مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

وقفات مع الفقيه الأصولي المغربي، أبو إسحاق الشاطبي حول التصوف والصوفية

1- مكانة الشاطبي العلمية:

تميز الفقيه الأصولي أبو إسحاق الشاطبي (790هـ) بمنزلة عالية رفيعة بين علماء الأمة، وسطع نجمه حتى ارتقى مرتبة العلماء المجتهدين الذين خلّد التاريخ ذكرهم، وأثرى المكتبة الإسلامية حتى صار فكره سندا للأمة فقها وأصولاً وتفسيرًا وحديثا.

وصَفَ العلماء الإمام الشاطبي فقالوا في حقه : “الإمام العلامة، المحقق القدوة، الحافظ الجليل المجتهد، كان أصوليا مفسرًا، فقيها محدثا، لغويا بيانيا، نظارًا ثبتا، ورعا صالحا زاهدًا، سنيا إماما مطلقا، بحاثا مدققا جدليا، بارعا في العلوم، من أفراد العلماء المحققين الأثبات، وأكابر الأئمة المتقنين الثقات…”،[1] ووصفه علماء التراجم بالإمامة، فقالوا: “له القدم الراسخ والإمامة العظمى في الفنون فقها وأصولاً وتفسيرًا وحديثا، وعربية وغيرها”.[2]

2- مكانة التصوف عند الشاطبي من خلال كتابه «الاعتصام»:

قام الشاطبي لمحاربة البدع خير قيام، وألف في ذلك كتابًا حافلاً نصر به سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وقمع به بدع المبتدعين، سماه “الاعتصام”؛ وهو كتاب في غاية الإجادة، تناول فيه موضوع البدع، وبحثها بحثا علميا، وسبرها بمعيار الأصول الشرعية، وقد أثنى على الكتاب (الاعتصام) المتقدمون من العلماء والمتأخرون، وكُتبت حوله الدراسات العلمية، وطبع أكثر من طبعة، ولا تكاد تخلو منه مكتبة طالب علم.

وقد تحدث هو بنفسه، في كتابه “الاعتصام”، عن بعض ما قام به في هذا الشأن من محاربة البدع وأهلها، فقال: “…لم أزل أتتبع البدع التي نبّه عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وحذر منها، وبيَّن أنها ضلالة، وخروج عن الجادة، وأشار العلماء إلى تمييزها والتعريف بجملة منها؛ لَعَلِّي أجتنبها فيما استطعت، وأبحث عن السنن التي كادت تطفئ نورها تلك المحدثات؛ لعلي أجلو بالعمل سناها، وأُعَد يوم القيامة فيمن أحياها…”.[3]

وقد اعتمد الإمام الشاطبي في كتابه “الاعتصام” على أكثر من أربعين شيخا من الصوفية الكرام في إقامة السُّنّة ودحض البدعة، إلى أنْ قال: “الوجه الرابع من النقل: ما جاء في ذم البدع وأهلها عن الصوفية المشهورين عند الناس: وإنما خصصنا هذا الموضع بالذكر وإنْ كان فيما تقدم من النقل كفاية لأنّ كثيراً من الجهال يعتقدون أنهم متساهلون في الاتباع وأنّ اختراع العبادات والتزام ما لم يأت في الشرع التزامه مما يقولون ويعملون عليه، وحاشاهم من ذلك أنْ يعتقدوه أو يقولوا به. فأول شيء بنوا عليه طريقتهم: اتبّاع السنة واجتناب ما خالفها. حتى زعم مذكرهم، وحافظ مأخذِهم، وعمود نحلتهم أبو القاسم القشيري أنهم إنما اختصوا باسم التصوف انفراداً عن أهل البدع”.[4]

ووَصف الصوفية بأوصاف حميدة، فقال: “الصوفية الذين نُسِبت إليهم الطريقة مُجمعون على تعظيم الشريعة، مقيمون على متابعة السنة، غير مخلين بشيء من آدابها، أبعد الناس عن البدع وأهلها. ولذلك لا نجد منهم من ينسب إلى فِرقة من الفرق الضالة، ولا من يميل إلى خلاف السُّنة. وأكثر من ذُكِر منهم علماء وفقهاء ومحدثون، وممن يؤخذ عنه الدين أصولاً وفروعاً، ومن لم يكن كذلك فلابد له من أن يكون فقيهاً فى دينه بمقدار كفايته”.[5]

وأثنى عليهم بوصفهم: “أهل الحقائق والمواجد والأذواق والأحوال والأسرار التَّوحيدية، فهم الحُجّة لنا على كل مَن ينتسب إلى طريقهم ولا يجري على منهاجهم…”.[6]

إلى أن قال: “ولـمّا كان أهلُ التصوف في طريقهم –بالنسبة إلى إجماعهم على أمر- كسائر أهل العلوم في علومهم؛ أتيت من كلامهم بما يقومُ منه دليلٌ على مَدْح السُّنَّة وذمِّ البِدعة في طريقتهم، حتى يكون دليلا لنا من جهتهم على أهل البدع عموما، وعلى الـمُدّعين في طريقهم خصوصا، وبالله التوفيق.”.[7]

وقد كان في نيته أنْ يُخصِّص مؤلَّفا للإشادة بطريق التصوف وتحصينه من أهل البدع والأهواء، حيث قال: “وفي غرضي إنْ فسح الله في المـدة، وأعانني بفضلـه ويسّر لي الأسباب، أنْ ألخِّص في طريقة القوم أنموذجاً يُستدل به على صحتها وجريانها على الطريقة المثلى، وأنه إنما داخلتها المفاسد وتطرقت إليها البدع من جهة قوم تأخرت أزمانهم على عهد ذلك السلف الصالح، وادعوا الدُّخول فيها من غير سلوك شرعي، ولا فهم لمقاصد أهلها، وتقولوا عليهم ما لم يقولـوا به، حتى صارت في هذا الزمان الأخير كأنها شريعة أخرى غير ما أتى بها محمد صلى الله عليه وسلم… وطريقة القوم بريئة من هذا الخُبَاطِ بحمد الله”.[8]

وجاء في آخر الجزء الأول من كتابه الاعتصام ما يُؤكِّد عزمه على تأليف كتاب يعالج فيه التصوف ويرُدُّ ما أُدخل فيه مما ليس منه، فقال: “وإنْ فسح الله في المدة، وأعان بفضله؛ بسطنا الكلام في هذا الباب في كتاب مذهب أهل التصوف، وبيان ما أدخل فيه مما ليس بطريق لهم.”.[9]

ولكن الـمَنِيَّة عاجلت الشاطبي قبْل أن يُحقِّق عزمه، ووفاه الأجل قبل أن يضع مصنَّفَه…  ويبقى التصوف الذي تَبوَّأ مكاناً هامًّا وأساسيّاً في الفكر الإسلامي، المجال الذي استثمر الثروة الروحية للإسلام، والذي فجّر ينابيع الذوق الديني الصّحيح السليم، وحقيقته القائمة على معرفة الله تعالى، وعلى اتباع سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم في الأقوال والأفعال والأحوال…

3- مواقف الشاطبي من التصوف والصوفية من خلال كتابه: «الموافقات»:

نُتابع موقف الفقيه الأصولي المغربي، الإمام الشاطبي، من التصوف والصوفية، من خلال كتابه: “الموافقات في أصول الشريعة”، وهو الذي بنى فيه صرح علم المقاصد بالاعتماد على الصوفية في جُملة من مباحثه، مع العلم أن البوادر الأولى لنشوء علم المقاصد بدأت مع الحكيم الترمذي الصوفي المشهور.

إنّ من الأصول التي بنى عليها الصوفية مذهبهم في العمل بمقاصد الشريعة، أخْذُهُم بالعزائم دون الركون إلى الرخص، لذلك مدح الشاطبي طريقتهم واعتبرها مسلكا سليما في السلوك، لأن تَتَبُّع الرخص فيه اتباع لشهوات النفس وأهوائها، وفيه عدم الائتمان من السقوط في حبائل الشيطان ومكره، قال الشاطبي: “ولأجل هذا أوصى شيوخ الصوفية تلامذتهم بترك اتباع الرخص جملة، وجعلوا من أصولهم الأخذ بعزائم العلم وهو أصل صحيح مليح، مما أظهروا من فوائدهم رحمهم الله”.[10]

كما أثنى الشاطبي على الصوفية الكرام في سُلوكهم ومَسْلكِهم لعدم التفاتهم وانسياقهم وراء الحظوظ العاجلة الفانية، قال: “وبيان ذلك أن أرباب الأحوال عاملون في أحوالهم على إسقاط الحظوظ، بلغوا غاية الجهد في أداء الحقوق، إما لسائق الخوف، أو لحادي الرجاء، أو لحامل المحبة؛ فحظوظهم العاجلة قد سقطت من أيديهم بأمر شاغل عن غير ما هم فيه، فليس لهم عن الأعمال فترة، ولا عن جد السير راحة… وأيضا فإن الله تعالى سهَّل عليهم ما عسر على غيرهم، وأيّدَهم بقوة منه على ما تحملوه مِن القيام بخدمته، حتى صار الشاق على الناس غير شاق عليهم، والثقيل على غيرهم خفيفاً عليهم، فكيف يقدر على الاقتداء بهم ضعيف الـمنّة عن حمل تلك الأعباء، أو مريض العزم في قطع مسافات النفس، أو خامد الطلب لتلك المراتب العلية، أو راضٍ بالأوائل، عن الغايات؟”.[11]

قال رحمه الله: “فإن قيل على أي معنى يفهم إسقاط النظر في المسببات؟ وكيف ينضبط ما يعد كذلك مما لا يعد كذلك؟ فالجواب أن ترك الحظوظ قد يكون ظاهرا بمعنى عدم التفات القلب إليها جملة وهذا قليل. وأكثر ما يختص بهذا أرباب الأحوال من الصوفية. فهو يقوم بالسبب مطلقا، من غير أن ينظر هل له مسبب أم لا”.[12]

إن هذا المسلك الذي سلكه الصوفية جعلهم لا يخرجون عن الوسطية والاعتدال التي هي من خصائص هذه الأمة، بل هم واقفون عند حدود الشرع في حركاتهم وسكناتهم، قال الشاطبي: “ومن طالع سير الأولياء وجدهم محافظين على ظواهر الشريعة…”.[13]

ثُمّ يدافع عن أحوالهم بقوله: “فيظن الظان أنهم شدُّوا على أنفسهم، وتكلّفوا ما لم يُكلفوا ودخلوا على غير مدخل أهل الشريعة، وحاش لله! ما كانوا ليفعلوا ذلك وقد بنوا نحلتهم على اتباع السنة وهم باتفاق أهل السنة صفوة الله من الخليقة”.[14]

إنّ مَن تتبع أحوال النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته من بعده يجد بأنهم كانوا يأخذون بالعزائم لما فيها من القيام بحقوق العبودية، ويذرون تسعة أعشار الحلال مخافة الوقوع في الحرام، وفي هذا يقول الإمام الشاطبي: “وإذا نظرت إلى أوصاف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفعاله تبين لك فرق ما بين القسمين، وبون ما بين المنزلتين، وكذلك ما يؤثر من شيم الصحابة واتصافهم بمقتضى تلك الأصول. وعلى هذا القسم الأول عوّل من شَهر من أهل التصوف، وبذلك سادوا غيرهم ممن لم يبلغ مبالغهم في الاتصاف بأوصاف الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه…”.[15]

فالصوفية الكرام يُبقون الحكم تابعا لمجرد الاقتضاء وليس للاقتضاء، فلا فرق في مقتضى الطلب عندهم بين واجب ومندوب ولا بين مكروه ومحرم، قال الشاطبي: “إن الأوامر والنواهي في التأكيد ليست على رتبة واحدة في الطلب الفعلي أو التركي، وإنما ذلك بحسب تفاوت المصالح الناشئة عن امتثال الأوامر واجتناب النواهي، والمفاسد الناشئة عن مخالفة ذلك. وعلى ذلك التقدير يتصور انقسام الاقتضاء إلى أربعة أقسام: وهي الوجوب، والندب، والكراهة، والتحريم. وثَمَّ اعتبار آخر لا ينقسم فيه ذلك الانقسام، بل يبقى الحكم تابعا لمجرد الاقتضاء، وليس للاقتضاء إلا وجهان: “أحدهما” اقتضاء الفعل، و”الآخر” اقتضاء الترك. فلا فرق في مقتضى الطلب بين واجب ومندوب، ولا بين مكروه ومحرم. وهذا الاعتبار جرى عليه أرباب الأحوال من الصوفية، ومن حذا حذوهم ممن طّرح مطالب الدنيا جملة، وأخذ بالحزم والعزم في سلوك طريق الآخرة، إذ لم يفرقوا بين واجب ومندوب في العمل بهما، ولا بين مكروه ومحرم في ترك العمل بهما؛ بل ربما أطلق بعضهم على المندوب أنه واجب على السالك، وعلى المكروه أنه محرم. وهؤلاء هم الذين عدوا المباحات من قبيل الرخص كما مر في أحكام الرخص”.[16]

وبهذا يتميز نظر الصوفية عن نظر الفقهاء؛ فهم ينظرون إلى مآلات الأفعال من تحصيل الكمال والتقرب إلى مولاهم بأحسن هيئة وأتم صورة، يقول الشيخ زروق في قواعده: “نَظَرُ الصوفي للمعاملات أخص من نظر الفقيه، إذ الفقيه يعتبر ما يسقط  به الحرج، والصوفي ينظر ما يحصل به الكمال”.[17]

وانتبه الشاطبي إلى ادعاءات ومغالطات المحرفين لصفاء التصوف، فقال: “أن كثيرا يتوهمون أن الصوفية أبيح لهم أشياء لم تبح لغيرهم، لأنهم ترقَّوا عن رتبة العوام المنهمكين في الشهوات، إلى رتبة الملائكة الذين سلبوا الاتصاف بطلبها والميل إليها…”.[18]

كما دحض مزاعم الإنكار على أحوال الصوفية وفهومهم، فقال: “كل ما نقل عن الأولياء أو العلماء، أو ينقل إلى يوم القيامة، من الأحوال والخوارق والعلوم والفهوم وغيرها، فهي أفراد وجزئيات داخلة تحت كليات ما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم”.[19]

الهوامش:


[1]– أحمد بابا التنبكتي، نيل الابتهاج، ص 46 -47.

[2]– نيل الابتهاج، ص 47.

[3]– أبو إسحاق الشاطبي، الاعتصام، الدار الأثرية، الطبعة الثانية، 2007م، 24/1.

[4]– المصدر السابق،147/1-148.

[5]– نفسه، 165/1-166.

[6]– نفسه، 166/1.

[7]– نفسه.

[8]– نفسه، 148/1.

[9]– نفسه، 368/1.

[10]– الشاطبي، الموافقات،كتاب الأحكام، المحقق: عبد الله دراز ومحمد عبد الله وعبد السلام محمد، دار الكتب العلمية، لبنان، ط7، 2005، 252/1.

[11]– المصدر السابق، 209/4 -210.

[12]– نفسه، 166/1-167.

[13]– نفسه، 207/2.

[14]– نفسه، 174/4.

[15]– نفسه، 173/4.

[16]– نفسه، 178/3 -179.

[17]– قواعد التصوف للشيخ زروق، قاعدة 55.

[18]– الموافقات، 189/2.

[19]– نفسه، 198/2.

الدكتور إسماعيل راضي

• رئيس مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصة التابع للرابطة المحمدية للعلماء.
• أستاذ التعليم العالي بكلية العلوم بوجدة منذ سنة 1993 إلى اليوم.
• أستاذ بكلية الطب والصيدلة بوجدة منذ سنة 2008.
• مُقرِّر للعديد من المجلاّت العلمية الدولية.
• رئيس وعضو لما يزيد عن عَشْر وحَدات للتكوين والبحث الجامعي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق