مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةدراسات عامة

نماذج توجيهية من فرش أم الكتاب (مَلِك)، (مَالِك) عند العلامة ابن أبي الربيع السبتي (599 ه‍ – 688 ه‍)

الحمد لله رب العالمين، وصلوات ربنا وسلامه على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه والتابعين، وبعد؛

فقد تواردَتْ فهوم الأفذاذ الأقدمين على اكتناه مُراد الله جلَّ وعلا في تنزيله، وتبارَتْ أرباب المدارك المُمَيَّزين في إثارة ميدان تأويله؛ تطلُّبا لفقاهة لطائف تصـرُّفاته،ثم التماساًلفرائد تركيبه وصَيْداًلغرائب نظْمه وروائق رصْفه وما يتبع ذلك، فألْقَوا – لأجل ذلك – جِران العناية ومَدُّوا حَبْل الرعاية على ما يتصل بأوضاع ألفاظه، ويَمتُّ نسبه بطرائق عرضه وأدائه (رواية ودراية)،فاستَوْلوْا من جُملته على الأمد الأبعد الأقصى، على تفاوت بينهم (سَبْقا وبسطاً)، اتُّخذ السبيل الأهدى في تمييز المنازل وتبيُّن الأحوال (قولاً وقائلاً) وما إليه … وسياق القول – هنا – إلى أنموذج مُعْرب طريف، نبغ شأنه بالقطر الأندلسـي، ولاحتْ حجَّة بيانه(أدبا ولغة ونحوا وفَسْرا وقراءة وعلّة …) حتى عَمَّتْ أفق المعمور (مغربا ومشـرقا)، متعلَّق القول بالعلامة اللغوي الأديب أبي الحسين ابن أبي الربيع السبتي(599 ه‍ – 688 ه‍) ملأَ الله رمسه ضياءً ونورا،فقد جَدَّتْ بنا ناشئةُ العَزْمبعون الله العليّإلى أن نُوقف جمْهرة قَرَأَة العالم على ظواهر لغوية فارهة (وضْعاً وغاية) مما تضمَّنتْهُ بعض تصنيفاته الفذَّة ذات الأنفاس النحوية، مثل تفسيره لسورتي الفاتحة والبقرة من القرآن العظيم، ثم شرحه لكتاب الجمل للعلامة أبي القاسم الزجاجي (ت‍ 952 ه‍) وغيرهما من الدوالّ ، إذْ تَصلُحُ لِأَنْ يُتَذرَّعَ بمَثابتها في تقْريب مُراد الله سبحانه وتفهُّمه، ويُتوسَّل بأشطانها في إظهار روْنق المعاني المتراكبة المخبوءة وراء تقلبات الصيغ النحوية، معزَّزة الكيان بجيّد المنظور والمنثور من فصيح البيان- زينةَ معانٍ وزِنَةَ مَبانٍ- كما الشأن في توجيهه (رحمه الله) لحرفَيْ(مَلِك)، (مَالِك)من فرش أُمّ الكتاب، وفي الآتي تبيينه.

عَزْو الحرف:

الاختلاف واقع بين قَرأَة الأمصار في تلاوة قوله تعالى: (مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ) [الفاتحة/4]؛ فقد قرأ عاصم والكسائي وكذا يعقوب وخَلَف العاشر؛ بالألف مَدّاً(مالك) على زِنَة (سامع)، وهو اسم فاعل من ملك ملكا بالكسر، قال مكّي بن أبي طالب (ت‍ 437 ه‍): روى الزهري عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وعثمان وطلحة والزُّبير وعبد الرحمان بن عوف وأُبيّ بن كعب ومعاذ بن جبل؛ كانوا يقرؤون (مالك) بألف [[1]]،وقرأ غير هؤلاء بترك الألف قَصْـراً (ملك)على زنة (سَمِع) وهو صفة مشبهة باسم فاعل[[2]قال مكي (ت‍ 437 ه‍): قرأ (ملك) بغير ألف؛ جماعة  من الصحابة وغيرهم، منهم: أبو الدرداء وابن عباس وابن عمر ومروان بن الحكم مجاهد ويحيى بن وثاب والأعرج وأبو جعفر وشيبة وابن جريج والجحدري وابن جندب وابن محيصن … [[3]]، ولقد رُوي(مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ) في الشاذ على أَنحاءَ شوارد شتَّى؛ إذْ قرئ (مَلْكِ) [[4]]على زِنة سَهْل، رُويعن أبي هريرة وعاصم الجحدري وأبي عمرو البصري من رواية عبد الوارث والوليد بن مسلم عن ابن عامر من طريق الأهوازي …، وقرئ (مِلْك) [[5]] على زنة عِجْل، روى ذلك عن أبي عثمان النهدي والشعبي وعطية …، وقرئ (مَلِكَ) [[6]]بنصب الكاف من غير ألف بغرض النداء أو المدح، روي عن أنس بن مالك والشعبي وأبو حيوة شريح وأبو عثمان النهدي …، وقرئ (مَلَكُ) [[7]] برفع الكاف على تقدير: هو ملكُ، روي عن سعد بن أبي وقاص وعائشة وأبو حيوة …، وقرئ (مَلَكَ يومَ الدين) [[8]]بصيغة الفعل الماضي ونصب (يَوْمَ)، روي عن أنس بن مالك وعلي بن أبي طالب وأبو حيوة ويحيى بن يعمر …، وقرئ (مالكَ)[[9]] بنصب الكاف، روي عن الأعمش وابن السميفع وعثمان بن أبي سليمان …، وقرئ (مَلِكاً) [[10]] بالنصب مع التنوين، روي عن ابن أبي عاصم عن اليمان، وقرئ (مالكٌ يوم) [[11]] برفع الكاف مع التنوين ونصب (يوم)، روي عن عاصم الجحدري وعون العقيلي وخلف بن هشام …، وقرئ (مالكُ يومِ) [[12]] بالرفع والإضافة إلى (يوم)، روي عن أبي هريرة وأبي حيوة وبي روح عون بن أبي شداد العقيلي …، وقرئ (مليك) [[13]] على وزن فعيل، روي عن أُبيّ وأبي هريرة وأبي رجاء العطاردي …، وقرئ (مَلاَّك) [[14]] بألف مع تشديد اللام وكسر الكاف، روي عن علي بن أبي طالب، وغير هذا من الأوجه والأبنية الواردة في (ملك)،مما تفرَّد به بعض أئمة العربية، فقد تُرك اكتفاءً.

توجيه الحرف وتعليله:

اختار العلامة ابن أبي الربيع (ت‍ 688 ه‍)رحمه الله توحُّد المعنى في حَرفي (مَلِك) مع (مالك) واعتدال الدلالة في مخرجهما، فذهب إلى أن كليهما وما تصرَّف من مادّتهما بمعنىً، تتفيَّؤ ظلال مُفاده عن يمين الربط والشدّ والإحكام وشمائله وما إليه، وذلك مثْل المعنى في (حَذِرٌ) مع (حاذرٌ)و(نَبِهٌ) مع (نابِهٌ) و(فَرِهٌ) مع (فَارِهٌ) وما أشبهه، بل إنَّ (ملك) – عنده – نعت مبالغة في الثناء وزيادة امتداح في (مالك) تمكُّناً وتملُّكا وتصرُّفاً، قال ابن أبي الربيع: (ولأجل ذلك كانت القراءتان متفقتين) [[15]]، وتقرير ذلك كَمِنٌ في أنه قد يجيء (ملك) بمعنى (مالك) ثم يضاف إلى (يوم الدين) بعد انتصابه وإجرائه مُجْرى المفعول به على وجْه التسمُّح أوالاتساع في الظرف[[16]]، فينسب لما يكون فيه إما بالفاعلية أو المفعولية، وذلك لما حُذف المفعول من الكلام للدلالة عليه، فيكون التقدير: مالك يومَ الدين الأحكامَ أو الأمرَ، ونظير ذلك في حذف المفعول به مع الظرف قوله تعالى: (فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ)[17] […]؛ فالشهر هنا قد نصب على أنه ظرف، والتقدير: الذي شهد المصـر أو القُطْر في الشهر، إذ لو كان الشهر مفعولا؛ للزم الصوم للمسافر، وذلك لاستواء المسافر والمقيم في شهادة الشهر، وعليه؛ فبإضافة (مالك) إلى (يوم)؛ يكون قد خرج عن الظرفية، إذ لا يصح فيه تقدير معنى (في)، وذلك لأنها تفصل بين المضاف والمضاف إليه[[18]]، قال ابن أبي الربيع: (ولا تتصور الإضافة وهو باق على أصله؛ لأنَّ الظرف في تقدير حرف الجر، ألا تراه إذا أضمر عاد إليه حرف الجر، فكأن حرف الجر موجود) [[19]]، فهذا اعتبارٌ وجيه عند العلامة ابن أبي الربيعرحمه الله واستخراج حسنٌ في توجيه جَيْئة (ملك) لمعنى (مالك)، إذ قد يجيء (مَلِك) في (مالك) مأخوذا من المُلك بالضم، لأن (فَعِل) من أمثلة المبالغة، كما قد يجيئ (مَلِك) من المُلك ثم (مالك) من المِلك بالكسـر، حتى قيل: (مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ) وأُريدَ به: مَلِك أو مالك الناس في يوم الدين، قال العلامة ابن أبي الربيع: (لا يتصور أن يكون [يَوْمِ الدِّينِ] قد نُصب نَصْب المفعول به و[مَلِك] من المُلك؛ إنما يتصور هذا إذا كان [مَلِك] مبالغة في مالك، لأن المفعول به لا تنصبه الصفات إلا اسم الفاعل وأمثلة المبالغة، وتكون الإضافة على تقدير: ملك أصحاب يوم الدين، والذي يظهر والله أعلم أن [مَلِك] مبالغة في [مالِك]، وتكون القراءتان متفقتين) [[20]]، وهو نفس المنحى الذي شَرعه العلامة ابن عطية (ت‍ 542 ه‍) عندما قرَّر أن: (المُلك والمِلك بضم الميم وكسـرها، وما تصـرّف منهما؛ راجعٌ كله إلى (ملك)، بمعنى شدّ وضبط، ثم يختص كل تصـريف من اللفظة بنوع من المعنى) [[21]] وغيره من أئمة العربية.

على أن المعول عليه – في وجه إضافة اسم الفاعل إلى المعرفة – المستعمل عند حذاق العربية كابن أبي الربيع الأندلسـي ومن لفَّ لِفَّه مثل الخليل وسيبويه؛ أن اسم الفاعل إذا قُصد به الحال والاستقبال ثم أضيف إلى المعرفة؛ فإنه يكون على وجهين: على التعريف وعلى التخفيف، فتكون الإضافة في هذا المقام على معنى التعريف، لجريانه على المعرفة، وهو الصحيح، كما يرى ابن أبي الربيع[[22]]، وذلك خلافا لمن يرى اسم الفاعل الذي لمعنى الحال أو الاستقبال ثم أضيف، فلا تكون إضافته إلا غير معرفة وغير محضة، وهو مذهب الزجاجي في (الجمل)[[23]] والزمخشـري في (الكشاف)[[24]]، فقد كَرِهَ العلامة ابنُ أبي الربيع هذا المذهب، واستحسن مذهب سيبويه[[25]] في تعرُّف اسم الفاعل بالإضافة إذا كان لمعنى الحال والاستقبال، إلاَّ أن يكون صفة مشبهة باسم الفاعل، فإنها لا تضاف إلا تخفيفا ولا تتعرَّف إلا بالألف واللام خاصة[[26]]، وذلك نحو قولك: مررتُ برجل حسن الوجه، إذْ إنَّ الحسنَ في المعنى هو الوجه، والشيء لا يتعرَّف بنفسه، فمتى أُريدَ التعريف لهذه الصفة؛ فإنهم يُدخلون الألف واللام فيقولون: مررتُ بالرجل الحسنِ الوجه، قال أبو حيان الأندلسـي (ت‍ 745 ه‍): (وهذا الوجه غريب النقل، لا يعرفه إلا من له اطلاع على كتاب سيبويه وتنقيب عن لطائفه).

وعليه؛ فمجمل المعنى في هذا كله؛ أنَّ الله سبحانه هو مَلك الخَلْق يوم الجزاء والحساب أو مَلك الأمْر يوم الدين، وهو الرب المالك للعالمين، إذ لا يعزُب منهم أحدٌ عن ملكوته وربوبيته وجلائل آلائه الظاهرة والباطنة ودقائقها، فهو سبحانه المستحق – حقّاً – للمحامد المختص بها أبداً، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبع.


[1] الكشف عن وجوه القراءات 1/30.

[2] النشر 1/271، إتحاف فضلاء البشر1/363 .

[3] الكشف عن وجوه القراءات 1/27.

[4]البحر المحيط 1/36، المحرر الوجيز 1/75.

[5]البحر المحيط 1/36.

[6]البحر المحيط 1/36، المحرر الوجيز 1/75.

[7] التبيان للعكبري 1/6.

[8]البحر المحيط 1/36، المحرر الوجيز 1/76.

[9]البحر المحيط 1/36، المحرر الوجيز 1/75.

[10]البحر المحيط 1/36.

[11]البحر المحيط 1/36، النشر1/48.

[12]البحر المحيط 1/36، النشر1/48.

[13]البحر المحيط 1/36، النشر1/48، المحرر الوجيز 1/76.

[14]البحر المحيط 1/36، النشر1/48.

[15] تفسير ابن أبي الربيع ص 177.

[16]المحرر الوجيز 1/79.

[17]المحرر الوجيز 1/79.

[18] التبيان في إعراب القرآن للعكبري 1/6.

[19] تفسير ابن أبي الربيع ص 178.

[20] تفسير ابن أبي الربيع ص 179.

[21]المحرر الوجيز 1/76.

[22] البسيط 2/1040.

[23] ص 180.

[24] 1/28.

[25] الكتاب 1/428.

[26] البسيط شرح جمل الزجاجي 2/1044،1084.

د.مولاي مصطفى بوهلال

    • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق