مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

نفحات روحية من خلال السيرة النبوية الرحلة الأولى للنبي صلى الله عليه وسلم إلى الشام مع عمه أبي طالب

أخذ أبو طالب النبي صلى الله عليه وسلم في رحلته إلى الشام في ركب للتجارة وعمر النبي صلى الله عليه وسلم اثنتا عشرة سنة، وذلك أن هاشم جد النبي صلى الله عليه وسلم قد سن لقريش شد الرحال للتجارة في فصلي الشتاء والصيف، ففي فصل الشتاء يتوجهون بتجارتهم نحو اليمن، وفي الصيف يتيممون بتجارتهم نحو الشام، وفي أثناء سفره صلى الله عليه وسلم تشكلَت غمامة بيضاء في كبد السماء وهي صافية، مهمتها أن تظلل النبي صلى الله عليه وسلم وتسير معه حيث سار، وكانت في الطريق بحيرة بجوارها راهب يتعبد وحده يسمونه بحيرا الراهب،[1] وكان انتهى إليه علم النصرانية، فلما نزل الركب بُصرى من الشام في ذلك العام وكانوا كثيرا ما يمرون ببحيرى الراهب قبل ذلك فلا يكلمهم ولا يعرض لهم حتى كان ذلك العام، فنزلوا قريبا من صومعته وقد كانوا ينزلون قبل ذلك، فلما مروا عليه صنع لهم طعاما ودعاهم، وإنما حمله على ذلك أنه رآهم حين طلعوا وغمامة تظل رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين القوم، حتى نزلوا تحت شجرة، ثم نظر إلى تلك الغمامة قد أظلت الشجرة، فلما دنا النبي صلى الله عليه وسلم من القوم وجدهم قد سبقوه إلى فيء الشجرة؛ أي ظلها، فلما جلس صلى الله عليه وسلم، مال فيء الشجرة عليه، فقال الراهب: “انظروا إلى فيء الشجرة مال إليه”،[2] وفي رواية فتهصّرت أغصان الشجرة على النبي صلى الله عليه وسلم حتى استظل، فلما رأى بحيرا ذلك نزل من صومعته وأمر بذلك الطعام فأتي به، وأرسل إليهم: يا معشر قريش إني قد صنعت لكم طعاما، وأنا أريد أن تحضروه ولا يتخلفن منكم صغير ولا كبير، ولا حر ولا عبد، فإن هذا شيء تكرمونني به، فقال رجل من القوم: إن لك لشأنا يا بحيرا، ما كنت تصنع قبل هذا، فما شأنك اليوم، فقال أحببت أن أكرمكم، ولكم عليّ حق، فاجتمعوا إليه، وتخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم لحداثة سنه، ليس في القوم أصغر منه سنا، ينظر رجالهم تحت الشجرة، فلما نظر بحيرا إلى القوم ولم ير الصفة التي يعرف ويجدها عنده، وجعل ينظر فلا يرى الغمامة على أحد من القوم، ويراها محلقة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال بحيرا: يا معشر قريش لا يتخلفن أحد منكم عن طعامي هذا، قالوا: ما تخلف أحد إلا غلام، وهو أحدث القوم سنا في رحالنا، قال ادعوه فليحضر طعامي، فما أقبح من أن تحضروا ويتخلف واحد، إني أراه من أنفَسكم، قالوا: هو والله من أوسطنا نسبا، وابن أخي هذا الرجل، وهو من ولد عبد المطلب، فقام الحارث بن عبد المطلب بن عبد مناف فقال: والله كاد اليوم أن يتخلف ابن عبد المطلب من بيننا، ثم قام إليه فاحتضنه، وأقبل به حتى أجلسه على الطعام، والغمامة تسير على رأسه، وانقلعت الشجرة من أصلها حين فارقها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعل بحيرا يلحظه لحظا شديدا وينظر إلى شيء من جسده قد كان يجدها عنده من صفته،[3] فلما فرغ القوم من الأكل وتفرقوا، قام إليه بحيرى، فقال له: يا غلام أسألك بحق اللات والعزى إلا ما أخبرتني عما أسألك عنه، وإنما قال له بحيرى ذلك، لأنه سمع قومه يحلفون بهما، فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: لا تسألني باللات والعزى شيئا، فوالله ما أبغضت شيئا قط بغضهما، فقال له بحيرى: فبالله إلا ما أخبرتني عما أسألك عنه، فقال له: سلني عما بدا لك، فجعل يسأله عن أشياء من حاله في نومه وهيئته وأموره، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره، فيوافق ذلك ما عند بحيرى من صفته، ثم نظر إلى ظهره، فرأى خاتم النبوة بين كتفيه على موضعه من صفته التي عنده.[4]

قال ابن إسحاق: فلما فرغ، أقبل على عمه أبي طالب، فقال له: ما هذا الغلام منك؟ قال: ابني، قال له بحيرى: ما هو بابنك، وما ينبغي لهذا الغلام أن يكون أبوه حيا، قال: فإنه ابن أخي، قال: فما فعل أبوه؟ قال: مات وأمه حبلى به، قال: صدقت، فارجع بابن أخيك إلى بلده، واحذر عليه يهود، فوالله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت ليبغنه شرا، فإنه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم، فأسرع به إلى بلاده.[5]

يستفاد من هذه القصة مجموعة من العبر والدلالات منها:

• المكانة والمنزلة التي يحظى بها النبي صلى الله عليه وسلم بين قومه وهو لا يزال يافعا (سنه حوالي اثنتا عشر سنة)، فمن المعروف أنه ذا نسب شريف ومكانة عظيمة في بني هاشم، ليس نسبا فقط وإنما خلقا وفضيلة ورجاحة عقل، ونفس كريمة بعيدة عن سفاسف الأمور، مما جعل بعض القوم يدركون خطأهم الفادح في عدم اصطحابهم النبي صلى الله عليه وسلم للمأدبة التي أقامها بحيرى خصيصا للنبي صلى الله عليه وسلم، لما رآه من دلائل على نبوته، وهو ما سيتعزز تأكيده عند الحديث معه صلى الله عليه وسلم وسؤاله عن بعض أحواله الشريفة، فالعبرة هي بالأخلاق وبما تثمره من فضائل ومكارم تجعل الإنسان محبوبا في مجتمعه وبين أهله وعشيرته، يقام له وزن ويكون له شأن، فهذا هو المطلوب والمرغوب، وليس الاعتناء بالمظاهر وجعلها تحكم واقع الناس، وتكون هي معيار التفاضل بين الناس.

• أن الذات المحمدية المشرفة معروفة عند الكل: إن الله سبحانه وتعالى خلق من النور المحمدي سائر المخلوقات، فهو كالسر السائر في جميع الكائنات، لذلك فهو معروف عند أهل السماء وعند أهل الأرض إلا من أبى، فهو معروف عند أهل السماء بأنه حبيب الله وصفيه، ومعروف عند أهل الأرض بصفاته وأخلاقه العظيمة، قال حسان بن ثابت رضي الله عنه:

لو لَم تَكُن فيهِ آياتٌ مُبَيَّنَةٌ      لكان منظره ينبيك بِالخَبَرِ

ومعروف عند الجمادات والكائنات على اختلافها، ففي رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان في الطريق مع عمه إلى الشام، ف”لم يبق شجر ولا حجر إلا خر ساجدا ولا تسجد إلا لنبي.[6] وما قصة الشجرة المباركة إلا دليل على الرحمة والخير الفياض الذي حل بها وسريان ذلك فيها إلى يومنا هذا، فما زالت تلك الشجرة المباركة شامخة تحمل معها حنينا إلى الزمن المبارك المجيد

وكذلك أهل الكتاب يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم ويعلمون علم اليقين أنه سيبعث قريبا بأوصاف وأمارات عندهم، والدليل على ذلك ما رواه علماء السيرة من أن اليهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه ويقولون: إن نبيا سيبعث قريبا سنتبعه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم، ولما نكثوا عهدهم أنزل الله في ذلك قوله: (وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ) [البقرة/89].

و ارتباطا بهذه المعرفة قال الله تعالى: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ ۖ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [البقرة/146] فقد قال عمر لعبد الله ابن سلام وقد كان كتابيا فأسلم: “أتعرف محمدا صلى الله عليه وسلم كما تعرف ابنك؟ فقال نعم وأكثر، بعث الله أمينه في سمائه إلى أمينه في أرضه بنعته فعرفته، وابني لا أدري ما كان من أمه”.[7]

• حفظ الله تعالى لنبيه الكريم: وذلك من خلال تسخير السحاب له، وتيسير الشجرة لتظله من حر القيظ، فمن كان الله معه يسر له جميع السبل، وسخر له الجميع لخدمته، والقيام بشأنه وهو نوع من الحفظ والرعاية الإلهية بأوليائه وأصفيائه المتقين، فكن مع الله ترى الله معك، فكن مع أمر الله تلحظك عنايته، ويدركك فضله، ويغمرك إحسانه، ويدهشك عطاؤه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك…[8] وفي رواية: (احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده أمامك، تعرَّفْ إلى الله في الرخاء يعرفك فـي الشدة…).[9]

والمسألة الثانية في هذا الأمر: أن الله تعالى قد تكفل بحفظ نبيه في السفر، لأن السفر مشقة بحد ذاته، فلابد له من صاحب يؤنس في الطريق، ويقوم بخدمة سيد الوجود صلى الله عليه وسلم، لذلك نجد سيدنا أبو بكر رضي الله عنه نعم الصاحب للنبي صلى الله عليه وسلم في هجرته إلى المدينة، استنادا إلى تسخير السحابة والشجرة لخدمة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد جعل الصوفية للسفر أحكاما وقسموه إلى قسمين: “سفر بالبدن وهو الانتقال من بقعة إلى بقعة، وسفر بالقلب وهو الارتقاء من صفة إلى صفة، فترى الكثيرين يسافرون بأجسامهم، والقلائل يسافرون بقلوبهم”،[10] وعلى الرغم من أهمية السفر القلبي إلا أن السفر بالبدن يعتبر عندهم ميزانا يكشف عن معدن الإنسان ومكمن الخير أو الشر فيه، ولذلك قالوا: “سمي السفر سفرا لأنه يسفر عن أخلاق الرجال”،[11] فمن كانت همته متعلقة بأحوال النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته فإنه يقوم بالخدمة ويسعى إلى أن يكون نعم الصاحب ونعم المستند، نفاعا للناس، ورحمة تمشي بين الناس على طريق الخير والإحسان، لذلك يقول أبو يعقوب السوسي: “يحتاج المسافر إلى أربعة أشياء في سفره: علم يسوسه، وورع يحجزه، ووجد يحمله، وخلق يصونه”.[12]

• التعايش السلمي بين الأديان: قصة النبي صلى الله عليه وسلم مع الراهب بحيرى فيها من الدلالات الهامة في مسألة التعايش مع الأديان، فالعرب على الرغم من عبادتهم الأوثان لم تسجل كتب السيرة أنهم في صراع عقدي مع الراهب أو هناك مناوشات فالكل يعيش بسلام وطمأنينة كل ومعتقده الخاص به، وكخطوة ذكية من الراهب لمعرفة موقف النبي صلى الله عليه وسلم من الأصنام والأوثان التي يعبدوها قومه قال له: يا غلام أسألك بحق اللات والعزى إلا ما أخبرتني عما أسألك عنه، فرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم: لا تسألني باللات والعزى شيئا، فوالله ما أبغضت شيئا قط بغضهما، فالنبي صلى الله عليه وسلم من فطرته الصحيحة السليمة يكره الشرك وكل شيء من غير الله الواحد القهار، ولكن ذلك لم يجعله ناقما على قومه أو يكن لهم العداوة والكره كما هو حال المتشددين اليوم الذين لا يتورعون من مد أيديهم على أبناء جلدتهم بل وعلى من يخالفونهم المعتقد.

فالفطرة السليمة السوية تكره الفعل وليس الفاعل، ولا تكن الحقد والعداوة لبني الإنسان، بل تحترم الجميع وتتعايش مع الجميع، وهذا هو حال الراهب بحيرى في تعامله مع النبي صلى الله عليه وسلم لما أيقن أنه النبي المبعوث، بل دافع عنه وأبعد عنه الخطر بتحذير عمه بأن يعود به إلى مكة مخافة قتله من طرف اليهود، وكذلك العمل على تثنية مجموعة من أهل الكتاب الذين قصدوا قتل النبي صلى الله عليه وسلم لما علموا أنه بجوار البحيرة،[13] كل ذلك يؤكد أن الإنسانية السوية أو الباحث عن الحقيقة أو صاحب الفطرة السليمة تتحد أهدافهم وتلتقي رؤاهم، وإن تنوعت سبلهم، وكلهم يد واحدة في الوقوف أمام الظلم والاعتداء، والتوق إلى المحبة والتعايش والسلام.

الشجرة المباركة التي استظل بها النبي صلى الله عليه وسلم أثناء رحلته الأولى إلى الشام.

الهوامش:

[1] – تمت تسميته ببحيرا الراهب، لأنه يتعبد بجوار هذه البحيرة، فقد تحولت صفته إلى اسم له فهو في الحقيقة راهب البحيرة التي بجواره، وقد ذكرت بعض المصادر أن اسمه جرجيس، وقيل سرجس. ينظر: مروج الذهب ومعادن الجوهر، لأبي الحسن علي بن الحسين بن علي المسعودي (ت 346هـ)، تحقيق: محمد محيى الدين عبد الحميد، دار الفكر، بيروت، لبنان، 1293هـ/1973هـ، الطبعة الخامسة، 1/ 75.

[2] نفائس الدرر من أخبار سيد البشر، 1/ 177 و دلائل النبوة، لأبي نعيم الأصبهاني، 1/ 171.

[3] دلائل النبوة، لأبي نعيم الأصبهاني (ت 430هـ)، تحقيق: محمد رواس قلعجي، عبد البر عباس، دار النفائس، بيروت، لبنان، الطبعة الثانية، 1406هـ/1986م،  1/ 168-169.

[4] السيرة النبوية، لابن هشام، المجلد الأول، 1/ 138.

[5] السيرة النبوية، لابن هشام، المجلد الأول، 1/ 138.

[6] المستدرك على الصحيحين، رقم الحديث: 4229، 2/ 766.

[7] الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، 1/ 565.

[8] أخرجه: الترمذي في سننه، كتاب: صفة القيامة والرقائق والورع، باب: ، حديث رقم: (2516)، وقال: هذا حديث حسن صحيح.

[9] الأسماء والصفات، للبيهقي، تحقيق: محمد محيي الدين أبو زيد، دار الشهداء، الناشر: مكتبة التوعية الإسلامية، مصر، طبعة: 1436هـ/2015م، رقم الحديث: 127، 1/ 277.

[10] الرسالة القشيرية، 289

[11] الرسالة القشيرية، 292.

[12] الرسالة القشيرية، 292.

[13] السيرة النبوية، لابن هشام، المجلد الأول، 1/ 138.

Science

د.مصطفى بوزغيبة

باحث بمركز الإمام الجنيد التابع للرابطة المحمدية للعلماء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق