مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةدراسات عامة

(2) اللغة والهوية

لا يخفى أن أمر العربية من أمر الدين، فهي لسان الشرع، ولغة القرآن، ولا زال القرآن الكريم، يحمي هذه اللغة ويوفر لها من المدد والعون، ما يجعلها خالدة بخلوده ومحفوظة بحفظه، وهذا أمر فريد لا مثيل له في كل لغات البشر، إذ كان أمر اللغات الأخرى موكول حفظها إلى الأمة، كالكتب السماوية التي أرسلها الله إليهم، فلذلك تعتري تلك اللغة، الأحوال التي تعتري تلك الأمة، من أوج القوة إلى حضيض الضعف، وإلى الانقراض والمحو.  

والأمة العاقلة، هي التي تضع لسانها الموضع اللائق به، وتمكن له بين الناشئة، تمكينا تغرسه في نفوسهم، وبذلك تعصمهم من خطر التبعية اللغوية، التي تجعل المغلوب يتبع لغة الغالب، ويعيش في كنفه، ويتشرب لغته، ومن خلالها يتشرب فكره وثقافته وهويته، فينسلخ من أمته انسلاخ الليل من النهار، وهو انسلاخ بطئ وانسيابي ولا يحس به ويؤبه له، إلا بعد فوات الأوان. 

وأعجب العجب أن تكون الوطنية في زماننا هذا شعارا مرفوعا، وقيمة تناط بها العزائم، ثم لا يكون حظ اللغة أمازيغية كانت أو عربية من هذه الوطنية إلا النزر اليسير الذي لا يكاد ، مع أنه لا حديث عن الوطنية من غير حديث عن اللغة، لأن هذا الوطن إنما هو مجموعة من المقومات بها يصير الناس قوما، وما سموا بهذا الاسم إلا لاجتماعهم على ما به قوامهم. 

وكل أمة تدخر ثقافتها وتراثها في لغتها، ولا تزال لغتها وتراثها يكبران ويتلاقحان ويندمجان، حتى تصير اللغة لسان هذه الثقافة، والمعبر عن هذا التراث، وحتى يصير هذا التراث، منداحا في ثنايا اللغة، منطبعا فيها انطباع الصورة في المرآة. 

والثقافة مفهوم كبير الشأن، عظيم الخطر، يُنَزَّلُ من الأمة منزلة ضميرها، ويَحُلّ منها محل الوعي من الإنسان، الذي به يفكر ومن خلاله يسعى، وإليه يركن في فهمه للعالم من حوله. 

وهذه الثقافة، تنساب في لغة المرء انسياب الماء، وتتخلل لغته وألفاظه ومقاطع صوته في نطقه بهذه اللغة، وطريقة أدائه، تخللا لا يتصور للغة أن تنفك عنه، فإذا ما شب المرء، وقد ارتضع لبان لغته،  كان له من ثقافة قومه وتراثهم، على ما عنده من لغته ولسان قومه.  

وكل حديث عن اللغة هو حديث عن الثقافة التي تحملها هذه اللغة، وعن الأمة التي تتكلم بهذه اللغة، وهذه أمور مترابطة أشد ما يكون الترابط وأقواه، وهذا الترابط بين الأمة وثقافتها ولغتها يؤدي إلى أن تتأثر هذا الأركان بعضها ببعض، فإن ضعف منها قسم تبعه الآخر، وإن قوي استقوى معه صاحباه.

والأمة التي تستهين بلغتها، هي أمة مستهينة بماضيها وتراثها وثقافتها، وهي أمة تستهين بنفسها وبمقوماتها، وما أسهل أن تنهزم وتضعف، وأن ينهزم معها بنوها ويضعفوا أمام غيرهم من أبناء الأمم. 

والواحد منا قد يتخصص في الفرنسية تخصصا، يفوق به أهلها المتكلمين بها، ويكون مع ذلك طبيبا أو مهندسا أو فلكيا، أو ما شئت بعد ذلك، ويبلغ في هذا العلم المبلغ الذي يشار إليه فيه بالبنان، ويتحدث عنه في المجامع العلمية، ولكن كل هذا الذي حققه هذا المتكلم بالفرنسية، وكل هذا الذي أنجزه، إنما يحسب لأمة فرنسا، وللغة الفرنسية، ويضاف إلى تراثها، وتنمو به معارفها، أما أمته التي لسانها العربية أو الأمازيغية، فلم يفدها من ذلك بشيء، ومتى ما كثر في الأمة، من يتكلم بغير لسانها، ويتخصص في أبواب المعرفة التي تحتاجها، كان ذلك وبالا عليها، وحكما عليها بالتخلف والتراجع. 

واللغة العربية عندنا، متروكة لتصاريف القضاء والقدر، يعتريها من ذلك صنوف من عوادي الزمن، ونوائب الأيام، وضروب من العلل والأسقام، وهي إن انتعشت فبفضل الله وبفضل بعض الحماة المخلصين الصادقين، وإن هي ضعفت فذاك أمر الله وقضاؤه وقدره، وقد قال سبحانه وتعالى: “والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون” صدق الله العظيم. 

وسؤدد الأمة من سؤدد لغتها، ولا تزال الأمة العاقلة، تزرع في نفوس أبنائها حب لغتهم، وتحسن لهم من أمرها ما يكبرها في نفوسهم، وترسخ لهم باستمرار أن لغتهم هي هويتهم، على الحقيقة لا المجاز. 

وعلى هذا يتربى النشء، ويكبر الصغير، وملء سمعه لغته، وقرة عينه بيانه الذي حباه الله، فهو معتز به غاية، وملتزم بالدفاع عنه بلا حدود، وهؤلاء هم الذين تبنى عليهم الأوطان، ويعتمد عليهم في استمرار عقب الأمة، لما يحملونه من الحب الراسخ للغتهم، والقناعة التي لا يعتريها الشك، بأفضلية لسانهم.  

والأمة التي تزدري لغتها، وتقبحها في أعين النشء، هي أمة تلقي بنفسها إلى الحضيض الأسفل، لكونها تخلت عن جوهرها وما به قوامها، كصاحب البيت يتخلى عن أعمدة بيته، ويراها فضلة تملأ الفراغ فقط، ولا ينتبه إلا عند إزالتها وقد انهد ركن بيته، وخر السقف عليه، ولات ساعة مندم.   

وليس أضر على النشء ولا أفسد لهم، ولا أفتك بهم، من أن ينشئوا في أمة تزين لهم ضعف لغتهم، وتَخَلُّفَ ثقافتهم، وسوء وضعيتهم، فيتشرب ذلك الصغير، ويتربى عليه النشء، وهم على ما هم عليه من الإحساس بالنقص، والشعور بالدون، فهؤلاء متى ما وجدوا الفرصة، أغاورا على لغتهم وفتكوا بها الفتك الذي لا يرجى بعده قيام أبدا. 

 وما ظنك بنشء اجتمعت له الغرارة والخفة، والطيش وسوء التدبير، وقلة المعرفة بلغته وتاريخه، قد لقن في نشأته أن لغته تقعد به عن المعالي، وترجع به إلى الوراء، واستحكمت هذه المعاني فيه، وصارت له مذهبا لا يحيد عنه، ورأيا صوابا لا يحتمل الخطأ، وهو مع توالي الأيام، يرى لغته مهمشة في الإعلام، ويرى التسفيه لها ووضعها في الموضع الذي ليست فيه، فيؤكد ذلك ما شب عليه، فمثل هذا النشء تكون ضراوته على لغته، ونكايته فيها، أقوى أثرا من فعل عدوه به، ولا يدري هذا الغر؛ أن هذا الرأي المدخول، يكون سببا في إضعاف لغته، وعلة في وهن أمته التي هو احد أفرادها. 

وما عسى القائل أن يقول فيمن نشأ وهو محتقر للسان أمته، وتربى على ترديد عبارات التنقيص المبهمة والمجملة فيها، والاستهزاء بالخليل بن أحمد وسيبويه وغيرهم من أئمة اللغة، لا لذنب اقترفوه، سوى أنهم فكروا يوما أن يحفظوا لهذه الأمة لسانها، وأن يصونوا بيانها من الخلل والدخيل. فرحم الله سيبويه والخليل. 

والأمة التي لا تُنْهِضُهَا لغتها، ولا يُقِيمُها لسانها، هي أمة على مدرجة النسيان، وسبيل الافتتان، ولا زالت الأمم الراشدة، تحرص على العناية بلغتها حرصها على العناية بأبنائها، وتوفر لها من أساليب الرقي، ما توفره لهم، وعيا منها بأن هذا الإنسان، إنما هو بفكره المرتقي به في مدارج المعالي. 

ولا سبيل إلى إغناء هذا الفكر وترشيده، بدون ألفاظ تكون حاملة لمقومات النمو، مختزلة لقيم المعالي، بحيث يكون الإنسان إذا تشربها عاقلا بها، ومفكرا بمفاهيمها، وحاملا لقيمها.

وعلاقة اللغة بالأمة، هي علاقة ذات أوجه متعددة، ومن الإجحاف البين اختصار هذه العلاقة في الجانب التواصلي، وعندما قالوا بأن اللغة أداة التواصل، إنما ذكروا الوجه الأبرز، والوظيفة السائرة، ولها بعد ذلك وظائف شريفة، ومنازل منيفة، تتنزلها في الأمة.   

فمن منازل اللغة: أنها وعاء الفكر، بها ينتظم شمله، وعليها يعتمد في بنائه ونمائه، وما هذه المعاني الذهنية، والتمثلات المجردة، وأنماط التخيلات والإدراكات، وضروب التفكر والوعي، إلا ممارسات مجردة، وعاؤها اللغة، وقالبها الكلام، ومسكنها الألفاظ، فيها تسري، وبها يكون ظهورها، وعليها يعتمد في تمثلها وتعقلها، ولهذا يصح أن يقال: إذا ارتقت اللغة ارتقى معها الفكر.    

ومن منازل اللغة في الأمة: أنها ديوان الثقافة، فهي تحمل في ألفاظها تاريخا ثقافيا، وحمولة تراثية، وذاكرة حية للأمة، ويتضح ذلك في الأمثلة التي تجري على ألسنة الناس، وفي القصص والحكايات، وفي النوادر والأخبار، وفي طريقة النطق بها ومحاكاتها، وفي تداعيات اللفظ وما يحيل إليه من المعاني، وهذه الظلال الثقافية، التي تنعكس في ألفاظ اللغة وأوضاعها وأصواتها، لا يمكن ترجمتها ولا نقلها على الوفاء، ولذلك كانت النكت وما تحمله من ظلال ثقافية، لا يمكن ترجمتها إلى لغة أخرى، ولو ترجمت فإنها تفقد تلك الحمولة الثقافية. 

ومن منازل اللغة في الأمة أنها وسيلة المعرفة، فهي التي تحمل مفاهيمها، وترسم معالمها، وتمدها بالمصطلحات، وتغذيها بالألفاظ التي عليها تعتمد المعرفة في تركيبها ونموها واستمرارها.

 وباللغة تخلد هذه المعرفة، وتنقل بين الأجيال، وتطلع الخلف على أعمال السلف، وبها ينفتق البيان، وتشرق الفكرة، وينكشف المعنى. 

وقلة هي اللغات التي حملت المعرفة على امتداد التاريخ، وكفى العربية فخرا، أن كانت ضمن اللغات القلائل التي كان لها شرف الإشراف على المعرفة التي كانت سائدة في العالم القديم، إشرافا تميز بالإبداع والاختراع. 

ومنازل اللغة في كل أمة هي منزلة الفكر والثقافة والمعرفة، وهي منازل تحمي كيان الأمة، وتحيط بها إحاطة الهالة بالقمر، والأكمام بالثمر، وتحوطها كالسور الجامع الذي يقي الأمة ضربات الأعادي، ويصونها من كر الليالي والأيام. 

واللغة إذ تتنزل هذه المنازل في الأمة، فهي تضمن بذلك، بقاء هذه الأمة وقوتها واستمراريتها؛ متى ما تمسكت الأمة بلغتها ولسانها، فإن فرطت فيها، فرطت في فكرها وثقافتها ومعرفتها، وآل أمرها إلى أمة مغتربة في فكرها، ممسوخة في ثقافتها، مقلدة في معرفتها.   

وكل لغة لها تاريخ يعرِّف بها وبمسارها الذي قطعته، إلى أن استوت كلاما متداولا بين الناس، وإذا كان للغة تاريخ، فهو دليل قوتها وصلابتها، لأن اللغات بطبعها تتعرض مع طول الاستعمال وكثرة التداول، إلى ضروب من التغييرات التي تلحق بنيتها وقواعدها وتراكيبها، وهذه التغييرات، تقتضيها الشروط التواصلية، التي تفرض نفسها على اللغة، وقل ما تصمد اللغات أمام هذا الواقع الملح، وكثيرا ما ينفرط عقدها وتخضع للشروط التداولية التي يمليها الواقع. 

واللغة إن طال عليها الأمد، وتداولتها ألسن الأجيال، وتكلمت بها الأمم، وعركتها متطلبات الحياة اليومية، ودخلت في المعاجم مفرداتها، وضبطت بالقواعد تراكيبها، وصححت بالميزان أبنيتها، فهي اللغة التي يكون شرفها بين اللغات، كشرف الحسيب النسيب بين الناس، وهي اللغة التي يعض عليها بالنواجذ، لأنها العِلْقُ النفيس، والشرف التالد، والفخر السامي، والأمة التي لسانها هذه اللغة، ما أحراها أن يكون لها من قوة لغتها وشرفها وفخرها نصيب ظاهر، وحظ قوي. 

واللغة تابعة للأمة، في مجدها ورفعتها، وفي قوتها وتألقها، وفي انحطاطها وتخلفها، والأمة إن غلبت مكنت للغتها في الأمة المغلوبة، وحرصت على تنشئة أجيال تلك الأمة على لسانها، وأن تزرع فيهم من ثقافتها وتراثها ما يجعل الأمة المغلوبة مع المدة نسخة ثانية للأمة الغالبة، وصورة منعكسة لها. 

ولا تسأل عن سحر لغة الأمة الغالبة في الأمة المغلوبة، وعن تمكنه في نفوس أهلها، وعن شعور الناطقين بها، ورضاهم عن أنفسهم، وقديما قال ابن خلدون: “المغلوب مولع باتباع الغالب”. وقد أصاب -رحمه الله- في هذا كل الصواب. 

والقرآن الكريم له كل الفضل في اللغة العربية، فهو الذي حمى مفرداتها، وصان أساليبها ورسخ استعمالها، وضخ فيها من الألفاظ والمعاني ما كان كفيلا بإغنائها إغناء منقطع النظير، وبه صار للعربية المنزلة، ومنه كان لها المدد اللفظي والمعنوي. 

ويمكن معرفة فضل القرآن الكريم على العربية، لو تصورنا عدم نزوله بهذه اللغة، وتصورنا أن حفظها كان موكولا إلى الأمة المتحدثة بها، وسبيلها إن كان ذلك كذلك، أن تكون على نمط غيرها من اللغات التي كانت في تلك الأعصر، والتي درست بدروس أهلها. 

وكل لغة يرتبط مصيرها بحاجة الناس إليها، وعلى مقدار هذه الحاجة وما تدعو إليه الضرورة منها، يكون حالها قوة وضعفا، وظهورا وضمورا.

ولما كانت العربية لسان الديانة، ولغة الشرع، وكان الحاجة إلى الديانة على ما هو معروف متعالم عند الناس، كان ذلك داعية أن تبقى هذه اللغة حية رقراقة ما بقيت هذه الشريعة، وأن يتجدد لها في كل عصر من حاجات الناس إليها وضرورتهم إلى تعلمها وتعليمها، واستعمالها وتداولها، ما يضمن لها الاستمرارية والدوام. 

وكل أمة لها تجاه لغتها ولسانها حقوق يجب أن تراعيها، ومطالب ينبغي أن توفرها، والأمة عند الوفاء بحقوقها اللغوية، تكون مسدية لأبنائها خدمة جليلة، لها من النتائج التي تعود على نفسيتهم وثقافتهم، وأمنهم واجتماعهم، ومعارفهم وتقدمهم، وتواصلهم ونموهم، ما يتفيأ ظلاله الناشئون في هذه الأمة، ويعود عليهم بأكبر العوائد. 

وهذه الحقوق تضمن أن تبقى مكتسبات الأمة ورصيدها التاريخي، ومقوماتها الذاتية محفوظة من عوادي الزمن، قوية أمام ما يرد عليها من قبل الأمم الأخرى، على ما توجبه سنة التدافع، ويقتضيه قانون الغلبة.  

فمن حقوق اللغة على الأمة: 

1-حق التقدير. 

وذلك أن الأمة التي تقدر لسانها، وتفتخر بلغتها، هي أمة أصيلة، ولا زالت الأمم العاقلة الحصيفة، ترى في تراثها اللغوي، رصيدا لا يقدر بثمن، وتحرص على أن تربي نشئها وملء سمعهم وبصرهم لغتهم، وتذكي فيهم من حبها ما يكون ضامنا لوحدة أبنائها ورقيهم وتقدمهم المعرفي. 

ومن متطلبات هذا الحق، نشر الوعي اللغوي بين أبناء الأمة، وحماية اللغة من كل ما يسيء إليها، وتمكينها في نفوس النشء، وتوفير الدعم الذي تستحقه، والتكلم بها في المحافل الدولية، وجعلها شعار الأمة المعرف بها، ولسانها الدال عليها.     

ومن حقوق اللغة على الأمة: 

2-حق التعليم 

وتعليم اللغة، ترتقي به الأمة العاقلة من مستوى التلقين إلى مستوى الإبداع، وتوظفه من أجل تحبيب اللغة للنشء، وغرسها في نفوسهم، من خلال مجموعة من التدابير المحكمة المتسلسلة التي تفضي إلى ذلك، وهذا الحق من أشرف الحقوق وأجلها، وهو إن ضبطت مسالكه، يعود بالخير العميم على الناشئة والأمة، والتفريط في هذا الحق مؤذن باضطراب اللسان، واختلاف الأوضاع، ومفض بالناشئة إلى أبواب من التشتت اللغوي.  

ومن حقوق اللغة على الأمة: 

3-حق المراقبة 

وهذا الحق، يقتضي من الأمة أن تراقب لغتها وتسهر على حفظها، وتحرسها حراسة واعية، من كل ما يفضي إلى اضطرابها واختلاطها وتحللها، وبهذا الحق تضمن الأمة لأبنائها ما صار يعرف بالأمن اللغوي، وهذا الأمن مقدم على غيره، لأن الأمن اللغوي، مفض إلى الأمن الفكري، والثقافي والاجتماعي، وهو إن تحقق للأفراد كان ذا عائدة عليهم وعلى مجتمعهم وأمتهم. 

وكل أمة تحرص على أمنها اللغوي، وتخطط من أجله، وتسعى إلى أن توفر له شتى الضمانات، وما محاولة الدول القوية، تعميم لسانها، سوى مرحلة متقدمة من مراحل ترسيخ هذا الأمن اللغوي، وتثبيت دعائمه وأركانه. 

ومن حقوق اللغة على الأمة: 

4-حق التنمية 

وهذا الحق هو مطلب متجدد، يجعل الأمة مكلفة بالنظر في سبل إغناء لغتها وتطويرها وتنميتها على وفق ما تقتضيه حاجات الناس وقوانين الوضع وأسباب التواصل. 

وحق التنمية يضمن للغة أن تبقى مرتبطة بالمجال التداولي، وحاضرة في التواصل الاجتماعي، ومستعملة في النقاش المعرفي، بحيث تكون الأمة مسؤولة عن إدراج اللغة وقضاياها في كل المجالات الحيوية، والدعوة إلى تداولها في مختلف السياقات التواصلية والمعرفية والفكرية.

وهذا الحق إن استوفته اللغة العربية، أظهرت فيه من المرونة والقابلية، والحيوية والفاعلية، ما يجعلها في مستوى التميمة المطلوبة.   

ومن حقوق اللغة على الأمة: 

5-حق النصرة. 

وهذا الحق يقوم على الدفاع المستميت عن اللغة، من كل العوادي التي قد تصيبها، والتفكير في سبل تقويتها وحمايتها، في سلسلة من الإجراءات المتتابعة بدءا من الإكبار بها وتقديرها ومرورا بتمكينها وترويجها بين الناشئة، وانتهاء بوضع القوانين الزاجرة لمتنقصها، والأمة إذ تنصر لغتها، فإنها تنصر هويتها وكيانها، وتدافع عن مقوماتها ومكتسباتها، وكلما تأخرت الأمة في نصرة لغتها والدفاع عن لسانها كان تأخرها سببا في ضعف لسانها ونزول مرتبته عند الناس. 

ولا زالت الأمم الغالبة، تنصر لغتها أينما حلت وارتحلت، وتدافع عن قيمتها وأفضليتها، وتسخر أقلام الكتبة للدفاع عنها، وهذا كله دوائر محيطة باللغة، تكون سياجا حافا بها، يمنعها من غوائل الدهر، ومما يطرأ على اللغات بسبب التقادم من قلة التداول وضعف المواكبة، وبسبب قانون المدافعة القاضي بالبقاء للأقوى.   

وهذه الحقوق اللغوية الخمسة، (وهي حق التقدير والتعليم والمراقبة والتنمية والنصرة) تلزم الأمة لزوم الفرائض، والأمم الغالبة تعي هذه الحقوق وعيا يجعلها تسعى جاهدة بكل ما تستطيع من ترغيب وترهيب، ومن مكر وختل، ومن دهاء وخبث، إلى أن تضمن للغتها كل التفوق، وتحقق لها كل النجاح، ولا يتحقق لها هذا على وجهه إلا إذا عملت على أن تضعف هذه الحقوق في الأمة المغلوبة، وأن تحول بين الأمة وبين ما تقتضيه هذه الحقوق، وأن تأخذ الميثاق من الأمة المغلوبة أن تتخلى عن نصرة لغتها إلى نصرة لغة أجنبية عنها، ولا تزال الأمم الغالبة في مكرها حتى تصير الأمة المغلوبة، غير قادرة على الوفاء بحقوق لغتها ولا القيام بما تقتضيه منها. 

وقرار اللغة في الأمة قرار مكين، وهي في الأمة أبعد غورا، وأرسخ قدما، وأنفذ أثرا، وأعمق جذورا، قد عجنت بفكر الأمة وثقافتها، ومزجت بذاكرتها وتاريخها، وأفرغ فيها من تاريخ الأجيال المتعاقبة، وألفاظهم المتداولة، وطرائق تعبيرهم، واكتسبت فيها المعاني من الظلال والإيحاء، والتوسع والامتداد، ما جعلها مشحونة بطاقة دلالية كبيرة، تكون الكلمة فيها نائبة عن كلام كثير، ويكون سلطانها على النفوس، وإصابتها للمعنى أنفذ في النفس، وأعلق بالذهن، وأخلد على مدى الدهر. 

وقضية اللغة من قضايا الشأن العام، التي ينبغي للأمة أن تبث فيها من خلال اختياراتها وتطلعاتها السياسية، وهي بعد ذلك موضوع ينبغي أن تبدع فيه البرامج السياسية لدى الأحزاب، وأن تتنافس في اقتراح تصورات جديدة، تكون لها عائدة جليلة على لغة الوطن، ولسان الأمة، وكلما ارتقت الأمة في وعيها السياسي، ونضجت تجربتها وممارستها السياسية، ارتقت معها سياستها اللغوية، وظهر أثر ذلك جليا عليها.

والسياسة اللغوية، من مظاهر سيادة الأمة، وهي غاية ما ينتهي إليه أمر اللغة في الأمة، ثم هي بعد ذلك مقياس للتعرف على حال الأمة قوة وضعفا، وانتشارا وانحسارا، وأوجا وسفولا.

والصلة بين الأمة ولغتها هي كصلة البيت بالأركان، وصلة النفس بالإنسان، بها تقوم قائمته، ويستقيم أمره، وما الأمة في جوهرها إلا أفراد اجتمعوا على ما به قوامهم، ولذلك يقال لهم “القوم”، في إشارة صريحة إلى أن هذه المقومات التي اجتمعوا عليها من الوطن واللغة والثقافة والحضارة والدين هي التي بها قوامهم، وهي سرهم الناظم، والقوة المغذية لهذا الاجتماع، ويوشك إن هم فرطوا في هذه المقومات، أن ينفرط عقد نظامهم، وأن يصير اجتماعهم إلى فرقة، وأمرهم إلى بوار.  

ولست تجد أنشط من لغة دعمتها سياسة واضحة، وغذتها رؤية متكاملة، وفسح لها المجال  التداولي، فعند ذلك تخرج اللغة أرقى ما فيها، وتبدي من أسرارها وقدرتها ما  يرفع قدرها في نفوس الناشئة، ويزرع في قلوبهم حبها. 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق