مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةدراسات عامة

نظم المقدمة الآجرّومية للعلامة السّنغاليّ الشيخ الخديم أحمد بمبا البكيّ وأبعادُهُ التربوية 2

 

تُلُقِّي نَظمُ «المقدِّمة الآجرّومية» الموسوم بـ« سَعَادَة الطُّلَّابِ وَرَاحَة طَالِبِ الْإِعْرَابِ» للشيخ الخديم ـ رحمه الله ـ بِالقبول، وأقبل رُوَّاد العربية والنحو على افتحاص مبانيه وتفهّم معانيه، حتى استغنى به كثير منهم، وانصرفوا عن الأصل المنثور، كما أن الكتاب لم ينحصر في ربوع «سنغال» فحسب، بل جاوزها إلى بعض البلدان العربية كـ«موريتانيا»، وكـ«المغرب»، ووضعت عليه بضعة شروحٍ(1) .
ومن صعَّد النَّظر إلى الكتاب وصوَّبَهُ يكتشف أنهُ جدير بتلك المكانة وقمين بها، لأنه جاءَ في قالب شعريٍّ رقيق، بتمثيل لطيف ولفظٍ دقيق، فائق السبك، رائق الحبك. فالشيخ ـ رحمه الله ـ أُوتي بسطةً في العلم، ومُكنةً وبراعةً في النظم، فأبدع فيه وأطرف، وسلك فيه مهيعاً غير مألوف السلوك، ممكن إجمالهُ في أمرين:
الأول: حُفُولُ الكتاب بالأمثلة التي تعين قارءَهُ على فَهم ما بين طواياهُ من القواعد وضبطها من غير  وكسٍ ولا شططٍ، فالتَّمثيلُ منهج فعَّال، وأسلوبٌ من أفيد الأساليب في التعليم والإيضاح، لأنه يُدني البعيد، ويبين الغامض، ويطرد الملل والسىآمة، كما يقرب المسائل إلى الأذهان، ويساعد على تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد.
الثاني: انتهاجه في التمثيل منهجَ النّاصح الأمين، الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر؛ فقد أنصف «عمراً» من «زيدٍ»، وضرب الذكر صفحاً عن الأمثلة النمطية التي شحنت بها الكتب التعليمية والتي كثيرا ما تشِطُّ عن الواقع، وذلك لاكتناهه أهمية المثال، وأثره البالغ في المتعلِّم، ولاسيما إذا كانَ حديث السنّ رَخْصَ الأطراف.
ومن الطريف ـ والشيءُ بالشيءِ يذكرُ ـ ما أورده البغدادي ـ رحمه الله ـ في كتابه:«اقتضاء العلم العمل، ص:93»، قال:” أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ الْخَيَّاطُ الْأَزَجِيُّ، ثنا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمُفِيدُ بِجَرْجَرَايَا، ثنا مُحَمَّدُ بْنُ مَخْلَدٍ، ثنا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى السِّمْسَارُ، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ بِشْرِ بْنِ الْحَارِثِ، وَعِنْدَهُ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْعَظِيمِ الْعَنْبَرِيُّ، وَكَانَ مِنْ سَادَاتِ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا نَصْرٍ أَنْتَ رَجُلٌ قَدْ قَرَأْتَ الْقُرْآنَ وَكَتَبْتَ الْحَدِيثَ، فَلِمَ لَا تَتَعَلَّمُ مِنَ الْعَرَبِيَّةِ مَا تَعْرِفُ بِهِ اللَّحْنَ حَتَّى لَا تَلْحَن، قَالَ: وَمَنْ يُعَلِّمُنِي يَا أَبَا الْفَضْلِ؟ قَالَ: أَنَا يَا أَبَا نَصْرٍ، قَالَ: فَافْعَلْ قَالَ: قُلْ:«ضَرَبَ زَيْدٌ عَمْرًا» ، قَالَ: فَقَالَ لَهُ بِشْرٌ: يَا أَخِي وَلِمَ ضَرَبَهُ؟ قَالَ: يَا أَبَا نَصْرٍ مَا ضَرَبَهُ، وَإِنَّمَا هَذَا أَصْلٌ وُضِعَ، فَقَالَ بِشْرٌ:«هَذَا أَوَّلُهُ كَذِبٌ لَا حَاجَةَ لِي فِيهِ»”!!!. وإذا أمعنا النظر نجد أنه ـ رحمه الله ـ ما بعثه على سلوك هذا المهيع إلا إيمانهُ القويُّ بأنَّ العلم لا ينفصل عن الدّين، وأنهما شيءٌ وَاحدٌ لا فكاكَ لأحدهما من الآخر، وأن العلمَ الحقَّ هو ما أورث صاحبه الخشيةَ ومكارم الأخلاق والتأدب الباطن مع الحق والتأدب الظاهر مع الخلقِ. ويتم ذلك ـ في نظره ـ بالجمع بين التعليم والتربية، وبين النظرية والتطبيق، بمعنى أن يُعنى القائمون على العلم بتعليم النَّشْءِ وتربيتهم على هدي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، الذي بعثه الله إلى الناس كافةً لـ«يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ»، وإلّا يفعلوا تكن فتنةٌ في الأرض وفسادٌ كبير!
ومن أجل ذلك تجد للجانب التربوي حضوراً في كتبهِ، ولاسيما في كتابه هذا، إذ لم يجتزئْ ـ رحمه الله ـ بعرض القواعد النحوية فحسبُ، بل عني أيضاً بتزكية الطالب وتصفية بواطنه حتى تصفو لتلقي العلم، فهو نور لا يحلُّ إلَّا صدراً نُزِع منه الغلّ والأحقاد، وذلك ما رفع الكتابَ مكاناً علياًّ، محتوياً بين دَفّتيه أسراراً أخلاقيّة، وأبعاداً تربويّةً ساميةً، كان أبرزهَا ما يأتي:
إرساخُ التوحيد في نفوس الطلبة:
إنَّ ما يلفت نظر قارئ الكتابِ بادئَ بَدءٍ هو التّوحيد الخالص الذي بين يتضوّعُ بين حروفهِ، وكيف يحاول الشيخ ـ رحمه الله ـ بربَّانيّته غرس العقيدة الصحيحة في نُفوس الطّلّاب وسقيَهم نهلا وعللا من كؤوس المعرفة بالله، حتى لا يظمؤوا بعده أبداً، ولا يجتَرفهم جارف، ولا تعصفهم ريحٌ عاصف.
إن الشيخ ـ رحمه الله ـ حرص على تقوية صلة طلبة العلم بالخالق حتى يعبدُوه مخلصين له الدين حُنفاءَ، وبنبيّهم القُدوة الأسمى ـ صلى الله عليه وسلّم ـ الذي لا يتمُّ إيمان العبد إلا بهِ،  حتى يستنُّوا بهديِه ـ صلّى الله عليه وسلَّم ـ في الأقوال والأفعال والأحوال، مُتشبثين بسنته وسنة خلفائه الراشدين المهديين من بعدهِ.
ومن ذلك قوله:
اَلْـمُبْتَدَا الاسْمُ الَّذِي عَرِيَ مِنْ =*=عَوَامِلٍ لَفْظِيَّةٍ حَيْثُ يَعِنْ
مُرْتَفِعًا كَاللهُ رَبُّنَا السَّمِيعْ=*=مُحَمَّدٌ نَبِيُّنا، وَهْوَ الشَّفِيعْ 
*   *   *
في آخِرِ الاِسمِ الَّذِي لاَ ينصرفْ=*=كَفَازَ مَنْ بحُبِّ أَحْمَدَ شُغِفْ 
 *   *   *
إِنِّي اتَخَذْتُ الْـمُصْطَفَى خَلِيلاَ=*=كَيْ لاَ أَكُونَ أَبَدًا ذَلِيلاَ 
*   *   *
كَطُفْتُ بَيْتَ اللهِ جَلَّ حَافِيَا=*=وَزُرْتُ رَوْضَةَ النَّبِيِّ مَاشِيَا 
  ويهتمُّ ـ رحمه الله ـ أيضاً بتثبيت معاني التوحيد في أفئدة الطلبة، بأن يلازموا لوازمَه من صدق وإخلاصٍ وخوفٍ ورجاءٍ ورضًى وزهدٍ وشكرٍ، وإدمان الافتقار إلى الله والتذلل له بالاستغفار والإلحاح في الدّعاء الذي هو «مخُّ العبادة»، ومن ذلك قوله:
تَقُولُ كَانَ اللهُ غَافِرًا لَنَا=*=فَلَيْسَ سَائِلٌ غَدًا يَسْأَلُنَا
 وَنَحْوُ ذَا: كَإنَّنِي أَمْسَيْتُ=*=مُسْتَغْفِرًا مِنْ أَجْلِ مَا جَنَيْتُ
 وَإَنَّنِي أَصْبَحْتُ مُحْسِنًا، كَمَا=*=أَضْحَيْتُ مَرْضِيًّا وَظِلْتُ مُكْرَمَا
 وَبِتُّ قَائِمًا لِوَجْهِ اللهِ=*=وَصِرْتُ زَاهِدًا وَذَا انْتِبَاهِ
 مَا زَالَ قَلْبِي خَائِفَ اللهِ، وَمَا=*=اِنْفَكَّ رَبِّي وَاهِبًا لِي نِعَمَا
وَمَا فَتِئْتُ دَاعِيًا، وَمَا بَرِحْ=*=رَبِّي مُجِيبَنِيَ قَدْ صِرْتُ الْفَرِحْ
وَلا أَزَالُ مُدْمِنَ الْأَوْرَادِ=*=مَا دُمْتُ مَعْدُودًا مِنَ الْعُبَّادِ
*   *   *
تَقُولُ: إِنَّ اللهَ غَافِرٌ لِيَا=*=ذَنْبِي لأَنِّي تَائِبٌ فَوْزٌ لِيَا
لَكِنَّنِي أَعْبُدُهُ كَأَنَّنِي=*=مُشَاهِدٌ رَبَّ الْوَرَى ذَا الْـمِنَنِ 
وهذا البيت الأخير عمود الأمر ورأسه وذروة سنامه، وهو إدمان المراقبة ومقام المشاهدة بأن يعبد العبدَ ربّه كأنّه يراهُ، وهو ما بينه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقوله ـ: «أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ»[متفق عليه].
رفعُ همم طلاب العلم:
من الصّفات الراقية التي كان سلفنا الصالح يتحلوّن بها علوُّ الهمّة والتعالي عن سفاسف الأمور، فكانوا حريصينَ على العلم، يظمؤُون الهواجر من أجله، ويكابدون الليل في المطالعة ومناقشة المسائل، كما كانوا يقطعون المراحل ويسافرون مسافةَ شهر في طلب حديثٍ واحدٍ(2)، وكتبُ التاريخ والتراجم والأدب شاهدةٌ على ذلك، وحافلة بالأخبار التي تدهش العقول، التي تنبئُ عن حرصهم الشديد على العلم وطول  صبرهم على تحصيله وتطلابه(3).
وقد ضمَّن الشيخ ـ رحمه الله ـ كتابه أمثلة حاول بها تصريحاً وتلويحاً تقوية عزم الطلاب وترقية همم قارئي الكتاب، والأخذ بحجزهم من الثرى إلى الثريّا، ومن أسفل سافلين إلى العلِّيّين، فندبهم إلى بذل الجهد، والتشمير عن ساعد الجدّ، ومكابدة الليالي والرّنوَّ إلى المعالي، ومن ذلك قوله:
فَإِنْ تَكُنْ ذَاتَ انْفِصَالٍ فَوَجَبْ=*=الرَّفْعُ مَعْ تَكْرَارِ لاَ عِنْدَ الْعَرَبِ
تَقُولُ: لاَ فِي هِمَّتِي مَزْحٌ وَلاَ=*=دُعَابَةُ مُذْ أَنَّنِي أَبْغِي الْعُلَى 
*    *   *
وَإِنْ تَكَرَّرَتْ مَعَ الْـمُبَاشَرَهْ=*=فَفِيهِ وَجْهَانِ رُمِ الْـمُذَاكَرَهْ 
 *    *   *
كَلَمْ يَزَالاَ يَطْلُبَانِ الحِرْفَا=*=فَلاَ تَزَالاَ تَطْلُبَانِ الْحَرْفَا
وَلَـمْ يَزَالُوا يَطْلُبُونَ رُشْدَا=*=فَلاَ تَزَالُوا تَطْلُبون مَجْدَا 
  فالشيخ ـ رحمه الله ـ هنا يوصي الطلبة بإدمان تَطلاب العلم والحرص على المباحثة والمذاكرة، فذلك ـ بلا شك ـ مرقاة المجد، ومشكاة الرُّشد، كما يوصيهمْ من طرْفٍ خفيٍّ أَن يهوؤوا بأنفسهم إلى المعالي، ويترفّعوا عن الدنايا وإسرافِ الوقت في الهزل والعبث.
تربيتهم على آداب الطلب:
إن لطلب العلم آداباً على الطلبة ملازمتُها والتحلّي بها، فمن ضيعها حرم مطلوبه، إذ العلم لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كلك، فإذا أعطيته بعضك لم يعطك شيئاً. ومن أجل ذلك كان للأدب عند الشيخ ـ رحمه الله ـ مكانة خاصة؛ فقد كان شديد الاهتمام به والحرص عليه وكثير الدعوة إليه، وذلك لعلمه بأن «الأدب باب الأرب» وإيمانه بضرورة تقديم التأدب على التعلّم، وأن العلمَ بدونه حرمان وخزيان، وداعٍ إلى التهلكة والخسران. ومن أجل ذلك جمع في كتابه طرفاً من آداب طلب العلم، ومن الأمثلة على ذلك قوله:
 كَالطَّالِبَانِ لَنْ يُصِيبَا وَطَرَا=*=مَا لَمْ يَكُونَا يَصْبِرَانِ عَنْ فِرَى
 وَلَنْ تَنَالاَ رَشَدًا أَوْ تَفْطِمَا=*=نَفْسَيْكُمَا عَنِ اللَّغَى فَلْتَفْطِمَا
وَلَنْ تَحُوزُوا عِلْمَ أَشْيَاخِكُمُ=*=مَا لَمْ يَكُونُوا نَاصِحِينَ لَكُمُ 
  فهنا يحثُّ طالب العلم على ملازمة الجلد، والصبر على ما يصيبه من الأذى والكبد، وفطم النفس عن العوائد والشهوات، وكفِّها عن جملة الشبهات، كما يحثه على توقير مشايخه والتأدب معهم، وقبول ما يسدونه إليه من نصائح، إذ بالعمل بها يظفر بمطلبه، ويفوز بمرادِه ومأربه.
ويحثه أيضا على اختيار الصحبة الصالحة بأن يصاحب أهل التقوى والمروءة والأدب، من يزداد بمصاحبتهم همّةً وعلماً وديناً، ويفرّ ـ كفراره من المجذومِ ـ من صحبة السوء، لأنّ الطبع يُعدي، ولا تؤمَن غوائلُهم، وخلطتهم مجلبة للندامة والخسران، وفي ذلك يقول:
كَلَنْ أُخَالِلَ كَذُوبًا أَبَدًا=*=وَزُرْتُ أَخْيَارًا عُصِمْتُ مِنْ رَدَى 
*   *   *
وَهْوَ السُّمَى الَّذِي بِهِ الْفِعْلُ يَقَعْ=*=مُنْتَصِبًا كَاصْحَبْ أَدِيبًا قَدْ خَشَعْ 
تربيتهم على تقوى الله وعبادته:
لا سبيل إلى الانتفاع بالعلم بدون تقوى، ولا خير فيه ألبتة إذا لم يصْحَبْهُ عَمَل، وقديما قالوا:«الْعِلْمُ يَهْتِفُ بِالْعَمَلِ فَإِنْ أَجَابَهُ وَإِلاَّ ارْتَحَلَ»، وشُبِّهَ من لا يعمل بعلمه بالشجر بلا ثمر أو بالسحاب بلا مطر أو بالحمار الذي يحمل أسفاراً.  من أجل ذلك يندب ـ رحمه الله ـ  المتعلّم إلى أن يأخذ الكتاب بقوّةٍ، ويدعوه بين الفينة والأخرى إلى العمل بما علم مسدِّداً ومُقارِباً؛ بأنْ يُلازم تقوى الله، ويحفد إليه بالتحنّث وصالح الأعمال، مع الحرص على الإخلاص، يقول في ذلك:
يَنْقَسِمُ الْفِعْلُ إِلَى أَفْعَالِ=*=ثَلاَثَةٍ بِقَوْلِ كُلِّ تَالِ
مَاضٍ مُضَارِعٍ وَأَمْرٍ كَاتَّقِ=*=رَبَّ الْوَرَى فَقَدْ نَجَا مَنْ يَتَّقِي 
 *   *   *
وَنَحْنُ إِيَّاكُنَّ يَا حُورُ نُحِبْ=*=وَأَنْتَ إِيَّاهُنَّ تَهْوَى فَاقْتَرِبْ 
*   *   *
كَالْيَوْمَ وَاللَّيْلَةَ ثُمَّ بُكْرَهْ=*=ثُمَّ غَدَاةً لاَ تَزَلْ ذَا فِكْرَهْ 
*   *   *
كَلَمْ يَفُزْ أَحَدٌ اِلاَّ مُحْسِنُ=*=بِالرَّفْعِ أَوْ بِالنَّصْبِ كُلٌّ حَسَنُ 
*   *   *
كَاللَّهُ يَرْحَمُ ويُكْرِم الْـمُطِيعْ=*=فَلَنْ أَزالَ قَافيًا نَهْجَ الشَّفِيعْ 
*   *   *
كَأُكْرِمَ الْعَابِدُ بِالْأَمَانِ=*=وَيُكْرَمُ الْخَدِيمُ بِالْإِحْسَانِ 
*   *   *
تَقُولُ مَا قَدَّمَتِ الْيَدَانِ=*=مِنَ الْـمَزِيَّاتِ يَرَاهُ الدَّانِي 
  *   *   *
كَيَا ذَوِي الطَّاعَاتِ تَغْنَمُونَا=*=لَكِنَّمَا الْعُصَاةُ يَخْسَرُونَا 
  
*   *   *
وَانْصِبْ بِهَا إِذَا عَلَى مَا نُصِبَا=*=عَطَفْتَ كَازْدَدْتُ تُقًى وَأَدَبَا
وَاخْفِضْ بِهَا إِذَا عَلَى مَا خُفِضَا=*=عَطَفْتَ كَارْغَبْ فِي ثَوَابٍ وَرِضَى 
*   *   *
وَالْـمُضْمَرُ اثْنَيْنِ أَتَى وَعَشَرَهْ=*=نَحْوُ: خَرَجْتُ مِنْ جَمِيعِ الْفَجَرَهْ
نَحْنُ عَلِمْنَا وَعَلِمْتَ أَنْتَا=*=كَمَا أَطَعْتِ حِينَ خِفْتِ الْـمَقْتَا
 يَا ذَانِ قَدْ صَلَّيْتُمَا وَأَنْتُمُ=*= كَمَا أَتَيْنَ هُنَّ قَدْ أَتَيْتُمُ
وَرَكَعُوا كَمَا رَكَعْتُنَّ الضُّحَى=*=وَوَرِعَا وَصَلُحَتْ وَصَلُحَا 
ففي هذه الأبيات يدعو ـ رحمه الله ـ طالب العلم إلى إخلاص العبادة لله تعالى والتفكر في مخلوقاته، والتزلف إليه بما استطاع من النوافل والقربات، وإقامة الصلاة في أوقاتها، وملازمة الورع، إذ لا دين لمن لا ورع له، مع الائتساء بسنة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وانتباذ البدع، لأَنَّ كلَّ بدعةٍ ضلالةٌ وكلَّ ضلالةٍ في النار.
وتراه كيف يزاوج بين الترغيب والترهيب، مبينا أن من أطاع الله محسناً فاز؛ بأن يزحزَحَ عن النار ويُدخَل الجنة، ومن عصاه استجلب مقته وسخطه، ولقي الخسران المبين، والعياذ بالله.
تربيتهم على مكارم الأخلاق:
لا نُبْعِدُ النجعة إذا قلنا إن هذا الكتاب مرجع جامع في التربية ومكارم الأخلاق، ويمكن أن يعتمد كتاباً في الوعظ والإرشاد ثانياً، وترساً للسلامة من الأزمة الأخلاقية التي تصطلي بها الأمة في هذا العصر، حتى صارت ـ للأسف ـ تَتَّبِعُ سنن الغرب شبراً بشبرٍ وذراعاً بذراعٍ، وسلكت جحرَ الفساد والفسوق الذي ولج فيه الغربيّون عُبَّادُ الهوى والمادّة.
ولهذا كانت أمثلته من جانبٍ محاولةً منه لصد هذه العاصفة التي تهدد الأمة، وترسَ وقاية لها من كل هامَّةٍ ولامَّةٍ، كما أنها ـ من جانبٍ آخر ـ وشيجة تربِطُ بين ماضي الأمة وحاضرها، وحفزٌ لها إلى السعي نحو مستقبل أكثر نَصاعةً وإشراقاً.
وقد تضمنت أبياته جُملًا من الفضائل ومكارم الأخلاق، كالصفح والعفو، والجود والسخاء، وغضّ الطرف عن عيوب الناس، ومحْض النصح لهم، لأنَّ «الدين النصيحة»، ومن ذلك قوله:
أَمَّا الْـمُشَبَّهُ بِهِ فنَحْوُ: يَا=*=مُطَّلِعًا عُيُوبَ غَيْرِكَ اخْشَيَا 
*   *   *
أَوْ قُلْتَ لاَ رَذِيلَةٌ فِي قَلْبِي=*=وَلاَ غَبَاوَةٌ حَمِدْتُ رَبِّي 
*   *   *
تَقُولُ: لاَ حَسَدَ فِي فُؤَادِي=*=لِأَنَّنِي أَنْصَحُ لِلْعِبَادِ 
*   *   *
تَقُولُ زَيْدٌ يُكْرِمُ الرِّجَالاَ=*=وَهِنْدُ تُعْطِي الْمُسْلِمَاتِ مَالاَ 
 *   *   *
تَقُولُ: إِنْ تَرْحَمْ وَتَعْفُ وَتَجُدْ=*=تَكُنْ مُقَدَّمًا وَقَوْمَكَ تَسُدْ 
*   *   *
وَإِنَّنِي لِلْقَوْمِ أَجْمَعِينَا=*=ذُو نُصْحَةٍ لِكَيْ أُقِيمَ الدِّينَا 
  ويوجه ـ رحمه الله ـ من باب كر الخاص بعد العامّ، أمثلة خاصة إلى المرأة المسلمة التي صارت غرضاً للأعداء اللُّدِّ، تنوشها سهامهم الطائشة صباحَ مَسَاء، وتصرخ بأعلى صوتها «وا معتصماهُ» ولا تجد مصرخاً وَلا مجيباً. فقد دعاها إلى طلب العلم، وبيَّن أن طلبه ليس قاصراً على الذكور، كما يعتقد بعض بني جلدته، وكذلك دعاها إلى العض على الهدي الإسلامي بالنواجذ، فقال:
وَلاَ تَزَالِـي تَسْتُـرِينَ الْبَدَنَا=*=وَلاَ تُخَالِطِي الرِّجَالَ زَمَنَا 
 *   *   *
وَلَنْ تَنَالِي الدِّينَ حَتَّى تَسْتُـرِي=*=جِسْمَكِ يَا زَيْنَبُ بِالتَّخَمُّرِ 
*   *   *
كدَخَلَتْ وَخَرَجَتْ وَرَكَعَتْ=*=وَسَجَدَتْ وَكبَّـرَتْ وَسَلَّمَتْ 
*   *   *
نَحْوُ نَكَحْتُ الْمُسْلِمَاتِ الْمُؤْمِنَاتْ=*=اَلْقَانِتَاتِ الْتَّائِبَاتِ الْعَابِدَاتْ 
  فهنا ترى كيف توصي المسلمة بما يحفظ لها مكانتها وكرامتها وعفافَها، وبما يُحصّنها من كيد المتربصين بها الدّوائر، ويدعوها إلى ارتداء اللباس الشرعيّ بسَتر البدن والاخْتِمارِ، وتجنّب الخلطةِ بالأجانب لما في ذلك من الفتنة والمفاسد العاجلة والآجلة، كما يوصيها بأن تسلم وجهها إلى الله مؤمنةً قانتةً تائبة عابدةً.
خاتمة
فهذا غيض من فيض، وبعضٌ من الأبعاد التربوية التي يتضمنها الكتاب، كما أنه يحسر الخمار عن أهمية الكتاب ومكانته، وعن الدعوة الإصلاحية التي كان الشيخ الخديم ـ رحمه الله ـ قائدها، والمنظومة التربوية التي كان رائدها، ولعل الزمان يسعفنا على دراسة الكتاب دراسةً أسدَّ وأعمق.
———-
الهوامش
(1) منها شرحنا المسمى بـ«فتح الوهاب في شرح سعادة الطلاب».[مطبوع]
(2) ومن ذلك أن جابر بن عبد الله رحل مسيرة شهر إلى عبد الله بن أنيس في طلب حديث واحد، [انظر:مسند الإمام أحمد، 25/431]
(3) انظر: صفحات من صبر العلماء على شدائد العلم والتحصيل، للشيخ عبد الفتاح أبو غدة.

تُلُقِّي نَظمُ «المقدِّمة الآجرّومية» الموسوم بـ« سَعَادَة الطُّلَّابِ وَرَاحَة طَالِبِ الْإِعْرَابِ» للشيخ الخديم ـ رحمه الله ـ بِالقبول، وأقبل رُوَّاد العربية والنحو على افتحاص مبانيه وتفهّم معانيه، حتى استغنى به كثير منهم، وانصرفوا عن الأصل المنثور، كما أن الكتاب لم ينحصر في ربوع «سنغال» فحسب، بل جاوزها إلى بعض البلدان العربية كـ«موريتانيا»، وكـ«المغرب»، ووضعت عليه بضعة شروحٍ(1) .

ومن صعَّد النَّظر إلى الكتاب وصوَّبَهُ يكتشف أنهُ جدير بتلك المكانة وقمين بها، لأنه جاءَ في قالب شعريٍّ رقيق، بتمثيل لطيف ولفظٍ دقيق، فائق السبك، رائق الحبك. فالشيخ ـ رحمه الله ـ أُوتي بسطةً في العلم، ومُكنةً وبراعةً في النظم، فأبدع فيه وأطرف، وسلك فيه مهيعاً غير مألوف السلوك، ممكن إجمالهُ في أمرين:

الأول: حُفُولُ الكتاب بالأمثلة التي تعين قارءَهُ على فَهم ما بين طواياهُ من القواعد وضبطها من غير  وكسٍ ولا شططٍ، فالتَّمثيلُ منهج فعَّال، وأسلوبٌ من أفيد الأساليب في التعليم والإيضاح، لأنه يُدني البعيد، ويبين الغامض، ويطرد الملل والسآمة، كما يقرب المسائل إلى الأذهان، ويساعد على تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد.

الثاني:انتهاجه في التمثيل منهجَ النّاصح الأمين، الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر؛ فقد أنصف «عمراً» من «زيدٍ»، وضرب الذكر صفحاً عن الأمثلة النمطية التي شحنت بها الكتب التعليمية والتي كثيرا ما تشِطُّ عن الواقع، وذلك لاكتناهه أهمية المثال، وأثره البالغ في المتعلِّم، ولاسيما إذا كانَ حديث السنّ رَخْصَ الأطراف.

ومن الطريف ـ والشيءُ بالشيءِ يذكرُ ـ ما أورده البغدادي ـ رحمه الله ـ في كتابه:«اقتضاء العلم العمل، ص:93»، قال:” أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ الْخَيَّاطُ الْأَزَجِيُّ، ثنا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمُفِيدُ بِجَرْجَرَايَا، ثنا مُحَمَّدُ بْنُ مَخْلَدٍ، ثنا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى السِّمْسَارُ، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ بِشْرِ بْنِ الْحَارِثِ، وَعِنْدَهُ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْعَظِيمِ الْعَنْبَرِيُّ، وَكَانَ مِنْ سَادَاتِ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا نَصْرٍ أَنْتَ رَجُلٌ قَدْ قَرَأْتَ الْقُرْآنَ وَكَتَبْتَ الْحَدِيثَ، فَلِمَ لَا تَتَعَلَّمُ مِنَ الْعَرَبِيَّةِ مَا تَعْرِفُ بِهِ اللَّحْنَ حَتَّى لَا تَلْحَن، قَالَ: وَمَنْ يُعَلِّمُنِي يَا أَبَا الْفَضْلِ؟ قَالَ: أَنَا يَا أَبَا نَصْرٍ، قَالَ: فَافْعَلْ قَالَ: قُلْ:«ضَرَبَ زَيْدٌ عَمْرًا» ، قَالَ: فَقَالَ لَهُ بِشْرٌ: يَا أَخِي وَلِمَ ضَرَبَهُ؟ قَالَ: يَا أَبَا نَصْرٍ مَا ضَرَبَهُ، وَإِنَّمَا هَذَا أَصْلٌ وُضِعَ، فَقَالَ بِشْرٌ:«هَذَا أَوَّلُهُ كَذِبٌ لَا حَاجَةَ لِي فِيهِ»”!!!. وإذا أمعنا النظر نجد أنه ـ رحمه الله ـ ما بعثه على سلوك هذا المهيع إلا إيمانهُ القويُّ بأنَّ العلم لا ينفصل عن الدّين، وأنهما شيءٌ وَاحدٌ لا فكاكَ لأحدهما من الآخر، وأن العلمَ الحقَّ هو ما أورث صاحبه الخشيةَ ومكارم الأخلاق والتأدب الباطن مع الحق والتأدب الظاهر مع الخلقِ.

ويتم ذلك ـ في نظره ـ بالجمع بين التعليم والتربية، وبين النظرية والتطبيق، بمعنى أن يُعنى القائمون على العلم بتعليم النَّشْءِ وتربيتهم على هدي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، الذي بعثه الله إلى الناس كافةً لـ«يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ»، وإلّا يفعلوا تكن فتنةٌ في الأرض وفسادٌ كبير!ومن أجل ذلك تجد للجانب التربوي حضوراً في كتبهِ، ولاسيما في كتابه هذا، إذ لم يجتزئْ ـ رحمه الله ـ بعرض القواعد النحوية فحسبُ، بل عني أيضاً بتزكية الطالب وتصفية بواطنه حتى تصفو لتلقي العلم، فهو نور لا يحلُّ إلَّا صدراً نُزِع منه الغلّ والأحقاد، وذلك ما رفع الكتابَ مكاناً علياًّ، محتوياً بين دَفّتيه أسراراً أخلاقيّة، وأبعاداً تربويّةً ساميةً، كان أبرزهَا ما يأتي:

إرساخُ التوحيد في نفوس الطلبة:

إنَّ ما يلفت نظر قارئ الكتابِ بادئَ بَدءٍ هو التّوحيد الخالص الذي بين يتضوّعُ بين حروفهِ، وكيف يحاول الشيخ ـ رحمه الله ـ بربَّانيّته غرس العقيدة الصحيحة في نُفوس الطّلّاب وسقيَهم نهلا وعللا من كؤوس المعرفة بالله، حتى لا يظمؤوا بعده أبداً، ولا يجتَرفهم جارف، ولا تعصفهم ريحٌ عاصف.إن الشيخ ـ رحمه الله ـ حرص على تقوية صلة طلبة العلم بالخالق حتى يعبدُوه مخلصين له الدين حُنفاءَ، وبنبيّهم القُدوة الأسمى ـ صلى الله عليه وسلّم ـ الذي لا يتمُّ إيمان العبد إلا بهِ،  حتى يستنُّوا بهديِه ـ صلّى الله عليه وسلَّم ـ في الأقوال والأفعال والأحوال، مُتشبثين بسنته وسنة خلفائه الراشدين المهديين من بعدهِ.

ومن ذلك قوله:

اَلْـمُبْتَدَا الاسْمُ الَّذِي عَرِيَ مِنْ =*= عَوَامِلٍ لَفْظِيَّةٍ حَيْثُ يَعِنْ

مُرْتَفِعًا كَاللهُ رَبُّنَا السَّمِيعْ=*=مُحَمَّدٌ نَبِيُّنا، وَهْوَ الشَّفِيعْ 

*   *   *

في آخِرِ الاِسمِ الَّذِي لاَ ينصرفْ=*=كَفَازَ مَنْ بحُبِّ أَحْمَدَ شُغِفْ 

 *   *   *

إِنِّي اتَخَذْتُ الْـمُصْطَفَى خَلِيلاَ=*=كَيْ لاَ أَكُونَ أَبَدًا ذَلِيلاَ 

*   *   *

كَطُفْتُ بَيْتَ اللهِ جَلَّ حَافِيَا=*=وَزُرْتُ رَوْضَةَ النَّبِيِّ مَاشِيَا 

  ويهتمُّ ـ رحمه الله ـ أيضاً بتثبيت معاني التوحيد في أفئدة الطلبة، بأن يلازموا لوازمَه من صدق وإخلاصٍ وخوفٍ ورجاءٍ ورضًى وزهدٍ وشكرٍ، وإدمان الافتقار إلى الله والتذلل له بالاستغفار والإلحاح في الدّعاء الذي هو «مخُّ العبادة»، ومن ذلك قوله:

تَقُولُ كَانَ اللهُ غَافِرًا لَنَا=*=فَلَيْسَ سَائِلٌ غَدًا يَسْأَلُنَا 

وَنَحْوُ ذَا:كَإنَّنِي أَمْسَيْتُ=*=مُسْتَغْفِرًا مِنْ أَجْلِ مَا جَنَيْتُ 

وَإَنَّنِي أَصْبَحْتُ مُحْسِنًا، كَمَا=*=أَضْحَيْتُ مَرْضِيًّا وَظِلْتُ مُكْرَمَا

 وَبِتُّ قَائِمًا لِوَجْهِ اللهِ=*=وَصِرْتُ زَاهِدًا وَذَا انْتِبَاهِ 

مَا زَالَ قَلْبِي خَائِفَ اللهِ، وَمَا=*=اِنْفَكَّ رَبِّي وَاهِبًا لِي نِعَمَا

وَمَا فَتِئْتُ دَاعِيًا، وَمَا بَرِحْ=*=رَبِّي مُجِيبَنِيَ قَدْ صِرْتُ الْفَرِحْ

وَلا أَزَالُ مُدْمِنَ الْأَوْرَادِ=*=مَا دُمْتُ مَعْدُودًا مِنَ الْعُبَّادِ

*   *   *

تَقُولُ: إِنَّ اللهَ غَافِرٌ لِيَا=*=ذَنْبِي لأَنِّي تَائِبٌ فَوْزٌ لِيَا

لَكِنَّنِي أَعْبُدُهُ كَأَنَّنِي=*=مُشَاهِدٌ رَبَّ الْوَرَى ذَا الْـمِنَنِ 

وهذا البيت الأخير عمود الأمر ورأسه وذروة سنامه، وهو إدمان المراقبة ومقام المشاهدة بأن يعبد العبدَ ربّه كأنّه يراهُ، وهو ما بينه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقوله ـ: «أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ»[متفق عليه].

رفعُ همم طلاب العلم:

من الصّفات الراقية التي كان سلفنا الصالح يتحلوّن بها علوُّ الهمّة والتعالي عن سفاسف الأمور، فكانوا حريصينَ على العلم، يظمؤُون الهواجر من أجله، ويكابدون الليل في المطالعة ومناقشة المسائل، كما كانوا يقطعون المراحل ويسافرون مسافةَ شهر في طلب حديثٍ واحدٍ(2)، وكتبُ التاريخ والتراجم والأدب شاهدةٌ على ذلك، وحافلة بالأخبار التي تدهش العقول، التي تنبئُ عن حرصهم الشديد على العلم وطول  صبرهم على تحصيله وتطلابه(3).

وقد ضمَّن الشيخ ـ رحمه الله ـ كتابه أمثلة حاول بها تصريحاً وتلويحاً تقوية عزم الطلاب وترقية همم قارئي الكتاب، والأخذ بحجزهم من الثرى إلى الثريّا، ومن أسفل سافلين إلى العلِّيّين، فندبهم إلى بذل الجهد، والتشمير عن ساعد الجدّ، ومكابدة الليالي والرّنوَّ إلى المعالي، ومن ذلك قوله:

فَإِنْ تَكُنْ ذَاتَ انْفِصَالٍ فَوَجَبْ=*=الرَّفْعُ مَعْ تَكْرَارِ لاَ عِنْدَ الْعَرَبِ

تَقُولُ: لاَ فِي هِمَّتِي مَزْحٌ وَلاَ=*=دُعَابَةُ مُذْ أَنَّنِي أَبْغِي الْعُلَى 

*    *   *

وَإِنْ تَكَرَّرَتْ مَعَ الْـمُبَاشَرَهْ=*=فَفِيهِ وَجْهَانِ رُمِ الْـمُذَاكَرَهْ  

*    *   *

كَلَمْ يَزَالاَ يَطْلُبَانِ الحِرْفَا=*=فَلاَ تَزَالاَ تَطْلُبَانِ الْحَرْفَا

وَلَـمْ يَزَالُوا يَطْلُبُونَ رُشْدَا=*=فَلاَ تَزَالُوا تَطْلُبون مَجْدَا 

  فالشيخ ـ رحمه الله ـ هنا يوصي الطلبة بإدمان تَطلاب العلم والحرص على المباحثة والمذاكرة، فذلك ـ بلا شك ـ مرقاة المجد، ومشكاة الرُّشد، كما يوصيهمْ من طرْفٍ خفيٍّ أَن يهوؤوا بأنفسهم إلى المعالي، ويترفّعوا عن الدنايا وإسرافِ الوقت في الهزل والعبث.

تربيتهم على آداب الطلب:

إن لطلب العلم آداباً على الطلبة ملازمتُها والتحلّي بها، فمن ضيعها حرم مطلوبه، إذ العلم لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كلك، فإذا أعطيته بعضك لم يعطك شيئاً.

ومن أجل ذلك كان للأدب عند الشيخ ـ رحمه الله ـ مكانة خاصة؛ فقد كان شديد الاهتمام به والحرص عليه وكثير الدعوة إليه، وذلك لعلمه بأن «الأدب باب الأرب» وإيمانه بضرورة تقديم التأدب على التعلّم، وأن العلمَ بدونه حرمان وخزيان، وداعٍ إلى التهلكة والخسران.

ومن أجل ذلك جمع في كتابه طرفاً من آداب طلب العلم، ومن الأمثلة على ذلك قوله: 

كَالطَّالِبَانِ لَنْ يُصِيبَا وَطَرَا=*=مَا لَمْ يَكُونَا يَصْبِرَانِ عَنْ فِرَى

 وَلَنْ تَنَالاَ رَشَدًا أَوْ تَفْطِمَا=*=نَفْسَيْكُمَا عَنِ اللَّغَى فَلْتَفْطِمَا

وَلَنْ تَحُوزُوا عِلْمَ أَشْيَاخِكُمُ=*=مَا لَمْ يَكُونُوا نَاصِحِينَ لَكُمُ 

  فهنا يحثُّ طالب العلم على ملازمة الجلد، والصبر على ما يصيبه من الأذى والكبد، وفطم النفس عن العوائد والشهوات، وكفِّها عن جملة الشبهات، كما يحثه على توقير مشايخه والتأدب معهم، وقبول ما يسدونه إليه من نصائح، إذ بالعمل بها يظفر بمطلبه، ويفوز بمرادِه ومأربه.

ويحثه أيضا على اختيار الصحبة الصالحة بأن يصاحب أهل التقوى والمروءة والأدب، من يزداد بمصاحبتهم همّةً وعلماً وديناً، ويفرّ ـ كفراره من المجذومِ ـ من صحبة السوء، لأنّ الطبع يُعدي، ولا تؤمَن غوائلُهم، وخلطتهم مجلبة للندامة والخسران، وفي ذلك يقول:

كَلَنْ أُخَالِلَ كَذُوبًا أَبَدًا=*=وَزُرْتُ أَخْيَارًا عُصِمْتُ مِنْ رَدَى 

*   *   *

وَهْوَ السُّمَى الَّذِي بِهِ الْفِعْلُ يَقَعْ=*=مُنْتَصِبًا كَاصْحَبْ أَدِيبًا قَدْ خَشَعْ 

تربيتهم على تقوى الله وعبادته:

لا سبيل إلى الانتفاع بالعلم بدون تقوى، ولا خير فيه ألبتة إذا لم يصْحَبْهُ عَمَل، وقديما قالوا:«الْعِلْمُ يَهْتِفُ بِالْعَمَلِ فَإِنْ أَجَابَهُ وَإِلاَّ ارْتَحَلَ»، وشُبِّهَ من لا يعمل بعلمه بالشجر بلا ثمر أو بالسحاب بلا مطر أو بالحمار الذي يحمل أسفاراً.

 من أجل ذلك يندب ـ رحمه الله ـ  المتعلّم إلى أن يأخذ الكتاب بقوّةٍ، ويدعوه بين الفينة والأخرى إلى العمل بما علم مسدِّداً ومُقارِباً؛ بأنْ يُلازم تقوى الله، ويحفد إليه بالتحنّث وصالح الأعمال، مع الحرص على الإخلاص، يقول في ذلك:

يَنْقَسِمُ الْفِعْلُ إِلَى أَفْعَالِ=*=ثَلاَثَةٍ بِقَوْلِ كُلِّ تَالِ

مَاضٍمُضَارِعٍ وَأَمْرٍ كَاتَّقِ=*=رَبَّ الْوَرَى فَقَدْ نَجَا مَنْ يَتَّقِي

  *   *   *

وَنَحْنُ إِيَّاكُنَّ يَا حُورُ نُحِبْ=*=وَأَنْتَ إِيَّاهُنَّ تَهْوَى فَاقْتَرِبْ 

*   *   *

كَالْيَوْمَ وَاللَّيْلَةَ ثُمَّ بُكْرَهْ=*=ثُمَّ غَدَاةً لاَ تَزَلْ ذَا فِكْرَهْ 

*   *   *

كَلَمْ يَفُزْ أَحَدٌ اِلاَّ مُحْسِنُ=*=بِالرَّفْعِ أَوْ بِالنَّصْبِ كُلٌّ حَسَنُ 

*   *   *

كَاللَّهُ يَرْحَمُ ويُكْرِم الْـمُطِيعْ=*=فَلَنْ أَزالَ قَافيًا نَهْجَ الشَّفِيعْ 

*   *   *

كَأُكْرِمَ الْعَابِدُ بِالْأَمَانِ=*=وَيُكْرَمُ الْخَدِيمُ بِالْإِحْسَانِ 

*   *   *

تَقُولُ مَا قَدَّمَتِ الْيَدَانِ=*=مِنَ الْـمَزِيَّاتِ يَرَاهُ الدَّانِي 

  *   *   *

كَيَا ذَوِي الطَّاعَاتِ تَغْنَمُونَا=*=لَكِنَّمَا الْعُصَاةُ يَخْسَرُونَا  

 *   *   *

وَانْصِبْ بِهَا إِذَا عَلَى مَا نُصِبَا=*=عَطَفْتَ كَازْدَدْتُ تُقًى وَأَدَبَا

وَاخْفِضْ بِهَا إِذَا عَلَى مَا خُفِضَا=*=عَطَفْتَ كَارْغَبْ فِي ثَوَابٍ وَرِضَى 

*   *   *

وَالْـمُضْمَرُ اثْنَيْنِ أَتَى وَعَشَرَهْ=*=نَحْوُ: خَرَجْتُ مِنْ جَمِيعِ الْفَجَرَهْ

نَحْنُ عَلِمْنَا وَعَلِمْتَ أَنْتَا=*=كَمَا أَطَعْتِ حِينَ خِفْتِ الْـمَقْتَا 

يَا ذَانِ قَدْ صَلَّيْتُمَا وَأَنْتُمُ=*= كَمَا أَتَيْنَ هُنَّ قَدْ أَتَيْتُمُ

وَرَكَعُوا كَمَا رَكَعْتُنَّ الضُّحَى=*=وَوَرِعَا وَصَلُحَتْ وَصَلُحَا 

  ففي هذه الأبيات يدعو ـ رحمه الله ـ طالب العلم إلى إخلاص العبادة لله تعالى والتفكر في مخلوقاته، والتزلف إليه بما استطاع من النوافل والقربات، وإقامة الصلاة في أوقاتها، وملازمة الورع، إذ لا دين لمن لا ورع له، مع الائتساء بسنة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وانتباذ البدع، لأَنَّ كلَّ بدعةٍ ضلالةٌ وكلَّ ضلالةٍ في النار. وتراه كيف يزاوج بين الترغيب والترهيب، مبينا أن من أطاع الله محسناً فاز؛ بأن يزحزَحَ عن النار ويُدخَل الجنة، ومن عصاه استجلب مقته وسخطه، ولقي الخسران المبين، والعياذ بالله.

تربيتهم على مكارم الأخلاق:

لا نُبْعِدُ النجعة إذا قلنا إن هذا الكتاب مرجع جامع في التربية ومكارم الأخلاق، ويمكن أن يعتمد كتاباً في الوعظ والإرشاد ثانياً، وترساً للسلامة من الأزمة الأخلاقية التي تصطلي بها الأمة في هذا العصر، حتى صارت ـ للأسف ـ تَتَّبِعُ سنن الغرب شبراً بشبرٍ وذراعاً بذراعٍ، وسلكت جحرَ الفساد والفسوق الذي ولج فيه الغربيّون عُبَّادُ الهوى والمادّة.ولهذا كانت أمثلته من جانبٍ محاولةً منه لصد هذه العاصفة التي تهدد الأمة، وترسَ وقاية لها من كل هامَّةٍ ولامَّةٍ، كما أنها ـ من جانبٍ آخر ـ وشيجة تربِطُ بين ماضي الأمة وحاضرها، وحفزٌ لها إلى السعي نحو مستقبل أكثر نَصاعةً وإشراقاً.

وقد تضمنت أبياته جُملًا من الفضائل ومكارم الأخلاق، كالصفح والعفو، والجود والسخاء، وغضّ الطرف عن عيوب الناس، ومحْض النصح لهم، لأنَّ «الدين النصيحة»، ومن ذلك قوله:

أَمَّا الْـمُشَبَّهُ بِهِ فنَحْوُ: يَا=*=مُطَّلِعًا عُيُوبَ غَيْرِكَ اخْشَيَا 

*   *   *

أَوْ قُلْتَ لاَ رَذِيلَةٌ فِي قَلْبِي=*=وَلاَ غَبَاوَةٌ حَمِدْتُ رَبِّي 

*   *   *

تَقُولُ: لاَ حَسَدَ فِي فُؤَادِي=*=لِأَنَّنِي أَنْصَحُ لِلْعِبَادِ 

*   *   *

تَقُولُ زَيْدٌ يُكْرِمُ الرِّجَالاَ=*=وَهِنْدُ تُعْطِي الْمُسْلِمَاتِ مَالاَ 

 *   *   *

تَقُولُ: إِنْ تَرْحَمْ وَتَعْفُ وَتَجُدْ=*=تَكُنْ مُقَدَّمًا وَقَوْمَكَ تَسُدْ 

*   *   *

وَإِنَّنِي لِلْقَوْمِ أَجْمَعِينَا=*=ذُو نُصْحَةٍ لِكَيْ أُقِيمَ الدِّينَا 

  ويوجه ـ رحمه الله ـ من باب كر الخاص بعد العامّ، أمثلة خاصة إلى المرأة المسلمة التي صارت غرضاً للأعداء اللُّدِّ، تنوشها سهامهم الطائشة صباحَ مَسَاء، وتصرخ بأعلى صوتها «وا معتصماهُ» ولا تجد مصرخاً وَلا مجيباً.

فقد دعاها إلى طلب العلم، وبيَّن أن طلبه ليس قاصراً على الذكور، كما يعتقد بعض بني جلدته، وكذلك دعاها إلى العض على الهدي الإسلامي بالنواجذ، فقال:

وَلاَ تَزَالِـي تَسْتُـرِينَ الْبَدَنَا=*=وَلاَ تُخَالِطِي الرِّجَالَ زَمَنَا 

 *   *   *

وَلَنْ تَنَالِي الدِّينَ حَتَّى تَسْتُـرِي=*=جِسْمَكِ يَا زَيْنَبُ بِالتَّخَمُّرِ

 *   *   *

كدَخَلَتْ وَخَرَجَتْ وَرَكَعَتْ=*=وَسَجَدَتْ وَكبَّـرَتْ وَسَلَّمَتْ 

*   *   *

نَحْوُ نَكَحْتُ الْمُسْلِمَاتِ الْمُؤْمِنَاتْ=*=اَلْقَانِتَاتِ الْتَّائِبَاتِ الْعَابِدَاتْ  

فهنا ترى كيف توصي المسلمة بما يحفظ لها مكانتها وكرامتها وعفافَها، وبما يُحصّنها من كيد المتربصين بها الدّوائر، ويدعوها إلى ارتداء اللباس الشرعيّ بسَتر البدن والاخْتِمارِ، وتجنّب الخلطةِ بالأجانب لما في ذلك من الفتنة والمفاسد العاجلة والآجلة، كما يوصيها بأن تسلم وجهها إلى الله مؤمنةً قانتةً تائبة عابدةً.

خاتمة

 

فهذا غيض من فيض، وبعضٌ من الأبعاد التربوية التي يتضمنها الكتاب، كما أنه يحسر الخمار عن أهمية الكتاب ومكانته، وعن الدعوة الإصلاحية التي كان الشيخ الخديم ـ رحمه الله ـ قائدها، والمنظومة التربوية التي كان رائدها، ولعل الزمان يسعفنا على دراسة الكتاب دراسةً أسدَّ وأعمق.

الهوامش

(1) منها شرحنا المسمى بـ«فتح الوهاب في شرح سعادة الطلاب».[مطبوع]

(2) ومن ذلك أن جابر بن عبد الله رحل مسيرة شهر إلى عبد الله بن أنيس في طلب حديث واحد، [انظر:مسند الإمام أحمد، 25/431]

(3) انظر: صفحات من صبر العلماء على شدائد العلم والتحصيل، للشيخ عبد الفتاح أبو غدة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق