مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةدراسات عامة

نقــــط الخليــــــــل

رحلة نقط المصحف مرت عبر أطوار، فابتكروا أولا طور التشكيل و التقعيد، وتكاد الدراسات تجمع على أن واضع مبادئه  هو أبو الأسود الدؤلي ظالم بن عمرو( 69هـ) ، تلاه طور التتميم والتكميل وكان في خلافة عبد الملك بن مروان، (86هـ) ، انتدب له الحجاج علمين كبيرين من علماء العربية؛ يحيى بن يعمر تـ قبل( 89هـ) ونصر بن عاصم (90هـ)، وإذا كان الطور الأول عني بالنقط الإعرابي صونا لبنية الكلمة القرآنية عن اللحن، فإن النقط الثاني استحدث لتمييز ذوات الحروف المشتبهة في الصورة، رفعا للبس عنها، وتعيينا للمراد منها،  فاصطلحوا على تمييزها بالنقط الفردي والزوجي، وخصوا  الثاء المثلثة بثلات نقط من فوق؛  لما تنازعها في الصورة حروف عدة.

وجعلوا لون الحمرة للنقط الأول، لما كان بمنأى عن ذاتية الحرف؛ تمييزا له عن السواد الذي خط به كلام الله، و جعلوا للنقط التمييزي لصور الحروف المتشابهة لون السواد؛ لما رأوا فيه لحمة وثيقة بينه وبين الحرف المعجم والمنقوط.

وقد بسط القول في ما مضى في هاتين المرحلتين.

نخص هذا المقال للحديث الطور الثالث والأخير في رحلة النقط، وهو طور التمام والاستواء وكان ذلك على يد الخليل بن أحمد الفراهدي( 175هـ).

دأب الناس على ما تواضعوا عليه، وقومت الألسن بالعلامات الهادية، وخف تخوف عقلاء الأمة من تسرب هجنة اللحن للكتاب، لكن كل ذلك لم يكن ليغني عن مقام المشافهة؛ فهي المهيع الأسد لتلقي الكتاب، وهي الطريقة التي تلقاه بها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبها أخذه عنه صحابته رضوان الله عليهم أجمعين، ومنهم إلينا إلى ما يشاء الله رب العالمين.

جاء الخليل بن أحمد الفراهدي، فرأى أن ما بأيدي الناس من اصطلاحات ضبطية قاصرا عن تحقيق الطلبة، فكثيرة هي العوارض التي تعتري الحرف؛ مما لا يهتدى إلى التلفظ به قويما إلا بالمشافهة، ثم بعد المشافهة لابد من تعيين تلك العوارض برموز مبصِّرة، يكون القارئ منها على بينة، فيستصحب هيئة تلقيه الأول إلى قويم التهدي في نطقها، ورأى أن كثرة نقط الكتاب، واستعمال لونين في شكله وضبطه،- بما فيه النقط المدور الإعرابي، والنقط الفردي والزوجي للحروف المشبهة- فيه نوع كلفة ومشقة على الكتَّاب، مع ما يُحتاج معه إلى مزيد حذر، وشديد تثبت، كي لا يقع لبس أو خلط بينهما، فابتكر طريقة جديدة في الضبط، استعمل فيها  أبعاض حروف المد للدلالة على الحركات؛ فأخذ من الألف ألفا صغيرة مبطوحة فوق الحرف دلالة على حركة الفتح، ومن الواو واوا صغيرة فوق الحرف إشارة إلى الضم، ومن الياء ياء صغيرة تحت الحرف دلالة على الكسر، وقد اصطلحوا على تسمية هذا الضبط بالمطول، أو شكل الشعر، في مقابلة المدور؛ النقط السابق لأبي الأسود، -أخذا للتسمية من هيئتهما-، ومما ابتكر أيضا علامة المد وصورة الهمز، و أخذ حركة الشد من أول “شديد”، وعلامة السكون من رأس الخاء، كما وضع حركة  الإشمام والروم.. “قال محمد بن يزيد[1]: “الشكل الذي في الكتب من عمل الخليل، وهو مأخوذ من صور الحروف؛ فالضمة واو صغيرة الصورة في أعلى الحرف لئلا تلتبس بالواو المكتوبة، والكسرة ياء تحت الحرف، والفتحة ألف مبطوحة فوق الحرف”[2].. وجعل ذلك علما مستقلا قائما بنفسه أودعه مصنفه الذي ألفه في علم الضبط، أسماه: كتاب النقط”، ذكره له ابن النديم في الفهرست، وقد نقل منه الداني في المحكم نقولا كثيرة، إلا أنه أتت عليه عوادي الزمن، فضاع مما ضاع من تراث الأمة التليد،  قال أبو عمرو: “وأول من صنف النقط ورسمه في كتاب وذكر علله الخليل بن أحمد، ثم صنف ذلك بعده جماعة من النحويين والمقرئين، وسلكوا فيه طريقه، واتبعوا سنته، واقتدوا بمذاهبه”[3]

وبالرغم من ثراء النقط الفرهودي، وتغطيته سائر عوارض الحرف العربي، ظل النقط الأول هو المعمول به في كتابة المصاحف، وحافظ على مكانته بين رسام المصاحف، محفوظ المكانة، متحاش الحمى، لم يجرؤوا على مدافعته إجلالا لواضعيه، وإعظاما للجهد الذي واكبه جلة القوم ولم يعارضوه، ولم يجروه على الحرف القرآني إلا بعد قرون من وضعه، على تمنع وإباء من القامات الوازنة في علوم الكتاب، وقد كان أبو عمرو الداني حامل راية هذا التأبي، ولم يرتض استبدال النقط الثاني بالأول، قال رحمه الله: “وترك استعمال شكل الشَّعَر، وهو الشكل الذي في الكتب الذي اخترعه الخليل، في المصاحف الجامعة من الأمهات وغيرها، أولى وأحق؛ اقتداء بمن ابتدأ النقط من التابعين، واتباعاً للأئمة السالفين” [4].

وقد كان الحافظ أبو عمرو رحمه الله شديد الحرص على الاستمساك بموروث السلف،  خاصة فيما يتعلق بعلم الكتاب، ويرى أن ذلك من الاستنان المحمود، و أن العدول عنه إشراع لباب الابتداع المذموم، وذا مبدأ مكرور عنده في كتاب المحكم.[5]

عموما استمر الكُتَّاب  دهرا مستمسكين بالنقط الأول، لا يعدوه إلى المستحدث الجديد، إلا أنه بتوالي الأيام وجد له أنصارا، فاستحسنوا أن يقيد به الحرف القرآني ما دام القصد تنوير الكتاب، وذلك لما رأوا فيه من زيادات تسعف القارئ في تلاوته، وتسلك به مسلك السواء في أدائه، يقول غانم قدوري:”لكن تلك النزعة لم تدم طويلاً ، فنجد ابن وثيق ( ت 654هـ) لا يتحدث إلا عن علامات الخليل، وانقرضت طريقة أبي الأسود من الاستخدام، ولم يبق لها أثر إلا في المصاحف التي ضُبِطت بها، والكتب التي تتحدث عنها وتبيّن كيفية استخدامها .”[6]

وفي اعتماد نقط الخليل يقول يقول الأستاذ الدبنجه[7]

ثم أتى الخليلُ نجـل أحمدا      وقومه فأبعـدوا فيه المــدى

فعدَّلوا في ضبطـه تعـــديلا      وطوَّلوا في بعضِه تطويـلا

وحوَّلوا في ذلك التعديــــل     نقطَ محرك إلى التشكيـــل

وصار في عصر بني العبـاس      لليوم وهو عمل للنـــاس

ثم توال بعد الخليل التصنيف في علم الضبط، وظهرت فيه مذاهب واختيارات، لكن ظلت هيآت الضبط وأشكاله مستمدة من إرث الخليل، وإن تباينت المدارس في محال وضعه من الحروف، نقارب هذا الموضوع في قابل المقالات إن شاء الله.

والله المستعان وعليه التكلان

[1] أبو العباس المبرد ؛ إمام النحو،  صاحب الكامل، أخذ عن أبي عثمان المازني، وأبي حاتم السجستاني، وعنه أبو بكر الخرائطي، ونفطويه، وإسماعيل الصفار، وغيرهم، يقال في سبب تسميته: أن المازني أعجبه جوابه فقال: قم فأنت المبرد، أي المثبت للحق، بفتح الراء، ثم غلب عليه، تـ 286هـ سير أعلام النبلاء، 10/546.

[2] نفسه، ص: 7

[3] المحكم في نقط المصاحف، ص: 9 تح: د عزة حسن، دار الفكر  ط 2

[4] نفسه، ص: 22

[5] من ذلك مثلا ما ارتضاه في وضع حركة التنوين المنصوب على الألف نقطتان على الألف، وأن لا تجعلا على الحرف قبله، قال رحمه الله: “فأما علة من جعل النقطتين معا على الألف؛ فإنه لما كان التنوين ملازما للحركة متابعا لها غير منفك منها ولا منفصل عنها في حال الوصل ولا منفرد دونها في اللفظ يلزمه ما يلزمها من الثبات في الوصل، ويلحقه ما يلحقها من الحذف في الوقف، وكان النقط كما قدمناه موضوعا على الوصل دون الوقف، بدليل تعريبهم أواخر الكلم، وتنوينهم المنون منها، وكان ذلك من فعل من ابتدأ بالنقط من السلف الذين مخالفتهم خروج عن الاتباع ودخول في الابتداع..” المحكم، ص: 61.

[6] دراسات قرآنية، ص:85

[7] كشف العمى والرين عن مصحف ذي النورين،ص:35

Science

د.عبد الجليل الحوريشي

  • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق