مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةقراءة في كتاب

وجوه إعجاز القرآن الكريم من خلال كتاب «إعراب القرآن الكريم وبيانه» لمحيي الدين الدرويش -الحلقة الرابعة : فنون البلاغة في البسملة وفوائدها

كان حق هذه الحلقة أن تتقدم على الحلقات الأخرى، لكن قدر الله وما شاء فعل، وأرجو أن يكون فيها من النفع ما يغفر هذا الزلل.

والبسملة آية عظيمة ونعمة للعارف جسيمة، لا نهاية لفوائدها ولا غاية لقيمة فوائدها والباحث عنها مع قصرها إذا أراد ذرة من علمها ودرة من عيلمها احتاج إلى باع طويل في العلوم واطلاع عريض في المنطوق والمفهوم(1).

وقد عني العلماء قديما وحديثا بالبسملة عناية فائقة، وقد أحصيت ما كتب فيها فوجدت ما يقرب من أربعين مصنفا ما بين كتاب ورسالة، وما بين مخطوط ومطبوع، وبين من خصها بالتأليف، ومن قرنها بالحمدلة، وهي بين شرح وتعريف واستخراج فوائد وفرائد وغير ذلك.

وممن خصها بالتأليف نذكر: محمد بن نصر بن الحجاج المروزي (ت: 294هـ) في كتابه (البسملة)، وكذلك الشيخ محمد بن علي الصبان (ت: 1206هـ) في (الرسالة الكبرى في البسملة) ومن المغاربة أحمد ابن الحاج سكيرج (ت: 1363هـ) في كتابه (شراب أهل الاختصاص من بحر البسملة بين الخواص).

وممن قرنها بالتأليف إلى جانب الحمدلة: الشيخ أبو عبد الله سيدي محمد ابن الحاج محمد بن حمدون بناني المعروف بالمحوجب في كتابه: «الفوائد المسجلة في شرح البسملة والحمدلة»، وكذلك زروق الفاسي (ت: 899هـ) في كتابه (شرح البسملة والحمدلة).

ولا ينبغي أن ننسى عناية المفسرين بها، بحيث لا يخلو كتاب من كتب التفسير على كثرتها من الحديث عن البسملة، حتى قيل إن ترك التكلم عليها إما تقصير أو قصور.

وغاية عملي في هذه الحلقة أن أبسط كلام المؤلف محيي الدين الدرويش –رحمه الله- وأن أرجع كل قول إلى صاحبه، وأن أفصل ما أجمله المؤلف خاصة ما يتعلق بفنون البلاغة فيها وإن لم يقف على أغلبها، فبالبلاغة تعرف دقائق العربية وأسرارها، وتكشف عن وجوه الإعجاز أستارها كما يقول القزويني.

وإنني وإن لم أكن من فوارس هذا الميدان فإنني أحب تذوق كلام الله تعالى، وإن كان التكلم عليها في هذا المقام من باب التبرك بها فقط لجاز لي ذلك.

وننطلق مما خطه المؤلف محيي الدين الدرويش –رحمه الله- في كتابه «إعراب القرآن الكريم وبيانه» في حديثه عن فنون البلاغة في البسملة، مع الاستعانة ببعض المصادر والمراجع خاصة عند الحديث عن بعض الفنون البلاغية التي لم يقف عندها.

وقبل أن نتحدث عن فنون البلاغة فيها نقف عند بعض الفوائد التي ينبغي العلم بها، وقد عني المؤلف –رحمه الله- بتلمس هذه الفوائد:

– البسملة كلمة منحوتة من حروف كلمتي (بسم) و(الله)، وقد أطلقها المولدون على قول: بسم الله الرحمن الرحيم، اكتفاء واعتمادا على الشهرة وإن كان هذا المنحوت خليا من الحاء والراء الذين هما من حروف الرحمن الرحيم، فشاع قولهم: بسمل، في معنى قال: بسم الله الرحمن الرحيم، واشتق من فعل بسمل مصدر هو البسملة(2).

– يرى المؤلف –رحمه الله- أن الألف تحذف من الرحمن لدخول الألف واللام عليها، بينما يرى الرازي أنه جاز حذف الألف قبل النون من «الرحمن» في الخط على سبيل التخفيف، ولو كتب بالألف حسن، ولا يجوز حذف الياء من الرحيم، لأن حذف الألف من الرحمن لا يخل بالكلمة ولا يحصل فيها التباس، بخلاف حذف الياء من الرحيم(3).

– يرى المؤلف –رحمه الله- أنه تكتب «بسم الله» بغير ألف في البسملة خاصة، استغناء عنها بباء الاستعانة، وهذا قول الخليل، يقول: إنما حذفت الألف في قوله: «بسم الله» لأنها إنما دخلت بسبب أن الابتداء بالسين الساكنة غير ممكن، فلما دخلت الباء على الاسم نابت عن الألف فسقطت في الخط(4).

في حين يرى أبو حيان أن حذف الألف في بسم الله وفي الرحمن في الخط لكثرة الاستعمال(5).

– لم يوصف بالرحمن في العربية بالألف واللام إلا الله تعالى، وقد نعتت العرب مسيلمة الكذاب به مضافا فقالوا: رحمان اليمامة. قال شاعر منهم يمدحه:

سَمَوْتَ بِالْمَجْدِ يَا ابْنَ الأَكْرَمِينَ أَبا /// وَأَنْتَ غَيْثُ الوَرَى لَا زِلْتَ رَحْمَانَا(6)

وهذا باب من تعنتهم في كفرهم كما يقول الزمخشري في (الكشاف).

– وقد اختلف العلماء في كونها آية من سورة الفاتحة وآية من أول كل سورة، وكونها آية من سورة الفاتحة فقط، أو أنها ليست بآية فيهما معا، كما تعرضوا لحكم التسمية في الصلاة، وذكروا اختلاف العلماء في ذلك، والخلاف مبسوط في كتب التفسير يرجع إليه هناك.

قال المؤلف –رحمه الله-: «في البسملة طائفة من فنون البلاغة:

أ- الأولى في متعلق بسم الله، أن يكون فعلا مضارعا؛ لأنه الأصل في العمل، والتمسّك بالأصل أولى، ولأنه يفيد التجدّد الاستمراري، وإنما حذف لكثرة دوران المتعلق به على الألسنة، وإذا كان المتعلق به اسما فإنه يفيد الديمومة والثبوت، كأنما الابتداء باسم الله حتم دائم في كل ما نمارسه من عمل، ونردده من قول.

ب- الإيجاز بإضافة العام إلى الخاص، ويسمى إيجاز قصر.

ج- إذا جعلنا الباء للاستعانة، فيكون في الكلام استعارة مكنية تبعية لتشبيهها بارتباط يصل بين المستعين والمستعان به، وإذا جعلنا الباء للإلصاق فيكون في الكلام مجاز علاقته المحلية، نحو: مررت بزيد أي بمكان يقرب منه لا بزيد نفسه»(7).

ونحن نبسط قول المؤلف في ما يلي:

ما يتعلق بفنون المعاني فيها:

1- متعلق بسم الله:

– قوله: «الأولى في متعلق بسم الله، أن يكون فعلا مضارعا؛ لأنه الأصل في العمل، والتمسّك بالأصل أولى، ولأنه يفيد التجدّد الاستمراري، وإنما حذف لكثرة دوران المتعلق به على الألسنة»، وقدره المؤلف ب «أبتدئ»، وهذا قول الكوفيين، وبه قال الزمخشري في (الكشاف)، والرازي في (مفاتيح الغيب)، والطاهر ابن عاشور في (التحرير والتنوير) وغيرهم.

وقوله: «وإذا كان المتعلق به اسما فإنه يفيد الديمومة والثبوت، كأنما الابتداء باسم الله حتم دائم في كل ما نمارسه من عمل، ونردده من قول»، وقدره المؤلف ب«ابتدائي»، وهذا قول البصريين.

وقد ذكر أن احتمالات تقدير العامل تأتي في أربعة أوجه استنادا إلى أن العامل يقدر فعلا أو اسما؛ ذلك أن كلا منهما إما أن يقدر متقدما على معموله أو متأخرا عنه، وتأتي هذه الوجوه الأربعة كما يلي:

– أتلو/ أقرأ بسم الله الرحمن الرحيم.

– بسم الله الرحمن الرحيم أتلو/ أقرأ.

– تلاوتي/ قراءتي كائنة بسم الله الرحمن الرحيم.

– بسم الله الرحمن الرحيم تلاوتي/ قراءتي كائنة(8).

ويرى حبنكة الميداني أن أبلغ هذه الاحتمالات أن نقدر العامل فعلا متأخرا، أي: بسم الله الرحمن الرحيم أتلو، وعلل ذلك بأن تقديم المعمول على عامله يفيد عند البلاغيين الحصر، والحصر في هذا المقام أنسب إلى عقيدة المؤمن(9)، وقد ذكر بعضهم فائدتان لتقدير العامل متأخرا، إحداهما الحصر وقد مر معنا، والفائدة الثانية التبرك بتقديم اسم الله عزّ وجل(10).

ولا يعارض هذا قوله تعالى اقرأ باسم ربك الذي خلق لأن ذلك المقام مقام القراءة، فكان الأمر بها أهم(11)، قال الزمخشري: «تَقْدِيم الفِعْل فِي سُورَة العلق أوقع؛ لِأَنَّهَا أول سُورَة نزلت؛ فَكَانَ الأَمر بِالقِرَاءَةِ أهمّ». ولذلك قال السيوطي في عُقُودِ الـجمـان:

وقد يُفيد في الجميع الاهتمـام /// به ومِنْ ثَـمَّ الصَّوَابُ في الـمَقَام

تقديرُ ما عُلِّـقَ باسـم الله بـه /// مـؤخــرا فــإن يَــرِدْ بِـسـبـبـهِ

تقـديـمُـه في سـورة اقـرأ فهُنا /// كـان القـراءةُ الأهـمَّ الـمُعْتَـنَى(12)

وقد اختلف في تقدير المتعلق المحذوف، فقد قدره المؤلف –رحمه الله- ب أبتدئ أو ابتدائي، وقدره غيره ب أقرأ أو أتلو، ولكل وجه سنذكره فيما يلي:

قال أحمد بن المنير في حاشيته على (الكشاف): الذي يقدره النحاة «أبتدئ» وهو المختار لوجوه: الأول: أن فعل الابتداء يصح تقديره في كل بسملة ابتدئ بها فعل ما من الأفعال خلاف فعل القراءة، والعام صحة تقديره أولى أن يقدر، ألا تراهم يقدرون متعلق الجار الواقع خبراً أو صفة أو صلة أو حالا بالكون والاستقرار حيثما وقع ويؤثرونه لعموم صحة تقديره، والثاني: أن تقدير فعل الابتداء مستقل بالغرض من البسملة إذ الغرض منها أن تقع مبدأ فتقدير فعل الابتداء أوقع بالمحل، وأنت إذا قدرت «أقرأ» فإنما تعنى أبتدئ القراءة والواقع في أثناء التلاوة قراءة أيضا لكن البسملة غير مشروعة في غير الابتداء(13).

وممن قدره ب«أقرأ» ابن عاشور في (التحرير والتنوير) الذي يرى أن دليل المتعلق ينبىء عنه العمل الذي شُرع فيه فتعين أن يكون فعلاً خاصاً من النوع الدال على معنى العمل المشروع فيه دون المتعلِّق العام مثل: أبتَدِئ لأن القرينة الدالة على المتعلق هي الفعل المشروع فيه المبدوء بالبسملة فتعين أن يكون المقدر اللفظ الدال على ذلك الفعل(14).

وكلا الأمرين يصحان، والأول فيه تعميم؛ ذلك أن البسملة لا تكون إلا ابتداء فَقُدِّرَ المحذوف متعلقا عاما وهو أبتدئ، والقول الثاني فيه تخصيص وتنزيل للبسملة حسب السياق عند الاستعمال، فيكون المحذوف حينئذ متعلقا خاصا، فإذا كانت في سياق القراءة قدرنا المتعلق بأقرأ كما في القرآن، وإن كانت في سياق آخر قدرنا المتعلق حسب ذلك السياق أو المقام اعتمادا على القرينة. وإذا علمنا أن البسملة سُنَّت عند ابتداء الأعمال الصالحة كلها ناسب أن يقدر متعلق الجار لفظا دالا على الفعل المشروع فيه.

2- الإيجاز في البسملة:

أ- إيجاز القصر:

– قال المؤلف –رحمه الله-: «الإيجاز بإضافة العام إلى الخاص، ويسمى إيجاز قصر» وذلك في (بسم الله).

وقد عرفه البلاغيون بأنه تضمين الألفاظ القليلة معاني كثيرة من غير حذف، فهو الذي لا يمكن أن نعبر عن معانيه بألفاظ مساوية لتلك الألفاظ التي عبر بها عن هذه المعاني(15).

قال ابن الأثير: «وهو أعلى طبقات الإيجاز مكانا، وأعوزها إمكانا، وإذا وجد في كلام بعض البلغاء فإنما يوجد شاذا نادرا»(16).

ذلك أن (اسم) مضاف، ولفظ الجلالة (الله) مضاف إليه، وهنا الإضافة من إضافة الاسم إلى المسمى فتفيد حينئذ العموم، (بسم الله) أي بكل اسم هو لله سمى به نفسه، أو أنزله في كتابه، أو علمه أحدا من خلقه، أو استأثر به في علم الغيب عنده(17).

وفي ذلك من الإيجاز ما لا يخفى، ولو تُرك المتكلم العادي ليعبر عن هذه المعاني التي جاءت موجزة لم يمكنه ذلك إلا بألفاظ طويلة، وهي مع ذلك لا تصل في معناها إلى ما وصلت إليه البسملة.

وقد جعلها حبنكة الميداني من باب القَصْر، قال: «فيها قصر الابتداء والتبرك والاستعانة، وجعلها خاصة بالله عز وجل وصفاته العلية، وذلك على تقدير العامل في: «بسم الله» فعلا متأخرا، عملا بالقاعدة البلاغية التي تبين أن من أغراض تقديم المعمول على العامل إفادة القصر والاختصاص»(18).

وفي البسملة ندب للعباد وإرشاد لهم ليفتتحوا بها صالح أعمالهم إما على جهة التبرك باسم الله تعالى وصفاته الجليلة، وإما على جهة الاستعانة بالله تعالى في بدء كل أمر ذي بال وهو المستعان في كل أمر وعليه التكلان، وهذه معان كثيرة مضمنة في البسملة مع قصر كلماتها على جهة من الإيجاز، وهذا مقام يقتضي الإيجاز بحق.

ب- إيجاز الحذف:

وهو الإيجاز الذي يكون قصر الكلام فيه بسبب استخدام حذف بعض الكلام، اكتفاء بدلالة القرائن على ما حذف.

وهو في البسملة بحذف العامل أو متعلق المجرور في (بسم الله)، والغرض من حذف المتعلق أن يعم كل ما يصلح لأن يقصد شرعا، والتعميم غرض بياني من أغراض الحذف، ولا سيما ما يتكرر استعماله في مناسبات لا تحصر(19)، لذلك قال المؤلف –رحمه الله-، وإنما حذف لكثرة دوران المتعلق به على الألسنة(20).

ومن فوائد هذا الحذف هنا أنه موطن ينبغي أن لا يُقَدم فيه سوى ذكر الله تعالى، فلو ذكر الفعل، وهو لا يستغني عن فاعله، لم يكن ذكر الله مقدما، وكان في حذفه مشاكلة اللفظ للمعنى، كما تقول في الصلاة (الله أكبر)، ومعناه من كل شيء، ولكن يحذف ليكون اللفظ في اللسان مطابقا لمقصود القلب، وهو أن لا يكون في القلب ذكر إلا الله عز وجل(21).

وفائدة أخرى لهذا الحذف وهي صلوحية البسملة ليبتدئ بها كل شارع في فعل فلا يلجأ إلى مخالفة لفظ القرآن عند اقتباسه(22).

3- التكرار في الوصف:

وزاد بعضهم: التكرار في الوصف وهو في «الرحمن الرحيم»، ويكون إما لتعظيم الموصوف، أو للتأكيد، ليتقرر في النفس(23).

وقد ذكر المؤلف –رحمه الله- بأنه لا يستغنى بأحد الوصفين عن الآخر(24)؛ ذلك أن الرحمن وهو على صيغة فعلان في اللغة، وهي تدل على وصف فعلي، فيه معنى المبالغة للصفات الطارئة كعطشان وغرثان، أما الرحيم على صيغة فعيل، فتدل على وصف فعلي فيه معنى المبالغة للصفات الدائمة الثابتة.

وفي (صيغ المبالغة في التعبير القرآني) أن فعلان وفعيل صيغتا مبالغة، فالأول يدل على المبالغة في التوسع والشمول، والأخرى تدل على المبالغة في القوة والشدة، أي: الأولى في الكم والثانية، في الكيف(25).

وقد اعتبروا الرحمان أخص من الرحيم فتعقيب الأول بالثاني تعميم بعد خاص ولذلك كان وصف الرحمان مختصا به تعالى، وكان أول إطلاقه مما خصه به القرآن على التحقيق بحيث لم يكن التوصيف به معروفا عند العرب، ومدلول الرحيم كون الرحمة كثيرة التعلق إذ هو من أمثلة المبالغة ولذلك كان يطلق على غير الله تعالى كما في قوله تعالى في حق رسوله: (بالمؤمنين رؤوف رحيم) فليس ذكر إحدى الصفتين بمغن عن الأخرى(26).

وقد قيل أيضا أن الرحمن يستعمل في الأغلب للدلالة على عموم رحمته تعالى المؤمنين والكافرين في الدنيا، والرحيم يستعمل في الأغلب للدلالة على خصوص رحمته تعالى المؤمنين في الآخرة(27).

ما يتعلق بفنون البيان فيها:

2- الباء في (بسم) وما ينبني عليها من استعارة ومجاز:

قال المؤلف: «والباء هنا للاستعانة أو للإلصاق» ولم يعين معنى واحدا منها-وكثيرا ما يفعل ذلك في كتابه-، وممن قال بكون الباء للاستعانة: أبو حيان في (البحر المحيط) وصاحب (اللباب في علم الكتاب)، والألوسي في (روح المعاني)، قال: «وعندي أن الاستعانة أولى بل يكاد أن تكون متعينة إذ فيها من الأدب والاستكانة وإظهار العبودية ما ليس في دعوى المصاحبة، ولأن فيها تلميحا من أول وهلة إلى إسقاط الحول والقوة ونفي استقلال قدرة العباد وتأثيرها وهو استفتاح لباب الرحمة وظفر بكنز لا حول ولا قوة إلا بالله، ولأن هذا المعنى أمس بقوله تعالى: (وإياك نستعين) ولأنه كالمتعين في قوله: (اقرأ باسم ربك) [العلق: 1] ليكون جوابا لقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: لست بقارئ على أتم وجه وأكمله»(28).

– وممن قال بكون الباء للإلصاق: الرازي في (مفاتيح الغيب)، وهي عند الطاهر ابن عاشور في (التحرير والتنوير) للإلصاق أو الملابسة أو المصاحبة وهي مترادفات في الدلالة على هذا المعنى(29)، وذكر أن هذا الوجه أي الملابسة أحسن من جعلها للآلة وأدخل في العربية وأحسن لما فيه من زيادة التبرك بملابسة جميع أجزاء الفعل لاسمه تعالى، وفي (معارج التفكر) أن المؤمن لا يلتصق التصاق التجاء وتبرك إلا بالله وصفاته.

وقد فرق السيوطي –رحمه الله- في حاشيته على تفسير البيضاوي بين المصاحبة والإلصاق وجعل كلا منهما وجها، بالإضافة إلى وجه الاستعانة، فهذه ثلاثة وجوه للباء في (بسم الله)، ثم أضاف وجها رابعا وهو أن الباء هنا بمعنى «على» ويشهد له قوله تعالى: (فكلوا مما ذكر اسم الله عليه) [سورة الأنعام 119]، (ولا تاكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) [سورة الأنعام 122]، (فاذكروا اسم الله عليها صوافّ) [سورة الحج 37]، والمعنى على اسم الله أقرأ. فإن قيل: إنما قال «على» في المواضع المذكورة من أجل فعل الذكر. قلنا: فعل الذكر يتعدى إلى مفعوله الثاني مرة بعلى، ومرة باللام نحو: ذكرته لزيد، فلما عداه بـ «على» عرف أن المراد أن يكون الذبح على اسم الله تعالى، بأن يقول: بسم الله، أي على اسم الله أذبح. قال: فإن قيل: نقلتنا من حرف جر إلى حرف جر يحتاج أن يفسر معناه. قلنا: ذهب بعض النحاة إلى أن «على» اسم، وليس بحرف، ولئن قلنا: إنها حرف كما هو المشهور فالمعنى على اسم الله أقرأ، وهذا من الاستعلاء الدالّ على التمكن نحو على الله توكلت، ونحو قوله: (أولئك على هدى من ربهم) [سورة البقرة: 6] ونحو: «أنا على عهدك ووعدك ما استطعت» قال: ولم أر من تعرّض لذلك(30)، وقيل أيضا إنها باء التعدية، وقيل باء القسم وقيل غير ذلك.

وقد ربط المؤلف –رحمه الله- بين معنى الاستعانة والإلصاق في الباء وما فيها من استعارة ومجاز:

– يقول: «إذا جعلنا الباء للاستعانة، فيكون في الكلام استعارة مكنية تبعية لتشبيهها بارتباط يصل بين المستعين والمستعان به، وإذا جعلنا الباء للإلصاق فيكون في الكلام مجاز علاقته المحلية، نحو: مررت بزيد أي بمكان يقرب منه لا بزيد نفسه».

فقد شبهت الباء الموضوعة للاستعانة بغير آلة حقيقية بالاستعانة بآلة حقيقية أو ارتباط يصل بين المستعين وهم العباد، والمستعان به وهو الله تعالى، وقد خرجت مخرج الاستعارة التبعية لوقوعها في الحرف.

أما المجاز بناء على أن الباء للإلصاق، علاقته المحلية، وهو أن يكون اللفظ المستعمل محلا والمعنى المراد حالا فيه، والمراد ألصقت تبركي باسم الله تعالى وصفاته الجليلة لا بذات الله تعالى نفسه وهذا الأخير هو اللفظ المستعمل محلا، وفائدة هذا المجاز زيادة تأكيد التبرك بالله تعالى في بداية كل عمل مشروع.

يقول الدسوقي في حاشيته على (مختصر المعاني) للسعد التفتازاني متحدثا عن الباء أيضا وما ينبني عليها من استعارة ومجاز: ««الباء» حقيقتها الإلصاق، وهو حقيقى ك«أمسكت بزيد» إذا قبضت على شيء من جسمه أو على ما يحبسه من يد أو نحوه، ومجازى نحو: «مررت بزيد» أى ألصقت مرورى بمكان يقرب من زيد، وهى هنا للاستعانة، وحيث كانت هنا كذلك فتكون استعارة تبعية، وتقريرها أن يقال: شبه الارتباط على وجه الاستعانة بالارتباط على وجه الإلصاق بجامع مطلق الارتباط في كل، فسرى التشبيه للجزئيات، فاستعيرت الباء الموضوعة للإلصاق الجزئي للاستعانة الجزئية على طريق الاستعارة التبعية(31). وفي المجاز يقول: «ولك أن تجعلها من قبيل المجاز المرسل علاقته الإطلاق والتقييد، وذلك أن الباء موضوعة للارتباط المقيد بالإلصاق فأطلقت عن ذلك، واستعملت في الارتباط على وجه الاستعانة، فهو مجاز مرسل بمرتبتين علاقته ما ذكر»(32)، وقد خرجها بعضهم مخرج الاستعارة المصرحة التبعية وغيرها وينظر في ذلك ما كتبه الصبان في الرسالة الكبرى، وإنما اقتصرنا على ما خطه المؤلف –رحمه الله- لأنه قد عني بتلخيص ما كان يراه مفيدا نافعا من الآراء فجاءت عنده مختصرة تفي بالغرض وتحقق المطلوب، وهذا من سمات منهجه التي وقفت عليها فيما قرأته من كتابه، ويقال هذا أيضا في آراء المعربين والمفسرين وغيرهم بحيث يختار المؤلف –رحمه الله- ما يراه أكثر مناسبة وملاءمة للمنطق والذوق من تراكيب العربية، وإنما قرنتها بكلام الدسوقي على سبيل البسط، وكذلك لأن الدسوقي يرى أن الباء هنا للاستعانة مع مراعاة حقيقة الباء وهي الإلصاق فبنى على ذلك ما يتعلق بها من استعارة ومجاز، عكس ما فعله المؤلف بحيث ذكر المعنيين معا وذكر ما ينبني عليهما من استعارة ومجاز.

ثالثا: ما يتعلق بفنون البديع فيها:

لم يقف المؤلف –رحمه الله- على ما يتعلق بفنون البديع في البسملة، وإنما وقفت عليها عند غيره ممن تكلموا في بلاغتها، فأشاروا إلى مجموعة من الفنون البديعية نذكر منها:

1- المذهب الكلامي: وقد وقف عليه الدسوقي في حاشيته على (مختصر المعاني) وبعده حبنكة الميداني في (معارج التفكر).

وهو من أنواع المحسنات البديعية المعنوية، وهو أن يساق المعنى بدليله، وقد عرفه في كتابه (البلاغة العربية) أن يأتي الأديب البليغ على صحّة دعواه وإبطال دعوى خصمه بحجّة عقليّة برهانيّة أو دُونَها(33)، وعند غيره بحجة قاطعة أيا كان نوعها(34).

وبيانه هنا: أن قوله: «بسم الله الرحمن الرحيم» فى قوة قولنا: لا أبتدئ إلا باسم الله؛ لأنه الرحمن الرحيم.

وقد زاد بيانه حبنكة الميداني حيث يقول: «وفيها حسن اختيار صفتي الرحمن الرحيم لمزية فيهما، وهي مناسبتها لموضوع التسمية المتضمن الالتصاق والاستعانة بالله تبارك وتعالى، ففي ذكر هاتين الصفتين تعريض بالمقتضي الذي دفع المؤمن للاستعانة بالله وحده، إذ الكلام إجمال وإيجاز لقول القائل: لا أبتدئ مستعينا إلا بالله لأنه هو الرحمن الرحيم. ففي هذا سوق للمعنى مقترنا بدليله»(35).

2- التورية: وهو أن يذكر المتكلم لفظا مفردا له معنيان، على سبيل الحقيقة أو على سبيل الحقيقة والمجاز، أحدهما ظاهر قريب يتبادر إلى الذهن وهو غير مراد، والآخر بعيد فيه نوع خفاء وهو المعنى المراد(36).

فقد أطلقت الرحمة وأريد بها التفضل والإحسان- الذى هو معنى بعيد لها؛ لأنه مجازى- اعتمادا على قرينة خفية، وهو استحالة المعنى القريب الذى هو الرقة(37).

3- الاستخدام: وهو من المحسنات البديعية المعنوية، وحده أن يؤتى بلفظ له معنيان فيراد به أولا أحدهما، ويعاد الضمير عليه أو يشار إليه باسم إشارة مرادا به المعنى الآخر، أو يراد بأحد ضميريه أحد معنييه ويراد بالآخرِ الآخرُ منهما، سواء أكان المعنيان حقيقين، أم مجازيين، أم مختلفين(38).

وبيانه: أن في البسملة استخدام بناء على أن المراد من اسم الجلالة اللفظ، وفى الرحمن ضمير يعود على الله باعتبار الذات(39).

وقد ذكر أن هذا الفن البديع يدعو إليه الإيجاز من جهة، وتقدير ذكاء المتلقي وإرضاؤه من جهة أخرى. ولا أحسن من الإيجاز في البسملة، ولا أبلغ من الإيجاز فيها.

4- الإدماج: وهو من المحسنات البديعية المعنوية أيضا، وحده إدخال فكرة في فكرة، أو غرض بلاغي في غرض آخر، أو وجه من وجوه البديع في وجه منه آخر، بأسلوب من الكلام لا يظهر منه إلا إحدى الفكرتين، أو أحد الغرضين، أو أحد الوجهين، فإذا تأمل المتفكر ظهر له المدمج وسره هذا الإدماج(40).

وبيان ذلك هنا: أن الغرض الأصلي من البسملة التبرك والاستعانة باسمه تعالى، فبعد أن ذكر هذا الغرض منها أدمج فيها الثناء على الله بكونه رحمانا رحيما(41).

وقد ذكر السعد أن المعنى الثاني يجب أن لا يكون مصرحا به، ولا يكون في الكلام إشعار بأنه مسوق لأجله، وهو كذلك في البسملة فقد ضمن المعنى الثاني في الأول وهو لا يظهر لك إلا بعد التأمل وبعد أن تفرغ من المعنى الأول لأنه هو المقصود أولا.

وهذا غيض من فيض ونزر يسير من كلام كثير، وإلا فالكلام على البسملة يحتاج إلى حلقات كثيرة، وهي مع ذلك قد لا توفي بكل ما فيها من فوائد وأسرار، وهي مع إيجازها حمالة معان وأفكار، لا تعطي لكاشفها إلا بعد تأمل وإصرار.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

1- روح المعاني 1/68.

2- انظر: التحرير والتنوير 1/137.

3- مفاتيح الغيب 1/104.

4- مفاتيح الغيب 1/103.

5- البحر المحيط 1/32.

6- إعراب القرآن الكريم وبيانه 1/25.

7- إعراب القرآن الكريم وبيانه 1/24- 25.

8- انظر: معارج التفكر ودقائق التدبر 1/18- 19، اللباب في علم الكتاب 1/118.

9- انظر: معارج التفكر ودقائق التدبر 1/18- 19.

10- تفسير سورة الفاتحة والبقرة 1/4.

11- فتح القدير 1/21.

12- عقود الجمان ص: 49.

13- الكشاف 1/100، حاشية ابن المنير على الكشاف.

14- التحرير والتنوير 1/146.

15- البلاغة فنونها وأفنانها 1/487.

16- المثل السائر 2/117.

17- فتح رب البرية في شرح نظم الآجرومية ص: 8- 9.

18- معارج التفكر ودقائق التدبر 1/28.

19- معارج التفكر ودقائق التدبر 1/19.

20- إعراب القرآن الكريم وبيانه 1/24.

21- البحر المحيط 1/32.

22- التحرير والتنوير 1/147.

23- البحر المحيط 1/32.

24- إعراب القرآن الكريم وبيانه 1/24.

25- صيغ المبالغة في التعبير القرآني ص: 272.

26- انظر: التحرير والتنوير 1/172.

27- معارج التفكر 1/21.

28- روح المعاني 1/50.

29- التحرير والتنوير 1/147.

30- نواهد الأبكار وشوارد الأفكار 1/99.

31- حاشية الدسوقي على مختصر المعاني ص: 16.

32- حاشية الدسوقي على مختصر المعاني ص: 16- 17.

33- البلاغة العربية أسسها وعلومها وفنونها 2/446.

34- علم البديع ص: 172.

35- معارج التفكر ودقائق التدبر 1/28.

36- البلاغة العربية أسسها وعلومها وفنونها 2/373.

37- حاشية الدسوقي على مختصر المعاني ص: 19.

38- البلاغة العربية أسسها وعلومها وفنونها 2/401.

39- حاشية الدسوقي على مختصر المعاني ص: 20.

40- البلاغة العربية أسسها وعلومها وفنونها 2/427.

41- حاشية الدسوقي على مختصر المعاني ص: 20.

المصادر والمراجع:

– إعراب القرآن الكريم وبيانه، لمحيي الدين الدرويش، الطبعة الحادية عشرة: 1432هـ/ 2011م، منشورات اليمامة ودار ابن كثير.

– البحر المحيط في التفسير، لأبي حيان الأندلسي، تحقيق صدقي محمد جميل، منشورات دار الفكر، بيروت، سنة: 1420هـ.

– البلاغة العربية أسسها وعلومها وفنونها، تأليف وتأمل عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني، الطبعة الرابعة: 1434هـ /2013م، منشورات دار القلم، دمشق- الدار الشامية، بيروت.

– البلاغة فنونها وأفنانها، للدكتور فضل حسن عباس، الطبعة الثانية عشر: 1429هـ /2009م، منشورات دار النفائس للنشر والتوزيع، الأردن.

– التحرير والتنوير، للإمام محمد الطاهر ابن عاشور، منشورات دار سحنون للنشر والتوزيع، تونس.

– تفسير العثيمين (الفاتحة والبقرة)، لمحمد بن صالح بن محمد العثيمين، الطبعة الأولى: 1423هـ، منشورات دار ابن الجوزي، المملكة العربية السعودية.

– حاشية الدسوقي على مختصر المعاني لسعد الدين التفتازاني، لمحمد بن عرفة الدسوقي، تحقيق عبد الحميد هنداوي، منشورات المكتبة العصرية، بيروت.

– روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، للألوسي، تحقيق: علي عبد الباري عطية، الطبعة الأولى: 1415هـ، منشورات: دار الكتب العلمية، بيروت.

– صيغ المبالغة في التعبير القرآني، للدكتور عبد الستار صالح البناء، الطبعة الأولى: 1434هـ /2013م، منشورات دار جرير للنشر والتوزيع.

– عُقُودُ الجُمانْ في عِلْمِ الْمَعَانِي وَالْبَيَانْ، للسيوطي، تحقيق وضبط: عبد الحميد ضحا، الطبعة الأولى: 1433هـ/ 2012م، منشورات: دار الإمام مسلم للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة.

– علم البديع، لعبد العزيز عتيق، منشورات: دار النهضة العربية للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت.

– فتح القدير، للشوكاني، الطبعة الأولى: 1414هـ، منشورات: دار ابن كثير، دار الكلم الطيب، دمشق، بيروت.

– فتح رب البرية في شرح نظم الآجرومية، لأحمد بن عمر الحازمي، الطبعة الأولى: 1431هـ/ 2010م، منشورات مكتبة الأسدي، مكة المكرمة.

– الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، للزمخشري، تحقيق وتعليق ودراسة الشيخ عادل أحمد عبد الموجود، والشيخ علي محمد معوض، الطبعة الأولى: 1418هـ/ 1998م، منشورات مكتبة العبيكان، الرياض.

– اللباب في علوم الكتاب، لأبي حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني،  تحقيق الشيخ عادل أحمد عبد الموجود والشيخ علي محمد معوض، الطبعة الأولى: 1419هـ /1998م، منشورات دار الكتب العلمية، بيروت.

– المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر، لابن الأثير، تحقيق: محمد محي الدين عبد الحميد، منشورات: المكتبة العصرية للطباعة والنشر، بيروت، عام: 1420هـ.

– معارج التفكر ودقائق التدبر، لعبد الرحمن حسن حبنكة الميداني، الطبعة الأولى: 1420هـ /2000م، منشورات دار القلم، دمشق.

– مفاتيح الغيب، لفخر الدين الرازي، الطبعة الثالثة: 1420هـ، منشورات دار إحياء التراث العربي، بيروت.

– نواهد الأبكار وشوارد الأفكار،  للسيوطي، منشورات جامعة أم القرى- كلية الدعوة وأصول الدين، المملكة العربية السعودية، عام النشر: 1424هـ/ 2005م.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق