مركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرةدراسات عامة

وقفات مع خطورة الغضب من خلال قوله صلى الله عليه وسلم: للذي قال: أوصني، قال: “لا تغضب”

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحابته أجمعين.

وبعد؛

فإن الغضب آفة خطيرة على صحة الإنسان يفقد المرء فيها السيطرة على نفسه، فقد يعتدي على نفسه أو على غيره بلسانه أو بيده، فيندم بعد ذلك،  وقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم المسلمين عن الغضب في بعض الأحاديث، مبينا خطورته، وعواقبه الوخيمة، ـ ومنها هذا  الحديث الذي اخترته لأستخرج منه بعض الفوائد ـ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أوصني، قال: “لا تغضب” فردد مرارا، قال: “لا تغضب”[1].

هذا الحديث عظيم النفع جليل القدر، وقاعدة كبرى في تجنب الإنسان الغضب، وعدم الوقوع فيه، وهو من جوامع الكلم؛ لأنه جمع بين خيري الدنيا والآخرة.

قال المباركفوري (ت: 1353هـ) نقلا عن  بعض المحققين: “الغضب فوران دم القلب، أو عرض يتبعه ذلك لدفع المؤذيات، وللانتقام بعد وقوعها”[2].

وقال الخطابي: معنى “لا تغضب” لا تتعرض لأسباب الغضب، والأمور التي تجلب الغضب، أو: لا تفعل ما يأمرك به الغضب، ويحملك عليه من الأقوال والأفعال[3].

وقال المباركفوري أيضا: ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: “لا تغضب” اجتنب أسباب الغضب ولا تتعرض لما يجلبه. وأما نفس الغضب، فلا يتأتى النهي عنه، لأنه أمر طبيعي لا يزول من الجبلة”[4].

وللغضب آثار سلبية على عدة مستويات،  فهو  يؤثر على الجهاز العصبي للإنسان، ويرفع ضغط دمه، كما يؤدي إلى تفكيك الأواصر الأسرية والاجتماعية  بسبب الشتم والضرب  والاعتداء على الأرواح والممتلكات، بل يكون الأمر أخطر من ذلك قد يؤدي إلى سب الدين.

ويستفاذ من الحديث  المدروس ما يلي:

* الغضب ينشأ عنه الكبر؛ ” لأن أعظم ما ينشأ عنه الغضب الكبر لكونه يقع عند مخالفة أمر يريده، فيحمله الكبر على الغضب، فالذي يتواضع حتى يذهب عنه عزة النفس يسلم من شر الغضب”[5].

* أن تجنب الغضب فيه خير الدنيا والآخرة، قال ابن التين: “جمع صلى الله عليه وسلم في قوله: “لا تغضب” خير الدنيا والآخرة؛ لأن الغضب يؤول إلى التقاطع ومنع الرفق، وربما آل إلى أن يؤذي المغضوب عليه فينتقص ذلك من الدين “فردد ذلك” أي الرجل السؤال يلتمس أنفع من ذلك، أو أبلغ أو أعم فلم يزده على ذلك “مرارا” أي: مرة بعد أخرى “كل ذلك يقول: لا تغضب”[6].

*الغضب مفسدة:  قال الأمير في التنوير شرح الجامع الصغير ما نصه: لا تغضب، فإن الغضب مفسدة” يجلب كل فساد، فإنه نوع من الجنون، فإن الغاضب إن تمكن من المغضوب عليه فعل ما يقبح، وإلا رجع على نفسه، فلطم خده، ومزق ثوبه وغير ذلك من القبائح”[7].

وقال الطيبي: “وفيه دليل علي عظم مفسدة الغضب، وما ينشأ منه”[8].

* مجاهدة النفس أشد من مجاهدة العدو: قال الحافظ ابن حجر: “قال بن بطال: “إن مجاهدة النفس أشد من مجاهدة العدو؛ لأنه صلى الله عليه و سلم جعل الذي يملك نفسه عند الغضب أعظم الناس قوة[9].

*الغضب ضعف والحلم قوة: سرعة الغضب والانقياد له عنوان  على ضعف الإنسان، وإن كان جسمه قويا وضخما، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب”[10].

* أن الغضب من نزغات الشيطان:  قال الحافظ النووي رحمه الله: إن الغضب من نزغات الشيطان ولهذا يخرج به الإنسان عن اعتدال حاله، ويتكلم بالباطل، ويفعل المذموم وينوي الحقد والبغض وغير ذلك من القبائح المترتبة على الغضب، ومن ثمة قال النبي صلى الله عليه وسلم للذي قال: أوصني، قال: “لا تغضب”،فردد مرارا، قال: “لا تغضب”،ولم يزد عليه في الوصية على “لا تغضب”[11].

*أن الغضب من أمهات المعاصي: قال أبو بكر ابن العربي: ” الرجل الذي جاء إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم – فقال: “علمني، ولا تكثر علي فأنسى”.

قيل: هو عم الأحنف بن قيس، فقال له النبي ـ عليه السلام ـ: “لا تغضب” فجمع له – صلى الله عليه وسلم ـ في هذه الكلمة حكمة عظيمة؛ لأن الغضب من أمهات المعاصي، وربما أيضا قال له ذلك؛ لأنه عرف أن الغضب أعظم أسباب المعاصي عنده، والغضب نار في النفس”[12].

*أن ضبط النفس وتملكها والتحكم فيها عند الغضب قوة، ولهذا أثنى النبي صلى عليه وسلم على من يملك نفسه عند الغضب لقوله صلى الله عليه وسلم: “إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب[13][14].

والخلاصة أن هذا الحديث قاعدة في التحذير من الاندفاع عند الغضب، والدعوة إلى التحلى بالرضا والصبر عند حدوث دواعى الغضب.

***************

هوامش المقال:

[1]  أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب الحذر من الغضب، رقم: (6116)(8 /28).

[2]  تحفة الأحوذي (6 /138).

[3]  فتح الباري (10 /520).

[4]  تحفة الأحوذي (6 /138).

[5]  تحفة الأحوذي (6/ 138).

[6]   فتح الباري (10/ 520)، تحفة الأحوذي (6 /138).

[7]  التنوير شرح الجامع الصغير(11 /128).

[8]  الكاشف عن حقائق السنن(6/ 1892).

[9]  فتح الباري (10 /520).

[10]  أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب الحذر من الغضب، رقم: (6114)(8 /28).

 [11]   شرح النووي على مسلم (16 /163)، الكاشف عن حقائق السنن(6/ 1892).

[12]  المسالك في شرح موطأ مالك(7 /258).

[13]  سبق تخريجه.

[14]  فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام(6 /353).

*****************

جريدة المصادر والمراجع:

تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي  لأبي العلاء محمد عبد الرحمن بن عبد الرحيم المباركفورى، دار الكتب العلمية ـ بيروت.
الكاشف عن حقائق السنن لشرف الدين الحسين بن عبد الله الطيبي تحقيق: عبد الحميد هنداوي مكتبة نزار مصطفى الباز ـ مكة المكرمة ـ الرياض، ط1، 1417 هـ – 1997 م.

التنوير شرح الجامع الصغير لمحمد بن إسماعيل بن صلاح بن محمد الحسني الصنعاني،  تحقيق: محمَّد إسحاق محمد إبراهيم،  مكتبة دار السلام، الرياض، ط1، 1432 هـ ـ 2011م.

صحيح البخاري، لمحمد بن إسماعيل أبي عبدالله البخاري الجعفي، تحقيق: محمد زهير بن ناصر الناصر، دار طوق النجاة (مصورة عن السلطانية بإضافة ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي)،ط1، 1422هـ.

فتح الباري شرح صحيح البخاري، لأحمد بن علي بن حجر أبي الفضل العسقلاني، ط/ دار المعرفة ـ بيروت، 1379هـ.

فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام، لمحمد بن صالح العثيمين، تحقيق وتعليق: صبحي بن محمد رمضان، أم إسراء بنت عرفة بيومي، المكتبة الإسلامية للنشر والتوزيع، ط1، 1427 هـ ـ 2006م.

المسالك في شرح موطأ مالك لمحمد بن عبد الله أبي بكر بن العربي المعافري قرأه وعلّق عليه: محمد بن الحسين السُّليماني، وعائشة بنت الحسين السُّليماني، دار الغرب الإسلامي،ط1، 1428 هـ ـ 2007 م.

المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج لأبي زكريا يحيى بن شرف بن مري النووي، دار إحياء التراث العربي ـ بيروت، ط2 ، 1392م.

راجع المقال الباحث: يوسف أزهار

Science

عبد الفتاح مغفور

  • أستاذ باحث مؤهل بمركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة النبوية العطرة بالعرائش، التابع للرابطة المحمدية للعلماء بالرباط.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق