مركز الدراسات القرآنيةدراسات عامة

نماذج من منظومة القيم القرآنية..نحو علاقات دولية إنسانية وأكثر أخلاقية (2)

لن يكون من اهتمامنا في الآتي تحديد أسس النظرية الأخلاقية وبعض خصائصها وإبراز معايير العمل الأخلاقي من المنظور القرآني.بل سيكون اهتمامنا موجه نحو الآثار الرائعة للأخلاق التطبيقية التي قدمها لنا القرآن الكريم.  والتي منها.


  الوفاء بالعهود والمواثيق[1] :

يمثل الوفاء بالعهود واحترام المواثيق واحدا من أهم المبادئ القانونية العامة التي أقرتها الأمم على اختلاف أوضاعها ونظمها القانونية، كما يشكل هذا المبدأ حجر الزاوية في التنظيم القانوني لعلاقات الدول مع بعضها البعض في المجتمع الدولي المعاصر، وذلك بما يكفله لهذه العلاقات من ثبات واستقرار وبما يهيئه لها من أسباب التقدم والرقي.[2]

والحق أن مبدأ الوفاء بالعهود واحترام المواثيق مبدأ مقدس في القرآن الكريم ويحظى بمكانة متميزة في الشق القيمي القرآني، إذ “جعل [القرآن] قانونه في العالم الدولي، بل العالم الإنساني هو الوفاء بالعهد “وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا[3]وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الايمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون … ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاتا تتخذون أيمانكم دخلا بينكم أن تكون أمة هي أربى من أمة[4][5].

ومقتضى هذه الآيات هو وجوب الوفاء بالعهود مطلقا، والنهي عن نقضها بحجة مصالح مرجوة ومطامح مرغوبة “فهذه الحجة التي تتخذها الدولة” في [الغرب] لتبرير نقض العهود والمواثيق، حجة مصلحة الدولة، ينص عليها القرآن هنا :”أن تكون أمة هي أربى من أمة” وينص على أن هذه الرغبة لا تبرر نقض العهد، وينهي عن المسلمين عن الاستسلام لها، ويشبه ناقض العهد ذلك التشبيه المزري :”كالتي نقضت غزلها من بعد قوة إنكاتا“. وقد عظم الله الوفاء بالعهد والموفين به، بقدر ما حقر الذين ينقضون عهودهم ويخفرون ذمتهم، حتى نبذهم من ساحة الإنسانية، وزجهم في حظيرة الحيوانية :”إنما يتذكر أولوا الالباب الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق[6]والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الارض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار[7]إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يومنون الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون[8]. حتى المشركون الذين ناهضوا الإسلام والمسلمين، وآذوهم كما لم يؤذهم أحد من قبل … حتى هؤلاء الذين يقول الله عنهم للمسلمين :”كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولاذمة[9] حتى هؤلاء يحتم الله على المسلمين أن يفوا لهم بعهودهم “إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا، ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين[10]. وحتى المسلمون البعيدون عن دار الإسلام الذين لم يهاجروا إليها حتى يستنصرون المسلمين على الأعداء، فإن هذا لا يبيح لإخوانهم نقض العهد الذي سبق له الأداء “وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق[11] وهي قمة في الوفاء تقصر عنها الكلمات.

ولم تكن هذه مثلا نظرية ومبادئ مثالية، إنما كانت سلوكا واقعيا في حياة المسلمين وفي علاقاتهم الدولية جميعا، والأمثلة على ذلك كثيرة من الواقع التاريخي في الإسلام [نذكر منها] في هذا المقام :

قال حذيفة بن اليمان: ما منعني أن أشهد بدرا إلا أنني خرجت أنا وأبو الحسيل، فأخذنا كفار قريش فقالوا : إنكم تريدون محمدا، فقلنا ما نريده وما نريد إلا المدينة، فأخذوا منا عهد الله وميثاقه لننطلق إلى المدينة ولا نقاتل معه، فأتينا رسول الله فأخبرناه الخبر فقال :”انصرفا نفي بعهدهم ونستعين الله عليهم”[12].

“والحاصل أن المرجعية الشرعية الإسلامية تؤكد بقوة وبوضوح على أن الوفاء بالعهود والمواثيق “يعد عاملا أساسيا وحاسما في عملية التفاعل المنظم” في العلاقات الداخلية والخارجية على السواء، كما توضح لنا هذه المرجعية أن قاعدة الوفاء والأخلاقيات المرتبطة بها لا تقتصر فقط على الجوانب الشكلية أو  القانونية، وإنما تمتد لتصبح أداة من أدوات ترسيخ مبادئ التعاون والتعايش”. وعاملا أساسيا لترسيخ ثقافة السلام حيث إن الإخلال بالتعهدات ونقض المواثيق هو أحد الأسباب التي يمكن أن تؤدي إلى الحرب وتجدد النزاعات”[13].

لا نسخ ولا تغير … إنما ثبات وإطلاق

مؤدى ما سبق أن آيات القرآن قاطعة الدلالة على وجوب الوفاء بالعهود واحترام المواثيق المقطوعة بين الدولة الإسلامية وبين غيرها من الدول والجماعات التي لا تدين بالإسلام، وهذا الوجوب يشكل حكما ثابتا لا يرد عليه أي نسخ، وأصلا عاما مطلقا من أي تقييد، وعلى ذلك فليس صحيحا ما قد يتوهمه البعض من أن قوله تعالى :”فإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين[14] ناسخ لوجوب الوفاء بالعهود، أو أن هذا الوجوب مقيد بحال ضعف المسلمين، شأنه في ذلك شأن العفو والصفح عن المشركين، إنما الصحيح هو كما تؤكده جميع الآيات سالفة الذكر من أن الوفاء بالعهود يظل حكما ثابتا وقاطعا في الإسلام، وكون النبذ وما يترتب عليه مسموحا به لا يتعارض البتة ومقتضى مبدأ الوفاء بالعهود، وإنما هو من قبيل معاملة الأعداء بمثل ما عاملوا به أو بدونه، بل إن الآية المذكورة ذاتها تؤكد -بمفهوم المخالفة- على وجوب الوفاء بالعهد، وذلك بما تقرره من تحريم الغدر وإلزام المسلمين –حال توجسهم في أنفسهم الريبة من أن الطرف المعاهد لهم يضمر خيانتهم والغدر بهم على الرغم من وجود عهد بينهم- بالإعلان إلى هذا الطرف من أنهم يعتبرون أنفسهم في حل من أحكام العهد الذي سبق للمسلمين أن أبرموه معه”[15].

 لبس … وجواب

“وقد يقع اللبس عند البعض عند سماع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم “الحرب خدعة”[16]، ولكن لا لبس في الحقيقة، فالخدعة في الحرب تجوز، وهي حرب لا سلم، فحين تعلن الحرب فالمجال هنا هو مجال الخطط الحربية والعدو يعلم ويأخذ حذره، ويدبر أمره، فالخدعة حينئذ مهارة حربية وبراعة عسكرية في ميدان الحرب لا في ميدان السلام.

ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد غزوة ورأى بغيرها ليباغت الخصوم الذين أخذوا بجانب الخصومة الصريحة لا ليغدر بالمعاهدين الآمنين، ويباغتهم  من حيث لا يحتسبون.

وهكذا يقف الإسلام القوي موقف الشرف الحازم، فلا غدر ولا ضعف، ولا تعنت ولا استخذاء، إنما هي عزة الأقوياء، وشرف الكرام، وعهد الأوفياء، كذلك تبدو هذه الظاهرة في تأمين المشرك المستجير، لأنه في هذه الحالة لا قوة له تؤذي، فمن حقه ألا يؤذى، لأن الإسلام لا يبغي فناء مخالفيه، إنما يبغي هدايتهم إلى الطريق، وهو لا يعجل إليهم بالأذى وهم في فترة السماع والبيان “وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه[17]. فليس هي إجارة فقط، وإنما هي الحماية كذلك حتى يبلغ محله في أمان”[18].

وإنه لأفق آخر من آفاق السمو لا يبلغه إلا أخلاق القرآن.

العفو والصفح : التسامح[19]

العفو والصفح –بما هو إعراض عن مواجهة السيئة بمثلها وعدم تعنيف أو لوم أو مقابلة أصحابها بمثل عملهم- خلق قرآني أصيل، أمر به الله عز وجل، وحث عليه، وألزم رسوله صلى الله عليه وسلم بمثله في معاملته لعامة الناس مسلمين وغير مسلمين “فبما رحمة من الله  لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم  في الامر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين[20]. كما ألزم المؤمنين بالتحلي بهذا الخلق في تعاملهم مع عامة الناس وأعد لمن تمثله منهم جزاء عظيما في الآخرة “سارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والارض أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين[21]ولا ياتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يوتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم[22]يا أيها الذين أمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم[23].

وخلق العفو والصفح – كغيره من الأخلاق القرآنية- لا يقتصر على المسلمين فقط، وإنما يشمل غيرهم من أهل الديانات الأخرى، فهو خلق مطلق يشمل حتى غير المسلمين “فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين[24].

تدل هذه الآية الكريمة دلالة صريحة على ضرورة احترام عقائد الآخر وعدم الطعن فيها أو اللجوء إلى القوة لمنعهم من ممارسة معتقداتهـم وإن كانـت باطلة. فخلـق العفو والصفح بهذا المعنى يستوعب كل الدلالات الإيجابية التي يحملها مفهوم التسامح[25] الذي بات  شعارا يرفع لمواجهة ما يتصف به عصرنا من تطرف وغلو وميل إلى ممارسة العنف.

فالتسامح –بما هو- “احترام حق الأقليات الدينية في ممارسة عقائدها وشعائر دينها  دون تضييق أو ضغط …”[26] هو في القرآن من المعاني القطعية ومساحته فسيحة في أصول الشريعة وفروعها. والنصوص القرآنية السالفة الذكر خير دليل على صدق القول.

ولقد جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الخلق أروع تجسيد : فيوم فتحت مكة، وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على باب الكعبة مخاطبا أهل قريش :”يا معشر قريش،  ما تظنون أني فاعل بكم ؟ قالوا خيرا أخ كريم وابن أخ كريم قال : فاذهبوا فأنتم الطلقاء لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله  لي ولكم”[27]. وفي السيرة النبوية جاء  نص صريح واضح يقول :”دخل صلى الله عليه وسلم على جاره اليهودي يعوده”.

وعلى المنهج نفسه سار خلفاؤه الكرام، ففي خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه عاهد خالد بن الوليد أهل الحيرة على ألا يهدم لهم بيعة ولا كنيسة ولا قصرا يتحصنون فيه، وعلى ألا يمنعوا من ضرب نواقيسهم أو إخراج الصلبان يوم عيدهم …، ونص في المعاهدة على أن الجزية يعفى منها الشيخ الذي عجز عن العمل أو أصابته آفة أو كان غنيا فافتقر، وليس ذلك فحسب بل يعال هو وأولاده من بيت مال المسلمين ما أقام بدار الإسلام”.

“ونذكر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما حان وقت الصلاة وهو في كنيسة بيت المقدس، لم يصل داخل الكنيسة حفاظا منه وضمانا لبقائها، وكي لا يقال : هنا صلى عمر، وسنجعل مكان صلاته مسجدا، لقد خرج رضي الله عنه ليصلي بجوارها حيث بني مسجده. وبهذا فقد عاش غير المسلم في ظل أخلاق القرآن حياة آمنة طبيعية، الأمر الذي حدا بالكثيرين منهم إلى اعتناق الإسلام والاعتراف بفضله، يقول فانستانمونتيه :”ومن أسباب إسلامي تسامح الإسلام تجاه أبناء الأديان الاخرى”.

إنه لا سبيل أمام عالم اليوم  لتجاوز حروبه وصراعاته إلا مفهوم التسامح بمعناه القرآني، إذ “الدرس الذي يجب علينا أن نتعلمه –كما يقول مراد هوفمان- من 1400 سنة من التاريخ المشترك المليء بالمآسي للعلاقة بين الإسلام والغرب، هو أن على كلا العالمين أن يواجها بعضهما بعضا بروح من التسامح والتفاهم، هذا لو أردنا أن نحافظ على السلام العالمي في عصر أسلحة الفتك الجماعي”[28] .

التعاون[29]على الخير

“جاء الأمر في القرآن “بالتعاون” المبني على فضائل الأخلاق، الهادف إلى تحقيق الخير الإنساني العام  والقرب من الله تعالى، كما جاء فيه أيضا النهي عن التعاون المؤدي إلى انتهاك تلك الفضائل، الهادف إلى الاعتداء او إلى إلحاق الأذى بالآخرين “وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الاثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب[30].

يقول القرطبي في تفسيره لهذه الآية :”وتعاونوا على البر والتقوى” ، قال الأخفش : هو أمر لجميع الخلق بالتعاون على البر والتقوى، أي ليعن بعضكم بعضا … وقال ابن خويزمنداد والتعاون على البر والتقوى، يكون بوجوه، فواجب على العالم أن يعين الناس بعلمه فيعلمهم، ويعينهم الغني بماله …”[31].

لـ”يتضمن الأمر “بالتعاون” تقرير الاعتماد المتبادل كسياسة عامة في تسيير العلاقات بين مختلف أطراف الوجود الاجتماعي-الأفراد والجماعات والدول- ذلك لأن التعاون لا يكون إلا بين أكثر من طرف، واللجوء إليه يعني أن كل طرف لا يستطيع بمفرده القيام بأداء مهمة ما، أو تحقيق هدف معين ومن تم فإن كلا منهما يعتمد على الآخر في تحقيق بعض أهدافه، وإذا قام هذا التعاون أو “الاعتماد المتبادل” على أسس البر والتقوى فإن الحصيلة النهائية له ستصب في الصالح الإنساني العام، أو بالأقل لن تلحق الضرر بالأطراف الأخرى غير الداخلة في هذا التعاون بعينه”[32].

وشأن خلق التعاون في الإطلاقية والشمولية شأن كل القيم القرآنية. فلقد قرر رسول الله  صلى الله عليه وسلم تقديم مساعدة مالية للمشركين حين قحطوا مع أنهم هم الذين أخرجوه من بلده، وحشدوا له المقاتلين المشركين لقتله. “ومر” عمر رضي الله عنه أيضا بباب قوم وعليه سائل يسأل، شيخ كبير ضرير البصر، فضرب عضده  من خلفه وقال : من أي أهل الكتاب أنت ؟ فقال : يهودي : قال : فما ألجأك إلى ما أرى ؟ قال : أسأل الجزية والحاجة والسن، فأخذ عمر رضي  الله عنه بيده، وذهب به إلى منزله، فرضخ  له بشيء من المنزل، ثم أرسل إلى خازن بيت المال قال : انظر هذا  وضرباءه، فوالله ما أنصفناه أن أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرم، “إنما الصدقات للفقراء والمساكين” والفقراء هم المسلمون وهذا من المساكين من أهل الكتاب ووضع عنه الجزية وعن ضربائه”[33]. كما “مر عمر رضي الله عنه في أرض الشام بقوم مجذومين من النصارى فأمر أن يعطوا من مال بيت المسلمين وأن تجري عليهم المؤن بانتظام”[34].

إن هذا النوع من التعاون –الذي رسم ملامحه القرآن وطبقه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم- هو أحد عوامل التطور الاجتماعي والحضاري الذي عرفه العالم الإسلامي في عصره الذهبي.

لقد كان هذا النمط من التعاون سببا في إقامة السلام الحقيقي بين الشعوب وأهل الأرض، وفي منع حدوث النزاعات أو نشوب الحروب والصراعات فيما بينهم.

“وتدلنا الوقائع التاريخية في مجال العلاقات الدولية على أن مبدأ التعاون قد يتخذ وسيلة للعدوان أو لممارسة سياسات الاستغلال والظلم ذلك عندما يقوم في جوهره على أسس نفعية أو مصلحية بحثة أو مجردة من القيم والمبادئ الأخلاقية. ونعرف من أدبيات العلاقات الدولية أن هناك أنماطا متنوعة لمثل هذا النوع من التعاون، منها “الأحلاف العسكرية” و”التكثلات الإيديولوجية والسياسية” والمحاور الإقليمية والدولية”، وقد ذاق العالم منها ويلات كثيرة قديما وحديثا، ومثل هذه الأنماط من التعاون هي ما ترفضه قيمة التعاون في القرآن لأنها تقع ضمن النهي الوارد في قوله تعالى :”ولا تعاونوا على الاثم والعدوان“.

ليغدو “التعاون كما رسمه القرآن في زمننا  المعاصر ضرورة ملحة وحاجة بشرية لتجاوز مشكلات العالم الناجمة عن افتقار النظام العالمي الراهن إلى عوامل وقيم التكافل والتعاون والتي يمكن إجمالها في : “تفاقم حالات البؤس الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، وتفشي وشيوع مظاهر التميز والتفرقة والتعصب والظلم الاجتماعي، وتصاعد المنازعات القومية، والصراعات الداخلية وانتشار عدم التسامح والاضطهاد والكره …”[35]

إن من شأن التعاون والتكافل العالمي “وضع حد للتفاوت البغيض بين الشعوب والأمم ذلك أن أنماط الاستهلاك في البلدان المتقدمة بلغ حد المتعة والتبذير في استهلاك الموارد الطبيعية والبيئية، والتمتع بثمار المعلوماتية، في حين أن الحد الأدنى من الاستهلاك لم يكتمل لغالبية شعوب العالم”[36]. التي يرزح مواطنيها تحت عتبة الفقر مع ما يصاحب ذلك من بؤس وشقاء وحرمان وهدر لحقوق الإنسان.

وإنه لن يضطلع بهذه المهمة الصعبة سوى خلق التعاون الذي ينشده القرآن المنضبط بمقتضيات قيم العدالة والمساواة والحرية والوفاء بالعهود والالتزامات.

إذا هذه نماذج من منظومة القيم القرآنية الحاكمة لعلاقة المسلمين بغيرهم من أهل الأديان والملل والنحل الأخرى، نضيف إليها قيم كالصدق والكرم، والإيثار، وحسن الجوار والتواضع والصبر على أذى الغير … وهي كلها قيم شاملة ومطلقة لكل الناس، على اختلاف أديانهم وألوانهم وأجناسهم ومواقعهم الاجتماعية “لأنها عدل والعدل لا يعرف الزمان والمكان، ولا الجنس والألوان، ولا يختص بالعقائد والأديان، وإن يتعبد بذاته وحقيقيته”[37].

الحاجة إلى قيم وأخلاق القرآن

إن المبادئ والقواعد الأخلاقية التي أسس لها القرآن هي أعدل وأسمى القيم والمبادئ التي تنسجم وإنسانية الإنسان والتي تضمن الجو المناسب والأرضية الصالحة لإقامة التعايش السلمي والتواصل الفعلي والتعاون العملي بين جميع أهل الأرض المؤدي إلى التفاعل الحضاري الإيجابي العائد بالخير والنفع والصلاح على البشرية جمعاء؛ بما تدعو إليه من قيم : التسامح والعدل والرحمة والإحسان والتعاون على الخير والتضحية في سبيل الحق ونشر العلم … وبما تؤكد عليه من دوام اليقظة والإصلاح والبذل والعطاء … وبما تنفر منه من قيم القتل والتخريب والانغلاق والتزمت … وهي بذلك تنسجم وخصائص القرآن الكريم، “إذ الأصل في رسالة عالمية أن تكون قيمها إنسانية ذات قدرة استيعابية واستقطابية لا إبعادية واقصائية، وبالمصطلح الشرعي : تبشيرية لا تنفيريةوتيسيرية لا تعسيرية”. وعليه فحاجة الإنسان إلى الأخلاق القرآنية حاجة ملحة وفعلية تفرضها معركة الإصلاح الذاتي للإنسان وبالتالي معركة إصلاح المجتمع العالمي.

[1]– يقصد بالوفاء بالعهود اصطلاحا : الإتيان بالشيء المعقود عليه وافيا تاما لا نقص فيه، وشرعا :إنفاذ جميع العقود الصحيحة والموافقة لمقتضى الشرع”. محمد رشيد رضا، تفسير المنار، دار الفكر، ط2، بدون تاريخ، ج6، ص101.

[2]– أحمد عبد الونيس شتا، العلاقات الدولية في الإسلام، الأساس الشرعي والمبادئ الحاكمة للعلاقات الخارجية للدولة الإسلامية، ج1، ص 184.

[3]–  سورة الإسراء، الاية 34.

[4]– سورة النحل، الآيتان 91-92.

[5]– سيد قطب، السلام العالمي والإسلام، دار الشروق، القاهرة، ص 189-190.

[6]-سورة الرعد، الآيتان 19-20.

[7]– سورة  الرعد، الآية 25.

[8]– سورة  الأنفال، الآيتان 55-56.

[9]– سورة  التوبة، الآية 08.

[10]– سورة  التوبة، الآية 04.

[11]– سورة  الأنفال، الآية 72.

[12]– راجع سيد قطب، السلام العالمي والإسلام، م.س.، ص 190-192.

[13]– إبراهيم البيومي غانم، المبادئ العامة للعلاقات الدولية، م.س.، ص 206.

[14]– سورة الأنفال، الآية 58.

[15]– رشيد رضا، تفسير المنار، م.س، ج1، ص 163-164.

[16]-صحيح البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب الحرب خدعة، رقم الحديث 2866.

[17]– سورة التوبة، الآية 6.

[18]– سيد قطب، السلام العالمي والإسلام، م.س.، ص 194-195.

[19]– التسامح معناه ” أن تتحمل عقائد الغير وآرائهم وأعمالهم وإن كانت مخالفة أو باطلة في اعتقادنا، ولا يجب بناء على ذلك الطعن فيها أو اللجوء إلى القوة لأجل إجبارهم عن عقائدهم أو منعهم من ممارسة معقتداتهم”. أبو الأعلى المودودي، الإسلام في مواجهة  التحديات المعاصرة، تعريب خليل أحمد الحامدي، دار السعودية للنشر والتوزيع، بدون تاريخ، ص 39 بتصرف.

[20]-سورة آل عمران،الآية 159.

[21]– سورة آل عمران، الآيتان 133-134.

[22]– سورة النور، الآية 22.

[23]– سورة  التغابن، الآية 14.

[24]– سورة المائدة، الآية 13.

[25]– “ظهرت كلمة “تسامح ” (Tolérance ) أول ما ظهرت في كتابات الفلاسفة وعلى حواشي الفلسفة في القرن السابع عشر الميلادي في زمن الصراع بين البروتستانت والكنيسة الكاتوليكية، حينما نادى أولئك بحرية الاعتقاد وطالبوا الكنيسة البابوية بالتوقف عن التدخل في العلاقة بين الله والإنسان، ومعلوم أن الكنيسة الكاتوليكية هي التي تحدد “قانون الإيمان” وتمنح صكوك الغفران وتحتكر السلطة الروحية، وكانت فضلا عن ذلك تنازع الدولة سلطتها الزمنية وتريد جعلها  تابعة لها … وكرد فعل على “الإجماع” الذي أرادت الكنيسة الكاتوليكية  تكريسه حولها (وكلمة كوتوليكوس في معناها اللغوي اليوناني تعني : الشمول والكلية والعالمية) دينيا وسياسيا، بالوعد  والوعيد حينا وبالقوة والعنف حينا آخر، قام المذهب البروتستاني ضد الكتلكة. وسعيها نحو الهيمنة الدينية والسياسية وأخذ يطالب بحق الاجتهاد، وبضرورة اتخاذ العقل ميزانا وحكما … وأيضا بضرورة التسامح مع المخالفين الشيء الذي يعني السماح لهم بحق الوجود وحق التعبير عن مذهبهم، والقيام بالشعائر الدينية على الطريقة التي يعتقدون أنها الأصلح … وذلك هو نفس المبدأ الذي تمسك به فلاسفة  التنوير في أوربا بمختلف ميولهم الدينية والفلسفية،  وأعطوه طابع الشمول، حتى نادى بعضهم  بحق الحق، أي بضرورة  “السماح للخطأ بالوجود من غير أن يتعرض لهجوم سوى الهجوم الذي  يشنه عليه العقل”. الجابري قضايا في الفكر العربي المعاصر، م.س.، ص26. ولقد كانت قيمة التسامح في الفكر الغربي المخرج من الحروب الأهلية، تلك الحروب التي استمرت عقودا بين المذاهب المسيحية فكان الحل هو تكريس التسامح الديني.

[26]– الجابري، قضايا في الفكر العربي المعاصر، م.س.، ص29.

[27]– انظر : صفي الرحمان المباركفوري، الرحيق المختوم، م.س، ص 372./ ابن هشام السيرة النبوية، م.س.، ج2، ص280. / ابن قيم الجوزية، زاد المعاذ في هدي خير العباد، م.س.، ج2، ص224.

[28]– مراد هوفمان، الإسلام كبديل، م.س.، ص33.

[29]– “التعاون يشير إلى تفاعل هدفه تحقيق الأهداف المشتركة لأطرافه، وقد يتخذ مثل هذا التفاعل أشكالا مختلفة، فقد يأخذ شكلا مؤسسيا يتبلور في صورة منظمة دولية مثل الأمم المتحدة، أو قد يتخذ شكل إقامة تجمعات تجارية أو إئتلافات سياسية تحافظ على التضامن في  المجال التجاري وقد يؤدي مثل هذا النمط من التعاون إلى  درجة أكبر من الارتباط بين الوحدات الدولية فيأخذ شكل  مباحثات ثنائية أو جماعية هدفها التوصل إلى اتفاق حول سياسة مشتركة بخصوص قضية معينة أو التوفيق بين السياسات القومية حول موضوع معين” ودودة بدران: العلاقات الدولية في الأدبيات الغربية، ضمن مشروع العلاقات الدولية في الإسلام، م.س.، ج1، ص 113-114.

[30]-سورة المائدة، الآية 2.

[31]– القرطبي، الجامع لأحكام القرآن،م.س.، ج3، ص424.

[32]– إبراهيم البيومي غانم، المبادئ العامة للعلاقات الدولية، م.س.، ص207.

[33]– نفسه، ص 72.

[34]– نفسه، ص 71.

[35]– بكر محمود رسول : نحو نظام إنساني تحرري جديد، ضمن كتاب صراع الحضارات أم حوار الثقافات، تحرير : فخري لبيب، مطبوعات التضامن، بدون تاريخ، ص 648.

[36]– نفسه، ص646.

[37]-سعيد حارب المهيري، حقوق الإنسان في العلاقات الدولية، م. الاجتهاد، ع 52-53، السنة 13، خريف وشتاء 2002/2003م، 1422هـ، ص 153.

Science

د. محمد الناصري

باحث في الفكر الإسلامي وحوار الأديان والحضارات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق