل، لأنه يربي بصغار العلم قبل كباره ويوفي كل أحد حقه حسبما يليق به، وقد تحقق بالعلم وصار كالمجبول عليه وفهم عن الله مراده[56].

ودرجة الاجتهاد هذه تحصلت لأنه اتصف بوصفين: أحدهما فهم مقاصد الشريعة على كمالها والثاني التمكن من الاستنباط بناء على فهمه فيها.

فإذا بلغ الإنسان مبلغا فهم عن الشارع فيه قصده في كل مسألة من مسائل الشريعة، وفي كل باب من أبوابها فقد حصل له وصف هو السبب في تنزله منزلة الخليفة للنبي صلى الله عليه وسلم في التعليم والفتيا والحكم بما أراه الله.

أما الثاني فهو كالخادم للأول. فإن التمكن من ذلك إنما هو بواسطة معارف محتاج إليها في فهم الشريعة أولا ومن هنا كان خادما للأول لأنه المقصود والثاني وسيلة.

لكن هذه المعارف تارة يكون الإنسان عالما بها مجتهدا فيها. وتارة يكون حافظا لها متمكنا من الاطلاع على مقاصدها غير بالغ رتبة الاجتهاد فيها. وتارة أخرى يكون غير حافظ إلا أنه عالم بغايتها، وإن كان له افتقار إليها في مسألته التي يجتهد فيها[57].

لم يفرق الشاطبي بين العالم والمربي، بل جعلهما لمسمى واحد، لكن ليس أي عالم. فقد جعل الشاطبي لقب المربي مرادفا للعالم الرباني وهو الفقيه الراسخ في العلم الذي تفرغ للعلم فأعطاه عمره كله حتى رسخ في صلبه، وهذا هو الذي يحمل لقب الرباني لأنه يربي بصغار العلم قبل كباره ويوفي كل واحد حقه حسبما يليق به. وقد تحقق بالعلم وصار له كالوصف المجبول عليه وفهم عن الله مراده[58].

وهكذا جعل الشاطبي العالم الراسخ في العلم مربيا حكيما بسبب وصف العلم الشرعي الذي تحقق له[59].

المبحث الخامس: في أهداف التربية

مقاصد الشريعة الغائية والعلوم الوسيلة

موضوع المقاصد ذو أهمية كبيرة في الفقه الإسلامي، وأثر واضح على استنباط الأحكام الشرعية. فهو يضمن للشريعة القدرة على مسايرة الحوادث والصلاحية الدائمة، لأن أساسه الاجتهاد. فالمقاصد استنباطات، والاستنباط مصدر يضمن التجديد ويراعي الظروف، وتعيين مقصد شرعي أو كلي أمر تتفرع عنه أدلة وأحكام كثيرة[60].

وحين أدرك الشاطبي أن أهم مقاصد الشريعة الإسلامية هو حفظ مصالح العباد. أوجب أن يلتزم كل نشاط وعمل إنساني عقلي أو عملي برعاية هذه المصالح وعدم الإضرار بها.

رتب الشاطبي هذه المصالح إلى ثلاثة أصناف:

– الضروريات: لابد منها للحياة البشرية وهي المسماة بالحقوق الخمسة.

– الحاجيات: وهي متعددة مثل الملبس والمسكن وغيره.

– الكماليات: كثيرة وغير محصورة منها الطب والتأنق.

فالمقصد التربوي الإسلامي مقيد بالشرع مستنبط من مقاصده. والشرع إنما جاء بالتعبد، والتعبد يشمل إعمار الأرض وإصلاح الحياة عليها، والشاطبي يؤكد ذلك بقوله إن إخضاع أفعال الفرد للمنهج المقاصدي يجعل كل أعمال المكلف عبادات.

ورصد المقاصد التي يتوخاها العمل التربوي الإسلامي يستدعي النظر في جملة كثيرة من مقررات الشريعة ليتم ضبط المقاصد الكلية[61].

ومقاصد التربية الإسلامية تتوجه إلى تحقيق مبدأ الانسجام الذي أسس الله عليه الكون، ولهذا الانسجام مستويات ثلاثة:

  • الانسجام الداخلي الذاتي، بتلبية الغرائز الفطرية وحماية الحقوق الخمسة الضرورية.
  • انسجام اجتماعي، بين الفرد المكلف وأفراد نوعه بطلب الكفاية وتحقيق الحاجيات.
  • انسجام كوني، بالعناية بأفق الإنسان ومجاله والعناية بالتحسينيات والتربية الجمالية والخلقية[62].

واستيعابا لمقاصد الشرع الإسلامي، يؤكد الشاطبي أن العلم ليس غاية في حد ذاته، بل هو وسيلة عمل لبلوغ أهداف متنوعة متوافقة مع مضامين المقاصد ولا تتعارض معها.

ولهذا يتعين على التعليم أن يضمن للناس حدا من الحماية والسلامة في دينهم وعقلهم ونسلهم وحياتهم ومالهم لتلافي الحرج بفوات هذه الحقوق وضياعها.

– بتزويد المتعلم بعقيدة صحيحة في الله وملائكته ورسله واليوم الآخر، وتعليمه أسس العبادات الصحيحة. وأساس ذلك معرفة القرآن الكريم واستيعاب السنة المطهرة وفقه العبادات.

– تعليمه ما يضمن له عيشا يليق بكرامته كآدمي كرمه الله.

– وتعليمه ما يضمن به حماية الحقوق الخمسة، له ولغيره من المسلمين.

وتتضمن المصالح الحاجية ما يحتاجه الناس من حيث كمال صحتهم وتوسعة أرزاقهم ورفع مستوى معيشتهم ودفع كل ضيق وحرج عنهم.

لهذا أوضح الشاطبي للمربين كيف يمكن أن يعلموا المكلفين الصنائع والمهن المختلفة التي ترفع مستوى المعيشة في المجتمع الإسلامي وتضمن له تحقيق كفايته وتلبية حاجاته.

كما بين الشاطبي أن في تعليم الحساب والهندسة والعلوم والصنائع دفعا للحرج الذي ينتج عن فوات مصالح الناس المرتبطة بهذه العلوم، كالأسفار والتجارة وقسمة الفرائض وإخراج الزكاة وغيرها.

المصالح التحسينية: هي التي تتجه بالناس نحو الأحسن والأليق والأنفع من العادات ومكارم الأخلاق. وتجد في القرآن الكريم والسنة المطهرة، والآداب الرفيعة والفنون التعبيرية السليمة خير مجسد لها وداع إليها، ومرقق للطبع الإنساني والنفس البشرية.

فما هو الدور الذي يجب أن تضطلع به المؤسسات التربوية اتجاه الناشئة.

في ضوء ما ذكر من توجهات تربوية أصولية، فإن العمل التربوي الإسلامي حسب منهج الشاطبي، يجب أن يتجه لتحقيق ما يلي:

– تربية عقلية إيمانية.

– تربية خلقية جمالية.

– تربية مهنية اجتماعية.

التربية العقلية الإيمانية

إن التربية الإسلامية من حيث هي مستملاة من الوحي، فإنها تعتمد على غرس الإيمان وتثبيته في نفسية المكلف.

وتعتبر ذلك قضيتها الأولى. وهي بهذا الغرس تثبت في نفسية المؤمن الرضا والاطمئنان الناشئين عن الارتباط بالله وعن الاعتماد عليه واستشعار دعمه ومدده والتسليم بقضائه[63].

فالإيمان اعتقاد عقلي مؤثر في وجدان المؤمن وقلبه. وفي القرآن الكريم آيات كثيرة تربط طمأنينة القلوب بالإيمان وذكر الله. والإيمان بالله يترتب عنه في الإسلام التزام بما شرعه الله من قوانين وما فرضه من عبادات على المكلفين.

يقول الشاطبي إن إدراك مقاصد العبادات والتشريعات يفضي إلى استخلاص الحكمة الإلهية من فرضها. وهذه الحكمة التي ترمي إلى غاية واحدة قصوى وهي صلاح أمر المكلفين في حياتهم الدنيوية. بإبعاد المفاسد وجلب المصالح وسعادتهم في الآخرة بنيل رضوان الله تعالى. وهذا الصلاح عماده إخلاص العبودية لله وحده ويحمل ويحمل معاني متعددة منها السعادة والراحة والتوافق والانسجام.

والعبودية في الإسلام إنما تقوم بالاعتقاد العقلي. والله إنما يعبد بالعقل، الذي هو شرط التكليف.

والشاطبي مجدد منهج، مربي عقلية، داعية إلى التجديد ونبذ التقليد، عمل على تحرير أسس التشريع من المواضعة اللغوية وبناها على مقاصد الشريعة. ففتح أمام الفقهاء بابا جديدا للاجتهاد وخرج بالفقه وأصوله من الجمود الذي تفرضه قوالب اللغة حتى يستطيع مواكبة المستجدات والتطورات الحادثة على المسرح الاجتماعي[64].

شرح في فصول كثيرة من كتابه أهمية التعبد في الإسلام، وبين أن الشرع إنما جاء بالتعبد، وبما أن التعبد في الإسلام شرطه العقل، فقد كانت عناية الشاطبي موجهة إلى الاهتمام بالعقل، وبدل العناية بتزويد المتعلم بأكبر قسط من المعارف الشائعة وحشدها في ذاكرته، هدفت خطة الشاطبي إلى إيقاظ العقل كله واستنهاض قدراته واستعداداته المختلفة، وتدريبها التدريب المنظم على التفكير المستقيم والحكم السليم، حتى يحسن المكلف المتعلم إدراك ما يحيط به من الأمور وما يستجد من الوقائع ويتصرف فيما يصادفه من نوازل وعقبات، ويحكم على الأمور الحكم المستقل المستند إلى مقدمات صحيحة.

إن العقل شرط أساسي لإصدار حكم ما لكن ليس كافيا لأن الإنسان يفكر في نفس الوقت بعقله وحدسه وعواطفه ونفوره. وتعقل الإنسان يفترض تدخل الخيال والعواطف، فكيف يمكن تربية عقل مؤمن موضوعي وعادل؟ الوسائل والخطوات التي يعرضها الشاطبي عديدة متنوعة، فعالة ومؤثرة، منها:

– تحديد المقدمات تحديدا دقيقا.

– تحديد شروط العلم القطعي ومحدداته.

– تقسيم العلوم وتصنيفها.

ويرمي هذا العمل إلى توحيد جهود الفرد العقلية وقدراته وتوجيهها نحو العلم القطعي وتفادي الانسياق وراء البحث في الموضوعات الظنية، والذي يؤدي إلى ضياع الجهود وهدرها في طلب علم لا يستقيم ولا ترجى منه فوائد.

– تدريب الحس على دقة التمييز وصحته، وملاحظة الأشياء المحسوسة وإدراكها على حقيقتها إدراكا شموليا وتجزيئيا وتركيبيا.

– تدريب العقل على التفكير المستقيم، على جمع الحقائق الكامنة في الجزئيات والمقاصد وحسن الاستدلال بعد النظر والتأمل.

– تحديد المنهج الصحيح للنظر العقلي وتسديده بدعوة العقل إلى الأخذ بأسباب العلم ودعوته إلى تدبر حكمة الله في التشريع.

– تنقية العقل من الخرافة ورؤى الصوفية وأوهامهم حتى لا تتحكم في أحكام العقل خرافات وأوهام.

– تنقية العقل من الأحكام المبنية على الظنون والأوهام، لأن ذلك يضر بالعقل ويباعد بينه وبين الحقيقة، ويحول بينه وبين العلم.

– تنمية العقل بالعلم، لكن ليس كل علم ولا كل معرفة على الإطلاق، فبعض ما يحسب من العلم يضر بالعقل، فالعبرة بتوفير المعايير والمواصفات والشروط الإسلامية في العلم والمعرفة. وأهمها ضمان الحقوق الخمسة وحمايتها.

– المباعدة بين العقل والتبعية والتقليد، وتدريب العقل على الاجتهاد ودعوة الناس لاستعمال العقل فيما يحيط بهم من أمور.

– بث روح النقد البناء الذي يقف من المسموع والمقروء موقف المسائل الممحص المدقق.

– تنمية الرغبة الدائمة في البحث لدى المكلفين، وترقية حب الاستطلاع لديهم، أي تكوين عادة التعلم المستمر والاستزادة من العلم.

ويضيف الشاطبي أن من شروط التربية العقلية مخاطبة العالم المربي المتعلم بما يحتمله عقله، فالتبجح بذكر المسائل العلمية لمن ليس من أهلها أو كبار المسائل لمن لا يحتمل عقله إلا صغارها هو عمل ضد التربية العلمية المشروعة، ينسف كل ما تسعى الشريعة إلى بنائه والوصول إليه، لأنه عمل يؤدي إلى المصائب العقائدية. وفيه قال الإمام علي رضي الله عنه (حدثوا الناس بما يفهمون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله)[65] لأن عدم مراعاة مستوى المتعلم وقدراته العقلية منهج تربوي خاطئ، يضرب شروط العلم نفسها وينزل بها من طبقتها إلى الطبقات الدنيا (فما كان حكمة بالذات قد ينقلب فتنة بالعرض)[66]. فعلم الشريعة قد ينزل به العالم المربي، بمنهجيته الخاطئة، إلى الطبقة الثالثة أحيانا جنبا إلى جنب مع السفسطة. فجدير بعلماء الشريعة على وجه الخصوص أن يخاطبوا الناس على قدر عقولهم، حتى تؤدي التربية العلمية أهدافها وتحقق الشريعة غاياتها بالمحافظة على مرتبتها السامية (فلا يصح للعالم في التربية العلمية إلا المحافظة على المعاني، وإلا لم يكن مربيا واحتاج هو إلى عالم يربيه)[67].

يدعو الشاطبي المربيين إلى اعتماد منهج التكوين بدل منهج التلقين الذي كان سائدا لدى المتصوفة وأنصار التقليد.

لأن المتعلم يتعلم من المربي الرباني طرق الإنتاج، والمربي يحرص على تكوين المتعلم وإعداده ليكون قادرا على تمثل قدرته على الفهم والاستيعاب.

وهذا التتبع والاتصال التربوي المباشر يتيح للمربي اكتشاف مواهب المتعلم وطاقاته لتطويرها قصد إنتاج الشخصية الإسلامية الفعالة العاملة النافعة نفسها ومجتمعها[68] يقول الشاطبي (يتعين على الناظرين في الصبيان الالتفات إلى تلك الجهات فيراعونهم بحسبها ويراعونها إلى أن تخرج على أيديهم على الصراط المستقيم ويعينونهم على القيام بها)[69].

فهذه الخطة التربوية تنتج عقلا علميا موحدا مجتهدا، يصعب أن تتمكن منه الخرافة والأفكار الوهمية لأنه مزود بملكة لمعرفة المقاصد العامة للشرع، ويستعين بمعايير شرعية ثابتة ومقاييس علمية دقيقة تسمح له بسلوك نهج نقدي قائم على الشرع يقبل أو يرد به أفكار الصوفية وآراء المبتدعة وخرافات العامة التي يواجهها في الحياة، وتشكل تحديا حقيقيا أمام العقل المسلم، فهل ينساق لها ويأخذ بها أو يرفضها رفضا دالا على فهم حقيقي للشرع الإسلامي وأحكامه ومقاصده. يقول الشاطبي (لابد في الاقتداء بالصوفي من عرض أقواله وأفعاله على حاكم يحكم عليها. هل هي في جملة ما يتخذ دينا أم لا؟ والحاكم هو الشرع. وأقوال العالم تعرض على الشرع أيضا)[70].

فعقل مثل هذا عقل مؤمن مسدد يصعب أن تتسرب إليه الخرافة أو الفهوم الخاطئة المنحرفة لأنه محصن بقدرة استفهامية لا تدخل في قصد التكليف، على حد تعبير الشاطبي، إلا بعد تبين قصد الإفهام[71].

التربية المهنية الاجتماعية

إن تعاليم الإسلام تهذب النزعة الفردية في الإنسان وتربيه على التواضع وعدم الاستعلاء وتحرص على دمج الفرد داخل منظومته الاجتماعية.

والإسلام يشعر الفرد بحاجته إلى الجماعة حاجة دينية، فالمكلف محتاج إلى الجماعة لتشاطره أجر تحمله كثيرا من التكاليف الشرعية الكفائية التي يتوجه الخطاب فيها إلى المجموع. لكن الإثم يقوم على الأفراد في حالة التخلي. لهذا جاءت تعاليم الإسلام وتوجهاته لتكون قاعدة متينة لتربية اجتماعية.

يقسم الشاطبي المقاصد إلى نوعين:

  • مقاصد أصلية لا حظ للمكلف فيها. وهي الضروريات، وفيها يقوم الفرد بمصالح عامة مطلقة لا تختص بحال دون حال أو وقت دون وقت، وهي قسمان:

أ. المقاصد الأصلية العينية، وهي حفظ الحقوق الخمسة.

ب. المقاصد الأصلية الكفائية، وهي القيام برعاية المصالح العامة وحماية الحقوق لجميع الخلق[72].

  • مقاصد تابعة، وفيها يراعي حظ المكلف وتحقيقه لمصالحه الخاصة لإشباع ما جبل عليه من الغرائز، وما فطر عليه من طباع، والاستمتاع بالمباحات وسد الخلات[73].

ويضيف الشاطبي أن الدار الدنيا مزرعة للآخرة التي فيها النعيم الأبدي والشقاء الأبدي، لكن أسباب التنعم والشقاء فيها إنما تكتسب في الدنيا بالرجوع إلى ما حده الشارع أو بالخروج عنه[74].

وبين الشاطبي أن حكمة الله، عز وجل، اقتضت أن قيام الدين والدنيا إنما يصلح ويستمر بدواع من قبل الإنسان، تحمله على اكتساب ما يحتاج إليه هو وغيره، فالمكلف موكول إليه السعي في لزوم الأسباب الموصلة إلى السعادة، واستعمال الأمور المؤدية إلى تلك الأغراض، ولضعف المكلف وعجزه عن القيام بذلك وحده ومقاومة هذه الأمور منفردا طلب التعاون بغيره، فحصل الانتفاع لنفسه ولغيره واستقام حاله بإفادة غيره، وتحقق الانتفاع للمجموع بالمجموع. وإن كان كل فرد إنما يسعى في نفع نفسه، لكن على قوانين شرعية هي أبلغ في المصلحة وأجرى على الدوام مما يعده العبد مصلحة. ومن هذه الجهة صارت المقاصد الكلية التابعة مرتبطة بالمقاصد الأصلية وخادمة لها ومكملة لها.

ومع أن هناك دواع كثيرة تدعو الإنسان إلى العمل لتلبية حاجاته الملحة، ورغم قوة الباعث الذاتي الذي قد يحمل المكلف قهرا على طلب ما يحتاجه. ويضيف الشاطبي أن الشرع جعل الاحتراف والتكسب على الجملة مطلوبا طلب الندب لا طلب الوجوب، وكثيرا ما يأتي في معرض الإباحة إلا أننا لو فرضنا أخذ الناس له كأخذ المندوب حيث يسعهم الترك لأثموا لأن العالم لا يقوم إلا بالتدبير والاكتساب[75]. فحكم الاحتراف والتكسب هو حكم المندوب بالجزء الواجب كفاية بالكل. فيصبح التأثيم بترك الكل مع كونه مندوبا بالجزء.

وفي اكتساب المكلف بالتجارات والصناعات والإجارات، وغير ذلك من المعاملات، قياما بمصالح الغير عن طريق مصلحته الشخصية، ومصالح الغير جاءت عرضا.

فطلب الكفاية متوجه إذن إلى الجميع، وإذا قام به البعض سقط عن الباقين، والطلب مع وروده على البعض يشترط فيهم أهلية القيام بذلك الفعل المطلوب وإلا صار من باب تكليف الفرد بما لا يطيق، ومن باب العبث بالنسبة إلى المصلحة المجتلبة أو المفسدة المستضعفة، وكلاهما باطل شرعا.

فالله عز وجل هيأ الناس للحياة الاجتماعية ودعاهم للتكسب ورغبهم فيه، وجعل فيهم استعدادا للعمل المنتج القائم على التعاون مما يثري واقع الحياة الدنيا في هذا العالم الدنيوي الذي لا يقوم إلا بالتدبير والاكتساب.

فما دور التربية في هذا المجال؟ وما وظيفة المعلم المؤدب وحدود عمله لتحقيق ما ينص عليه الشرع، وبلوغ ما يقصده هذا الشرع الإسلامي الذي جاء ببيان ما تصلح به أحوال العبد في الدنيا والآخرة؟

يجيب الشاطبي أن الله خلق الناس غير عالمين بوجوه مصالحهم الدنيوية والأخروية، ثم وضع فيهم العلم على التدريج تارة بالإلهام وتارة بالتعليم. والمؤسسة التربوية بمكوناتها المختلفة وأشكالها المتنوعة وسيلة لتعليم الناس وتبصيرهم بمصالحهم المختلفة.

فطلب الناس بالتعلم والتعليم لجميع ما تستجلب به المصالح وتدرأ به المفاسد إنهاضا لما جبل فيهم من الغرائز والمطالب الإلهامية، لأن ذلك كالأصل للقيام بتفاصيل المصالح على اختلاف أنواعها.

فوظيفة التربية هي إعداد الناشئة للعمل الإنتاجي والوظائف الاجتماعية التي تلبي الحاجات المختلفة للناس.

والمعلمون والمربون هم الذين يكتشفون استعدادات الناشئة للأنشطة التي يميلون إليها والمهن التي تناسبهم فيوجهونهم نحوها.

فبعض الناس مهيأون للعمل الفكري، وآخرون مهيأون للقيادة، وغيرهم للتجارة أو الفلاحة أو الجندية. وفي أثناء العناية بذلك يقوي كل واحد من الخلق ما فطر عليه وما ألهم له من تفاصيل الأحوال والأعمال فيظهر فيه وعليه ويبرز فيه على أقرانه ممن لم يتهيأ تلك التهيئة فلا يأتي زمان التعقل إلا وقد نجح على ظاهره ما فطر عليه في أوليته، فنرى واحدا تهيأ لطلب العلم وآخر للرياسة وآخر للتصنع وآخر للصراع إلى سائر الأمور[76].

ورغم أنه قد يبدي بعض الأطفال ميولا عامة تتجلى في قدراتهم على القيام بالمهارات التعليمية كلها بنفس المستوى من الكفاءة والإتقان، إلا أنه من المفترض عادة أن يكون هؤلاء الأطفال أكثر ميلا إلى نشاط محدد، فيتعين على القائم عليهم أن يوجههم الوجهة التي تناسبهم وإذا كان كل واحد قد غرز فيه من التصرف الكلي، فلا يفرض في غالب العادة من غلبة البعض عليه، فيرد التكليف عليه معلما مؤدبا في حالته التي هو عليها[77] فيتعين على الناظرين فيهم الالتفات إلى تلك الجهات فيراعونهم بحسبها ويراعونها إلى أن تخرج على أيديهم على الصراط المستقيم ويعينونهم على القيام بها ويعرفونهم على الدوام فيها، حتى يبرز كل واحد فيما غلب عليه ومال إليه من تلك الخطط[78] ثم يدمجون في الحياة المهنية لينضموا إلى صفوف المحترفين، ويفيدون غيرهم، ويشاركون في إدارة دواليب الآلة الاقتصادية الإسلامية وتنمية بلادهم. فعند ذلك ينتهض الطلب على كل مكلف في نفسه من تلك المطلوبات بما هو ناهض به وعند ذلك يحصل الانتفاع وتظهر نتيجة تلك التربية[79].

التربية الأخلاقية الجمالية

كلمة خلق في اللغة تفيد معنى السجية والطبع والعادة، واصطلاحا يراد بها الحالة الراسخة للنفس التي تصدر عنها الأفعال من غير حاجة إلى فكر وروية.

وكلمة خلق وحدها لا تعني الأخلاق الحسنة، لأنها تحتمل المعنيين الحسن والقبيح، فعند المدح يوصف الخلق في لغة العرب بأنه حسن أو كريم، وقد وصف الله عز وجل محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم بقوله: (وإنك لعلى خلق عظيم).

وحددت كل كتب التربية الإسلامية أن من مهام التربية تجويد أخلاق المتعلم وإكسابه الأخلاق الحسنة الفاضلة وإخراج الأخلاق السيئة منه، حتى شبه بعضهم عمل المربي بعمل الفلاح بقوله: (ومعنى التربية يشبه عمل الفلاح الذي يقلع الشوك ويخرج النباتات الأجنبية من بين الزرع ليحسن نباته ويكمل ربحه)[80].

لم يخصص الشاطبي في كتابه الموافقات فصولا للحديث عن الأخلاق كالفصول التي خصصها للحديث عن العلم وحدود المعرفة وما يتصل بها من أحكام. فالموافقات كتاب في أصول الشريعة وليس كتاب وعظ أو فقه معاملات.

في الموافقات يؤسس الشاطبي كل الأحكام على أساس أصولي، القرآن في الدرجة الأولى، ثم السنة في الدرجة الثانية، بعدها تأتي الأصول الأخرى.

واستنادا على الأصلين الأولين، حاول الشاطبي وضع وعرض المعايير الإسلامية التي يمكن التفريق على ضوئها بين الخلق الحسن والخلق السيئ، للإعلاء من الأخلاق الحسنة والحط من شأن الأخلاق السيئة.

والأخلاق عند الشاطبي ليست غاية في حد ذاتها، بل هي وسيلة خادمة للأصل الضروري، محققة لمصالح الدين والدنيا الأساسية التي يترتب عن الخلل فيها خلل في نظام الحياة كله. وهي المسماة بالحقوق الخمسة التي بينها الشرع[81].

فلا يجب أن يتعارض خلق من الأخلاق مع هذه المصالح أو يؤدي إلى خلل في واحد منها لأن ذلك يلبس قسم الضروريات لبسة الحرج والعنت ويضيق على المكلف وما وضعته الشريعة في الشعائر الدينية من سعة وبسطة، وتسبب له في حرج، ولا يبقى معها خصال معاني العادات ومكارم الأخلاق موفرة الفصول مكملة الأطراف. وهذا ما لا يستحسنه أهل العقول بل يتعارض مع الشريعة والرسالة الإسلامية التي بنيت على التكليف بالوسع وعلى رفع الحرج وعلى مكارم الأخلاق[82].

وفي تصنيف المقاصد رتبها الشاطبي في طبقات ثلاث: طبقة الضروريات ثم الحاجيات ثم التحسينيات وقال بع تعريف المقاصد وترتيبها إن مجموع الحاجيات والتحسينيات ينتهض أن يكون كل منها كفرد من أفراد الضروريات، وذلك أن كمال الضروريات من حيث هي ضروريات إنما يحسن موقعه حيث يكون فيها على المكلف سعة وبسطة من غير تضييق ولا حرج وحيث يبقى معها خصال معاني العادات ومكارم الأخلاق مكملة الأطراف موفرة الفصول، حيث يستحسن ذلك أهل العقول[83].

وإذا أخل بذلك لبس قسم الضروريات لبسة الحرج والعنت، واتصف بضد ما يستحسن في العادات وصار الواجب الضروري متكلف العمل وغير صاف في النظر الذي وضعت عليه الشريعة وذلك ضد ما وضعت عليه. وفي الحديث (بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) فكأنه لو فرض فقدان المكملات لم يكن الواجب واقعا على مقتضى ذلك.

وذلك خلل في الواجب ظاهر، أما إذا كان الخلل في المكمل للضروري واقعا في بعض ذلك، وفي يسير منه بحيث لا يزيل حسنه ولا يرفع بهجته ولا يغلق باب السعة عنه فذلك لا يخل به وهو ظاهر[84].

وفي تعريف المصالح التحسينية، يقول عنها إنها الأخذ بما يليق من محاسن العادات وتجنب الأحوال المدلسات التي تأنفها العقول الراجحات، ويجمع ذلك قسم مكارم الأخلاق، وهي جارية فيما جرت به الأوليات.

ففي العبادات كإزالة النجاسة وبالجملة الطهارة كلها وأخذ الزينة والتقرب بنوافل الخيرات من الصدقات والقربات وأشباه ذلك.

وفي العادات كآداب الأكل والشرب ومجانبة المآكل النجسة والمشارب المستخبثات والإسراف والإقتار في المتناولات.

وفي المعاملات كالمنع من بيع النجاسات وفضل الماء والكلأ وسلب العبد منصب الشهادة والإمامة وسلب المرأة منصب الإمامة وإنكاح نفسها وطلب العتق وتوابعه في الكتابة والتدبير وما أشبهها.

وفي الجنايات كمنع قتل الحر بالعبد أو قتل النساء والصبيان والرهبان في الجهاد.

فهذه الأمور راجعة إلى محاسن زائدة على أصل المصالح الضرورية والحاجية، إذ ليس فقدانها بمخل بأمر ضروري ولا حاجي، وإنما جرت مجرى التحسين والتزيين[85].

 والجمال يكون في الأخلاق والتركيب والمظهر والبنية. وكما دعا الإسلام إلى مكارم الأخلاق وحث على التمسك بها، فإنه دعا إلى الاهتمام بالجانب الجمالي في الحياة الإنسانية وفي عاداته وعباداته. وأمر بالعناية بمظهر المسلم والحرص على التجمل فيه وأخذ الزينة. وفي القرآن الكريم والسنة النبوية نصوص كثيرة ترشد إلى هذا.

والخلق يكون في الصورة وفي ترتيب الخلقة الباطنة والأفعال، وجمال الأفعال ملائمة لمصالح الخلق، وقاضية لجلب المنافع وصرف الشر عنهم[86] والإنسان قادر أن يجعل من أهدافه أن يكون جميلا في صورته من حيث نظافته وملبسه ومسكنه، فالجمال حسن الخلق أو الخلق أو الفعل، أو جميع هذه الصفات، تلحظ في الناس والأشياء وتبعث السرور في النفس.

فجمال الأخلاق كونها على الصفة المحمودة من العلم والحكمة والعدل والعفة وكظم الغيظ.

وجمال الأفعال وجودها ملائمة لمصالح الخلق وقاضية لجلب المنافع فيهم وصرف الشر عنهم.

وجمال الخلقة يدركه البصر ويلقيه إلى القلب متلائما.

والإسلام علم الإنسان أن يبذل وسعه ليكون جميلا في مظهره وجوهره ومطعمه وملبسه ومسكنه[87].

وفي كتاب المقاصد وهو الجزء الثاني من الموافقات تكلم الشاطبي عن استفادة الآداب الشرعية من المعاني الثانوية لا من جهة الوضع بل من جهة التأسي والتأدب بالقرآن، وبين ذلك على سبعة أوجه وهي:

  • أن القرآن أتى بالنداء من الله للعباد ومن العباد لله إما حكاية وإما تعلما. ونداء الله لعباده يكون مسبوقا بحرف النداء المقتضي للبعد، ثابتا غير محذوف، يفيد التنبيه. أما نداء العبد لله فقد جاء من غير حرف نداء ثابت لأن الله منزه عن التنبيه، على أدبين:
  • أحدهما ترك حرف النداء.
  • الآخر استشعار القرب.

كما أن في إثبات الحرف في القسم الآخر التنبيه على معنيين.

– إثبات التنبيه لمن شأنه الغفلة والإعراض والغيبة وهو العبد.

– الدلالة على ارتفاع شأن المنادي وأنه منزه عن منادة العبد.

  • ونداء العبد للرب نداء رغبة وطلب لما يصلح شأنه، فأتى في النداء القرآني بلفظ الرب في عامة الأمر تنبيها وتعليما لأن يأتي العبد في دعائه بالاسم المقتضي للحال المدعو بها. وذلك أن الرب في اللغة هو القائم بما يصلح المربوب.
  • أتى في الكناية عن الأمور التي يستحيا من التصريح بها، كما كنى عن الجماع باللباس والمباشرة وعن قضاء الحاجة بالمجيء من الغائط كما قال في نحوه (كانا يأكلان الطعام) فاستقر ذلك أدبا لنا استنبطتاه من هذه المواقع.
  • أتى فيه بالالتفات الذي ينبئ فيه القرآن عن أدب الإقبال من الغيبة إلى الحضور بالنسبة إلى العبد إذا كان مقتضى الحال يستدعيه، وكذلك إذا كان اقتضاه الحال.
  • الأدب في المناظرة أن لا يفاجئ الرد كفاحا دون التقاضي بالمجاملة والمسامحة وذلك أدعى إلى القبول وترك العناد وإطفاء نار العصبية.
  • الأدب في ترك التنصيص على نسبة الشر إلى الله تعالى، وإن كان هو الخالق لكل شيء في آيات كثيرة.
  • الأدب في إجراء الأمور على العادات في التسببات وتلقي الأسباب منها وإن كان العلم قد أتى من وراء ما يكون أخذا من مساقاة الترجيحات العادية. والترجي والإشفاق ونحوهما وإنما يقع حقيقة ممن لا يعلم عواقب الأمور، فينبغي لمن كان عالما بعاقبة أمره، بوجه من وجوه العلم الذي هو خارج عن معتاد الجمهور، أن يحكم فيه عند العبارة عنه بحكم غير العالم، دخولا في غمار العامة، وإن بان عنهم بخاصية يمتاز بها، وهو من التنزلات الفائقة الحسن من محاسن العادات[88].

خاتمة واستنتاجات

هذه التوجهات التربوية تحاول بناء منظومة تربوية على أسس أصولية مستمدة من التصور الإسلامي للشخصية المسلمة.

فالإسلام يتيمز في تنميته لعناصر ومقومات الشخصية الإنسانية بنظرة شمولية متكاملة في جميع أبعادها العقلية والروحية والنفسية والأخلاقية والجسمية والاجتماعية، وهذه النظرة هي السائدة حاليا في علم النفس والتربية، وتجد سندها في نتائج أبحاث العلماء المعاصرين.

فالتربية المقاصدية كما شرحها الشاطبي تحقق أهدافا معرفية ووجدانية وسلوكية مهارية، تتوجه إلى البعد العقلي في الشخصية المسلمة فتجدد قنوات تشكيل هذا العقل وتتصدى لها بالتجديد والإصلاح، وتشحذ الذهن وتزوده بالوسائل التي تساعده على ترسيخ العقيدة الصحيحة وحماية سلامة الاعتقاد، وتقويه بالعمل الصالح المخلص لله النافع لعباده، وكذلك إلى البعد النفسي والبدني وسائر أبعاد الشخصية.

وبتنمية هذه الأبعاد وتكاملها في شخصية الفرد تضع هذه التربية لبنة أساسية في إعادة تشكيل العقل المسلم وتجديد العقيدة الإسلامية والمساهمة في تقوية بناء المجتمع الإسلامي حتى يقوى في مواجهة التحديات المختلفة.

إن قراءة كتاب الموافقات دلتنا على أن قضية التربية والتعليم كانت موضع اهتمام العلامة أبي إسحاق الشاطبي، الذي حرص على وضع أسس وقواعد للعملية التربوية التعليمية مستنبطة من الشريعة الإسلامية، مبينا حدود العلم وغايات التربية وشروط العملية التعليمية التي تخدم مقاصد الشريعة السمحة.

كم أن كتابات الشاطبي التربوية، ليست مجرد مواعظ دينية تسير في الاتجاه العام لكثير من الأدبيات التربوية الإسلامية، بل هي عمل أصيل يتميز بشمولية النظرة وعمق الفكرة وتكامل المباحث وتناسب الأفكار، مبنية على قواعد الشريعة ومهتدية بهديها، معبرة عن أصالة وشمولية وواقعية الإسلام، تعكس نظرة الدين للإنسان ومصيره ووظيفته الاجتماعية ودوره في الحياة، وهذه التربية تستجيب لحاجات المجتمع الإسلامي التنموية وتتوافق مع هويته الدينية واللغوية والثقافية، وتقيه من مخاطر الاستلاب الحضاري.

ولعل الكاتب، عبر جولته المتواضعة في كتاب الموافقات، قد بلغ المراد في التعريف بما يتميز به الشاطبي من عقلية علمية أصولية تتصف بشموليتها واجتهادها وعبقريتها.

فما أحوجنا في سعينا نحو إصلاح بنائنا التربوي إلى تربية تسير على هدي ديننا وتتقيد بأحكامه، هذا الدين الذي اختاره الله خاتما للديانات، صالحا للبشرية جمعاء في كل زمان ومكان والحمد لله الموفق للصواب.

المراجع

الكتب

– الأنصاري، فريد. كتاب: التوحيد والوساطة في التربية الدعوية. الدوحة: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية: 1995. (كتاب الأمة: 47).

– الجابري، محمد عابد. كتاب: بنية العقل العربي الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي: 1991.

– الجابري، محمد عابد. كتاب: التراث والحداثة الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي: 1991.

– الشاطبي، أبو إسحاق. كتاب: الموفقات في أصول الشريعة بيروت: دار المعرفة، دون تاريخ.

– عباس، حسني محمد. كتاب: الفقه الإسلامي آفاقه وتطوره، مكة المكرمة: رابطة العالم الإسلامي: 1414 (دعوة الحق: 10).

– الطريري، عبد الرحمان. كتاب: العقل العربي وإعادة التشكيل، الدوحة: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية: 1413 (كتاب الأمة: 35).

– محمود، عبد الحليم، كتاب: تربية الناشئ المسلم المنصورة (مصر) دار الوفاء: 1992.

الأبحاث

– بنحمزة، مصطفى. بحث: مقاصد التربية الإسلامية، ألقي في الدورة الثانية للجامعة الصيفية للصحوة الإسلامية 1412 الرباط: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية. 1994 (نشر ضمن أعمال الدورة).

– بنسعيد، سعيدة وآخرون. بحث: الفكر التربوي عند الإمام الشاطبي: العافية، عبد القادر (مشرف) الرباط: مركز تكوين المفتشين: 1993 (مخطط باليد).

الدوريات

-مجلة المربي: تطوان، المغرب- عدد 4: 1994 بادو، عبد الجليل. مقالة: منهج التربية والتعليم عند الإمام الشاطبي، ص6.

– مجلة الفيصل: الرياض- عدد 230: 1416، بنمسعود، عبد المجيد. مقالة: تحرك القيم حول الكليات الخمسة، ص28.

– مجلة دعوة الحق: الرباط عدد 280: 1411. حمود، محمد. مقالة: دور الاجتهاد في مواكبة المستجدات بالتطرق لمقاصد الشريعة، ص80.

– مجلة دعوة الحق: الرباط – عدد297: 1413 العافية، عبد القادر. مقالة: الفقيه الأصولي إبراهيم أبو إسحاق الشاطبي، ص43.

– مجلة المنهل: الرياض – عدد 526: 1416. الدسوقي، محمد. مقالة: الفكر التربوي عند الإمام الشاطبي، ص76.

– مجلة التبصرة (أكاديمية وجدة) عدد 1: 1995. صوان، مصطفى. مقالة: محاولة بناء صنافة تجسد المقاربة التكاملية، ص8.

– ملحق الفكر الإسلامي، جريدة العلم- الرباط: 1: 1: 1993. حجيب، عبد العظيم. مقالة: مقاصد الشريعة عند ابن العربي، ص2.

– ملحق الفكر الإسلامي، جريدة العلم: 4: 1: 1994. خولة، يوسف. مقالة: حمادي العبيدي وكتابه الشاطبي ومقاصد الشريعة، ص6.

-ملحق الفكر الإسلامي: جريدة العلم: 4: 11: 1994. شكري، فريد. مقالة: طرق إثبات المقاصد الشرعية، ص5.

– ملحق الفكر الإسلامي: جريدة العلم: 13: 3: 1992. عاشور، مجدي. مقالة: عرض كتاب العبيدي: الشاطبي ومقاصد الشريعة، ص.

– ملحق الفكر الإسلامي: جريدة العلم: 25 ربيع الآخر 1413. العلمي، عبد القادر. مقالة: أصول الفقه والتجديد عند الشاطبي، ص5.

(انظر العدد 14 من مجلة الإحياء)

الهوامش

[1]. أحمد ابن قاسم القباب. الشيخ الفقيه المحقق الحافظ توفي عام 779 هـ. له شرح حسن على قواعد القاضي عياض، وشرح على بيوع بن جماعة التونسي. (أحمد بن قنفذ: شرف الطالب في أسني المطالب).

[2]. محمد بن عبد الملك الفشتالي. قاضي الجماعة بفاس من شيوخ القباب. كان له مجلس جليل في العلم. توفي عام 777 هـ أو 779 (أحمد بن قنفذ: شرف الطالب في أسنى المطالب).

[3]. ابن عباد النفزي محمد (فتحا) بن ابراهيم بن عبد الله بن مالك (بن عباد) ولد برندة وتوفي بفاس عام 792 هـ: 1390م. خلف مصنفات كثيرة في الفقه والتصوف. (عبد العزيز بن عبد الله. الموسوعة المغربية للأعلام البشرية والحضارية: 40: 2).

[4]. العافية عبد القادر. الفقيه الأصولي إبراهيم أبو اسحاق الشاطبي. مجلة دعوة الحق الرباط. عدد 295، (1413) ص44.

[5]. بادو، عبد الجليل، منهج التربية والتعليم عند الإمام الشاطبي، مجلة المربي، تطوان عدد 4 (1994) ص6.

[6]. العافية عبد القادر، المرجع نفسه، ص45.

[7]. العافية، عبد القادر، المرجع نفسه، ص46.

[8]. العافية، عبد القادر، المرجع نفسه، ص46.

[9]. العافية، عبد القادر، المرجع نفسه، ص50.

[10]. الجابري، محمد عابد، بنية العقل العربي، الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي 1991 ص 558.

[11]. الموافقات ج1، ص87.

[12]. الموافقات ج1، ص22.

[13]. بادو، عبد الجليل، المرجع نفسه، ص7.

[14]. بادو، عبد الجليل، المرجع نفسه، ص8.

[15]. العلمي، عبد القادر، أصول الفقه والتجديد عند الشاطبي، جريدة العلم (الرباط) 25 ربيع الآخر 1413، ملحق الفكر الإسلامي، ص5.

[16]. عباس، محمد حسن. الفقه الإسلامي آفاقه وتطوره. مكة المكرمة. رابطة العالم الإسلامي. 1414 (سلسلة دعوة الحق: 10) ص8.

[17]. الموافقات ج1 ص 88.

[18]. الموافقات ج1 ص 61.

[19]. الموافقات ج2 ص 17.

[20]. حمود، محمد، دور الاجتهاد في مواكبة المستجدات بالتطرق لمقاصد الشريعة. مجلة دعوة الحق. الرباط عدد 280 (1411) ص80.

[21]. الموافقات ج2، ص37.

[22]. الموافقات ج2، ص168.

[23]. خوجة، يوسف، حمادي العبيدي وكتابه الشاطبي ومقاصد الشريعة، جريدة العلم (الرباط) 4-11-1994.

[24]. عباس، محمد حسن، المرجع نفسه، ص84.

[25]. بنحمزة مصطفى، مقاصد التربية الإسلامية. ضمن أعمال الدورة الثانية للجامعة الصيفية للصحوة الإسلامية. الرباط. وزارة الأوقاف 1994. ص196. وأيضا شكري فردي. طرق إثبات المقاصد الشرعية. بجريدة العلم (الرباط) 13-3-1995. ملحق الفكر الإسلامي ص5.

[26]. بنمسعود، عبد المجيد. تحرك القيم حول الكليات الخمس، مجلة الفيصل(الرياض) عدد 230 (1416) ص28.

[27]. بنمسعود، عبد المجيد: المرجع نفسه ص28.

[28]. بنمسعود، عبد المجيد: المرجع نفسه ص28.

[29]. الموافقات ج2 ص202.

[30].عاشور، مجدي، عرض كتاب الشاطبي ومقاصد الشريعة، جريدة العلم. 14-10-1994. ملحق الفكر الإسلامي. ص5.

[31]. الموافقات ج1 ص50.

[32]. الموافقات ج2 ص202.

[33]. طريري، عبد الرحمان. العقل العربي وإعادة التشكيل. الدوحة. وزارة الأوقاف. 1413. (سلسلة كتاب الأمة: 35 ص31.

[34]. بادو، عبد الجليل، المرجع نفسه ص7.

[35]. طريري، عبد الرحمان، المرجع نفسه ص34.

[36]. الموافقات ج1 ص88.

[37]. الجابري، محمد عابد، التراث والحداثة. الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي. 1991 ص210.

[38]. الموافقات ج1 ص77.

[39]. الجابري، محمد عابد، التراث والحداثة، ص210.

[40]. الموافقات ج1 ص77.

[41]. الجابري، محمد عابد، التراث والحداثة. ص210.

[42]. بادو، عبد الجليل، المرجع السابق نفسه، ص7.

[43]. الموافقات ج1 ص77.

[44]. الموافقات ج1 ص86.

[45]. صوان مصطفى: محاولة بناء صنافة تجسد المقاربة التكاملية. مجلة التبصيرة. أكاديمة وجدة عدد 1 (1995) ص130.

[46]. الموافقات ج1 ص69.

[47]. الأنصاري، فريد. التوحيد والوساطة في التربية الدعوية، الدوحة. وزارة الأوقاف. 1416 (سلسلة كتاب الأمة: 48) ج2 ص132.

[48]. الكتاني يوسف، الاجتهاد، مظهر الأصالة والمعاصرة في الفكر الإسلامي: مجلة دعوة الحق. الرباط، عدد 281 (1411) ص63.

[49]. الموافقات ج4 ص224.

[50]. الموافقات ج1 ص69 وج4 ص191.

[51]. الموافقات ج4 ص224.

[52]. الموافقات ج4 ص225 و232.

[53]. الموافقات ج1 ص70.

[54]. الموافقات ج1 ص71 وأيضا: بادو، عبد الجليل، مرجع سابق ص8

[55]. بادو، عبد الجليل، مرجع سابق ص8.

[56]. الموافقات ج4 ص232.

[57]. الموافقات ج4 ص107.

[58]. الموافقات ج4 ص232.

[59]. الأنصاري، فريد، المرجع نفسه ج2 ص133.

[60]. حجيب، عبد العظيم. مقاصد الشريعة عند بن العربي. جريدة العلم (الرباط) 1.1.1993: ملحق الفكر الإسلامي عدد 57 ص2.

[61]. بنحمزة، مصطفى. مقاصد التربية الإسلامية. ضمن أعمال الدورة الثانية للجامعة الصيفية للصحوة الإسلامية. الرباط. وزارة الأوقاف 1994 ص196.

[62].. بنحمزة، مصطفى: المرجع نفسه. ص197.

[63]. بنحمزة، مصطفى: المرجع نفسه ص200.

[64]. الجابري، محمد عابد، التراث والحداثة ص105.

[65] . الموافقات ج4 ص102.

[66] . الموافقات ج1 ص 87.

[67]. الموافقات ج1 ص87.

[68]. الأنصاري، فريد المرجع نفسه ج1 ص63.

[69]. الموافقات ج1 ص180.

[70]. الأنصاري، فريد. المرجع نفسه ج2 ص135.

[71]. الأنصاري، فريد. المرجع نفسه ج2 ص64.

[72]. الموافقات ج2 ص177.

[73]. الموافقات ج2 ص178.

[74]. الموافقات ج2 ص179.

[75]. الموافقات ج2 ص181.

[76]. الموافقات ج1 ص179.

[77] . الموافقات ج1 ص179.

[78] . الموافقات ج1 ص180.

[79] . الموافقات ج1 ص179-180.

[80] . الغزالي، أبو حامد. أيها الولد. تحقيق قره داغي. القاهرة. دار الاعتصام 1983 ص 128.

[81]. الموفقات ج2 ص24.

[82]. الموافقات ج2 ص23.

[83]. الموافقات ج2 ص23.

[84]. الموافقات ج2 ص12.

[85]. الموافقات ج2 ص12.

[86]. محمود، عبد الحليم، تربية الناشيء المسلم. دار الوفاء، 1992 ص132.

[87]. القرطبي: الجامع في أحكام القرآن ج10 ص71.

[88]. الموافقات ج2 صفحات 103-107.

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق