وحدة الإحياءدراسات عامة

من أجل صياغة جديدة لعلم التوحيد1

 

بدأ اهتمامي بـ”علم التوحيد[2]” منذ أسند إلي تدريسه في الموسم الجامعي 1990-1991م، واستمر ذلك بضع سنوات حاولت خلالها التعمق في مباحثه، وكان مما سجلته من أسئلة هذا السؤال: هل تحتمل قضايا التوحيد أن تكون محل اختلاف المسلمين وتنازعهم؟ لقد تأملت ما عالجه المتقدمون من مباحث هذا العلم، فظهر لي أن اختلافهم فيها طارئ، لم يكن في عصر القدوة والاستبصار، وأن أهل الكلام حين تأصيل مذاهبهم برعوا حقا في النظر وأسلوب الجدل لنصرة آرائهم، لكن من انتصر منهم على من؟ وماذا حققوا للتوحيد ومن أجل التوحيد؟

لقد انشغل بعضهم ببعض مدة طويلة أنتجوا خلالها مباحث في الغيب لم يسلم رأي فريق فيها من نقد فريق آخر، وتم استصحاب معاركهم لمقررات الفكر الإسلامي، ومادة علم التوحيد، وكلها ملأى بقولهم: فإن قالوا قلنا، تترك الدارس حائرا بين الآراء، لا يخرج منها بشيء يجزم به قلبه، ويعتقد يقينيته. وهو ما دفعني إلى التفكير في صياغة جديدة لعلم التوحيد، صياغة تهذيبية تجعل مباحثه اسما على مسماها، وتحقق مقاصده. وهو موضوع هذا العرض الذي هيأته للمشاركة به في ندوة الرابطة المحمدية للعلماء، في موضوع: “العلوم الإسلامية: أزمة منهج أم أزمة تنـزيل؟” سنة (1431ﻫ/2010م)، بمدينة أكادير. وأقدم له بسبع مقدمات ينبني عليها:

إحداها: أن العقيدة أساس متين ووحيد[3] لتوحد قلوب الناس؛ فقد كانوا قبل البعثة أعداء متنازعين، فلما بعث الله رسوله محمدا، صلى الله عليه وسلم، بالحق توحدت قلوبهم، وصاروا على وفاق نظري كبير، واتفاق عملي راق، يؤكده قوله تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا﴾ (آل عمران: 103). وقوله: ﴿لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ (الأنفال: 64) فارتبط بعضهم ببعض، وصاروا يدا واحدة رغم اختلاف ألسنتهم وألوانهم؛ أبو بكر الصديق وسلمان الفارسي وصهيب الرومي وبلال الحبشي وغيرهم من المسلمين تجمعهم كلمة لا إله إلا الله، محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

والثانية: أن عصر النبوة طبعه استقرار في التصور العقدي، وذلك راجع إلى عدم خوضهم في أمور الغيب سؤالا ومناقشة امتثالا لتوجيه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في ذلك ونهيه عن التنطع بقوله:”هلك[4]المتنطعون[5]“. وقوله: “ذروني ما تركتكم، فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم[6] واختلافهم علىأنبيائهم[7].”

وقد ثبت أنهم كانوا يتحرجون من سؤاله، عليه الصلاة والسلام، عما لا ينبني عليه عمل، وكان يعجبهم أن يأتي الأعرابي يسأله فيجيبه وهم يسمعون[8]، وثبت التزامهم بظاهر ما جاء به الوحي في قضايا التوحيد من دون تعمق في البحث عنها ولا تحكيم عقل لتصورها أو خيال.. يفيد هذا، مثلا، ما رواه الإمام مسلم عن يحيى بن يعمر قال: كان أول من قال في القدر[9] بالبصرة معبد الجهني[10]؛ فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجين أو معتمرين فقلنا: لو لقينا أحدا من أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر فوفق لنا عبد الله بن عمر بن الخطاب داخلا المسجد فاكتنفته أنا وصاحبي؛ أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله، فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلي فقلت: أبا عبد الرحمن إنه قد ظهر قبلنا ناس يقرؤون القرآن ويتقرفون[11] العلم، وذكر من شأنهم وأنهم يزعمون أن لا قدر وأن الأمر أنف[12] فقال: إذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم برآء مني، والذي يحلف به عبد الله بن عمر: لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبا فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر ثم قال: حدثني أبي عمر بن الخطاب قال بينما نحن عند رسول الله، صلى الله عليه وسلم ذات، يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثرالسفر ولا يعرفه منا أحد حتى جلس إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، فأسندركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه وقال: يا محمد أخبرني عن الإسلام،فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأنمحمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصومرمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا، قال: صدقت، قال: فعجبنا له يسألهويصدقه، قال: فأخبرني عن الإيمان، قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسلهواليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره، قال: صدقت الحديث[13]“. هكذا حسم ابن عمر المسألة في ضرورة الاعتقاد الجازم بجميع أركان الإيمان ومنها القدر بإثباته واعتقاد “أن الله تبارك وتعالى قدر الأشياء في القدم[14]، على حسب ما قدرها سبحانه وتعالى وعلى صفات مخصوصة، فهي تقع على حسب ما قدرها سبحانه وتعالى[15]“.

لقد اقتدوا برسول الله، صلى الله عليه وسلم، في الإيمان، فآمنوا بجميع ما أخبر به في كتابه ومنها صفاته تعالى التي وصف بها نفسه أنها الحق، فأثبتوا ما أثبته لنفسه، وأجروها كما وردت. ولم يكونوا يسألونه، عليه السلام، مثلا عن أمور الغيب ولكن سألوه عن الخمر والميسر واليتامى والمحيض والأهلة والأنفال.. وغيرها من الأمور العملية. ولهذا خلا عهد النبوة من البحث في الغيبيات، وظهر أن منهج الصحابة في التعامل معها هو حمل نصوصها على ما يفيده ظاهرها ويدل عليه مدلولها، ولم يلجأوا للتأويل ولا دعوا إليه. وهذا يفيد أن الاختلاف فيها طارئ اشتهر مع اختلاط المسلمين بغيرهم من أصحاب المعتقدات المنحرفة في حقيقة الإيمان والنبوة..

والثالثة: أن قضايا التوحيد قضايا غيبية وهي الألوهية والنبوة والمعاد؛ تتعلق بصفات الله، عز وجل، وأفعاله وتصوره سبحانه للموجودات ووظيفتها التي خلقها من أجلها، ومصيرها بعد أداء وظيفتها، وحقيقة اليوم الآخر وما يرتبط به من جنة ونار… وهي قضايا لا يعرف العقل شيئا عن حقيقتها وكيفيتها فكان في حاجة إلى الوحي. ثم إنها ليست قضايا ظنية يكفي فيها الظن الغالب ولكنها قضايا يقينية يجزم بها من يعتقدها، ولابد فيها من أدلة وبراهين قاطعة نقلية وعقلية وحسية ولا مجال فيها للتقليد.

ولقد ضرب الله في كتابه الأمثال لتقرير مثل هذه القضايا ومتعلقاتها فاستدل على النشأة الآخرة، مثلا، بحصول النشأة الأولى، وعلى حصول البعث بإحياء الأرض الميتة بعد ارتوائها… قال ابن تيمية: “وكل واحد من وحدانية الربوبية والإلهية، وإن كان معلوما بالفطرة الضرورية البديهية، وبالشرعية النبوية الإلهية فهو أيضا معلوم بالأمثال المضروبة التي هي المقاييس العقلية…[16]“. وذلك لتنبيه العقل على إمكان وجودها.

والرابعة: أنه بالنظر لخطورة الجهل بقضايا التوحيد يكون “محالا أن يدع الله سبحانه وتعالى أهم ما خلق له الخلق، وأرسلت به الرسل، وأنـزلت به الكتب، ونصبت عليه القبلة، وأسست عليه الملة، وهو باب الإيمان به ومعرفته ومعرفة أسمائه وصفاته وأفعاله، ملتبسا مشتبها حقه بباطله، والحق في إخراجه عن ظاهره. وكيف يكون أفضل الرسل وأجل الكتب غير واف بتعريف ذلك على أتم الوجوه، مبين له بأكمل البيان، موضح له غاية الإيضاح مع شدة النفوس إلى معرفته، ومع كونه أفضل ما اكتسبته النفوس، وأجل ما حصلته القلوب[17]“.

والخامسة: أن التدين فطرة في الإنسان بغض النظر عن كونه صحيحا أو باطلا، وبالنسبة للمسلم فإن قلبه لا يحيى إلا بمعرفة ربه، ويأتي من الأعمال ما يقربه إليه، ولهذا سمي علم التوحيد بالفقه الأكبر لحصول صاحبه على الأصل الفقهي الذي يقرر حقيقة الإنسان ويرفعه إلى مقام سيادته على سائر الكائنات، ويكون مع ذلك مكلفا بالاستخلاف في الأرض وإعمارها. إنه كالرضيع لا يسكن ولا يقطع بكاءه إلا إذا أسند صدره لصدر أمه وضمته إليه، فكذلك العبد لا يسعد إلا إذا دخل في رحاب العبودية وطاعة أمر ربه، وأما إذا تمرد فلن يرى إلا التعاسة لقوله تعالى: ﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى. وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾ (طه: 121-122).

والسادسة: أن أشهر المتكلمين بعد أن قضوا جل عمرهم في البحث في قضايا التوحيد استسلموا لتصور المتقدمين، وخروا خاضعين لمنهجهم في فهمها، وأعلنوا تبرؤهم مما كانوا يتصورون، ونادوا بذلك، ومنهم:

ـ الإمام الجويني (توفي 478ﻫ)

ذكر ابن تيمية عنه أنه “ترك ما كان ينتحله ويقرره، واختار مذهب السلف. وكان يقول: “يا أصحابنا لا تشتغلوا بالكلام، فلو أني عرفت أن الكلام يبلغ بي إلى ما بلغ ما اشتغلت به[18].” وأيضا ذكر أنه قال عند موته: “لقد خضت البحر الخضم، وخليت أهل الإسلام وعلومهم، ودخلت فيما نهوني عنه. والآن إن لم يتداركني ربي برحمته فالويل لابن الجويني، وها أنا ذا أموت على عقيدة أمي[19]“.

ـ الإمام أبو حامد الغزالي (توفي 505ﻫ)

أورد ابن تيمية أن أبا حامد الغزالي “مع فرط ذكائه وتألهه ومعرفته بالكلام والفلسفة وسلوكه (…) ينتهي في هذه المسائل إلى الوقف والحيرة ويحيل في آخر أمره على طريقة أهل الحديث، وصنف “إلجام العوام عن علم الكلام[20]“. وقد صرح بهذا الأمر الغزالي بقوله: “لم يكن الكلام في حقي كافيا، ولا لدائي الذي كنت أشكوه شافيا، لم يحصل منه ما يمحو بالكلية ظلمات الحيرة في اختلافات الخلق[21]“.

ـ أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي (توفي 606ﻫ)

نقل ابن تيمية عنه قوله: “لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي، ولا تروي غليلا، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن؛ اقرأ في الإثبات: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ (طه: 4)، ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾ (فاطر: 10)، وأقرأ في النفي ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ (الشورى: 9)، ﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا﴾ (طه: 107)، ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا﴾ (مريم: 65). ثم قال: “ومن جرب مثل تحربتي، عرف مثل معرفتي”. وأنه كان يتمثل كثيرا:

   نهاية إقدام العقول عقـال            وأكثر سعي العالمين ضـلال

وأرواحنا في وحشة من جسومنا         وحاصل دنيانا أذى ووبال

         ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا       سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا[22]

لاشك أن هذه الإقرارات من هؤلاء المتكلمين الذين أفنوا عمرهم في الكلام؛ وصايا لمن يريد البحث في علم التوحيد أن لا يعيد الخوض فيما خاضوا فيه، فيجتر ما دونوه، فإنهم لم يصلوا لشيء يعتبر، وقد صرحوا بذلك، والعاقل من يعتبر بغيره.

والسابعة: أن تدريس علم التوحيد بالصورة التي هو عليها اليوم لا يحقق ثمرته في بناء الشخصية المسلمة، والتحفيز على العمل، وتحقيق الأخوة الإسلامية، وانحصر دوره في اجترار ما قاله أهل الكلام، فانطبق عليه قول ابن خلدون: “إن علم الكلام قد استنفد أغراضه”.

هذه سبع مقدمات جاءت بين يدي الدعوة إلى صياغة جديدة لعلم التوحيد صياغة تهدف إلى تحقيق التدين به عن طريق تثبيت الإيمان وجعله المنطلق في الفكر والسلوك، وذلك يقتضي ما يأتي:

أ. أخذ قضايا التوحيد من مصادرها الأولى وهي القرآن والسنة وما أجمع عليه الصحابة، وإبعادها عن تمحلات الفلاسفة وتأويلات المتكلمين التي أخرجت النصوص عن معناها. ويستعان بفهم الأئمة الكبار؛ لأن فهمهم منقول موثوق بالصحابة وبالمعاني التي تداولوها، وهي أسلم من كل بدعة، وأبعد عن التنظير الذي ليس وراءه عمل؛ فقد كان منهجهم الإيمان بجميع ما جاء عن الله وصح عن رسوله، صلى الله عليه وسلم، والتوقف فيما لا مجال لإدراك حقيقته بالعقل وعدم اللجوء للتأويل، لا لأنهم لا يحسنون الجدل، ولا لأنهم لا يعرفون غرائب اللغة والمجازات؛ ولكنهم أحجموا عنه لعدم إفضائه إلى نتيجة عملية. ولذلك خف عليهم الإيمان بقضايا الغيب كلها[23]. يظهر هذا من جواب جعفر بن أبي طالب عن تهمة مندوبي قريش إلى النجاشي؛ عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص عند النجاشي أن المسلمين يطعنون في عيسى -عليه السلام-. روى الإمام أحمد عن أم سلمة، رضي الله عنها، قالت: “قال: تعني عبدالله:  والله لأخبرنه: تعني النجاشي، أنهم يزعمون أن عيسى ابن مريم عبد. قالت: ثم غدا عليه الغد فقال له؛ أيها الملك إنهم يقولون في عيسى ابن مريم قولا عظيما فأرسل إليهم فاسألهم عما يقولون فيه. قالت: فأرسل إليهم يسألهم عنه. قالت: ولم ينـزل بنا مثله، فاجتمع القوم فقال بعضهم لبعض: ماذا تقولون في عيسى إذا سألكم عنه؟ قالوا: نقول والله فيه ما قال الله وما جاء به نبينا كائنا في ذلك ما هو كائن، فلما دخلوا عليه قال لهم: ما تقولون في عيسى ابن مريم؟ فقال له جعفر بن أبي طالب: نقول فيه الذي جاء به نبينا هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول. قالت: فضرب النجاشي يده إلى الأرض فأخذ منها عودا ثم قال: ما عدا عيسى ابن مريم ما قلت هذا العود[24].” هكذا أجاب جعفر بن أبي طالب في قضية غيبية بما ورد في كتاب الله، ولم يزد عليه شيئا، مصدقا بما جاء فيه، معتقدا أنه الحق.

ب. تنقية قضايا التوحيد مما علق بها من آراء متكلمين غير متخصصين، أخضعوا كل ما يعارض ما عندهم للتأويل، وجعلوا النصوص تابعة لأفهامهم، وكذا من مواضيع تاريخية ارتبطت بزمانها نحو قضية خلق القرآن والمفاضلة بين الرسل وصفة المعاد.. إن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لم يشتغل في تثبيت قضايا الغيب بالتفصيل فيها؛ فلم يتحدث عن الكلام النفسي، ولا عن الجوهر أو العرض كما لجأ إلى ذلك أهل الكلام. قال ابن قتيبة: “ومعاني الكتاب والحديث وما أودعاه من لطائف الحكمة وغرائب اللغة لا يدرك بالطفرة والتولد والعرض والجوهر والكيفية والكمية والإينية[25]“.

ج. كتابة قضايا التوحيد وتقديمها بطريقة مبسطة خالية من التعقيدات الكلامية نحو التمييز بين الصفات المعنوية وصفات المعاني عند بعض الأشاعرة، وكذا التعقيدات الجدلية نحو قضية الطفرة عند المعتزلة وقضية الأحوال عند الجبائي… وإن اعتماد البساطة في تدريس قضايا التوحيد يتأسس على منهج رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في اعتبارها. ويدل عليه ما رواه أبو داود عن معاوية بن الحكم السلمي قال، قلت: يا رسول الله جارية لي صككتهاصكة، فعظم ذلك على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقلت: أفلا أعتقها؟ قال: ائتني بها. قال: فجئت بها. قال؛ أين الله؟ قالت: في السماء. قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله. قال: أعتقها فإنها مؤمنة[26].”

د. تقديم قضايا التوحيد بطريقة يتم بها إقناع من لا يكون مقتنعا بها، وإفهام من يغيب عنه الوعي بأبعادها الحقيقية، وذلك باعتماد جميع وسائل الإقناع المتاحة التي تراعي حال المخاطب. وبهذا يمكن أن يتصدى الفكر العقدي لكل الشبه أو التشكيكات والأفكار الشاذة التي تخرج من الداخل أو تأتي من الخارج، ويستأنف دوره الحيوي في المشاركة في علاج مشكلات الناس الراهنة، ويثبت أن غرضه مستمر مع استمرار وجود الإنسان.

ﻫ. تقديم الأسس العقدية على أنه بدونها لا يصح التدين، ويحصل هذا بإظهار الأبعاد العملية لحقائقها، وبذلك تخرج قضايا التوحيد عن أن تكون قضايا صورية يلزم المسلم تصديقها، وأما سلوكه فلا يدخل في البناء العقدي. ولقد سبق إلى القول بهذا أبو الحسن الأشعري من المتكلمين والفارابي (توفي 339ﻫ) من الفلاسفة؛ فأما أبو الحسن فقد أدرج إلى المباحث العقدية في كتابه “مقالات الإسلاميين” مباحث عملية، وأما الفارابي فقد عرف علم الكلام بقوله: “صناعة الكلام ملكة يقتدر بها الإنسان على نصرة الآراء والأفعال المحدودة التي صرح بها واضع الملة، وتزييف كل ما خالفها بالأقاويل[27]“. ويبدو أنه يريد بالآراء قضايا التوحيد وبالأفعال قضايا الشريعة.

وهذا هو المقترح أن يوضع حد للانفصال المتوارث بين السلوك البشري والمرجعية العقدية، باستحضار أصول التوحيد واستصحابها في كل المسائل العملية؛ فيتم مثلا توضيح حرمة الربا ببيان مضارها الاقتصادية وسوء عاقبة من يتعامل بها، وكذلك الأمر بالنسبة لحرمة الزنا والخمر وغيرها من المحرمات التي ينبغي أن يتدخل فيها علم التوحيد لمعالجتها لا من حيث تفاصيلها الفقهية، ولكن من حيث بيان خطورتها في هدم رباط العبودية وذلك لأن العمل  داخل في الإيمان، ‏وقد جعل الله تعالى أعمال الجوارح مصداقاً لما في القلوب بقوله سبحانه: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾(آلعمران: 31).‏ وقوله: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ (البقرة: 176).

وأحسب أن تدريس علم التوحيد بهذه الصورة يتحقق به مجموعة أمور منها:

ـ تعلم حقيقة التوكل، فيسلم المرء وجهه وقلبه لله وحده، وفي ذلك حفظ قلبه من الهواجس والتردد والتخوفات، وفي ذلك صحة قلبه وسلامته من البوائق كالطيرة والشعوذة والسحر التي تفسد على الناس قلوبهم وعقولهم.

ـ التحفيز على العمل في إطار الفضائل، ذلك أن من تيقن أن عمله لا يضيع، وأنه مجازى على كل صغيرة محاسب عليها؛ لا شك أنه سيغطي ويضحي، وأما من لا يرى على عمله جزاء فلا يندفع إلى عمل إلا لضرورة، ويقوم به متكاسلا.

ـ معرفة الإنسان موقعه الصحيح في الكون، فينسجم مع كل المخلوقات، ويكون صالحا لا يعتدي ولا يظلم. ومن لم تصح عقيدته يضر ولا ينفع ﴿وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾ (البقرة: 203).

الهوامش

  1. يراد بعلم التوحيد العلم الذي يبحث في جملة من القضايا التي يجزم بها المرء عن دليل يزيل كل لبس.
  2. ذكر الإمام محمد عبده أن هذا العلم “يسمى علم الكلام” ينظر رسالة التوحيد، ص21.
  3. يمكن أن يتوحد الناس على مصالح ومشاريع تجمعهم، لكن سرعان ما يتفرقون بذهاب تلك المصالح أو انتهاء تلك المشاريع، بينما العقيدة الصحيحة حين تستقر في القلوب لا تتقهقر مع الزمن، من أجل ذلك استحقت أن تكون الأساس في توحيد الناس.
  4. الحديث رواه الإمام مسلم في كتاب العلم وأبو داود في كتاب السنة.
  5. المتنطع هو الذي يدقق نظره في الفروق البعيدة، أو الذي يبحث فيما لا يعنيه.
  6. مما يدل على نهيه -عليه الصلاة والسلام- عن كثرة السؤال قوله فيما أخرجه مسلم: “لا يزال الناس يسألون حتى يقال: هذا الله خلق الخلق، فمنخلق الله؟ فمن وجد من ذلك شيئاً، فليقل آمنت بالله”.
  7. صحيح مسلم بشرح النووي: كتاب الإيمان، وسنن الترمذي: كتاب الإيمان.
  8. يدل على هذا ما رواه الإمام مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك قال نهينا أن نسأل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عن شيء فكان يعجبنا أن يجيء الرجل من أهل البادية العاقل فيسأله ونحن نسمع..” صحيح مسلم بشرح النووي: كتاب الإيمان. وأيضا ما رواه الترمذي عن أنس قال كنا نتمنى أن يأتي الأعرابي العاقل، فيسأل النبي، صلى الله عليه وسلم، ونحن عنده… سنن الترمذي: كتاب الزكاة.
  9. أي أول من قال بنفي القدر.
  10. هو معبد بن عبد الله بن عويمر الجهني، كان ممن ثار مع ابن الأشعث، قتله الحجاج سنة 80ﻫ. (ترجمته في السير: ج4/185)
  11. أي يتتبعونه وقيل يجمعونه كما ورد في شرح صحيح مسلم للنووي.
  12. أي مستأنف لم يسبق به قدر ولا علم من الله تعالى، وإنما يعلمه بعد وقوعه.
  13. صحيح مسلم بشرح النووي.
  14. وهذا ما أنكرته القدرية و”زعمت أنه سبحانه وتعالى لم يقدرها ولم يتقدم علمه سبحانه وتعالى بها، وأنها مستأنفة العلم أي إنما يعلمها سبحانه بعد وقوعها”.
  15. شرح النووي على صحيح مسلم: شرح الحديث رقم 93، ج1/101.
  16. مجموعة الفتاوى: ج2/37.
  17. ابن الفيم، “الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة”،ج1/157-158.
  18. ابن تيمية، “نقض المنطق”، ص61.
  19. المصدر نفسه.
  20. المصدر نفسه.
  21. المنقذ من الضلال، ص60.
  22. المصدر نفسه.
  23. لقد كان دأب الصحابة تصديق ما أخبر به رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فيما لا تدركه العقول، وعلى منهجهم سار تابعوهم، والأمثلة التي تدل على هذه كثيرة نذكر منها ما ورد في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بينما رجل يسوق بقرة له قد حمل عليها التفتت إليه البقرة، فقالت: إني لم أخلق لهذا ولكني إنما خلقت للحرث فقال الناس سبحان الله تعجبا وفزعا أبقرة تكلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإني أؤمن به وأبو بكر وعمر، قال أبو هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بينا راع في غنمه عدا عليه الذئب فأخذ منها شاة فطلبه الراعي حتى استنقذها منه فالتفت إليه الذئب، فقال له: من لها يوم السبع يوم ليس لها راع غيري، فقال الناس: سبحان الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإني أؤمن بذلك أنا وأبو بكر وعمر؛ يظهر من هذا الحديث تعجب الناس من صحة ما ورد فيه، ولكن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أخبرهم بأن أبا بكر وعمر بن الخطاب على يقين مما قاله، وكذلك حصل من أبي بكر الصديق في حديث الإسراء، فقد اشتهر قوله لمن أخبره به: “فاشهد لئن كان قال ذلك لقد صدق”، فسبق تصديقه بالخبر السؤال عن إمكان وقوعه.

وكذلك ورد عن الزهري حين سئل عن معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: “ليس منا من شق الجيوب” وخبره في كتاب التوحيد من صحيح البخاري. فقال: “من الله العلم، وعلى رسوله البلاغ، وعلينا التسليم”.

  1. المسند: رقم الحديث 1649. مسند أهل البيت.
  2. تأويل مختلف الحديث، ص13.
  3. سنن أبي داود، كتاب الأيمان والنذور.
  4. إحصاء العلوم، ص131.
الوسوم

د. عبد الرحمن العمراني

كلية الآداب، مراكش

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق