مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

نفحات روحية من السيرة النبوية (5) إرهاصات قبل مولد سيد السادات صلى الله عليه وسلم

نور يخرج من حَمْلِ أمِّه به 

    من عجائب مولده صلى الله عليه وسلم الدالة على عظم شأن نبينا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم، أن نورا خرج من السيدة آمنة أم النبي صلى الله عليه وسلم، أضاءت له قصور الشام، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَان، عن أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنهم قَالُوا: (يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنَا عَنْ نَفْسِكَ؟ فقَالَ: (دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ، وَبُشْرَى عِيسَى، وَرَأَتْ أُمِّي حِينَ حَمَلَتْ بِي أَنَّهُ خَرَجَ مِنْهَا نُورٌ أَضَاءَت لَهَ بُصْرَى، وبصرى مِنْ أَرْضِ الشَّامِ)[1].

    قال ابن رجب: “خروج هذا النور عند وضعه؛ إشارة إلى ما يجيء به من النور الذي اهتدى به أهل الأرض، وأزال به ظلمة الشرك منها، كما قال تعالى: ﴿قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾. [المائدة: 15-16]، ومعنى النور في هذه الآية هو النبي صلى الله عليه وسلم، وقال تعالى: ﴿فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾. [الأعراف: 157، فكل أمر النبي صلى الله عليه وسلم نور، وكل ما يحيط بالذات الشريفة نور، فحين وصف الله تعالى القمر قال: ﴿تبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيرا﴾. [الفرقان: 61]، وحين وصف الشمس قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا سِرَاجا وَهَّاجا﴾. [النبأ: 13]، أما حين وصف الحبيب صلى الله عليه وسلم قال: ﴿يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا﴾. [الأحزاب: 46]. فجمع له بين الوصفين ليكتمل الجمال بالجلال، وليلتحم الضياء بالنور، فيشرق للعالم كله، ولذلك قال الإمام البوصيري رحمه الله:

أنت مصباح كل فضل فما      تصدر إلا عن ضوئك الأضواء[2]

    كما تشير هذه الحادثة إلى أمر هام؛ وهو أولية نوره صلى الله عليه وسلم، فأول ما خلق الله تعالى نور حبيبه صلى الله عليه وسلم، ثم خلق من نوره جميع العوالم، قال الدردير: “ونوره صلى الله عليه وسلم (أصل الأنوار) والأجسام، كما قال صلى الله عليه وسلم لجابر رضي الله عنه : (أول ما خلق الله نور نبيك من نوره). الحديث. فهو الواسطة في جميع المخلوقات، ولولاه ما  كان شيء، كما قال الله لآدم صلى الله عليه وسلم: (ولولاه ما خلقتك). الحديث”[3]. فحديث جابر وإن كان غير ثابت من حيث السند[4]، إلا أن العلماء يذكرون أن معناه صحيح، فليس هناك ما يمنع أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أول الأنوار التي خلقها الله سبحانه وتعالى، وفاضت منه الأنوار إلى البشرية في عالم الروح، ولما كان صلى الله عليه وسلم سره السر الإلهي، ونوره النور الكلي، كان هو السابق اللاحق، والنور الأتم الذي للظلام ماحق، حتى إن جسده الشريف الصوري، المنيف اللطيف النوري، الذي حبّه على الخلائق فرض، كان لا ظل له يقع على الأرض، لأنه نور واف وافر، وظهور ساق سافر، وهو النور الظاهر، بمظهرية اسمه النور الباهر، فمن أراد دخول حضرة النور، فليلتج لجنابه، وليقف وقفة الخاضع الذليل ببابه، وليلزم باب اتباعه، لكي يعد من أتباعه، فمن اتبعه أحبه الله وبصّره، ومن أحبه كان سمعه وبصره، فيمسي نورا بحتا، وينحت قوافي الأسرار نحتا، فيكون داعيا إلى الله على بصيرة، حيث صفت منه السريرة وصحت البصيرة”[5].

يقول الشيخ مصطفى بن كمال الصديقي الخلوتي[6]:

حضرة النور تُكسب الأنوارا***وهو يمحو من الفتى الآثارا

يدّعي أهلها التحقق فيها***وهي في العز والعلا لا تُجارى

عبدُها عندها مقيم يراها***حين تُجلى عليه منَّا جهارا

تتجلى فيها ملاح المعاني***للمُعاني حتى تُريه النهارا

فيضها الأقدسي يُفني الدياجي***سُحبُه في العطا تفوق البحارا

فارم ثوب الظلام عنك لتُكسى***حلة النور فالظهور أنارا

واشهد النور يفد وفي كل شيء***عن جمال له أزاح الخمارا

وخذ اللب ثم للقشر فاحفَه***واحتس الكأس إن مُديرا أدارا

هذه حضرة الهن والتصابي***فادخلوها ثم اكتموا الأسرارا

وإذا ما دخلتم لحماها***نلتم العزَّ والمُنى والفخارا

فاشكروا نعمة الإله عليكم***وأفيضوا من مائكم مدرارا

وأطلقوا للحصير في أرض نفس***ثم فُكُّوا منا قُيود الأسارى

ثم زَكُّوا أموال ما نلتموه***من نوال من منع ذلك حذارا

وصلاة على الحبيب التهامي***ما به المسرف الكئيب استجارا

كما يفهم من انتشار النور في الأفق قبل خروج الذات الشريفة، وتغطيته لمساحة كبيرة إلى درجة أضاءت لها قصور بصرى، أن نوره صلى الله عليه وسلم كأنه نور الشمس إذا بدى لم يبق للكواكب نور، والمعنى أنه: “لما بدا لم يبق لأحد من الرسل شريعة، بل نسخت شريعته جميع شرائعهم، ومحا نوره سائر أنوارهم، فهو صلى الله عليه وسلم سلطانهم الأكبر، ورئيسهم الأفخر، وجنسهم العالي الأظهر”[7].

 وقد ذكر العلماء أن النبي صلى الله عليه وسلم عُقِدت له النبوة قبل كل شيء، وأنه دعا الخليقة عند خلق الأرواح وبدء الأنوار إلى الله تعالى، كما دعاهم آخِرا في خِلقة جسده آخر الزمان، ومن هذا المعنى قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَىٰ ذَٰلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ﴾. [آل عمران: 81]. فقد آمَن به الكل، فهو آدمُ الأرواح ويَعسُوبها كما أن آدم أبو الأجساد وسبَبُها، ثم قال: انظر إلى قوله عزَّ وجلَّ: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا﴾. [الفرقان: 1]. والعالمون هم جميع الخليقة؛ فقد أنذر الخليقة أجمع، وآمَنَ الكل به في الأوّلية والآخرة، وانتقال النور في جميع العالم من صُلْب إلى صُلْب فافهم. انتهى. وقد تكلم الشيخ تقي الدين السبكي على هذا المعنى وقرّره ثم قال: وبهذا بانَ لنا معنى حديثين كانا قد خَفيا عنّا؛ أحدهما :قوله صلى الله عليه وسلم: (بُعِثْتُ إلى الناس كافّة)، كنا نظن أنه من زمانه إلى يوم القيامة، فبانَ أنه جميعُ الناس أولهُم وآخرُهم، والثاني: قوله صلى الله عليه وسلم: (كنت نبيًّا وآدم بين الروح والجسد)، كنا نظن أنه بالعِلْم، فبانَ أنه زائد على ذلك. انتهى. قال: وقال الشيخ أبو عثمان الفرغاني: فلم يكن داعٍ حقيقيٌّ من الابتداء إلى الانتهاء إلا هذه الحقيقة الأحمدية التي هي أصل جميع الأنبياء، وهم كالأجزاء والتفاصيل لحقيقته، فكانت دعوُتهم من حيث جُزْئيتُهم عن خلافةٍ من كلهم لبعض أجزائه، وكانت دعوته دعوة الكل لجميع أجزائه إلى كليته، والإشارة إلى قوله تعالى: ﴿وما أرسلناك إلا كافة للناس﴾. [سبأ: 28]، والأنبياءُ والرُّسُل وجميع أُممهم وجميع المتقدِّمين والمتأخرين داخلون في كافّة الناس، فكان هو داعيا بالأصالة، وجميع الأنبياء والرُّسُل يدعون إلى الحق عن تبعيّته صلى الله عليه وسلم، فكانوا خُلفاءَه ونوُّابَه في الدعوة. انتهى.

 وفي البردة:

وكل آي أتى الرسل الكرام بها   فإنما اتصلت من نوره بهم

فإنه شمس فضل هم كواكبها   يظهرن أنوارها للناس في الظلم

ويقول البوصيري في همزيته:

أنت مصباح كل فضل فما تصدر    إلا عن ضوئك الأضواء

يقول ابن حجر في شرحه لهذا البيت متحدثا عن النور المحمدي: “فأنت المخصوص بأنك الذي يبرز عن ضوئك الذي أكرمك الله به الأضواء كلها، من الآيات والمعجزات وسائر المزايا والكرامات، وإن تأخر وجودك عن وجود الأنبياء، لأن نور نبوتك متقدم عليهم، بل وعلى جميع المخلوقات”[8].

الهوامش 

[1] المستدرك على الصحيحين، للنيسابوري، رقم الحديث: 4174.

[2] قصيدة الهمزية في مدح خير البرية، للإمام شرف الدين أبي عبد الله محمد البوصيري، دار الرشاد الحديثة، الدار البيضاء، المغرب، بدون (ط/ت)، ص: 2.

[3] الشرح الصغير على أقرب المسالك إلى مذهب الإمام مالك، للشيخ أبي البركات أحمد بن محمد بن أحمد الدردير، وبالهامش حاشية العلامة الشيخ أحمد بن محمد الصاوي المالكي، تخريج: مصطفى كمال وصفي، دار المعارف، القاهرة، مصر، بدون ط/ت، 4 /778-779. 

[4] ينظر كتاب: مرشد الحائر لبيان وضع حديث جابر، للشيخ عبد الله بن محمد بن الصديق الغماري (ت1413هـ)، دار المشاريع، بدون (ط/ت). (الكتاب كله يتحدث عن حديث جابر ووجوه رد هذا الحديث من ناحية الصناعة الحديثية).

[5] شموس الأنوار ومعادن الأسرار على صلاة القطب الأكبر مولانا عبد السلام بن مشيش رضي الله عنه وقدس الله سره، للشيخ محمد المرون، ص: 200.

[6] المصدر السابق نفسه، ص: 200.

[7] العمدة في شرح البردة، أحمد بن محمد بن حجر الهيتمي، تحقيق: بسام محمد بارود، دار الفقيه، الإمارات العربية المتحدة، دبي، دار الفتح للدراسات والنشر، الأردن، عمان، بدون (ط/ت)، 293.

[8] المنح المكية في شرح الهمزية المسمى: أفضل القرى لقراء أم القرى، شهاب الدين أحمد بن محمد بن علي بن حجر الهيثمي، دار المنهاج، جدة، المملكة العربية السعودية، تحقيق: أحمد جاسم المحمد وبوجمعة مكري، الطبعة الثانية، 1426هـ/2005م، ص: 93.

د.مصطفى بوزغيبة

باحث بمركز الإمام الجنيد التابع للرابطة المحمدية للعلماء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق