مركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرةدراسات عامة

وقفات مع حديث: ” كل عمل ابن آدم له، إلا الصيام، فإنه لي وأنا أجزي به.. “

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين.

وبعد؛

فلا شك أن الصوم وقاية من الوقوع في مآثم في الدنيا، ومنج من عذاب الآخرة، ووقاية من العلل والأدواء الناشئة عن الإفراط في تناول ملذات الأطعمة والأشربة، كما أنه مطهرة للنفس، وضابط لها عند المكاره، ومرضاة للرب،  ومُربي على الخشية من الله تعالى في السرّ والعلن، ومستدع للإحساس المرهف والشفقة والرحمة التي تدعوه إلى البذل والعطاء، ومحقق لمعنى المساواة بين الأغنياء والفقراء…، وغير ذلك من فوائد الصيام على الفرد والمجتمع.

هذا وقد وردت في فضل الصيام أحديث كثيرة، سواء في أمهات الكتب الحديثية، أو في الأجزاء الحديثية، منها هذا الحديث الذي اخترته أن أخرج منه بعض الفوائد، معتمدا في ذلك على رواية الإمام البخاري رحمه الله، فعن أبي هريرة رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” قال الله: كل عمل ابن آدم له، إلا الصيام، فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جنة، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله، فليقل إني امرؤ صائم”[1]

قال الإمام النووي: ” وفي هذا الحديث بيان عظم فضل الصوم والحث إليه “[2].

ويستفاد من هذا الحديث مجموعة من الفوائد منها:

* أن الصوم لا يقع فيه الرياء كما يقع في غيره من الأعمال، لأن فعل الصيام لا يظهر منه شيء، وإنما هو في القلب، لقوله صلى الله عليه و سلم” ليس في الصيام رياء”[3].

 قال الحافظ ابن حجر: “قال القرطبي: لما كانت الأعمال يدخلها الرياء، والصوم لا يطلع عليه بمجرد فعله إلا الله فأضافه الله إلى نفسه، ولهذا قال في الحديث: “يدع شهوته من أجلي”.

 وقال بن الجوزي: جميع العبادات تظهر بفعلها وقل أن يسلم ما يظهر من شوب بخلاف الصوم”[4].

قال ابن عبد البر” وكل ما أريد به وجه الله فهو له ولكنه ظاهر والصوم ليس بظاهر”[5].

*أن الصيام انفرد الله تعالى بعلم مقدار ثوابه وتضعيف حسناته وأما غيره من العبادات فقد اطلع عليها بعض الناس.

قال الحافظ ابن حجر: “قال القرطبي: معناه أن الأعمال قد كشفت مقادير ثوابها للناس، وأنها تضاعف من عشرة إلى سبعمائة إلى ما شاء الله إلا الصيام، فإن الله يثيب عليه بغير تقدير، ويشهد لهذا السياق الرواية الأخرى ـ يعني رواية الموطأ ـ، وكذلك رواية الأعمش عن أبي صالح حيث قال: كل عمل بن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ما شاء الله قال الله: إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزى به” أي: أجازى عليه جزاء كثيرا من غير تعيين لمقداره وهذا كقوله تعالى: (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب) [6][7].

* أن إضافة الصيام له عز وجل إضافة تشريف وتعظيم ، كما يقال : بيت الله. قال ابن عبد البر:” وفي قوله: “الصوم لي” فضل عظيم للصوم؛ لأنه لا يضاف إليه إلا أكرم الأمور وأفضل الأعمال، كما قال: بيت الله في الكعبة”[8]. قال الحافظ ابن حجر: “قال الزين ابن المنير : التخصيص في موضع التعميم في مثل هذا السياق لا يفهم منه الا التعظيم والتشريف”[9]

* أن الصوم أحب العبادة إلى الله، وأنه المقدم على باقي العبادات. قال الحافظ ابن حجر نقلا عن ابن عبد البر: “كفى بقوله: “الصوم لي” فضلا للصيام على سائر العبادات[10]

* أن الصوم يقي صاحبه ما يؤذيه من الشهوات. قال ابن حجر:قال القرطبي: جنة أي: سترة يعني بحسب مشروعيته، فينبغي للصائم أن يصونه مما يفسده وينقص ثوابه، واليه الإشارة بقوله: “فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث إلخ”[11].

*حث الصائم على أن لا يعامل من سابه أو قاتله بمثل عمله، بل يقتصر على قوله: إني صائم[12].

*أن الاستغناء عن الطعام وغيره من الشهوات من صفات الرب جل جلاله، فلما تقرب الصائم إليه بما يوافق صفاته أضافه إليه. وقال القرطبي: معناه أن أعمال العباد مناسبة لأحوالهم إلا الصيام فإنه مناسب لصفة من صفات الحق[13].

*  اتفاق العلماء أن المراد بالصيام هنا صيام من سلم صيامه من المعاصي قولا وفعلا، ونقل ابن العربي عن بعض الزهاد أنه مخصوص بصيام خواص الخواص، فقال: إن الصوم على أربعة أنواع: صيام العوام، وهو: الصوم عن الأكل والشرب والجماع، وصيام خواص العوام، وهو: هذا مع اجتناب المحرمات من قول أو فعل، وصيام الخواص، وهو: الصوم عن غير ذكر الله وعبادته وصيام خواص الخواص، وهو: الصوم عن غير الله فلا فطر لهم إلى يوم القيامة، وهذا مقام عال[14].

* الصوم يعدّ النفس للتقوى، لقوله تعالى: (لعلكم تتقون) [15]، فهو سبب تقوى الله، لأنه يميت الشهوات[16].

جريدة المصادر والمراجع:

الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار،لأبي عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر النمري القرطبي، تحقيق سالم محمد عطاـ محمد علي معوض، دار الكتب العلمية، 2000م.

التفسير المنير في العقيدة والشريعة والمنهج، لوهبة بن مصطفى الزحيلي، دار الفكر المعاصر ـ دمشق، ط2 ، 1418 هـ

شعب الإيمان، لأبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي، تحقيق : محمد السعيد بسيوني زغلول، دار الكتب العلمية – بيروت، ط1 ،1410

صحيح البخاري  لمحمد بن إسماعيل أبي عبد الله البخاري الجعفي  تحقيق: محمد زهير بن ناصر الناصر، دار طوق النجاة (النسخة مصورة)، ط1، 1422هـ.

فتح الباري شرح صحيح البخاري لأحمد بن علي بن حجر العسقلاني، دار المعرفة ـ بيروت ، 1379م.

المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج، لأبي زكريا يحيى بن شرف بن مري النووي، دار إحياء التراث العربي ـ بيروت، ط2، 1392م.

[1]  أخرجه البخاري في كتاب الصوم، باب هل يقول إني صائم إذا شتم، رقم: (1904)(3 /26)، وأخرجه في كتاب الصيام، باب: فضل الصيام رقم (1151)(2 /807).

[2]  شرح النووي على مسلم(8 /29).

[3]   أخرجه البيهقي في شعب الإيمان، رقم: (3593)(3 /299)

[4]  فتح الباري(4 /107).

[5]  الاستذكار(3 /375).

[6]  سورة الزمر الآية: 11.

[7]  فتح الباري(4 /108).

[8]  الاستذكار(3 /375).

[9]  فتح الباري(4 /108).

[10]  فتح الباري(4 /108).

[11]  فتح الباري(4 /104).

[12]  فتح الباري(4 /104).

[13]  فتح الباري(4 /108).

[14]  فتح الباري(4/ 109).

[15]  سورة البقرة الآية: 182.

[16]  التفسير المنير(2 /136).

عبد الفتاح مغفور

  • أستاذ باحث مؤهل بمركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة النبوية العطرة بالعرائش، التابع للرابطة المحمدية للعلماء بالرباط.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق