مركز أبي الحسن الأشعري للدراسات والبحوت العقديةشذور

نماذج من رسائل اليوسي في التوحيد الرسالة الواحدة والثلاثون: رسالة العقيدة الصغرى

يقول أبو المواهب الحسن بن مسعود اليوسي (رحمه الله):
«الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد، فإن صلاح العبد وكماله بثلاثة أشياء: وهي معرفة الله تعالى، ومعرفة حكمه، ومعرفة حكمته.
أما معرفة الله تعالى: فباعتقاد ما يجب لله تعالى وما يتنزه عنه وما يجوز في حقه، ويحصل ذلك بالنظر في المخلوقات، فبالمخلوقات يعرف الخالق. كما أن بالمصنوعات يعرف الصانع، فيعلم أن الله موجود، قديم ليس بمخلوق، باق لا يفنى، مخالف لخلقه، غني لا يحتاج إلى شيء، واحد في ملكه لا شريك له ولا معين، قادر على كل فعل من خير وشر، نفع أو ضر، مريد لكل فعل، لا يحدث كائن إلا بمشيئته، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، عالم بكل موجود ومعدوم، لا يخفى عليه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، ولا يغيب عن علمه إجمال ولا تفصيل، حي لا يطرأ عليه موت ولا نوم ولا نسيان، سميع بصير لكل موجود من غير أذن ولا أجفان، متكلم بكلام معلوم من غير حرف ولا صوت ولا لسان، وأنه تعالى متنزه عن أضداد هذه الأوصاف. فهذه الأوصاف كمال وأضدادها نقص، والنقص مستحيل على الله تعالى، وأنه تعالى يجوز في حقه أن يخلق الخلق وألا يخلقهم، وأن يفعل بهم ما يصلح بهم وأن لا يفعل، وأن يرحمهم وأن يعذبهم، وأن يكلفهم بشرع وأن لا يكلفهم، لا يجب عليه شيء من ذلك ولا غيره ولا يمتنع، لأنه مختار يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.
فهذا ما يجب الإيمان به، ولا يتم الإيمان المطلوب منا إلا به، مع الإيمان بالملائكة وأنهم معصومون. والإيمان بالكتب السماوية المنزلة على الأنبياء وأنها حق من عند الله. والإيمان بالأنبياء جملة وأنهم معصومون من كل قبيح شرعا في أفعالهم وأقوالهم، والإيمان بالرسل منهم خصوصا وأنهم مبعوثون إلى العباد من الله، مبلغون ما أُمِروا به، صادقون في كل ما بَلَّغوا، لا يقع لهم كتمان ولا كذب، وجائز عليهم العوارض البشرية ما يجوز على غيرهم،  مما ليس فيه نقص، ولا يعوق عن التبليغ. والإيمان بنبينا ورسولنا محمد صلى الله عليه وسلم خصوصا، وأنه جاءنا بشيرا ونذيرا. والإيمان بالقرآن المنزل عليه، وكل حكم جاء به، وأن القرآن كلام الله ليس بمخلوق، والإيمان بما جاء به من البعث والحشر، والعرض والميزان والصراط، ودخول الجنة والنار، وغير ذلك من العقائد الثابتة بالعقل أو السمع.
وأما معرفة حكم الله: فمعرفة ما ثبت بالكتاب والسنة وإجماع الأمة واستنباط العلماء من واجب ومندوب ومحرم ومكروه ومباح، ويحصل ذلك بالتعلم وسؤال أهل العلم، قال تعالى: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) الآية [1] ،  وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما العلم بالتعلم»[2]، والمطلوب من ذلك صنفان: مأمورات ومنهيات.
 فالمأمورات: الإيمان بالله وبرسله واليوم الآخر كما تقدم. والصلوات الخمس لوقتها، وطهارتها من وضوء أو غسل أو تيمم. وزكاة الإبل والبقر والغنم، و الذهب والفضة، والتمر والعنب والبر والشعير وسائر الحبوب المعشرة المعلومة على تفصيل ذلك كله والمعلوم في الشرع. وصوم شهر رمضان، وحج بيت الله بشرط الاستطاعة، وبر الوالدين، وجهاد العدو، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بشرط القدوة والسلامة من فتنة أعظم منه، والنصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وخاصتهم وعامتهم، وهي جامعة لكل مطلوب.
والمنهيات: الشرك بالله ومخالفة الشرع بالفعل كقتل النفس ظلما، والزنا والسرقة والغصب، وترك الصلوات الخمس وغيرها من الواجبات، والكبر والحسد والرياء والعجب وغير ذلك، أو بالقول: كشهادة الزور وسائر الكذب، والغيبة والنميمة وغير ذلك، وتجب التوبة  من جميع ذلك على الفور، ومن لم يتب فقد عصى الله تعالى. ومن المأمورات غير الواجبات: نوافل الصلاة والصيام والحج والصدقات، والإكثار من ذكر الله تعالى، وغير ذلك من أعمال الخير. ولا تنفع المعرفة إلا بالعمل، «ومن عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم»[3].
وأما معرفة حكمة الله: فمعرفة أن الله تعالى خلق العالم كله ليُعرف به، وليُظهر فيه قدرته وحكمته، وخلق العباد ليعرفوه ويوحدوه ويعبدوه، وأمر ونهى ليُظهر ملكه، وحكم بالطاعة والمعصية ليُظهر فضله وعدله، بتنعيم المطيع وتعذيب العاصي والعفو عنه، وخلق الجنة والنار لتنفذ حكمته وتتم كلمته، وكل نعمة منه فضل، وكل نقمة عدل. فحقيق أن يُرجى فضله، ويُخشى عدله. وأنه تعالى (كل يوم هو في شأن)[4]، يوجِد ويَعدِم، ويرحم وينتقم، ويعز ويذل، ويوفق ويخذل، ويرفع ويضع، ويعطي ويمنع، (لا يسأل عما يفعل وهم يسألون)[5]، لتُعرف صفاته الجمالية والجلالية، وملكه وعظمته، وقدرته ومشيئته.
فحقيق للعبد أن ينيب إلى مولاه، ويسعى بقلبه وقالبه فيما يرضاه، وأن يرضى بقضائه، ويشكر على نعمائه، ويتوكل في أموره عليه، ويرجع في كل ما ينوبه إليه، فإنه لا معطي لما منع، ولا مانع لما أعطى، ولا دافع لما قضى، وأن يخضع لجلاله ويخشى لعظمته، وأن لا يأمن من مكره، ولا يقنط من رحمته، وأن يراقبه أبدا، وأن لا يجده حيث نهاه، أو يفقده حيث أمره، وأن يكون عبدا لله تعالى على الدوام في كل حال، كما كان له تعالى ربا على الدوام وفي كل حال، والله المستعان.
 فهذه مشارب العارفين، نسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياكم منهم آمين».

[رسائل أبي علي الحسن بن مسعود اليوسي-

جمع وتحقيق ودراسة: فاطمة خليل القبلي-دار الثقافة/الدار البيضاء-الطبعة الأولى/1401-1981-ج2/521]

 (رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا في الآداب/جامعة سيدي محمد بن عبد الله-

تحت إشراف الدكتور عباس الجراري- فاس/1978)

 

الهوامش:

[1] سورة النحل/الآية:43
[2] جزء من حديث: «إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم، ومن يتحرَّ الخير يُعطه»، رواه ابن أبي عاصم والطبراني من حديث معاوية مرفوعا-انظر: إرشاد الساري شرح صحيح البخاري للقسطلاني-ج1-ص:168- وأخرجه الطبراني والدارقطني في العلل من حديث أبي الدرداء بسند ضعيف-انظر إحياء علوم الدين للغزالي وتخريج الحافظ العراقي-ج/4-ص:306.
[3] حديث رواه أبو نعيم في الحلية من رواية أنس-انظر المغني بحاشية الإحياء-ج3/ص:123-وانظر: الدرر المنتثرة في الأحاديث المشتهرة للسيوطي-ج/1-ص:20
[4] سورة الرحمن-الآية:27
[5] سورة الأنبياء-الآية:23

 

                                                                    إعداد: الباحث منتصر الخطيب

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق