مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةقراءة في كتاب

وجوه إعجاز القرآن الكريم من خلال كتاب «إعراب القرآن الكريم وبيانه» لمحيي الدين الدرويش -الحلقة الثالثة: سِرُّ التكرير في قوله تعالى: (تلك عشرة كاملة)

ألمع المؤلف محيي الدين الدرويش -رحمه الله- في كتابه «إعراب القرآن الكريم وبيانه» إلى فن بياني رفيع دقيق المأخذ، وذلك في قوله تعالى: (تلك عشرة كاملة) وهو فن التكرير، ولم أر من نبه على هذا الفن في هذه الآية قبل المؤلف.

واعلم أن هذا النوع أو الفن من مقاتل علم البيان، وهو دقيق المأخذ. وحدّه هو: دلالة اللفظ على المعنى مردّدا(1)، وقد قسمه ابن الأثير إلى قسمين: أحدهما يوجد في اللفظ والمعنى، والآخر يوجد في المعنى دون اللفظ.

يقول المؤلف: «وهو في الآية بقوله تعالى: (تلك عشرة كاملة) بعد ثلاثة وسبعة تنوب مناب قوله ثلاثة وسبعة مرتين، ثم قال: كاملة، وذلك توكيد ثالث، والأمر إذا صدر من الآمر على المأمور بلفظ التكرير، ولم يكن موقتا بوقت معين كان في ذلك إهابة إلى المبادرة لامتثال الأمر والانصياع للحكم على الفور من غير ريث ولا إبطاء، ومن ثم وجب صوم الأيام السبعة عند الرجوع فورا، فتفطن لها فإنها من الأسرار(2).

وقد جعل بعضهم قوله تعالى: (تلك عشرة كاملة) من باب الإطناب ولم يسمه تكريرا، قال الصابوني: «(تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ) فيه إجمال بعد التفصيل وهذا من باب «الإطناب» وفائدته زيادة التأكيد والمبالغة في المحافظة على صيامها وعدم التهاون بها أو تنقيص عددها»(3).

وفي الحقيقة أن بين التكرير والإطناب فرقا؛ ذلك أن التكرير هو إيراد المعنى مرددا فمنه ما يأتي لفائدة ومنه ما يأتي لغير فائدة؛ فأما الذي يأتي لفائدة فإنه جزء من الإطناب وهو أخص منه؛ فيقال حينئذ: إن كل تكرير يأتي لفائدة فهو إطناب وليس كل إطناب تكريرا يأتي لفائدة. وأما الذي يأتي من التكرير لغير فائدة فإنه جزء من التطويل، وهو أخص منه، فيقال حينئذ: إن كل تكرير يأتي لغير فائدة تطويل، وليس كل تطويل تكريرا يأتي لغير فائدة(4).

فائدة التكرير في قوله (عَشَرَة):

ذَكَرَ المفسرون في فائدة التكرير في قوله (عَشَرَة) أقوالا منها ما يرجع إلى التفسير، وكذلك الفقه، والنحو، واللغة، والمعنى، والحساب ومنها:

– أتى بعشرة توطئة للخبر بعدها، لا أنها هي الخبر المستقل به فائدة الإسناد، فجيء بها للتوكيد(5).

– وقيل مجرد توكيد كما تقول: كتبت بيدي أي أنه جاء على أسلوب عربي ولا يفيد إلا تقرير الحكم في الذهن مرتين.

وفائدة التوكيد أنَّ الكلام المعبَّر عنه بالعبارات الكثيرة الشّريفة وبالصِّفات الكثيرة، أبعد عن السَّهو والنّسيان من الكلام المعبَّر عنه بعبارة واحدة، وكونه معبراً عنه بعبارات كثيرة يدلُّ على كونه مشتملاً على مصالح عظيمة، لا يجوز الإخلال بها، فإذا كان التّوكيد مشتملاً على هذه الحكمة كان ذكره هنا دالاًّ على رعاية هذا العدد فى هذا الصَّوم، فإنَّه من المهمّات التي لا يجوز إهمالها البتَّة(6).

– ذكر العشرة لزوال توهم أن السبعة لا يراد بها العدد، بل الكثرة.

– أن يعلم العدد جملة -كما علم تفصيلا- فيحاط به من وجهين فيتأكد العلم، ومن أمثالهم- علمان خير من علم- لا سيما وأكثر العرب لا يحسن الحساب، فاللائق بالخطاب العامي الذي يفهم به الخاص والعام الذين هم من أهل الطبع، لا أهل الارتياض بالعلم أن يكون بتكرار الكلام وزيادة الإفهام(7).

– أن لا يتوهم أن -الواو- بمعنى أو التخييرية، ولم يذكر ابن عطية في تفسيره إلا هذا القول: «ولما جاز أن يتوهم متوهم التخيير بين ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع أزيل ذلك بالجملة من قوله تعالى: (تلك عشرة كاملة)»(8).

وقد بَيَّنَ الطاهر ابن عاشور منشأ توهم معنى التخيير فقال: «إن هذا المعنى وإن كان خلاف الأصل في الواو حتى زعم ابن هشام أن الواو لا ترد له، وأن التخيير يستفاد من صيغة الأمر لأنه قد يتوهم من حيث أن الله ذكر عددين في حالتين مختلفتين وجعل أقل العددين لأشق الحالتين وأكثرهما لأخفهما، فلا جرم طرأ توهم أن الله أوجب صوم ثلاثة أيام فقط وأن السبعة رخصة لمن أراد التخيير، فبين الله ما يدفع هذا التوهم»(9).

– أما المبرد فيرى أنه ذكر ذلك ليدل على انقضاء العدد لئلا يتوهم متوهم أنه قد بقي بعد ذكر السبعة شيء آخر(10).

– قيل: أتى بعشرة لإزالة الإبهام المتولد من تصحيف الخط، لاشتباه سبعة وتسعة.

– أتى بعشر لئلا يتوهم أن الكمال مختص بالثلاثة المضمومة في الحج، أو بالسبعة التي يصومها إذا رجع، والعشرة هي الموصوفة بالكمال، ولقد أحسن صاحب اللباب حين قال: «وذكر العشرة ليتوصل به إلى قوله «كَامِلَة»؛ لأنَّه لو قال: «تِلْكَ كَامِلَةٌ»؛ لجاز أن يراد به الثَّلاثة المفردة عن السَّبعة والسّبعة المفردة عن الثَّلاثة، فلا بدّ من ذكر العشرة»(11).

–  أنَّ قوله (فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الحج وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ) يحتمل أن يكون المراد، أن يكون الواجب بعد الرُّجوع أن يكمل صيام سبعة أيّام، على أنَّه يحسب الثَّلاثة المتقدِّمة منها، ويكمل عيلها أربعةً، فلما قال «تِلْكَ عَشَرَة»؛ أزال هذا الاحتمال(12).

فائدة التوكيد في قوله (كَامِلَة):

ذكر المفسرون في فائدة التكرير في قوله (كَامِلَة) أقوالا منها:

– يرى الطاهر ابن عاشور أن قوله (كاملة) يفيد التحريض على الإتيان بصيام الأيام كلها لا ينقص منها شيء، مع التنويه بذلك الصوم وأنه طريق كمال لصائمه، فالكمال مستعمل في حقيقته ومجازه(13).

– المعنى تلك كاملة، وكرر الموصوف تأكيدا(14)، وللشيخ القاسمي رأي هنا من المفيد ذكره، وهو أن (كاملة) صفة مؤكدة لـ(عشرة)، تفيد المبالغة في المحافظة على العدد، ففيه زيادة توجيه لصيامها وألا يتهاون بها، ولا ينقص من عددها، كأنه قيل: (تلك عشرة كاملة)، فراعوا كمالها ولا تَنْقُصوها(15).

– إن المعتاد أن يكون البدل أضعف حالاً من المُبْدَل، فبيَّن الله تعالى أنَّ هذا البدل ليس كذلك، بل هو كامل فى كونه قائماً مقام المبدَل، فيكون الصائم ساكن النَّفس إلى حصول الأجر الكامل من عند الله(16).

سر التكرير في قوله (تلك عشرة كاملة):

أكد علماء البلاغة على أنه ليس في القرآن مكرر لا فائدة في تكريره؛ وقد رأينا فيما سبق فائدة التكرير في قوله تعالى (عَشَرَة) وفائدة التوكيد في قوله (كَامِلَة) لنرى فيما يلي سر التكرير في قوله (تلك عشرة كاملة).

ذلك أنك إذا رأيت شيئا من القرآن تكرر من حيث الظاهر فأنعم نظرك فيه؛ فانظر إلى سوابقه ولواحقه؛ لتنكشف لك الفائدة منه والسر من ورائه، وهذا ما فعله المؤلف -رحمه الله- إذ نظر في سياق الآية فوجد أن الأمر الصادر وهو الصيام من الآمر وهو الله عز وجل على المأمور وهو الحاج، الصادر بلفظ التكرير لم يكن مؤقتا بوقت معين، صحيح أنه قال (إذا رجعتم) أي بعد الرجوع من الحج، وهذا زمن غير معين بدقة، إذ يصح أن يطلق على ما يستقبل من زمن ما بعد الرجوع من الحج مطلقا.

من هنا تفطن المؤلف -رحمه الله- إلى فائدة أخرى لهذا التكرير وهي أن في ذلك إهابة إلى المبادرة لامتثال الأمر والانصياع للحكم على الفور من غير ريث ولا إبطاء، ومن ثم وجب صوم الأيام السبعة عند الرجوع فورا، وهذا مما لم يسبق إليه المؤلف.

وقد سئِل الطاهر ابن عاشور -رحمه الله- عن حكمة كون التوزيع كان إلى عددين متفاوتين لا متساويين، فأجاب أن الحكمة في ذلك اختلاف حالة الاشتغال بالحج ففيها مشقة، وحالة الاستقرار بالمنزل، وأن فائدة جعل بعض الصوم في مدة الحج جعل بعض العبادة عن سببها(17).

ولما كان الأمر كذلك كان معلوما أن الحاج متى رجع إلى وطنه واستقر بمنزله تمكن إلى الراحة بعد المشقة، وذَبُل فيه بعض النشاط الذي كان عليه في الحج، خاصة إذا كان بعيد الديار قد فارق الأحباب والأصحاب، فقد يطرأ عليه عند رجوعه ما يلهيه عن الصيام ويبطئ به، فإذا عَجَّلَ بصيام الأيام السبعة تكملة للثلاثة الأخرى فور الرجوع منه ولم يتهاون بها كان ذلك أحسن، وأدخل في صفة الكمال والله أعلم.

وفي ما يلي رسم توضيحي لما أراده المؤلف -رحمه الله-:

 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

1- المثل السائر 2/146.

2- إعراب القرآن الكريم وبيانه 1/259.

3- صفوة التفاسير 1/117.

4- المثل السائر 2/121.

5- البحر المحيط 2/268.

6- اللباب في علوم الكتاب 3/385، مفاتيح الغيب 5/311.

7- روح المعاني 1/480.

8- المحرر الوجيز 1/270.

9- التحرير والتنوير 2/229.

10- إعراب القرآن الكريم وبيانه 1/259.

11- اللباب في علوم الكتاب 3/385.

12- المصدر نفسه.

13- التحرير والتنوير 2/229.

14- المحرر الوجيز 1/270.

15- محاسن التأويل 2/69.

16- اللباب في علوم الكتاب 3/385، مفاتيح الغيب 5/310.

17- التحرير والتنوير 2/229.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصادر والمراجع:

– إعراب القرآن الكريم وبيانه، لمحيي الدين الدرويش، الطبعة الحادية عشرة: 1432هـ/ 2011م، منشورات اليمامة ودار ابن كثير.

– البحر المحيط في التفسير، لأبي حيان الأندلسي، تحقيق صدقي محمد جميل، منشورات دار الفكر، بيروت، سنة: 1420هـ.

– التحرير والتنوير، للإمام محمد الطاهر ابن عاشور، منشورات دار سحنون للنشر والتوزيع، تونس.

– روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، للألوسي، تحقيق: علي عبد الباري عطية، الطبعة الأولى: 1415هـ، منشورات دار الكتب العلمية، بيروت.

– صفوة التفاسير، لمحمد علي الصابوني، الطبعة الأولى: 1417هـ/ 1997م، منشورات دار الصابوني للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة.

– اللباب في علوم الكتاب، لأبي حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني،  تحقيق الشيخ عادل أحمد عبد الموجود والشيخ علي محمد معوض، الطبعة الأولى: 1419هـ /1998م، منشورات دار الكتب العلمية، بيروت.

– المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر، لابن الأثير، تحقيق: محمد محي الدين عبد الحميد، منشورات المكتبة العصرية للطباعة والنشر، بيروت، عام النشر: 1420هـ.

– محاسن التأويل، للقاسمي، تحقيق: محمد باسل عيون السود، الطبعة الأولى: 1418هـ، منشورات دار الكتب العلمية، بيروت.

– المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، لابن عطية الأندلسي، تحقيق عبد السلام عبد الشافي محمد، الطبعة الثانية: 1428هـ/ 2007م، منشورات دار الكتب العلمية، بيروت.

– مفاتيح الغيب، لفخر الدين الرازي، الطبعة الثالثة: 1420هـ، منشورات دار إحياء التراث العربي، بيروت.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق