مركز الدراسات والأبحاث وإحياء التراثشذور

نقطة ضعف في تاريخ ابن حيّان

بقلم: عبد الله كنون

   يحظى مؤرخ الأندلس أبو مروان بن حيان القرطبي(377-469) بتقدير كبير من المؤرخين وعموم الكتاب ببلده، يعتمدونه في الأخبار، وينقلون عنه تراجم الرجال، ويعجبون بأدبه وأسلوبه البليغ، حتى قال فيه تلميذه أبو علي الغساني، وهو من هو علما ودينا: «كان عالي السن قوي المعرفة مستبحرا في الآداب بارعا فيها، صاحب لواء التاريخ بالأندلس، أفصح الناس فيه وأحسنهم نظما(أي تأليفا) له» ونوه به ابن حزم في رسالته في فضل الأندلس، وهو بعد حي في طور الاكتمال كما قال، وكذلك نوه به الشقندي في رسالته المعروفة. ولا يستغرب من أهل الأندلس أن يحيطوا نابغة من نبغائهم بهذه الهالة من التقدير، وهم الذين عرفوا بفرط الاعتزاز ببلدهم، والاعتداد برجالاتهم إلى حد التعصب. على أنه في الواقع شخصية فذة لا جدال في قيمة ما قدمه إلينا من مادة تاريخية دسمة، تتوزع ماضي الأندلس من لدن الفتح العربي إلى زمنه، وحاضرها المعاصر له، في كتابيه «المقتبس» و«المتين»، بمجلداتهما العدية التي لم يصلنا منها إلا أقل القليل.

  وبالاطلاع على ما أمكن من هذه المادة، نجد أنه حقا أديب متمكن واسع المعرفة جزل العبارة قوي الأسلوب، بحيث يعد من بلغاء كتاب عصره، إلا أنه سلم من آفة السجع الذي كان قد أصبح حلية الكتاب وعلامة البراعة. وهذه المكانة الأدبية هي التي جعلته متميزا بين المؤرخين بصفاء ديباجته وعلو لغته، لأن طبع الأديب فيه يغلب على طبع المؤرخ، حتى إنه يقع في كلامه بعض الألفاظ الغريبة أحيانا. ومع ذلك فهو في التاريخ نسيج وحده في عصره وبلده، استوعب تواريخ من سبقه لعهد الولاة وخلافة قرطبة إلى حين سقوطها. وسجل ما شهده من أحداث التاريخ الكبرى كأخبار الدولة العامرية، والفتنة البربرية وقيام ملوك الطوائف، وغير ذلك بدقة متناهية واستقصاء كامل مما جعله المرجع الوحيد في هذه الفترة الخطيرة من تاريخ الأندلس الذي لا غنى عنه لكاتب أو باحث.

  وبالجملة فهو من كبار المؤرخين الذين ظهروا في مغرب الوطن العربي، وإن لم يكتب تاريخا عاما يشمل البلاد العربية والإسلامية، كما فعل ابن جرير الطبري وابن الأثير وبن كثير وأبو الفداء وابن خلدون وغيرهم من أئمة التاريخ العام، لكنه وقد قصر تاريخه على بلاده الأندلس، سدّ فراغا لولاه لم يسدّ وعمل في دائرته الخاصة عملا متقنا، فلحق بركب المؤرخين المجيدين والمؤلفين المتميزين في هذا الشأن، ويبالغ بعض الكتاب في شأنه فيجعلونه أعظم مؤرخ ظهر في الأندلس، وربما في المغرب العربي كله، متأثرين بمبالغات الأندلسيين في تزكية بعضهم لبعض، ونحن لم نره تفرد بشيء ليس عند غيره من أعلام التاريخ المذكورين، وإذا كان كتاباه المشهوران «المقتبس» و«المتين» لم يصلا إلينا كاملين، وإنما وصلنا منهما أجزاء صغيرة، فإن زبدتهما قد استخلصها من أتى بعدهما من المؤرخين الذين وقفوا عليهما، وما هي ببدع في مدونات التاريخ. نعم تفرد ابن حيان عن جمهرة المؤرخين العرب بشيء لا يحمد عليه، ولا يعد من المميزات الحسنة، بل هو نقطة ضعف في تاريخه، تجعل القارئ لا يطمئن إلى كل ما يرويه أو ما يخبر به. ونعني بذلك الذمّ والطعن والتشنيع على الناس مما ضج منه غير واحد من العلماء والمؤرخين الذين نقلوا عنه واستفادوا منه، فكانوا يستخلصون المعلومات والإفادات التي تهمهم في الموضوع ويعرضون عن لمزاته ونيله من الأعراض والأشخاص الذين يترجم لهم. ولن بشكوال في كتابه «الصلة» أول من يفعل ذلك. ولما ترجم لصاحبنا ابن حيان أثنى عليه الثناء الجميل، وأشار إلى ما ينتقد عليه من ذلك في صورة إبراء على عادة العلماء. إذ حكى عن الفقيه الصالح أبي عبد الله بن عون أنه رآه في النوم بعد وفاته، فسأله ما فعل الله به فقال: غفر لي. قال: فقلت له فالتاريخ الذي صنعت ندمت عليه؟ فقال: أما والله لقد ندمت عليه إلا أن الله عز وجل بلطفه عفا عني وغفر لي.

  فهذه الحكاية صحّت أم لا، في سياقها الجميل اعتذار لطيف كان هو الإعلان من ابن بشكوال رحمه الله عن عدم موافقته على صنيع ابن حيان في نبش عيوب الناس ولو كانت واقعا ثابتا، فإنه لم يقدح في صدقه، ولكنه استنكر التشهير بعباد الله فيما أمرنا بستره وعدم البحث عنه، ولا سيما مع عدم المقتضي لذكره واستكمال فائدة الخبر بالسكوت عنه، فإنه حينئذ يصبح هجاء، وهل يكون المؤرخ هجّاء (بكسر الهاء في الأول وفتحها مع التشديد للجيم في الثاني).

  وإني أخشى أن يكون طبع الأديب بالمفهوم القديم قد غلب على اين حيان، فساقه إلى قرن المدح بالهجاء، إذ كان الأمران لا ينفكان في نظر أهل الأدب، فموضوع المدح يتبعه موضوع الهجاء، وخاصة عند الشعراء. وابن حيان وإن لم يكن شاعرا فهو قد تأثر بأساليب الشعراء وأغراضهم فيما يظهر، واعتبر الهجاء فنا من فنون القول، وغرضا من أغراض الكتابة.

  وقد كان ابن بسام صاحب كتاب «الذخيرة» أصرح من ابن بشكوال في إدانة ابن حيان، حين سمى فعله هذا بالهجاء، ولم يجمجم في ذلك، فقال وهو ينتقي مقاطع من نثره: «وهذه فصول مقتضبة من طويل كلامه في تاريخه، وكنيت عن أكثر ما به صرح، وأعجمت باسم من به أعرب وأفصح، رغبة بكتابي عن الشين وبنفسي أن أكون أحد الهاجيين». وتمثل فيه بقول ابن الرومي:

مهما تقل فسهام منك مرسلة       وفوك قوسك والأعراض أغراض

وما تكلمت إلا قلت فاحشة        كأن فكيك للأعراض مقراض

  وهذا أحد الفصول التي ذكرها ابن بسام من إنشاء صاحبنا وأبهم المعني به: «نعي إلينا فلان وكان في غفلته وبعد فطنته وغباوة شاهده وفجاجة شمائله وشكاسة خلائقه، آية من آيات خالقه، من رجل نسمة ديب، وقرارة حرب، على لسانه نملة تدب على أعراض الناس، لا يراعى لأحد ذمة، فصار مشنوءا إليهم ومرهقا في دينه، محروما لم ترتفع له قط حال ولا فارقه إقلال، ولا أتيح له مرفق إلا من حيث يرتشي لتلقين خصم أو توهين عقد، أو دفع حق بمشاغبة، أو بهت خصم بمعاندة، له في ذلك نوادر محفوظة، وكان مه هذه المساوئ وسخ الثياب، زمن المروءة، مكحل الأظفور، وضر الطوق، داني الغائط من المائدة، لا يتقذر شيئا ألبتة، وهو أول من لاعن زوجه بالأندلس، فأرى الناس العمل في اللعان بالعيان».

  والمعني بهذا الكلام البذيء هو الفقيه ابن الهندي المشهور من أعلام القطر الأندلسي فإنه الذي لاعن زوجته كما يذكر الفقهاء في باب اللعان بحكم صاحب الشرطة، وعوتب في ذلك فقال: «أردت إحياء سنة أميتت» حكاه عنه ابن عات. وتعقبه البرزلي بقوله: قد أغنى الله تعالى عنه بما جاء في كتابه، يعني من الطلاق، والستر أولى. ولكن فات البرزلي أن اللعان قد يكون لنفي نسب فيجب، ثم هو مما يدرأ الحد عن الزوجة والقذف عن الزوج، فلم يشرع عبثا بل لحفظ كرامة الزوجين معا، وعليه فتشنيع ابن حيان على ابن الهندي به هو من التعنت إن لم يكن من الاعتراض على الشريعة.

  ثم لننظر كيف يأكل لحم هذا الفقيه الكبير بعد موته وكيف يعيبه بما وقع فيه هو من ثلب الأعراض، إلى غير ذلك من السباب القذر، وكل ذلك مما نهي عنه شرعا، فقد جاء في الحديث: «سباب المؤمن فسوق».

  وهذا إنما هو نموذج واحد من عدة فصول أثبتها ابن بسام في منتقى كلامه، وأبهم المعنيين بها، ولكن الباحث المعروف الدكتور محمود علي مكي توصل إلى معرفة البعض منهم وسماهم فيما كتبه على القطعة التي نشرها من «المقتبس»، وهم ابن الحصار، وابن مغيث، وابن المكوى، وابن ذكوان، وابن زرب، وهؤلاء كلهم من أعيان الفقهاء ورجال الفتوى والقضاء المعمول بأقوالهم وأحكامهم في المذهب المالكي، فيا لجرأة هذا الرجل على الحرمات وخاصة أهل العلم والدين.

  والدكتور مكي على علمه وتحقيقه مما هو يشايع ابن حيان وينتصر له حتى إنه وصف تحرج ابن بشكوال من نقل مطاعن ابن حيان في أهل عصره وما حكاه من رؤيا ابن عون في المنام، بالتدين الساذج، فالتدين الحكيم إذن هو سلوك ابن حيان…

  ويذكرني هذا الكلام بقول أمين الريحاني وهو يسخر بلحية أحد وزراء تطوان مشبها لها بلحى رهبان لبنان في صورة دفاع عنهم: «جعله الله دفاعا مقبولا لديهم فيدافعون عني يوم القيامة، كما قال ابن خلدون متيمنا في دفاعه عن حسب الأدارسة ونسبهم»[أمين الريحاني: المغرب الأقصى، رحلة في منطقة الحماية الإسبانية ص255]. فالموضوع بحاله، لأن ابن خلدون مقعد التاريخ وواضع علم الاجتماع، تعرض في مقدمته لتفنيد بعض مزاعم المؤرخين ومنها الطعن في نسب الأدارسة بما تقوله خصومهم من أمثال البكري والمروانية الأندلسيين فضلا عن العباسيين البغداديين على إدريس بن إدريس من نسبته لراشد مولى أبيه، ضيقا بدولتهم العلوية التي أنشأوها في المغرب وتحطيما لها، فتصدى لهم بالإنكار والتنديد، غيرة على آل البيت وانتصارا لهم، وقال في آخر كلامه: «وإنما أطنبت في هذا الرد سدا لأبواب الريب ودفعا في صدر الحاسد، لما سمعته أذناي من قائله المعتدي عليهم به، القادح في نسبهم بفريته، وينقله بزعمه عن بعض مؤرخي المغرب، ممن انحرف عن أهل البيت وارتاب في الإيمان بسلفهم وإلا فالمحل منزه عن ذلك معصوم منه، ونفي العيب حيث يستحيل العيب، عيب، لكني جادلت عنهم في الحياة الدنيا وأرجو أن يجادلوا عني يوم القيامة».

  وليس قصدنا أن ندل على ما في الكلام الريحاني من الاستهزاء بقضايا الدين ورجاله، ولكنا نريد أن ننبه إلى روح الحفاظ التي تقمصها فيلسوف المؤرخين ولقنها لأصحاب المهنة في هذه الفذلكة وأمثالها مما ضمنه في مقدمته الخالدة، إشعارا بأن التاريخ ليس قصيدة هجاء أو مقالة تشهير بخصم، ولكنه إعلام نزيه وإنباء صادق وقول حق، وذمة وضمير ومسؤولية…

  وقد وضع ابن خلدون قواعد هذا العلم وقرر أصوله، ولكنه لم يطبقها على أحداث التاريخ التي حكاها في كتابه الكبير، اكتفاء بما أعطاه من أمثلة تطبيقية في المقدمة، لأنه لو تتبع ذلك لما انتهى إلى غاية ولوقع في حرج كبير. هذا مع العلم بأنه لم يكن ليفوته مثل هراء صاحبنا ابن حيان، ولكنه أعرض عنه إعراض الكرام، يقينا بكونه ليس من التاريخ في شيء. وتحامل المؤرخين وتحيزهم باعتبار العامل السياسي وركونهم إلى حكام عصرهم هما من القواسم المشتركة بينهم جميعا قدماء ومحدثين، وما ابن حيان إلا واحد منهم، فتوليه لخلفاء قرطبة وبني جهور من ملوك الطوائف هو مما تطفح به صفحات تاريخه، ولكن هذا ليس مما يعيننا الآن فنحن إنما نتكلم عل هذه الانتقادات الاعتباطية والنزوات الشخصية التي تفرض على التاريخ وتدس بين ثناياه ومن منا لا ينكرها؟ وقد أنكرها ابن حيان نفسه في كلامه على أحد الشعراء الذي «أرسل آفة على أهل بيت لأمر أوذي به من بعضهم فعمم بهجائه وأفحش لهم»[انظر ص176 من«المقتبس» تحقيق د.مكي، نشر المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية-القاهرة] على أن هذا من شأن الشعراء وليس من شأن المؤرخين.

  ولنستمع إلى كلمة قيمة في هذا الصدد من كتاب «معيد النعم ومبيد النقم» لتاج الدين السبكي، قال وهو يتحدث عن طوائف العلماء: «ومنهم المؤرخون، وهم على شفا جرف هار لأنهم يتسلطون على أعراض الناس، وربما نقلوا مجرد ما يبلغهم من كاذب أو صادق، فلا بد أن يكون المؤرخ عالما حافظا عدلا عارفا بحال من يترجمه، ليس بينه وبينه من الصداقة، ما قد يحمله على التعصب له، ولا من العداوة ما يحمله على الغض منه، وربما كان الباعث له على النيل منه مخالفته له في العقيدة أو المذهب.. وكثيرا ما يتفق هذا لشيخنا الذهبي في حق الأشاعرة، والذهبي أستاذنا، والحق أحق أن يتبع.. وقد عقد ابن عبد البر بابا في أن كلام العلماء بعضهم في بعض لا يقبل، وإن كان كل منهم بمفرده ثقة حجة، ومنهم من تأخذه في الفروع الحمية لبعض المذاهب ويركب الصعب والذلول في العصبية، وهذا من سوء أخلاقهم، ولقد رأيت في طوائف المذاهب من يبالغ في التعصب بحيث يمتنع من الصلاة خلف بعض، ولو كان الشافعي وأبو حنيفة حيين لشددا النكير على هذه الطائفة» انتهى باختصار.

  وبالإشارة إلى ما ذكره من تعصب الفقهاء وإزراء بعضهم على بعض، نذكر هنا ابن حزم، عصري ابن حيان، فإنه في هذا الباب قد جاوز كل الحدود في الطعن على الأئمة والاستخفاف بهم اعتدادا بمذهبه الظاهري، واعتقادا منه بأنه هو الصواب الذي لا يرقى إليه خطأ حتى شبه بعض العلماء سلاطة لسانه بسيف الحجاج، ولعله ما أثنى على صاحبنا ابن حيان إلا لتوافقه وإياه في هذا الأمر.

  ونذكر من الأدباء، الفتح بن خاقان وما كتبه عن أبي بكر بن باجة في «قلائد العقيان» من السخافات حتى أنه طعن في دينه، وهو العبقري النافذ البصر في فنون العلم والأدب والذي يعد مفخرة من مفاخر الأندلس برغم كل ما قاله فيه القلائد.

  ومن المؤسف أن تتجلى هذه الظاهرة في فئة من أهل العلم والأدب وهي ظاهرة مرضية نفسية لا تشرف صاحبها بحال، ولكن الذي يبعث على الارتياح هو أن المزاج، ومن ثم حكم الفقهاء بعدم جواز شهادة العلماء بعضهم في بعض لما يكتنفها من الشبهة وسوء القصد إلا من رحم ربك. وبالله التوفيق.

 انتقاء: ذة. نادية الصغير.

Science

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. مقطع جيد واشتمل فائدة جيدة، من أستاذ أديب بارع في الكتابة الأدبية، إلا أنه طويل بالنسبة لهذه الخانة، فلو اقتصر واختصر على المطلوب لكان جيدا، وبالجملة فالشكر لكل العاملين لإثراء هذا الحقل المعرفي الرائد.

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق