مركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرةدراسات عامة

وقفات مع حديث: ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله”

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، محمد وآله وصحبه أجمعين.

    إن من حكمة الله تعالى أن منَّ على عباده بالخيرات والنعم، التي لا تعد ولا تحصى، مصداقا لقول الله  تعالى: (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها) ([1])، ومن هذه النعم؛ نعمة المال، التي أوجب الله فيها حقوقا وواجبات، ومنها حق الصدقة.

كما دعا الله تعالى عباده بالتحلي بمكارم الأخلاق، التي ترفع المتصف بها المنزلة العليا والدرجة الرفيعة، ومن تلكم الأخلاق؛ العفو والتواضع، بهذا دلت العديد من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، ومنه الحديث الذي جمع كل ما ذُكر ، وهو حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:” ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله”.

هذا الحديث أخرجه بهذا اللفظ الإمام مسلم في صحيحه، في كتاب: البر والصلة والآداب، باب: استحباب العفو والتواضع([2]).

كما أخرجه بنحوه الإمام أحمد في مسنده([3])، والترمذي في سننه، كتاب: أبواب البر والصلة، باب: ما جاء في التواضع([4])، والدارمي في سننه، كتاب: الزكاة، باب: في فضل الصدقة([5]) كلهم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

والحديث رواه أيضا الإمام مالك في موطئه عن العلاء بن عبد الرحمن موقوفا عليه([6]) ثم قال:  “لا أدري أيرفع هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه و سلم أم لا”([7]).

من خلال هذا الحديث أقف وإياكم على بعض معانيه وهي كالآتي:

الوقفة الأولى: “ما نقصت صدقة من مال”؛ فيه بيان فضل الصدقة، وأنها نماء، وبركة، وزيادة أضعاف ما يعطى منها ؛ مصداقا لحديث النبي صلى الله عليه وسلم من رواية أبي هريرة رضي الله عنه قال : “قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما تصدق أحد بصدقة من طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب، إلا أخذها الرحمن بيمينه، وإن كانت تمرة، فتربو في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل، كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله”([8]).

قال الباجي (494هـ) في المنتقى: ” الصدقة لا تنقص المال؛ لأن ما ينفق في الصدقة فالعوض عنه من الأجر، وهو مع ذلك سبب لتنمية المال وحفظه”([9]).

وقال النووي (676هـ) في شرحه على مسلم: ” ذكروا فيه وجهين: أحدهما: معناه أنه يبارك فيه، ويدفع عنه المضرات، فينجبر نقص الصورة بالبركة الخفية، وهذا مدرك بالحس والعادة، والثاني: أنه وإن نقصت صورته، كان في الثواب المرتب عليه جبر لنقصه وزيادة إلى أضعاف كثيرة “([10]).

وقال السيوطي (911هـ) في الديباج: “قيل هو عائد إلى الدنيا بالبركة فيه ودفع المفسدات، وقيل إلى الآخرة بالثواب والتضعيف”([11])

الوقفة الثانية: “وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا”؛ فيه بيان فضل العفو والصفح ومنزلتهما عند الله تعالى، مع القدرة على الانتقام؛ فبسبب عفو الإنسان لأخيه الإنسان، يزيده الله تعالى عزا،  ونصرا، وسيادة له، في القلوب في الحياة الدنيوية، أو يدخر له أجرا عظيما في الحياة الأخروية  كما قال النووي (676هـ) في شرحه على مسلم: “فيه أيضا وجهان: أحدهما: أنه على ظاهره، وأن من عرف بالعفو والصفح ساد وعظم في القلوب، وزاد عزه وإكرامه، والثاني: أن المراد أجره في الآخرة وعزه هناك” ([12]).

وقبله قال الباجي (494هـ) في المنتقى في تفسيره :” (وما زاد الله عبدا بعفو) يريد: بالتجاوز عنه بمعونة الله عز وجل مما له قصاص وانتصار . (إلا عزا) يريد رفعة في قلوب الناس وقوة على الانتصار “([13])

الوقفة الثالثة: “وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله“؛ فيه بيان لمنزلة خُلق  التواضع لله تعالى، وجزاء المتصف به في الدنيا، بأن يرفع قدره عند الناس، أو  يدخر له بتواضعه أجرا عظيما في الآخرة .

قال النووي (676هـ) في شرحه على مسلم: “فيه أيضا وجهان، أحدهما: يرفعه في الدنيا، ويثبت له بتواضعه في القلوب منزلة، ويرفعه الله عند الناس ويجل مكانه، والثاني: أن المراد ثوابه في الآخرة، ورفعه فيها بتواضعه في الدنيا([14]) .

ثم قال: “قال العلماء وهذه الأوجه في الألفاظ الثلاثة موجودة في العادة معروفة، وقد يكون المراد الوجهين معا في جميعها في الدنيا والآخرة “([15]) .

ومما تقدم يمكن أن نخلص إلى الآتي:

  • بيان فضل ومنزلة الصدقة.
  • بيان فضل العفو والصفح .
  • بيان فضل التواضع.

***************

هوامش المقال:

([1]) سورة إبراهيم (34).

([2])  أخرجه مسلم في صحيحه (2/ 1201-1202) برقم: (2588).

([3])  مسند أحمد (12/ 139) برقم: (7206).

([4])  سنن الترمذي (3 /552) برقم: (2029).

([5])  سنن الدارمي (2/ 1042-1043) برقم: (1718).

([6])  موطأ مالك (5/ 1456) برقم: (3663).

([7])  موطأ مالك (5/ 1456) برقم: (3663).

([8])  أخرجه مسلم في صحيحه (1/ 450)، كتاب الزكاة، باب: قبول الصدقة من الكسب الطيب وتربيتها، برقم: (1014).

([9])  المنتقى شرح الموطأ (7 /324).

([10])  صحيح مسلم بشرح النووي (16 /213).

([11])  الديباج على مسلم (5 /522).

([12])  صحيح مسلم بشرح النووي (16/ 213).

([13])  المنتقى شرح الموطأ (7 /324).

([14])  صحيح مسلم بشرح النووي (16 /213).

([15])  صحيح مسلم بشرح النووي (16 /213).

******************

لائحة المصادر والمراجع المعتمدة:

  1. الجامع الكبير. لأبي عيسى محمد بن عيسى الترمذي، حققه وخرج أحاديثه وعلق عليه: د بشار عواد معروف. دار الغرب الإسلامي بيروت. ط1/ 1996م
  2. الديباج على صحيح مسلم بن الحجاج. لجلال الدين السيوطي. حققه وعلق عليه: أبو إسحاق الحويني، دار ابن عفان السعودية. ط1/ 1416هـ- 1996م.
  3. سنن الدارمي. لأبي عبد الله بن عبد الرحمن بن الفضل بن بهرام الدارمي. تحقيق: حسين سليم أسد الداراني. دار المغني السعودية ط1/1421هـ- 2000م.
  4. صحيح مسلم بشرح النووي. لأبي زكريا يحيى بن شرف النووي. مؤسسة قرطبة. ط1/ 1412هـ-1991م.
  5. صحيح مسلم. وفي طليعته: غاية الابتهاج لمقتفي أسانيد كتاب مسلم بن الحجاج للزبيدي.دار طيبة. الرياض. ط1/ 1427-2006.
  6. مسند أحمد (ج12). لأحمد ابن حنبل. تحقيق: مجموعة من الباحثين. مؤسسة الرسالة بيروت. ط1/ 1417هـ- 1997م.
  7. المنتقى شرح موطأ الإمام مالك. لأبي الوليد سليمان بن خلف الباجي. مطبعة السعادة، مصر، ط1/ 1332هـ.
  8. موطأ مالك. لمالك بن أنس. تحقيق: محمد مصطفى الأعظمي. من منشورات مؤسسة زايد بن سلطان آل نهيان، أبو ظبي، الإمارات . ط1/1425-2004م.

راجع المقال الباحث: يوسف أزهار.

Science

دة. خديجة أبوري

  • أستاذة باحثة مؤهلة بمركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرة بالعرائش، التابع للرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق