مركز علم وعمران للدراسات والأبحاث وإحياء التراث الصحراويمعالم

واد نونُ العلمِ والعمران مشهدٌ من رحلة الشيخ محمد يحيى الولاتي (ت 1330هـ، 1912م)

يتأكد عند تناول متون أدب الرحلة أمر يحمل الباحثين على سلوك سبل شتى في التعاطي معها تبعا لهمومهم وتخصصاتهم، وهو أن كتب الرحلات هذه، أوعية لمعارف إنسانية كشفت عنها أو صاغتها شخصية صاحب الرحلة من خلال تفاعلاتها مع المجال والإنسان، فهي بذلك، تشكل مصادر لا غنى عنها في التاريخ المحلي على جهة التخصيص، إذ توفر بيانات واسعة، كما قد تضم من الفنون ما لا تضمه ألوان الأدب الأخرى، وكتاب الرحلة الحجازية للفقيه الحافظ محمد يحيى الولاتي نموذج ينسلك ضمن هذا المسلك.

واعتبارا للفرضية التي نستهل بها هذه المقالة، والتي مفادها أن العلم عبر تاريخ المغرب غير منفصل عن العمران تشكلا وانتشارا، وأن نتائج هذا الوَشْج تبرعمت مع الانسان المغربي فكوّنت معماره الجمعي على مستوى القيم والفكر والتدين. فإننا سنقف على رصد المشهد العمراني لكلميم من خلال رحلة الولاتي لنخلص إلى تحرير نتائج تمحيص هذه الفرضية مع بيان مدى تلازم العلم والعمران في حاضرة كلميم.

أولا : السياق التاريخي لرحلة الولاتي

يجدر بنا أن نعلل اختيارنا لهذه الرحلة باعتبارين : أولهما أهمية الكتاب ومكانة صاحبه، وثانيهما: زمن قدومه ومدة مكثه باكليميم وإصداره لفتوى الجمعة التي شغلت حيزا مهما في الرحلة، وهي التي سنتلمس خلالها معالم العمران في كلميم.

أما من حيث صاحب الرحلة فهو العلامة الجليل العظيم القدر محمد بن يحيى بن محمد المختار بن الطالب عبد الله بن احمد حاج الداودي العلوشي الولاتي الشنقيطي، من أسرة عرفت بالعلم  ظهر تبحره في العلوم في بلده واشتغل بالتدريس والقضاء مجانا، ثم رحل إلى الحج سنة 1312هـ، ولم يعد لبلدته ولاته إلا في سنة 1318هـ، وكانت حياته دائرة بين تدريس وتلقين وتأليف، حتى ذكر بعض تلاميذه أنها تناهز المائة كبارا وصغارا؛ لأن عادته أن يكتب دائما بين الظهرين، ومن تآليفه “فتح الودود على مراقي السعود”، و”منظوم في القواعد الفقهية”، و”نيل السول على مرتقى الوصول” و “شرح نظم ورقات إمام الحرمين في أصول الفقه للشيخ محمد المختار الكنتي” و”حسام العدل والانصاف” و”شرح نظم مكفرات الذنوب” و “نظم للآجرومية” و” المواهب التليدة في حل ألفاظ الفريدة ” وهو شرح الفريدة في النحو للسيوطي، وغيرها .. وكانت وفاته سنة 1330هـ/1912م[1].

كرونولوجيا الرحلة

أول ما ندون من الملاحظات على دخول الولاتي لأرض كلميم ومكوثه بها، هو ضبط تواريخ الرحلة ومُدَدِها، فخروجه من شنقيط كان في الخامس من رمضان سنة 1312هـ مرورا بخمس محطات قبل أن يستأنف الطريق نحو وادي نون منتصفَ شوال من العام الثاني عشر بعد ثلاثمائة وألف، ليكون دخوله قرية كلميم في الرابع من شهر ذي القعدة من نفس السنة، هكذا استغرق تنقله إلى وادي نون ومكوثه بكَلميم أربعة أشهر إلا عشر ليال.

الفترة قيد الدراسة، إذن، تقع نهايةَ القرن التاسع عشر الميلادي الرابع عشر الهجري، أي حوالي 1895م الموافق ل 1312هـ، وهي فترة حكم السلطان المولى عبد العزيز الذي كانت بيعته سنة 1311ه موافق 1894م، حيث حصل لقاء الشيخ الولاتي بالسلطان كما في نص الرحلة مرتين، كانت الأولى بالرباط في جمادى الثانية من عام 1313هـ، قال عنها الولاتي :” فدخلنا عليه فوجدناه على سرير ملكه جالسا فسلمت عليه وصافحته، فتبسم في وجهي، فمكثت هنيهة وأنا مصافح له أنتظره يأمرني بالجلوس، فصاح الحاجب ادريس بن العلام من ورائي يقول لي أيها الفقيه إن سيدنا يقول لك السلام عليكم يشير بذلك إلى الانصراف، فأطلقت يد السلطان فرفع يديه يقرأ الفاتحة ففعلت كذلك وانصرفت راجعا”[2].

وأما اللقاء الثاني فحصل بمراكش عند رجوعه من الديار المقدسة :” ثم انا خرجنا من الرباط لأربع خلون من المحرم غرة العام الخامس عشر بعد ثلاثمائة وألف قاصدين مدينة مراكش المحروسة بحفظ الله تعالى فدخلناها لثلاث عشرة ليلة بقيت من المحرم المذكور.. ولم نجتمع بسيدنا ومولانا السلطان عبد العزيز نصره الله تعالى ووفقه للصواب ولا بوزيره الاعظم الفقيه الاكرم احمد بن موسى الا في اليوم السابع فاجتمعنا به في دار السلطان في مجلسه مع الكتاب ينتظرون خروج السلطان، فسلمنا عليه فرحب بنا وفرح بنا غاية الفرح.”[3]

ثانيا: مؤشرات العلم والعمران في اكليميم من خلال الرحلة الحجازية

لعل السفر مع الولاتي في رحلته ونزوله بكلميم يمدنا بملامح الجو العلمي والعمراني السائد بقرية اكلميم إذ” نجد في الرحلة فوائد تاريخية واجتماعية ودينية، كأخبار كَلميم بالسوس الأقصى وحكامها آل بيروك وما كان بها من حركة علمية وعمرانية في أوائل القرن الرابع عشر”[4] .

ويسعفنا العلامة الولاتي مدة مكثه في كلميم بمادة تساعد على تمثل الجو السائد في المنطقة في ذلك الحين، بما يؤكد صحة ما كنا بصدد الكلام عنه من ترابط العمران الصحراوي بالحركة العلمية التي قادها الفقهاء والعلماء.

وأسرة آل بيروك التي يعود الفضل لبعض رجالها في بروز حاضرة  كلميم بعد تراجع نول لمطة وتاكَوست، وخاصة القائد دحمان الذي وصفه المسعول بقوله : “وكان دحمان هو الرجل العظيم الذي نال منهم بواسطة التجارة والفلاحة والرئاسة والكرم ومناصرة الحكومة شأوا بعيدا حتى توفي عام 1325هـ ، وكان لاكلميم في عهده وفي عهد آله أعظم شأن، حتى كانت تلقب في تلك الجهة بفاس الثانية.”[5]

يبدو أن النص السابق يبرز عنصرا مهما في حركة العمران بقرية كليميم والتي ساهم فيها آل بيروك. وتتمثل هذه الحركة أساسا في النشاط الفلاحي، “وتلك الناحية إذ ذاك لا تزال تخصب كل عام ولم تلتهمها الصحراء كاليوم”،[6] خاصة مع والد الشيخ دحمان القائد بيروك او الشيخ مبارك كما كان  يُدعى ، قبل أن يمضي على هذا المنوال ابنه محمد بن بيروك (ت 1303هـ) ، الذي يُذكر أنه قام بالفلاحة العظيمة وبالتجارة كأبيه، إلى أن ضعفت الفلاحة في آخر عهده بوصول طلائع الصحراء إلى وادي نون.[7]

وشكلت اكليميم في فترة تولي القائد دحمان (ت1325) ساحة تواصل علمي بين الصحراء والقطر السوسي. ينبئ عن هذا التواصل العلمي أن دار القائد دحمان بن بيروك كانت إذ ذاك ملتقى العلماء والصلحاء ومعقد مجالسهم، بما كان للقائد بيروك (مبارك) بن عبد الله من اتصال بعلماء بلدته وبالسوسيين الاليغييين والتامانارتيين وغيرهم حتى وفاته سنة 1275هـ[8]، وسيأتي أن تحويل الجمعة من المسجد القديم الى الجديد كان بفتوى من العلماء ومشورتهم.  وعلى منواله سار ابنه القائد دحمان في الاتصال بالعلماء والصوفية آنذاك، فكان له اتصال كبير بعظماء الناس من الرؤساء ومن العلماء ومن الصلحاء المرشدين كسيدي المدني الناصري، شيخه في الطريقة الناصرية[9]، كما لقي آخرين في بعض الفينات كالشيخ الإلغي الذي حضر وعظه يوما[10]، وكالعلامة سيدي محمد بن العربي الأدوزي[11]، وكان يلاقيه في إيليغ[12].

وأما الشيخ الحافظ محمد يحيى الولاتي صاحب الرحلة، فإنه نزل في دار القائد دحمان ومكث عنده ثلاثة أشهر وثلاث ليال، وهي مدة تكفي للدلالة على ما يحف هذه الضيافة من أجواء العلم والتدريس والتأليف، يتأكد هذا متى علمنا أن العلامة الولاتي كان منشغلا طول رحلته إما بالتدريس أو التأليف أو نظم القصائد أو مناظرة العلماء أو الإفتاء فيما يعرض عليه من النوازل، فلا يستقيم له المكوث هذه المدة في منزل القائد دحمان دون أن يكون لذلك من البواعث ما هو علمي، ودون تكون أجواء الضيافة اللائقة بالعلماء هناك متوفرة، بل إن الثمار العلمية لمكوثه تبدو من خلال ما يلي :

  • نظم منثور الأجرومية :

من المفيد أن ننبه إلى أنّ تمكن الفقيه الولاتي من إتمام نظم منثور ابن أجروم في علم النحو بقرية اكليميم بعد أن توقف عنه منذ خروجه من شنقيط، دليل على أن جو التأليف والكتابة  تهيأ له في دار القائد دحمان الذي تعود استقبال العلماء والصلحاء في بيته، وربما خصص لهم مجالس للتلقي والتلقين، وفضاء يتفرغون فيه لنشاطهم العلمي، فضيافة القائد دحمان تجمع بين الكرم والاحسان وبين الاستفادة العلمية من العالم والصالح الذي يحل على اكليميم، وحسب متن الرحلة فالظاهر أن دار القائد دحمان تضم منزلا خاصا لإيواء أمثال الحافظ الولاتي، الذي قال عن هذه الضيافة الخاصة : ” فأقمنا عنده ثلاثة أشهر وثلاث ليال وضيافته جارية علينا. فأتممنا في تلك المدة منظومتنا لمنثور ابن أجروم، واجتمعت فيها بالشيخ عابدين بن بيروك[13]  يوم نزولنا، وصار يدخل علينا كل يوم في منزلنا ويباسطنا ويكرمنا، ولم يزل كذلك معنا حتى رحلنا من قرية اكليميم جزاه الله خيرا “[14] . ثم إن الولاتي شرح هذا النظم في مدينة الرباط كما في بعض نسخ الرحلة الولاتية.

هذا وقد عد المختار السوسي دار القائد دحمان المذكور ممرا بين الصحراء والمغرب، نظرا لوفود العلماء والصلحاء والمرشدين الذين يترددون عليها، ونظرا لكون الشيخ دحمان القائد الرسمي الأول في الأسرة [15] .

  • إصدار الفتوى :

يصل حيز هذه الفتوى من كتاب الرحلة سبعة أوراق (من الصفحة السابعة والثمانين إلى الصفحة المائة من طبعة دار الغرب الاسلامي)، أجاب بها الحافظ الولاتي عن نازلة لأهل قرية اكليميم بنفَس علمي طويل يدل على رسوخ قَدم الفقيه في فروع المذهب ومقاصده وكيفية تنزيلها على الواقعة.

ولسنا نسعى هنا إلى دراسة الفتوى من حيث مضمونها الفقهي بقدر ما نروم تتبع اللمحات الثاوية فيها والتي تصف قرية اكليميم علما وعمرانا.

تتعلق الفتوى المضمنة في كتاب الرحلة الحجازية بحكم صلاة الجمعة في مسجدَي قرية اكليميم القديم والجديد أيهما صحيحة ؟ ومن الآكد أن المُستفتيان حسب ما ذكره الولاتي هما الشيخ دحمان بن بيروك وأخوه الشيخ عابدين،[16] وهذا الاستفتاء مؤشر يوضح احتكام قائد كلميم الشيخ دحمان إلى المرجعية الفقهية المالكية فيما تعلق ببناء المساجد وإقامة الجمعة فيها وهي مسألة ذات وجه علمي وعمراني معا، وهذا ما يؤكد انخراط الشيخ دحمان فيما يمكن تسميته بالوعي بمقاصد العمران الديني، المتمثلة هنا في المحافظة على تماسك الجماعة واجتماع كلمتها على الإمام الواحد قطعا لمادة النزاع والتفرقة، ورعاية هذا المقصد لا تتحقق إلا ” بانتظام الكل في جامع واحد مع ما في ذلك من متابعة ما كان عليه السلف رضي الله عنهم من القيام بالجمعة في موضع واحد “[17].

  • فتوى الشيخ الولاتي والحالة العمرانية لكلميم:

ينص الولاتي ضمن فتواه تلك، على أن اكليميم كانت في عهد الشيخ مبارك (بيروك) قرية صغيرة يمكن لمسجد واحد أن يتسع لجميع سكانها، وهي تضم مسجدا قديما تداعت سقفه وآخر جديدا تَمَّ نقل الجمعة إليه لعذر شرعي وبفتوى العلماء آنذاك، ويَذكر بناء على قول المستفتيان الشيخ دحمان والشيخ عابدين أن أهل  اكلميم كانوا يقيمون صلاة الجمعة والصلوات الخمس بالمسجد الجديد نحوا من عشرة أعوام، ” ثم إنهم بعد موت أبيهم الشيخ انبارك رحمه الله تعالى بنوا المسجد القديم وسقفوه في حياة أخيهم الكبير الشيخ امحمد رحمه الله فلما كملوا بناءه ندبهم سيد اعل بن التجاري إلى إقامة الجمعة في القديم “[18]. هذا ما يذكره الولاتي عن مسجد اكليميم، ولا شك أن هذا المعطى الديموغرافي والعمراني الذي يقدمه النص رغم شفافيته لا يسعف وحده في تبين أحوال القرية زمن القائد بيروك وأبنائه الثلاثة المذكورين، على الأقل فيما تعلق بعدد المساجد، وكل ما نهتدي إليه باطمئنان من النص هو أن بناء المسجد الحديث بالقرية كان في زمن الشيخ بيروك، وأن أبناءه محمدا ودحمان وعابدين أعادوا بناء القديم الذي كان خرِبا بعد وفاة والدهم.

وظاهر نص الرحلة أيضا أن قرية اكليميم لا يوجد بها سوى جامعين قديم خرب تمت إعادة بنائه وجديد نقلت إليه الجمعة والصلوات الخمس، فهي تقام فيه منذ عشر سنوات، على أن joachim gatell الجغرافي الفرنسي الذي زار مدينة اكليميم في النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي إبان ولاية القائد بيروك ونزل عنده، يذكر أن بها حوالي ستة آلاف نسمة[19]، وهي كثافة لا يسعها المسجد الواحد، فهل كانت فتوى الولاتي إذن مخصوصة بنواة الاستقرار الأولى /القصبة وحدها حيث يوجد المسجدان إزاء قصر بيروك ؟

هذا هو الظاهر عند استحضار حجم قرية كلميم وساكنتها كما جاءت بوصفها كتابات المؤرخين، والرحالة الذين زاروها ومنهم (كَاتيل) gatell، الذي يذكر أن اكليميم حينها كانت محاطة بسور له أبواب تحمل أسماء دالة تكاد تتطابق في العدد مع المدن السوسية وداخل السور أحياء تتطابق في دلالتها وموضوعاتها ووظائفها، مع ما يوجد في الأطلس الصغير حيث نواة الاستقرار في الأصل عبارة عن تجمع حول عين ماء ومخزن قبلي اكادير[20]، وهذا موجود في مدينة اكليميم التي تخترقها الخطارات، أما اكادير فلا يزال أثره موجودا إلى اليوم، ونفس الملاحظة تنطبق على القصبة التي تشكل نواة الاستقرار في المدن التقليدية وفيها يوجد قصر بيروك[21]    .

ثم إن النص السابق من كتاب “ايليغ قديما وحديثا”، الذي يصف ما صارت إليه  اكليميم في عهد الشيخ بيروك وفي عهد آله، من إعمار وفلاحة عظيمة وقيام بالتجارة التي هي ميدان بروزهم وحلبة سباقهم، حتى صارت تلقب في تلك الجهة بفاس الثانية، هذا النص ينهض دليلا على أن قصبة بيروك بن عبيد الله أوسالم التي كانت قائمة  منذ نهاية القرن 18 وبداية القرن 19 في مقابل “حي القصر” الذي يقع في سافلة المدينة القديمة وبمجاداته ملاح اليهود.

يبقى التأويل إذن أن الولاتي في فتواه إنما عنى بقرية اكليميم حدود القصبة التي عرفت اجتماع تلك الأحياء الأولى حول مركز آل بيروك، والتي تضم المسجد القديم والحديث، وبحسب فقهاء المالكية فإن من شروط الجمعة وجود الجامع داخل القرية لا خارجها، قال الحطاب في مواهب الجليل عند قول خليل وبجامع مبني : ” وقال الشيخ زروق في الرسالة والجامع شرط واتصاله بالدور شرط فلو انفرد الجامع من البيوت لم تصح فيه قاله في المنتقى.. وقال الشيخ يوسف بن عمر في شرح الرسالة : فإذا قلنا في الجامع إنه من شروط الجمعة يشترط فيه أن يكون متصلا بالقرية “[22]، وهذه النصوص تؤكد أن الجامعين الموجودين باكليميم  يمثلان قلب القرية أو مركزها، إذ لو كانا بعيدين عنها لم تصح الجمعة لأهل اكليميم أصلا، ولَمَا تردد الفقيه الولاتي في التنبيه على ذلك، وإنما وقع الخلاف في بين أهل بيروك وسيد اعل بن التجاري في صحة الصلاة بأحد الجامعين أي في مسألة اتحاد الجامع، لا في بعدهما عن دُور القرية، فتعين أن كلا الجامعين متصل بدُور اكليميم.

  • دور العلم في تشكل العمران باكليميم

يبدو واضحا أن قدوم الشيخ الولاتي إلى وادي نون واتصاله بقائد كلميم إنما هو حلقة واحدة من بين حلقات متصلة في تاريخ هذه القرية التي فتحت بابها للعلماء والصلحاء منذ نشأتها العمرانية، وزاحمت بالعلم أيضا بقية المراكز حولها كإيليغ وتامانارت.

إن الطابع الاقتصادي والتجاري والسياسي الذي صبغ الكتابات حول أسرة آل بيروك كنموذج لتواصل العلم بالعمران لا يعني انعدام مؤشرات علمية وروحية كانت تقوم عليها هذه الأسرة، فلو لم يذكر لنا المؤرخون سوى اتصال رجالها بالعلماء واستشارتهم في مهماتهم والعمل بفتاواهم في نوازل اكليميم العامة والخاصة لكفى ذلك في إبراز مكانة العلم فيها، وهو أمر تَوضح من خلال قرارات قياد اكليميم البيروكيين الذين احتكموا إلى فتاوى العلماء والفقهاء.

أما التأثر بالمشرب الصوفي -الذي ترعرعت كثير من مشاريع الإعمار والبناء والتشييد في المغرب بين أحضانه[23]– فإن ما يشهد له هو اتصال الشيخ دحمان ببعض رجالات التصوف في الصحراء وسوس، كالشيخ الحاج علي الدرقاوي، كما يشهد له أيضا أخذه الورد الناصري عن سيدي المدني الناصري[24].

لقد تطورت هذه الدشرة إلى مدينة من ثلاث قصبات محصنة بسور كبير تخترقه خمسة أبواب. فالقصبة الأولى بأعلى أكَويدير كَلميم انضافت إليها قصبة جديدة، وزينت قاعات هذه القصبة بالخشب الإفريقي المنقوش الذي تم التقاطه بالشواطئ المحلية حيث تعددت ظاهرة ارتطام السفن بالصخور، كما أن من معالم كَلميم يومئذ القصر الذي بنى بيروك جنوبه ملاحين لليهود وبيعة لممارسة طقوسهم الدينية[25].

ولاينفصل التطور العمراني في عهد بيروك وأبنائه عن الدور التجاري الذي لعبته كلميم بوصفها ملتقى القوافل، وليس سرا أن سوق اكلميم اكتسب سمعته منذ إقناع جد آل بيروك (عبيد الله أوسالم) قبيلة أزوافيط يتحويل موقع السوق من مجالها الترابي (كَويرة السوق) إلى مركز اكلميم .

خاتمة

لقد شكلت الرحلة الحجازية لعالم الصحراء محمد يحيى الولاتي كوّة أطللنا من خلالها على علاقة العلم بالعمران بأكليميم خلال فترة بروزها كمركز تجاري هام، وهذه المعطيات بلا شك ستفتح مجال الدراسة في هذا الموضوع الخصب، أعني علاقة العلم والصلاح بالعمران في جنوب المغرب، والذي يثير من بين ما يثير أسئلة القيم الدينية والروحية والثقافية التي يكتنزها عمران الصحراء عبر رجالاتها الذين شيدوا وبنوا وأسسوا عملا بمقتضى الاستخلاف، فبرهنوا على أن التنمية تَبَعٌ للعلم وأن العمران مسدد بسَوي الفكر وصالح العمل. وهذه المساهمة الولاتية في تاريخ نشأة اكليميم تؤكد إلى جانب هذا، ما لكتب الرحلات والفهارس والشيوخ من منفعة تاريخية وجغرافية ومن أهمية في صياغة خارطة العلاقات بين الشيوخ والتلاميذ وانتشار السلاسل التربوية والعلاقات التاريخية بين مناطق الصحراء وما لذلك كله من أدوار في تشكيل العمران بالصحراء .

وديع أكونين باحث بمركز علم وعمران للدراسات والأبحاث وإحياء التراث الصحراوي

لائحة المراجع والمصادر

  • محمد يحيى الولاتي : الرحلة الحجازية تخريج وتعليق محمد حجي دار الغرب الإسلامي ط 2 :2009
  • عالم الصحراء محمد يحيى الولاتي بحوث الندوة العلمية اكادير سنة 2009 بمناسبة مرور قرن على وفاته طبعة الرابطة المحمدية للعلماء ط1/2011.
  • المختار السوسي ايليغ قديما وحديثا الطبعة الملكية الرباط 1966
  • المختار السوسي. سوس العالمة طبعة دار الكتب العلمية ط1/2014
  • مجموعة من الباحثين : سلسة أعلام ورجالات واد نون : أسرة أهل بيروك. تنسيق د محمد الصافي منشورات مركز النخيل للتوثيق ط1/2016
  • محمد بوزنكاض التاريخ وقضايا الكتابة التاريخية بالصحراء الأطلنتية مركز الدراسات والابحاث مشاريع اسا المغرب الطبعة 1 : 2012
  • محمد سالم بن الحبيب جامع المهمات في امور الرقيبات تحقيق وتقديم مصطفى ناعمي . المعهد الجامعي للبحث العلمي الرباط ط1: 1992
  • الناصري. الاستقصاء لأخبار دول المغرب الأقصىط 2/2010
  • ابراهيم حركات. المغرب عبر التاريخ طبعة دار الرشاد الحديثة 2009
  • الناني ولد الحسين : صحراء الملثمين دراسة لتاريخ موريتانيا وتفاعلها مع محيطها الاقليمي خلال العصر الوسيط طبعة1/2007 دار المدار الإسلامي
  • موسوعة حياة موريتانيا: التاريخ السياسي المختار ولد حامد ص 45، الطبعة الأولى 2000 دار الغرب الإسلامي
  • الوسيط في تراجم أدباء شنقيط لأحمد بن الأمين الشنقيطي طبعة مكتبة الخانجي القاهرة الطبعة الخامسة 2002
  • معلمة المغرب الأجزاء : 6 / 26 / 27
  • الشيخ ماء العينين علماء وأمراء في مواجهة الاستعمار الأوروبي للطالب أخيار بن الشيخ مامينا
  • الونشريسي احمد بن يحيى، المعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوى علماء افريقية والأندلس والمغرب طبعة دار الغرب الإسلامي
  • احمد بومزكو واد نون من خلال وثائق دار اليغ . مقال ضمن كتاب واحة وادي نون بوابة الصحراء المغربية منشورات كلية الآداب والعلوم الانسانية جامعة ابن زهر اكادير
  • المرحوم حمدي انوش ظاهرة التمدين بالجنوب المغربي من خلال القرن 19 مدينة اكلميم نموذجا مقال ضمن كتاب واحات وادي نون بوابة الصحراء المغربية.
  • الشيخ الحطاب الرعيني، مواهب الجليلدار الحديث القاهرة ط 2010
  • جمال بامي الصوفية بناة المدن دراسة في مقاصد العمران الصوفي. كتاب مقاصد الشريعة والسياق الكوني المعاصر أعمال الندوة العلمية الدولية للرابطة المحمدية للعلماء يومي 14-15 رجب 1433هـ، بالرباط طبعة الرابطة المحمدية للعلماء ط1/2013
  • خديجة الراجي الأرض من خلال بعض المناقب السوسية. كتاب واحات باني العمق التاريخي ومؤهلات التنمية أعمال ندوة طاطا مارس 1995 منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية اكادير طبعة 1/1999
  • العمران عند الشيخ ماء العينين د ماء العينين الجيه. كتاب الشيخ ماء العينين فكر وجهاد تقديم اليزيد الراضي ندوة تيزنيت 200، طبعة النجاح الجديدة 2001
  • gatell ,desciption du souss,bulletin de la société degéographie,paris ;mars avril 1871 pp 81-106.

[1]) انظر “شجرة النور الزكية في طبقات المالكية” لمحمد مخلوف، والمختار السوسي فيالمعسول 8/280 و “عالم الصحراء محمد يحيى الولاتي بحوث الندوة العلمية اكادير سنة 2009 بمناسبة مرور قرن على وفاته طبعة الرابطة المحمدية للعلماء ط1/2011.

[2]) محمد يحيى الولاتي. الرحلة الحجازية. تخريج وتعليق محمد حجي دار الغرب الاسلامي ط 2 :2009  ص 157.

[3]) نفس المصدر ص 350 وما بعدها.

[4]) محمد حجي، تقديم الرحلة الحجازية ص 10 .

[5]) المختار السوسي اليغ قديما وحديثا ص266 هامش 532.

[6]) المعسول 19/305.

[7]) المعسول 19/306.

[8]) المعسول 19/306.

[9]) إنما عرف عن الولاتي انتسابه إلى الطريقة التيجانية وذلك واضح من خلال بعض ما جاء في الرحلة “ومما أنشانا بتونس عمرها الله بالاسلام تربيع قصيدة الفقيه العالم العرف سيدي ابراهيم الرياحي التي مدح بها شيخنا وسيدنا ومولانا العارف بالله سيدي احمد التجاني رضي الله عنه وارضاه وعنا به ..” الرحلة ص 277، واما الشيخ المدني الناصري فهو العالم الكبير الولي الشهير دفين تانكرت بافران المتوفى 1306هـ، ولم يذكر المختار السوسي متى كان لقاء الولاتي به ، انظر ترجمته في المعسول 10/43

[10]) هو الشيخ الحاج علي بن أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن سعيد بن محمد بن أحمد بن عبد الله بن سعيد الدرقاوي شيخ الطريقة الدرقاوية في سوس عاش نحو 1268 و 1328هـ، ولد بايليغ حفظ القرآن ثم التحق بمدارس سوس فدرس بمدرسة تنالت أولا سنة 1282هـ على يد الاستاذ سيدي محمد بن بلقاسم اليزيدي، ثم مدرسة المولود ثم مدرسة تازروالت ثم مدرسة تانكرت، وبالمدرسة الادوزية على يد علامة سوس محمد بن العربي الادوزي، التقى بالشيخ الصوفي سيدي سعيد المعدري فأخذ عنه الطريقة الدرقاوية ثم صار شيخها بعد وفاة المعدري له مؤلفات متنوعة منها ما هو باللسان الشلحي كترجمة مجموع الأميروأخرى بالعربية كعقد الجمان وغيره.. انظر ترجمته في المعسول 1/234   .

[11]) هو محمد بن العربي بن إبراهيم بن عبد الله بن علي بن محمد بن عبد الله بن يعقوب 1249/1323هـ،الاستاذ الكبير الذي خدم العلم والدين بسوس أخذ القرآن عن الشيخ أشوبير والعلوم عن والده العلامة الشيخ العربي الادوزي حتى قام مقامه في التدريس والتأليف صاهر الشيخ الاغي الدرقاوي وكان قوي الرأي عالي الهمة شديدا في الدين، دارت بينه وبين معاصريه وقائع ومناظرات منها مناظرة العلامة الولاتي المذكورة في الرحلة، ومؤلفاته تربو على ست وعشرين مؤلفا منها حاشية ايسر المسالك وكتاب الموالي الذي الفه بسبب ما صدر عن القائد دحمان عند لقائه به كما في ترجمة القائد دحمان في المعسول. انظر ترجمته في المعسول 5/170  .

[12]) المختار السوسي المعسول 19/309.

[13]) عابدين بن بيروك بن عبيد الله اوسالم اخ القائد دحمان وأحد الأبناء الاربعة عشر لبيروك .

[14]) الرحلة الحجازية (ص: 87).

[15]) المعسول (19/308)

[16]) الرحلة الحجازية (ص 87)

[17]) انظر فتوى اقامة الجمعة في جامعين بمدينة بسطة كما أوردها الونشريسي في المعيار المعرب وهي شبيهة بنازلة اكليميم : الونشريسي احمد بن يحيى، المعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوى علماء افريقية والاندلس والمغرب طبعة دار الغرب الاسلامي: 1/229 وما بعدها.

[18]) الرحلة الحجازية (ص 88).

[19]) ينظر : المرحوم حمدي انوش مقال ظاهرة التمدين بالجنوب المغربي من خلال القرن 19 مدينة اكلميم نموذجا،

gatell ,desciption du souss,bulletin de la société de géographie,paris ;mars avril 1871 pp 81-106

[20]) من مظاهر اعتناء المخزن بالمنطقة تنظيمه لمركز كلميم وذلك لتحويل دار الحبيب بن بيروك بها إلى مركز مخزني تقيم فيه الحامية العسكرية المخزنية . انظر احمد بومزكو واد نون من خلال وثائق دار اليغ . مقال ضمن كتاب واحة وادي نون ص 71

[21]) المرحوم حمدي انوش ظاهرة التمدين بالجنوب المغربي من خلال القرن 19 مدينة اكلميم نموذجا مقال ضمن كتاب واحات وادي نون بوابة الصحراء المغربية ص 137

[22]) الشيخ الحطاب، مواهب الجليلدار الحديث القاهرة ط 2010 . (2/ 476).

[23]) انظر حول هذه المسألة : دراسة بعنوان الصوفية بناة المدن دراسة في مقاصد العمران الصوفي د جمال بامي. كتاب مقاصد الشريعة والسياق الكوني المعاصر اعمال الندوة العلمية الدولية التي نظمتها الرابطة المحمدية للعلماء يومي 14-15 رجب 1433هـ، بالرباط ص 515 طبعة الرابطة المحمدية للعلماء ط1/2013، وانظر أيضا دراسة بعنوان الأرض من خلال بعض المناقب السوسية للقرن 10ه/16م خديجة الراجي ضمن كتاب واحات باني العمق التاريخي ومؤهلات التنمية أعمال ندوة طاطا مارس 1995 منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية اكادير طبعة 1/1999 ص :39، ومقال العمران عند الشيخ ماء العينين د ماء العينين الجيه من كتاب الشيخ ماء العينين فكر وجهاد تقديم اليزيد الراضي ندوة تيزنيت 200، طبعة النجاح الجديدة 2001 ص: 122

[24]) المختار السوسي المعسول 19/309.

[25]) معلمة المغرب 6/1938.

ذ. وديع أكونين

  • باحث بمركز علم وعمران للدراسات والأبحاث وإحياء التراث الصحراوي بالرابطة المحمدية للعلماء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق