وحدة الإحياءمفاهيم

ولقد يسّرنا القرءان للذكر..

رتع الإنسان خلال القرن الماضي في مراتع النسبية إلى الضجر، وعاقر الوجودية إلى السأم، ومارَس طولا وعرضا استقلاليته عن الوحي إلى الملل، وطفق تحت أزِّ حاجاته الفطرية، وتطلباته الفكرية، ومقتضيات العولمة، وسؤالات الهوية، والتمزقات الاجتماعية، والقلق الكوني العام من جراء نماء العلوم والاقتصاد والسياسات، في الأغلب، بعيدا عن الأخلاق والقيم، طفق الإنسان من جراء كل ذلك يتساءل بحثاً عن مسارات جديدة للحضارة ولعيشه فوق هذا الكوكب فرديا وجماعيا. فطفا من ثَمَّ الاهتمامُ بالدين وبالوحي وبالروحانيات فوق سطح الاهتمام من جديد، وبرزت أضربٌ من التعامل مع الوحي تختلف سطحية وعمقا، وبساطة وتركيبا، ولطفا وعنفا، لم يزد بعضها الناس إلا خبالا والطين إلا بلة، وشروط عيش الإنسان فوق هذا الكوكب إلا عسرا.

ومن ثم فإنه ينفتح حين طرح سؤال: أية مناهج للاستمداد من الوحي في السياق الإسلامي؟ دربان متكاملان من التفكير على الأقل:

فأما الأول فينطلق من يقينيات الوحي ذاتها، إذ يقول الله عز وجل: (إن هذا القرءان يهدي للتي هي أقوم) (الإسراء: 9)، وحالُ المسلمين اليوم ليست بالتي هي أقوم؛ ممّا يفيد حتما وجود اختلال منهجي ومنهاجي في التعاطي مع الوحي والاستمداد منه علمياً وعملياً. تنطرح، طبعا، هاهنا أسئلة أخرى مثل: ما هي “التي هي أقوم”؟ وما مقاييس تحديد “التي هي أقوم”؟ ومن يُحدّد “التي هي أقوم”؟ والحاصل أن الجواب عن هذه الأسئلة الثلاثة جميعها كامنٌ في الوحي ذاته، وليس يقتضي إلا الكشف والتحرير.

ومن الهاديات بهذا الصدد ما يَبرز حينَ تدبر قصص الأنبياء مع أقوامهم المختلفين من تغيّر الأولويات والمقاربات الدعوية والعملية، بسبب تغير الشروط والسياقات والمقتضيات. ومن الهاديات كذلك بروزُ مرحلة الختم بشمولها وعمومها ومرونتها وانفتاحها ومسؤولية إنسانها الكبيرة. كما أن منها قيام تيسير الوحي (ولقد يسرنا القرءان للذكر) (القمر: 32) على كونه بناءً آياتيا بصائريا موائما لعقل الإنسان ووجدانه يسهل على الإنسان استنطاقه والتحاور معه صُعُدًا نحو آفاق معرفية ومنهاجية واسعة جدَّا (إنه لقرءان كريم) (الواقعة: 77)، ومن سمات كرمه هذا العطاء غير المجذوذ.

كل ذا يفيد أن مناهج المقاربة فيها اختلالات لا يمكن، دون تجاوزها، استخلاص “التي هي أقوم” مما يستدعي فتحَ مسارات مراجعات واستدراكات عالمة رصينة لاستئناف مسيرة بناء علوم التيسير وتجديدها.

وأما الدرب الثاني فهو أننا حين ننظر في القرآن المجيد نجد ضربين من العلوم: علوم التسخير انطلاقا من قول الله تعالى: (وسخر لكم ما في السماوات وما في الاَرض جميعا منه. إن في ذلك ءلايات لقوم يتفكرون) (الجاثية: 13)، وعلوم التيسير انطلاقا من قوله تعالى: (ولقد يسرنا القرءان للذكر فهل من مدّكر) (القمر: 32).

علومُ التسخير تُدرَك من خلال النظر والتفكر (ويتفكرون في خلق السماوات والاَرض) (ءال عمران: 191). وعلوم التيسير يمكن استخلاصها انطلاقا من التدبر (أفلا يتدبرون القرءان أم على قلوب اَقفالها) (محمد: 25).

والملاحظ هو أن علوم التسخير تطوّرت، وعلوم التيسير لم تتطور بالشكل ذاته؛ فعلوم التسخير تطورت بفضل الحوار المستدام بين الإنسان والكون، واجتهاد الإنسان من أجل استخلاص معالم الأبجد الكوني، واللغة التي بها يتم الحوار مع الكون، ممّا أدى إلى انفجار كل هذه العلوم التي نراها اليوم من الصناعات البسيطة إلى السبرنيطقا (la cybernétique) في تعقيداتها الكبرى، وكذلك في مجالات (Synthetic life)؛ أي الحياة الاصطناعية التركيبية…

وتََبرز من خلال النظر في هذا الصوب قضية أخرى، دائما في ارتباط مع عدم تطور علوم التيسير، وهي وجود نبض معرفي رائع عند علماء الصدر الأول من الصحابة والتابعين وأتباع التابعين… حيث فُتح ملف علوم التيسير، كما رأيناه مع الإمام الشافعي في كتابه “الرسالة”، والإمام مالك، والإمام أبي حنيفة، والفقهاء السبعة قبل ذلك، حيث برزت بوادر علوم الفقه وأصوله؛ وعلوم القرآن والحديث واللغة والكلام وعلوم أخرى شكلت، بالفعل، مداخل للاستمداد من الوحي، ومن القرآن المجيد.

 لكن بعد فترة قليلة من ذلك رأينا انحسارا غير قليل في هذه الجهود وفتورًا في ذاك النبض؛ إذ حصل عجز اللاحق أمام عمل السابق بسبب تعظيم وتعزير في أصلهما محمودين مباركين، غير أن ممارستهما غير الراشدة قد تؤدي إلى عدم التكامل بين مختلف أجيال الأمة وراء أسوتها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبدأت تبرز عبارات مثل “ليس في الإمكان أبدع مما كان” وأضحت كثير من الجهود إثر ذلك، شروحا لأعمال المتقدمين أو تصنيفا لها أو حواشي عليها أو تذييلا على الحواشي.

مع أننا حين ننعم النظر نرى بجلاء أن ثمة واجبا دينيا يتمثل في التجديد المستمر، وهو الذي يعبر عنه حديث رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، الذي يقول فيه: (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين). [رواه الإمام أحمد وصححه ورواه البيهقي]. فالتجديد في علوم التيسير في كل هذه المناحي أمرٌ فريضة على أهل الأمانة من العلماء، غير أننا نجد أن هذه الوظيفة لم يُستمر في القيام بها على وجه الكفاية كما يحض على ذلك هذا النص الكريم وأمثاله..

يسجَّل أيضا في تاريخنا العلمي بهذا الصدد التباس بخصوص ماهية الفهوم السليمة، حتى كأنه ينطبق علينا قول القائل:

وكلٌ يدعي وصلا بليلى   وليلى لا تقر لهم بذاكا

ممّا يقتضي نهضة لتجريد معالم مناهج الاستمداد من الوحي وتوضيحها بجلاءٍ برهاني يتكامل عبر الزمن حتى تضيق مجالات الالتباس والغموض.

وثمة قضية أخرى، تتمثل في الحاجة الماسة إلى إعادة نَظْم تراثنا حتى يكون سهل المتناول متعقَّل المعنى والمبنى، وينطبق عليه قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك) [رواه ابن ماجه عن العرباض بن سارية]. فالإرث مبارك وغني وواسع، والمؤسف أن نرى شيوع التعامل معه في أغلب الأحيان بمنهج الاستظهار والترداد والتبرك والسرد فقط. والسؤال هو كيف يمكن أن نحقق النقلة من هذه الحالة إلى حالة الاعتبار والوظيفية؟ وهذا، لاشك، سيفرض بدوره سلسلة من المراجعات، ويقتضي جملة من الجهود أَزِفَ أوان القيام بها.

إن التجديد في هذه المناهج هو الذي من خلاله يمكن أن يتم إسهامُ المسلمين وشراكتهُم في تشكيل التاريخ المعرفي والحضاري الكوني، انطلاقا من قوة اقتراح قابلة للفهم وللفحص، متأبّية على الردّ والتفنيد وإلا فإن هذا التاريخ المعرفي والحضاري العام سوف يستمر في التشكل ونحن غيابٌ هذا الغياب الجزئي..

إن مجلة الإحياء إذ تفتح ملف هذه القضية الكبيرة لتدعو المهتمين من علماء وعالمات إلى الإسهام في مناقشتها وإغناء البحث فيها، في أفقين متكاملين: أفق العلم الناجع النافع وأفق العمل الحكيم المتزن.

Science

الدكتور أحمد عبادي

• الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق