وحدة الإحياءدراسات عامة

ولاية المظالم في الإسلام

 ذ. الحسين العمريش

(العدد 20)

 1. التعريف بالمظالم

أ. المظالم لغة: جمع مظلمة، مصدر ظلم يظلم، وهو اسم: لما أخذ بغير حق، والظلم وضع الشيء في غير موضعه الشرعي[1]، وهذا التعريف يخرج الغصب الذي هو أخذ حق الغير بغير حق[2].

ب. المظالم اصطلاحا: عرفها الإمام الماوردي فقال: “نظر المظالم: هو قود المتظالمين إلى التناصف بالرهبة، وزجر المتنازعين عن التجاحد بالهيبة”[3].

والمظالم تعبير اصطلاحي يدل على الظلم، وتعدي كبار أصحاب النفوذ في المجتمع أو الولاة أو الجباة أو الحكام، على أفراد الشعب، وكان لبعض ما يختص به نظر والي المظالم ما لا يحتاج إلى ظلامة متظلم، بل يقوم بالنظر فيه من تلقاء نفسه، وكانت محكمة المظالم تعقد برئاسة الخليفة أو الوالي أو من ينوب عن أحدهما من كبار رجال الدولة، ويشترط في ذلك صراحة تقليد الخليفة وتوليته لمن تجتمع فيه الشروط المطلوبة في مظالم الناس.

2. النهي عن الظلم والتظالم في القرآن والسنة

قال الله تعالى: ﴿ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون، إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار، مهطعين مقنعي رؤوسهم لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء﴾ [إبراهيم: 42-43]، وقال سبحانه: ﴿وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب، فيقول الذين ظلموا ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك، ونتبع الرسل، أو لم تكونوا أقسمتم من قبل مالكم من زوال، وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال﴾ [إبراهيم: 44-45]. وقال سبحانه: ﴿ويضل الله الظالمين، ويفعل الله ما يشاء﴾ [إبراهيم: 27].

قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: “المسلم أخ المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة، فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة”[4].

قوله: “لا يظلمه”، هو خبر بمعنى الأمر، فإن ظلم المسلم للمسلم حرام، وقوله: لا يسلمه” أي: لا يتركه مع من يؤذيه ولا فيما يؤذيه، بل ينصره ويدافع عنه، وهذا أخص من ترك الظلم وقال عليه الصلاة والسلام: “الظلم ظلمات يوم القيامة”[5]. وقال: “اتق دعوة المظلوم، فإنها ليس بينها وبين الله حجاب”[6]. وقال أيضا: “إنما أنا بشر، وإنه يأتيني الخصم، فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض فأحسب أنه صدق، فأقضي له بذلك، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار، فليأخذها أو ليتركها”[7].

هذا وقد حرم الله تعالى الظلم على نفسه فقال: ﴿وأن الله ليس بظلام للعبيد﴾ [آل عمران: 182، الأنفال: 51، الحج: 10]، أي لا يظلم أحدا من خلقه، بل هو الحكم العدل الذي لا يجور تبارك وتعالى وتقدس وتنزه، الغني الحميد[8]، ولهذا جاء في الحديث القدسي الذي رواه مسلم من رواية أبي ذر أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: قال الله تعالى: “يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا… يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه”[9].

وفي الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة”[10]، قال النووي في شرحه للحديث، إن المقصود بالظلمات: “الشدائد، أو هي عبارة عن النكال والعقوبات”[11].

3. أصل النظر في المظالم 

إن الظلم قديم قدم الإنسان، فمنذ أن وجد الإنسان على وجه الأرض، وجد الظلم معه، فكان يلجأ إلى الظلم لفرض هيبته، وجبروته على فرد أو مجموعة أفراد، وقد يجد من يزجره ويردعه، أو من يوافقه وينهج طريقته، وقد عم الظلم والتظالم أرجاء الجزيرة العربية قبل البعثة، ومن نماذجه ما يسمى بحلف الفضول الذي كان من أسباب انعقاده الظلم الذي وقع لرجل من اليمن، قدم مكة لبيع بضاعة له، فاشتراها منه العاص بن وائل، وكان ذا قدر بمكة وشرف، فحبس عنه حقه، فاستعدى عليه الزبيدي (صاحب السلعة)، الأحلاف، عبد الدار ومخزوما وعدي بن كعب وغيرهم، فأبوا أن يبعثوه على العاص، وزجروه، وانتهروه، فلما رأى الزبيدي ذلك منهم، وأحس بالظلم أوفى على أبي قبيسة (وهو جبل بمكة)، عند طلوع الشمس، وقريش في أنديتهم حول الكعبة، فصاح بأعلى صوته:

يا آل فهر لمظلوم بضاعته                  ببطن مكة نائي الدار والنفر

فقام في ذلك الزبير بن عبد المطلب، وقال: ما لهذا مترك، فاجتمعت هاشم وزهرة، وتميم في دار عبد الله بن جدعان، أحد رجال الكرم والجود والإطعام والضيافة في ذلك العهد، فصنع لهم طعاما، وتحالفوا في ذي القعدة في شهر حرام قياما، فتعاقدوا، وتعاهدوا بالله ليكونن يدا واحدة مع المظلوم على الظالم، حتى يؤدى حقه، فسمت ذلك الحلف حلف الفضول ثم مشوا إلى العاص بن وائل، فانتزعوا منه بضاعة الزبيدي، فدفعوها إليه، وفي هذا الحلف قال الزبير بن عبد المطلب:

إن الفضول تحالفوا وتعاقدوا                    ألا يقيم ببطن مكة ظالم

أمر عليه تعاهدوا وتواثقوا                    فالجار والمعتر فيهم سالم[12]

فغاية هذا الحلف شريفة، ولذلك كان الرسول، صلى الله عليه وسلم، بعد أن هداه الله بالرسالة يفخر به ويعظم من شأنه، حتى إنه لو دعاه به أحد لأجابه كما يدعو لمكارم الأخلاق وحسن المعاملة، والإسلام جاء ليحقق تلك المبادئ السامية حيث قال، عليه الصلاة والسلام: “حضرت مع عمومتي في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما أن لي به حمر النعم، ولو دعيت في الإسلام لأجبت”[13].

وقد نظر الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه، فنظر في الشرب الذي تنازعه الزبير بن العوام ورجل من الأنصار[14]، ولم ينتدب للمظالم من الخلفاء الراشدين أحد؛ لأن الناس إنما يقودهم التناصف إلى الحق، ويزجرهم الوعظ عن الظلم، وإن الناس إذا اشتبه عليهم أمر، وضحه لهم حكم القضاء، وقد نظر عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب في المظالم، ولكن لم يعينا يوما لسماع المظالم فيه، وأول من أفرد للمظالم يوما يتصفح فيه قصص المتظالمين هو عبد الملك بن مروان (68ﮪ)، ثم جلس للمظالم بعده الخليفة عمر بن عبد العزيز(101ﮪ) وكان قويا في الحق، ودفع الظلم عن المظلوم، فرد مظالم بني أمية على أهلها، حتى قيل له، وقد شدد عليهم: “إنا نخاف عليك من ردها العواقب” فقال: “كل يوم أتقيه وأخافه دون يوم القيامة لا وقيته”[15]، وقد اقتفى بنو العباس أثر الدولة الأموية، فكان أول من جلس لها الخليفة المهدي، ثم الهادي، ثم الرشيد، ثم المأمون.

وقد كتب أبو يوسف في رسالته “الخراج” إلى الخليفة هارون الرشيد: “يا أمير المؤمنين تقرب إلى الله سبحانه وتعالى بالجلوس إلى مظالم رعيتك، تسمع من المظلوم، وتنكر على الظالم، ولعلك لا تجلس إلا مجلسا أو مجلسين، حتى يسري ذلك في الأمصار والمدن، فيخاف الظالم وقوفك على ظلمه”[16].

4. شروط النظر في المظالم

يشترط في والي المظالم عدة شروط منها كما يقول الماوردي: “أن يكون جليل القدر، نافذ الأمر، عظيم الهيئة، طاهر العفة، قليل الطمع، كثير الورع، لأنه يحتاج في نظره إلى سطوة الحماة وثبت القضاة، فاحتاج إلى الجمع بين صفتي الفريقين، وأن يكون بجلالة القدر، نافذ الأمر في الجهتين”[17].

وكل ذلك حتى يتمكن من أن يوقف الفساد والظلم، ولذلك أيضا كان يقوم بهذا القضاء العالي الخليفة أو نوابه، ولهذا يعين صاحب المظالم يوما يقصده فيه المتظلمون، إذا كان من غير المتفرغين للنظر في المظالم، وحتى يستطيع تأدية أعماله الأخرى، أما إذا كان من غير المتفرغين لأعمال المظالم، نظر فيها طوال الأسبوع، وهذا ما يعنيه الماوردي بكلامه: “فإذا نظر في المظالم من انتدب لها، جعل لنظره يوما معروفا يقصده فيه المتظلمون ويراجعه فيه المتنازعون- ليكون ما سواه من الأيام موكولا إليه من السياسة والتدبير، إلا أن يكون من أعمال المظالم المتفردين لها فيكون مندوبا للنظر في جميع الأيام”[18].

5. اختصاصات قاضي المظالم 

ينظر قاضي المظالم في قضايا منها:

– تعدي الولاة على الأفراد والجماعات مستهدفا في ذلك إنصافهم من ظلم الولاة وتحقيق العدل.

– ينظر في جباية عمال الخراج للضرائب إذا توسعوا فيها.

– يتصفح أحوال كتاب الدواوين وما وكل إليهم، إذا أثبتوا في دفاترهم عمدا أو خطأ ما يخالف الحقيقة.

– ينظر في رد الغصوب وهي ضربان:

أ. غصوب سلطانية تغلب عليها ولاة الجور وذوو النفوذ والبطش.

ب. غصوب تغلب عليها ذوو الأيدي القوية، وتصرفوا فيها تصرف الملاك بالقهر والغلبة.

– النظر في الوقوف وهي نوعان:

أ. عامة: فيبدأ بتصفحها ليجريها على سبيلها.

ب. خاصة: وهي تتوقف على تظلم أهلها.

– تنفيد أحكام القضاة التي استحال عليهم تنفيذها لعلو قدر المحكوم عليه وقوة يده.

– النظر فيما يعجز عن نظره ولاة الحسبة في المصالح العامة.

– مراعاة العبادات كالجمع والأعياد والحج من تقصير فيها، وإخلال بشروطها.

– النظر بين المستشارين والحكم بين المتنازعين.

6. النظر بين نظر المظالم ونظر القضاة

يقول الماوردي في كتابه الأحكام السلطانية: “إن الفرق بين نظر المظالم ونظر القضاة عدة أوجه منها:

1. لناظر المظالم من فضل الهيبة وقوة ما ليس للقضاة.

2. الناظر في المظالم أفسح مجالا وأوسع مقالا.

3. يستعمل من فضل الإرهاب وكشف الأسباب والإمارات الدالة ما يضيق على الحكام، فيصل به إلى ظهور الحق ومعرفة المبطل من الحق.

4. أن يقابل من ظهر ظلمه بالتأديب، ويأخذ من بان عدوانه بالتقويم والتهذيب.

5. إذا سأله أحد الخصمين فصل الحكم، فلا يسوغ أن يؤخر الحاكم، ويسوغ أن يؤخره والي المظالم عند اشتباه أمرها ورغبته في التأني.

6. له رد الخصوم إذا أعضلوا وساطة الأمناء ليفصلوا التنازع بينهم صلحا عن تراض وليس للقاضي ذلك إلا عن رضى الخصمين بالرد.

7. أن يفسح المجال في ملازمة الخصمين إذا وضحت أمارات الجاحد، ويأذن في إلزام الكفالة فيما يسوغ فيه التكفل لينقاد الخصوم إلى التناصف ويعدلوا عن التجاحد والتكاذب.

7. علاقة الحسبة بإحكام المظالم

تشبه الحسبة المظالم من وجهين، وتفترق عنها من وجهين:

أ‌. يجمع بين الحسبة والمظالم وجهان:

1. موضوعهما مستقر على الرهبة المختصة بسلاطة السلطنة وقوة الصرامة.

2. ثم تعرضهما لأسباب المصالح والتطلع إلى إنكار العدوان الظاهر.

ب. ثم يفترقان في وجهين:

1. أن النظر في المظالم موضوع لما عجز عنه القضاء، ولذلك كانت رتبة المظالم أعلى، ورتبة الحسبة أخفض.

2. يجوز لوالي المظالم أن يحكم ولا يجوز ذلك لوالي الحسبة.

8. الوجه الحالي لولاية المظالم في الدولة الحديثة  

اختلفت أقوال الفقهاء والمؤرخين المعاصرين وكل الباحثين حول السلطة أو المؤسسة التي تمثل الامتداد والاستمرارية الفعلية والحقيقية لولاية المظالم في العصر الحديث في حين ذهبت طائفة أخرى إلى القول باختفائها تماما من نطاق الحياة السياسية، والعدلية، والإدارية، والقضائية للمسلمين في هذا العصر، إلا أن الكل يجمع على القول بأن ولاية المظالم كلفظ يحيل على سلطة عدلية معينة ارتبط وجودها بنظام سياسي وبحقبة تاريخية معينة؛ أي بما كان عليه الأمر آنذاك، من طريقة رفع الشكوى أو الشكاية إلى والي المظالم (حيث كانت مباشرة ومشافهة في أغلب الأحيان)، ومن ناحية المكان الذي كانت تنعقد فيه الجلسة (المسجد، قصر الخليفة، قبة المظالم، محكمة المظالم…) وتركيبة مجلسه الذي لا يمكن أن ينعقد إلا بحضور خمس فئات لا غنى عنهم في هذا الأمر وهم:

1. الحماة والأعوان.

2. القضاة والحكام.

3. الفقهاء.

4. الكتاب.

5. الشهود، وغيرها من الأشكال التاريخية الأخرى.

وقد حاول بعض المؤرخين والباحثين تشبيه هذه الولاية ببعض الأجهزة العدلية القائمة في العصر الحديث، فذهب صاحب تاريخ الإسلام السياسي إلى القول بأن الامتداد التاريخي لولاية المظالم في هذا العصر هي: محكمة الاستئناف العليا حيث يقول: “وكانت هناك سلطة قضائية أعلى من سلطة القاضي والمحتسب هي سلطة قاضي المظالم، ولا غرو فقد كانت محكمة المظالم بمثابة محكمة الاستئناف العليا في هذا العصر، تعرض عليها القضايا إذا عجز القاضي عن حكمه في رجل من علية القوم”[19] وهو ما أكده في نفس الكتاب في جزء آخر حيث قال: “كان للمظالم ديوان خاص يعرف بديوان المظالم، وهو هيئة قضائية عليا تشبه محكمة الاستئناف في الوقت الحاضر”[20]، وإلى نفس القول ذهب المرجاني في وفيات الأسلاف حين قال: “النظر في المظالم وظيفة القاضي ممتزجة من السطوة السلطانية ونصفة القضاة، وذلك أصل في مجالس الاستئناف والعدلية”[21].

ولم يبتعد بعض الفقهاء المغاربة عن هذا التصور كثيرا، ومنهم الشيخ عبد السلام الهواري حين قال بأن محكمة المظالم هي محكمة القائد بالقرى، أو الباشا بالمدن، وهذا قوله: “وبه تعلم أن صاحب المظالم هو المعروف عندنا اليوم بالقائد كما قاله التسولي، وغاية ما هناك أنه ليس بيده الآن إلا بعض هذه الأمور كتنفيذ ما وقف من أحكام القضاة، لأن القاضي يحكم على الخصم، وإذا امتنع يقول: اذهبوا به إلى القائد، ولأنه إذا ولي قاضي في بلد ورد كتاب السلطان على قائد البلد يشد عضده، وتنفيذ أحكامه، وكالفصل بين المتشاجرين فإنه لازال بيده، وكالغصوب غير السلطانية وباقي الأمور، وهي بيد الخليفة الأعظم”[22].

لكن الشيخ سيدي المهدي الوزاني يختلف تماما مع رفيقه سيدي عبد السلام الهواري في هذه النقطة، وينتقد بشدة قوله أن القائد اليوم هو والي المظالم بالأمس، ويرد عليه بقوله: “لا نظر فيها للقائد اليوم بل هو أولى بمن ينظر فيه من أكابر الظلمة[23]، وأورد مولاي هاشم العلوي للشيخ سيدي المهدي الوزاني، مقطعا من إحدى حاشياته يذهب فيه إلى نفس الموقف، “إن صاحب المظالم هو الحاكم على القائد أو القاضي أو المحتسب أو الشرطة أو غيرهما ممن لا يقدر على دفعه”[24].

ويوجد فريق من المؤرخين والباحثين من ذهب أكثر من هذا حين صرح بأن ولاية المظالم اندثرت وتلاشت واختفت، وهو قول ابن خلدون في المقدمة حيث قال في معرض حديثه عن ولايتي المظالم والشرطة: “…ثم تنوسي شأن هاتين الوظيفتين في الدول التي تنوسي فيها أمر الخلافة، فصار أمر المظالم راجعا إلى السلطان كان له تفويض من الخليفة أو لم يكن…”[25]، ووافقه الباحث المغربي مولاي هاشم العلوي على هذا الأمر فقال: “وهذا اليوم مفقود إلا أن يكون هو السلطان، والحق أن هذه الولاية بخصائصها المقررة سابقا معدومة الآن، فليست تنطبق على محكمة الاستئناف ولا على محكمة القائد ولا على صاحب المدينة وإنما تنطبق على السلطة العامة”[26]“.

فإذا كان ابن خلدون قد صرح باندثار وتلاشي ولاية المظالم بسبب تلاشي وتصدع الخلافة كنظام سياسي وتاريخي محدد، فإن موقفه هذا لم يمنعه من القول بأن أمر المظالم اليوم موكول إلى السلطان، ووافقه كما سبق صاحب الأطوار، والذي اعتبر ما يسمى: “بمكتب الأبحاث والإرشادات”، المؤسس سنة 1956م، بمثابة قنطرة للعبور تربط بين السلطان وشكاوي رعيته التي تضمن في مذكرة للرفع إليه دوريا في كل شهر.

أما الدكتور فاروق النبهان، وغيره من المؤرخين والباحثين، ذهب إلى القول بالاندثار الكلي لهذه الولاية، دون فصل في الأمر، ودون أن يشير إلى احتفاظ السلطان أو الأمير أو رئيس الدولة ببعض معالمها، ومهامها كما قال الآخرون، وتساءل في نهاية مقالته قائلا: “فمتى نستطيع اليوم أن ننشئ ديوانا للمظالم لا تنظر فيه مظالم أفراد وإنما تنظر فيه مظالم أمة؟[27].

وإذا كانت ولاية القضاء انطلاقا من هاته الأقوال والآراء، وكذلك بخصائصها ومميزاتها التاريخية المعروفة قد اندثرت واختفت، فإن هذا ليس مبررا كافيا ليمنع من الاعتراف بوجود العديد من المؤسسات والسلطات والهيئات التي مازالت تعمل على تحقيق نفس المضمون الأصلي والسامي لولاية المظالم، إلا أن النظر الموضوعي في هذا الأمر يحتم التسليم بأن الاختصاصات لوالي المظالم كما ذكرها الماوردي وغيره  من الفقهاء المجتهدين قد توزعت وتقسمت بين العديد من المؤسسات والهيئات السلطوية  والمدنية حاليا، تماشيا مع روح العصر ومستجداته، خصوصا ما يتعلق بالتحولات  الطارئة على أشكال إدارة الشؤون العامة للوطن والمواطنين الشيء الذي يوحي بأن هذه الولاية الدينية كما عرفها الناس قديما ذهبت إلى غير رجعة، وبالتالي فلا مجال للدعوة إلى إقامة ديوان أو قبة أو محكمة للمظالم كما عرفها التاريخ، يسيجها الحراس ويتوسطها الخليفة محاطا بالفئات الخمسة لاستقبال العديد من المواطنين الآتين من مختلف  المناطق قصد الاستماع إلى شكاويهم حول الظلم والجوع والفساد… الناتج عن الممارسات اللاشرعية واللاقانونية لبعض الفئات المالكة للسلطة والنفوذ والمال،  فالتقييم الناجع والسديد يفرض علينا التعاطي مع مثل هذه الأمور بمنظور واقعي يراعي  الشروط الذاتية والموضوعية للشيء موضوع البحث بعدم فصله عن سياقه التاريخي، وهذا الكلام لا ينبغي أن يفهم منه أنه دعوة إلى إقبار روح هذه الولاية الدينية، وأهدافها  السامية، أو دعوة لتهميش أو تجاهل الدور الكبير الذي لعبته تاريخيا في إعلاء لواء الحق والعدل، والضرب على أيدي الظلمة، وحفظ النظام، وتحقيق المساواة بين كل أفراد المجتمع، بل ينبغي الرجوع إلى تصفح تاريخ هذه الولاية بكل خصائصها ومميزاتها وأبعادها الإنسانية الكبرى، ليس للانبهار بما حققته في هذا المجال أو غيره، بل للتدبر واستشراف العبر منها والخلاصات لاتخاذها كرافد للانطلاق والتفعيل والعطاء، وبالتالي تحقيق العدل والمساواة الشاملين، إن هذه الغاية النبيلة ليست بالشيء المستحيل إذا تكاثفت جهود الأمة حكاما ومحكومين بالعمل على تصحيح مسار المؤسسات والهيئات وكل الفعاليات المرتبطة من قريب أو بعيد بالمجال السياسي والإداري والعدلي خصوصا بتنقيتها من شوائب الفساد ومختلف المرضيات المدمرة للفرد والمجتمع، وزجر من يقف وراء بثها والاستفادة من انعكاساتها الوخيمة لصالح أهدافه الشخصية.

إن المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان بالمغرب، بشكله ومضمونه الحالي يحمل النصيب الأوفر من معالم هذه الولاية إذ سبق أن أعلن عن تأسيسه المرحوم جلالة الملك الحسن الثاني، طيب الله ثراه، في خطاب وجهه للشعب بتاريخ 8 ماي 1990م، وقال جلالة الملك رحمه الله: “… قررنا أن تكون جلستنا هذه مخصصة لا لخلق دولة القانون ولكن لاستكمال دولة القانون لإعطاء المواطنين الوسيلة السريعة والجدية وذات الفاعلية للدفاع عن حقوقهم كمواطنين إزاء الإدارة والسلطة والدولة نفسها”.

وبمقتضى التعديلات الأخيرة أصبحت له سلطة تقديرية مضافة إلى سلطته الاستشارية الأصيلة حسب ظهير 10 أبريل 2001م، وبمقتضاه أيضا يصبح المغرب ملتزما بالمادة الثانية من العهدين الدوليين للحقوق المدنية والسياسية وكذا الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وهذا يعني أن هذا المجلس سيكون مكلفا برد مظالم  المواطنين بشتى أنواعها ومستوياتها وأبعادها، تلقائيا أو بطلب من الضحايا أو أسرهم، مما يؤكد حقيقة مفادها أنه احتل قسطا مهما من نطاق ولاية المظالم، ومع تكييف اختصاصاته في هذا الأمر وفقا لما عرفته المظالم بحد ذاتها من تغيرات على مستوى الوسائل والأشكال والأهداف إلى غير ذلك من التطورات التي لا تتم بمعزل عن تطور المجتمع والدولة والحضارة العربية الإسلامية التي تتأثر بدورها بالمحيط الإقليمي والعالمي بشكل عام سلبا وإيجابا.

ولابد من الإشارة إلى الدور الفعال الذي يلعبه الإعلام كسلطة رابعة في لفت انتباه السلطات العليا والجهات المسؤولة إلى العديد من المظالم المتعددة الأبعاد في المجالات  السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، والثقافية، مع تحسيس الرأي العام وتحفيزه على تحمل مسؤولية في المساهمة من موقعه كمعنى مباشر بهذا المجال، الذي يصلح بصلاحه، ويفسد بفساده، ومن هذا المنطلق تجندت كثير من المنظمات، والجمعيات المدنية اللاحكومية، لتتحمل قسطها الحضاري في رفع الظلم عن الفئات المستضعفة، والأفراد المستهدفين في حقوقهم الأساسية من طرف بعض النافذين في الأجهزة السلطوية، وغيرها من مراكز القوة والضغط في المجتمع.

وبالأمس القريب وفي إطار المبادرات الايجابية للعهد الجديد، تم الإعلان عن إحياء ديوان المظالم من طرف صاحب الجلالة محمد السادس نصره الله وأيده، ليكون له النظر في مجموعة من المظالم المتعلقة بالعديد من حقول الاصطدام الفردي أو الجماعي وليرد هذه المظالم إلى أصحابها تحقيقا لمبدأ العدل والمساواة أمام القانون.

وفي الأخير أقول بأن النظام الإسلامي القضائي تميز بوضع فريد في حرصه على سيادة العدالة على الحكام والمحكومين على السواء، فلقد تضمن القرآن الكريم والسنة  النبوية الشريفة آيات، وأحاديث كثيرة تأمر بالعدل وتدعو إلى القسط بين الناس ودفع الظلم عنهم، وهي غاية إرسال الأنبياء والرسل إلى البشرية. 

الهوامش


1. ابن منظور، لسان العرب، دار صادر، 12/375.

2. ابن حجر العسقلاني، فتح الباري شرح صحيح البخاري، كتاب المظالم، دار الفكر، 3839/5.

3. الأحكام السلطانية، ص: 97.

4. صحيح البخاري، كتاب: “المظالم”، باب “لا يظلم المسلم المسلم ولا يسلمه”. وصحيح مسلم، كتاب: “البر والصلة والأدب”، باب “المسلم أخ المسلم”.

5. صحيح البخاري، كتاب: “المظالم”، باب “الظلم ظلمات يوم القيامة”.

6. صحيح البخاري، كتاب: “المظالم”، باب “الاتقاء والحذر من دعوة المظلوم”.

7. انظر تفسير ابن كثير، 2/389.

8. انظر تفسير ابن كثير، 2/389.

9. صحيح مسلم، كتاب: “البر والصلة والأدب”، باب “تحريم الظلم”، وهو في كتاب “الأحاديث القدسية”، ص: 264.

10. صحيح مسلم، كتاب: “البر والصلة والأدب”، باب “تحريم الظلم”، وهو في كتاب “الأحاديث القدسية”، ص: 264.

11. شرح النووي، من كتاب: “البر والصلة”، 8/110.

12. انظر: القصة في الأحكام السلطانية، للماوردي، ص: 65-66.

13. طبقات ابن سعد، ذكر حضور رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حلف الفضول، 1/128.

14. القصة في سنن النسائي، كتاب القضاة، باب “الرخصة للحاكم الأمين أن يحكم وهو غضبان”.

15. الأحكام السلطانية، ص: 65.

16. الخراج: ص: 111-112.

17. الأحكام السلطانية، ص: 67.

18. الأحكام السلطانية، ص: 100.

19. تاريخ الإسلام السياسي، ص: 105.

20. تاريخ الإسلام السياسي، 1/313.

21. المرجاني،  وفيات الأسلاف، 3/314.

22. انظر كتاب: أطوار ولاية المظالم عبر التاريخ، لمولاي هاشم العلوي، 1/152.

23. حاشية العلامة سيدي عبد السلام الهواري على شرح خاتمة المحققين على لامية الزقاق، (مخطوط).

24. حاشية الإمام الوزاني على شرح الإمام التاودي على لامية الإمام الزقاق.

25. أطوار ولاية المظالم عبر التاريخ، 1/153.

26. المقدمة، ص: 222.

27. مقال بمجلة الأمة، العدد 31، السنة الثالثة، أبريل 1983.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق