وحدة المملكة المغربية علم وعمرانفنون وعمرانغير مصنف

نقيشة حبسية مرينية في صحن المسجد الأعظم برباط الفتح

النقائش وثائق تاريخية وأثرية ذات قيمة بالغة في استعادة بعض مظاهر الحياة الثقافية والعمرانية والحضارية في تاريخ الأمم. والمغرب حافل بعديد النقائش التي تخبر عن مواضيع اجتماعية وسياسية وثقافية تغفل عنها أحيانا النصوص المكتوبة، من هنا أهميتها الكبرى في ملأ الفراغات التي قد تتركها الإسطوغرافيا التقليدية وسد الثغرات وتصحيح المفاهيم، خصوصا مع ضعف البحوث الأركيولوجية في بلادنا.

سأحاول ضمن هذه النافذة التي أطلقنا عليها “فنون وعمران” أن أعرف بعديد النقائش المغربية التي شكلت منعطفات علمية حاسمة في فهم بعض محطات التاريخ العمراني ببلدنا المبارك.

أبدأ في هذه الحلقة بنقيشة حبسية تعود لعهد أبي عنان المريني والمثبتة في جدار صحن الجامع الأعظم برباط الفتح حرسه الله.

يتعلق الأمر حسب العالم الأثري عثمان عثمان إسماعيل[1] “بلوح أبيض من الرخام، الأرضية والحاشية والكتابة. مساحته 63× 47سم، وسعة الحاشية 2,5 سم، طول النص 13 سطرا. أسلوب الكتابة بالخط النسخي المغربي غير أنه قليل الاستدارة من أسفل وتتساوى فيه حدود الحروف العليا والسفلى بحيث تبدو السطور وكأنها رصت بنظام تحت بعضها دون أي تداخل بين كلمات سطر مع السطر الآخر.

ويحمل النص في صراحة اسم السلطان أبي عنان المريني وتاريخ 755هـ، فهو وثيقة تاريخية كاملة، وكانت هذه اللوحة موجودة أصلا في الحمام المحبس (حمام لعلو في زنقة تحت الحمام حاليا)، ثم نقلت منه إلى صحن الجامع الكبير حيث لازالت إلى اليوم”.

أما النص المكتوب في النقيشة فهو: “الحمد لله وحده، مما حبسه مولانا الخليفة الإمام المتوكل على الله، أمير المؤمنين المجاهد في سبيل رب العالمين أبي عنان ابن مولانا أمير المسلمين المجاهد في سبيل رب العالمين أبي الحسن ابن مولانا أمير المسلمين المجاهد في سبيل رب العالمين أبي سعيد ابن مولانا أمير المسلمين المجاهد في سبيل رب العالمين أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق تقبل الله منه وبلغه في نصرة الإسلام أمله الحمام الجديد برباط الفتح حرسه الله على ضريح مولانا المرحوم والدهم رضوان الله عليه وإطعام المساكين بشالة عمرها الله تعالى وذلك في سنة خمسة وخمسين وسبعمائة.”

النقيشة تحكي قصة تحبيس الحمام الجديد برباط الفتح

يتعلق الأمر بتحبيس السلطان المريني أبي عنان الحمام الجديد (حمام لعلو بتحت الحمام حاليا) على قبر والده السلطان أبي الحسن بشالة وإطعام المساكين بها كنوع من “التكفير عن الذنب” لما هو معروف من استيلاء أبي عنان على السلطة رغم عودة والده من رحلة غرق السفينة الشهير الذي ظن معه أن أبا الحسن المريني قد قضى فيه، لكن عودته غير المنتظرة لم تثن أبا عنان عن الاستمرار في الحكم، مما نشب عنه حرب بين الأب وابنه انتهت بفرار أبي الحسن إلى جبال درن بالأطلس الكبير حيث توفي هناك، بعد مدة نقل جثمانه بأمر ولده أبي عمان ليوارى الثرى في روضة شالة حيث ضريحه الشهير بها اليوم الذي حبس عليه الحمام الجديد موضوع النقيشة.

ضريح أبي الحسن المريني بشالة الذي حبس الحمام الجديد من أجله

الحمام المريني الأصل الموجود في زنقة تحت الحمام بالمدينة القديمة

ونستفيد من النقيشة أيضا أمورا بالغة الأهمية منها أن أبا عنان المريني هو أول من لقب بأمير المؤمنين من بني مرين بينما أسلافه كانوا يلقبون بأمير المسلمين وهذه مسألة لها دلالتها من حيث الطموح السياسي الذي كان يحرك أبا عنان، ولا شك أن لهذا الطموح آثار عمرانية وثقافية سنعود إليها في حلقات مقبلة.

مسألة أخرى تتعلق بوصف الرباط بعبارة حرسه الله بينما وصفت شالة بعبارة عمرها الله، وهذه دلالة ملموسة على أن الرباط كان بها عمران لا يستهان به عكس شالة التي كانت روضة خالية من العمارة تقريبا عكس ما كانت عليه خلال العهود السابقة. وقد أثرت هذه المسألة ردا على من يعتبر ويردد ككثير من الباحثين الغربيين أن رباط الفتح كانت خلاء في عهد بني مرين بينما كانت سلا في قمة الازدهار. وإذا كنا نعرف ان عناية بني مرين بسلا كانت ملموسة وواضحة فإنهم لم يهملوا رباط الفتح بل أقاموا به عدة منشآت تجعلهم يصفونه في نقوشهم ب”حرسه الله”، فهل يعقل أن يقال لخراب “حرسه الله”، هذا لا يستقيم مع أسس فقه العمران في تاريخ المغرب…

[1] عثمان عثمان إسماعيل، دراسات جديدة في الفنون الإسلامية والنقوش العربية بالمغرب الأقصى، دار الثقافة بيروت، 1977

د. جمال بامي

  • رئيس مركز ابن البنا المراكشي للبحوث والدراسات في تاريخ العلوم في الحضارة الإسلامية، ومركز علم وعمران بالرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق