وحدة الإحياءدراسات عامة

نظرية التعبد والتعليل في مناهج الاستثمار

اقتضت الإرادة الكونية اعتبار أمة الإسلام خير أمة أخرجت للناس؛ غايتها الشهادة على الناس ﴿ليلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل﴾؛ وأداتها المنهجية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من بعد استيعاب لمدلولهما وإدراك للقيم والمعاني المؤسسة معرفيا لهما؛ وتحديد مجالات تداولهما، ما تعلق بالأفراد، أو بالدول، أو بالشعوب؛ وتنتهي في صياغتها التدبيرية للمفهومين إلى التمييز بين مراتب المعروف الفردي والكوني، وكذلك المنكر الفردي والكوني؛ وتعد لكل منهما وسائله وشروط النهوض به وإليه؛ وزادها في تلك المعركة الحضارية، من بعد إيمان بالله عميق، نخبة عالمة نفرت لذلك أو استنفرت له. وإن الناظر في واقع المسلمين اليوم، تحقيقا للمناط بحثا عن علل الداء وكشفا لأسباب البلاء يبرز لديه بجلاء، أن مشكلة أمتنا الأولى هي مشكلة الفهم عن الله تعالى وعن رسوله الله صلى الله عليه وسلم. وإن الرشد في المنهج ليفضي بها إلى الإحسان في التلقي عن الله وعن رسوله لتكون الأمة، وهي في مقام الاقتداء والإئتساء على بصيرة من الأمر؛ فتحقق بذلك شرط الشهادة على الناس.

وإنا نريد بالفهم، في هذا السياق، معناه الأعم، وهو الفهم للمراد من العباد، ولا يتم ذلك إلا من خلال مرحلتين منهجيتين هما: منهج الاستنباط، ومنهج التنزيل. ويختلف المنهجان في المفهوم والقواعد والمجال.

وإن الاهتداء إلى التي هي أقوم في مناهج الاستمداد من الوحي مشروط باستيعاب طبيعة العلوم الإسلامية؛ وذلك من خلال الإدراك الدقيق لقضاياها العلمية، معرفية كانت أو منهجية في سياقاتها الحضارية المختلفة، والإجابات التي قدمتها للأمة في مواجهتها للتحديات الفكرية. ويمكن أن نرجع ذلك النظر إلى مستويين جامعين: أحدهما، الطبيعة المعرفية لتلك العلوم؛ وثانيهما وظيفتها المنهجية. وسندرك في النهاية أن استئناف السير الحضاري على هدى من التبشير الموعود، وأن الإقلاع العلمي المنشود، لن يتم من دون قراءة نقدية كاشفة عن ذلك كله؛ ومبتغية تصنيفا للعلوم بحسب ذلك؛ وبانية -من بعد ذلك- للنسق العلمي للعلوم المنهجية المتوسل بها لأحسن النظر في الوحي وأرشده.

وإذا كان التفسير بأجمع معانيه يمثل نظر العقل المسلم في الوحي استمدادا منه، سواء أحسن أم أساء، فإن رواده القائمين بأمره، الناصحين له ولأهله، يكاد يجمعون على اعتبار علم الأصول أهم تلك المعارف المؤهلة للنظر فيه؛ قال السكاكي في مفتاح العلوم في آخر كتاب البيان (لا أعلم في باب التفسير بعد علم الأصول أقرأ على المرء لمراد الله من كلامه، من علمي المعاني والبيان).

بل إن من المفسرين من اعتبر غياب الأصول من أهم أسباب وهن النظر التفسيري؛ ذلك ما قرره ابن جزي الغرناطي: (وأما أصول الفقه فإنها من أدوات تفسير القرآن على أن كثيرا من المفسرين لم يشتغلوا بها وإنها لنعم العون على فهم المعاني وترجيح الأقوال وما أحوج المفسر إلى معرفة النص والظاهر والمجمل والمبين والعام والخاص والمطلق والمقيد وفحوى الخطاب ولحن الخطاب ودليل الخطاب وشروط النسخ ووجوه التعارض وأسباب الخلاف وغير ذلك من علم الأصول). ولذلك اعتبر (التفسير شرح القرآن وبيان معناه والإفصاح بما يقتضيه بنصه أو إشارته أو فحواه). وهي عند النظر مصطلحات أصولية ترقى إلى مستوى المنهج الضابط لكل وجوه القول في كتاب الله تعالى استمدادا منه لمفاهيم الرشد في الأمر كله؛ والاهتداء إلى التي هي أقوم في تدبير الموجود.

وذلك لأن علم الأصول قدم نسقا منهجيا متكاملا، وظف فيه علوما ومعارفا، بين محال إعمالها، ونسب الإعمال وحدوده والقيود أو الاعتراضات. ولا يرد عليه إغراقه في التجريد؛ أو أنه أتى عليه حين من الدهر مزجه أهله بعلوم اليونان؛ أو تأثره على مر حادثات الأيام بعلم الكلام. فتلك اعتراضات تكاد تعم كل العلوم الإسلامية. ومن سلم من شيء منها أصابته غيرها. على أن بعض تلك الاعتراضات غير مسلم بها وأن دعوى إطراحها منه وتخليصه من تلك الآفات والشرور دعوى سطحية لم تدرك الإطار المعرفي لاعتبارها فيه. وأن أغلب ما انطلقت منه ما سجله بعض علماء الأصول أنفسهم من توسع بعضهم في ذلك وهم محقون في ذلك إذ فرق بين انتقاد التوسع وبين الإطراح الكلي.

وإن الإحسان في القراءة مداره على بيان المراد من كلام الله تعالى من بعد البيان النبوي؛ وتلك عملية اجتهادية أنتجت مختلف وجوه القول المصطلح عليها بعد علوما إسلامية. والنظر النقدي لتطوير تلك العلوم يمر عبر تصنفيها بحسب وظيفتها المنهجية منعا للتداخل بينها وتيسيرا لاستيعاب مضمونها وإدراكا لحدود حركة قواعدها المرتبط بتحديد مجالها. وقد آل ذلك النظر إلى تصنيف العلوم الإسلامية إلى علوم غايتها توثيق الوحي، وعلوم غايتها ضبط مسالك الاستمداد منه، وعلوم هي نتائج عملية التفهم والاستمداد.

ومن هذا المنطلق نقرر أن كل وجوه الاستمداد هي نظر اجتهادي جامع ما يؤول إليه نظران هما: اجتهاد استنباطي واجتهاد تنزيلي. وإن كلا من النظرين محكوم بقواعد علمية تضبطها مبادئ وتستند إلى أصول معرفية.

وإننا في هذه المحاولة نسعى إلى أن نعيد لعلم الأصول موقعه الاستراتيجي في العلوم والمعارف الإسلامية؛ حيث إن مركزيته بينة في كل مناهج الاستمداد، التي غاية ما تنتهي إليه هو تفسير للوحي وبيان للمراد منه في عملية الاهتداء إلى التي هي أقوم في تفسير الوجود وتدبير الموجود ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيي عن بينة.

ذلك أن الوحي خطاب مؤسس للطريق إلى الله تعالى؛ بما هو تشريع مبين على مستويات متعددة، وفي مجالات مختلفة مما وقع تصنيفه لاحقا بحسب تخصص المتخصصين إلى تشريع عقدي وعبادات ومعاملات وأخلاق وسلوكات. وقد ساق ذلك كله من خلال خطاب مباشر أو من خلال ضرب الأمثال والحديث عن الأولين ومآلات أوضاعهم حين أعرضوا أو حين استجابوا لربهم. وهو في بيانه لكل ذلك سلك أساليب متنوعة من الخبر إلى الإنشاء وأداره بين الحقيقة والمجاز أو ساقه مساق المدح أو الذم… إلى غيره من مقامات التخاطب الجاري على المعهود من اللسان العربي.

ولنورد في هذا المقام ما صاغه أبو إسحاق الشاطبي وقد قسم العلوم المضافة إلى القرآن أقساما قال: (وقسم هو المقصود الأول بالذكر وهو الذي نبه عليه العلماء وعرفوه مأخوذا من نصوص الكتاب منطوقها ومفهومها على حسب ما أداه اللسان العربي فيه وذلك أنه محتو من العلوم على ثلاثة أجناس هي المقصود الأول أحدها معرفة المتوجه إليه وهو الله المعبود سبحانه والثاني معرفة كيفية التوجه إليه والثالث معرفة مآل العبد ليخاف الله به ويرجوه)[1].

واقتضى النظر المنهجي المؤسس لذلك كله دراسة الخلاف العالي في الدرس الأصولي تعليلا لاختلاف علماء الأصول في بنائهم مناهج استثمار المعاني-المصطلح عليها أحكاما- من الخطاب الشرعي. وقد آل الجهد المقارن إلى رصد أسباب عامة وقواعد مشتركة، أمكن أن نصطلح عليها اجتهادا “نظرية التعبد والتعليل في مناهج استثمار الأحكام من الخطاب الشرعي”.

وقد شكلت تلك النظرية الإطار المعرفي الناظم لاختيارات العلماء للقضايا المعرفية المكونة للمنهج المتبع في عملية فقه الخطاب الشرعي، والاستمداد منه؛ إذ منها ينطلق في الحجاج قبولا أو ردا، وعنها يصدر في المناظرة إثباتا أو نفيا.

الإطار المعرفي للإشكال المنهجي: أركان النظرية

المأثور في الدرس الأصولي أن ذكر مصطلحي التعبد والتعليل غالبا ما يرتبط بمبدإ القياس، عموما، وما يجري فيه التعليل وما لا يجري؛ فاعتبروا الأول معللا ومعقول المعنى؛ واعتبروا الثاني تعبديا لا تدرك العقول وجه تشريعه، ولا تحيط بمعناه ومناسبته. ولقد حصر الأصوليون الغاية من ذلك كله في سياق الحجاج حول شرعية القياس ابتداء؛ حتى إذا استقر القول به على مسلك واضح، انتقل الخلاف بين القائلين به إلى التنصيص على حدوده، وعلى ما يجوز إثباته بالقياس وما لا يجوز. وحاصل ما انتهوا إليه (أن الأصل في العبادات بالنسبة إلى المكلف التعبد، دون الالتفات إلى المعاني. وأصل العادات الالتفات إلى المعاني)[2] ومدار الأمر أن حكمة التعبد العامة الانقياد لأوامر الشرع؛ وأن قصد الشارع في باب العادات إتباع المعاني ولذلك قرر أن (الشارع توسع في بيان العلل والحكم في تشريع باب العادات… وأكثر ما علل فيها بالمناسب الذي إذا عرض على العقول تلقته بالقبول)[3] وقد وقع التنصيص منهم على أن التعبد حاضر في مجاري التعليل؛ وأن التعليل واقع في اقتضاءات التعبد، وأن وقوعهما في البابين ثابت؛ وإن اختلفت النسب وتغايرت المراتب. غير أن هذا الذي استروحوا إليه واقع في هذا التصور موقع الخصوص؛ حيث لاحظنا أنه لا يعدو أن يكون إطارا معرفيا لمبدأ التعميم؛ وهو أخص مما نريده. ومن ثم فإن هذا النظر سيعمل على تعميمه ليشمل مبدأ التأويل؛ وليكون إطارا معرفيا للمبدأين معا. ونلحظ في هذا السياق أن إشكالات الفهم، قديما وحديثا، إفراطا وتفريطا، أو نأيها عن ذلك وابتغائها بين ذلك قواما واعتدالا؛ إنما مأتاه عدم إدراك هذه الخلفية المعرفية بنسبها وبحاكميتها لمناهج الاستثمار؛ فأورث غيابها رغبة أو رهبة نتائج في الفقه إن لم تحصل بها الغفلة عن السير إلى الله تعالى فهي تبطئ. وإن ما ينشده علماء الإسلام اليوم من بناء العقل المسلم على الوسطية؛ ما لم يلحظ هذا الإطار المعرفي، فإنه لن يبلغ غايته؛ بل إن مفهوم الوسطية نفسه ما لم ينطلق في تحديد معناه؛ وبناء قواعده من هذا الملحظ فإنه يظل مفهوما غامضا وغير قادر على الإقناع، وبناء البدائل الحضارية تحصينا للذات واستغناء عن الحاجة إلى الآخر.

وإن الناظر في مختلف صور اختلاف علماء الأصول في مقام استثمار الأحكام من الخطاب، يدرك أن مدار اختلافهم هو التعبد والتعليل وذلك ما نعمل على إبرازه من خلال ما نسميه في هذه الورقات بالوظيفة المنهجية لمصطلحي النص والظاهر. ذلك أن غالب ما استأثر باهتمام علماء الأصول ذكر تعريف المصطلحين، وسوق شواهد أمثالا دالة على المراد، معتبرين أنهما أوصاف للخطاب الشرعي في دلالته على المعاني، أو لبعض أنواعه واهتدى المحققون، وهم الأقلون، إلى التدقيق في وجوه الدلالة والميز فيها بين ما هو في مرتبة الظهور، أو ما هو في منزلة النص. ونريد في سياق هذه المراجعة أن ننقل العمل الأصولي من ذلك النظر الجزئي إلى إبراز كيف يمكن أن يتحول المفهوم من كونه قضية معرفية إلى أن يصير أداة منهجية مستندها المرجعي التعبد والتعليل.

مفهوم التعبد

 إن مصطلح النص يحتوي على مجموعة من المعايير العلمية التي تجعل منه منهجا لتصنيف الخطاب الشرعي؛ ومدارها على عدم الاحتمال، فما استجاب لها اعتبر في مرتبة النص، وما قصر عن توفر تلك الشروط، وأحاط به الاحتمال من الوجوه العشرة المعتبرة عد من الظواهر. ولعل ذلك ما نبه عليه ابن عقيل قائلا: (فأما النص، فهو النطق الذي انتهى إلى غاية البيان، مأخوذ من منصة العروس، وقيل ما استوى ظاهره وباطنه، وقيل ما عرف معناه من نطقه، وقيل ما لا يحتمل التأويل)[4]، ومن ذلك أيضا ما ذهب إليه الباجي بقوله: (ما رفع في بيانه إلى أبعد غاياته)[5]. وقد سجل الغزالي ما عرفه المفهوم من تطور تاريخي بقوله: (النص اسم مشترك يطلق في تعارف العلماء على ثلاثة أوجه: الأول؛ ما أطلقه الشافعي رحمه الله، فإنه سمى الظاهر نصا… الثاني؛ وهو الأشهر: ما لا يتطرق إليه احتمال أصلا لا على قرب ولا على بعد… الثالث؛ التعبير بالنص عما لا يتطرق إليه احتمال مقبول يعضده دليل، أما الاحتمال الذي لا يعضده دليل فلا يخرج اللفظ عن كونه نصا)[6].

وقد نص الشاطبي على الاحتمالات المخرجة للفظ من منزلة النص إلى مرتبة الظاهر؛ في سياق بيان انتفاء الدليل السمعي القطعي، على كون الشارع قاصدا المحافظة على القواعد الثلاث: الضرورية، والحاجية، والتحسينية في قوله: (إن التمسك بالدلائل النقلية إذا كانت متواترة موقوف على مقدمات عشر كل واحد منها ظنية، والموقوف على الظني لابد أن يكون ظنيا؛ فإنها تتوقف على نقل اللغات، وآراء النحو، وعدم الاشتراك، وعدم المجاز، وعدم النقل الشرعي أو العادي، وعدم الإضمار، وعدم التخصيص، وعدم التقييد للمطلق، وعدم الناسخ، وعدم التقديم والتأخير، وعدم المعارض العقلي)[7].

ولا نريد للجانب المنهجي أن يقف عند هذه الحدود، وإنما نبتغي أن نجد عندها ما عقدنا له العزم، وهو الإبانة عن معنى التعبد؛ فيتحول بذلك مصطلح النص إلى ضابط منهجي يميز بين المعنيين؛ بحيث إن المستند هو إمكان الاحتمال وعدمه، من زاوية أن الإرادة التشريعية ضيقت من مساحة الاجتهاد، وحسمت في تعدد الوجوه في الدلالة؛ وكأنها تميل بالمكلف إلى الوقوف عند منتهى الخطاب لا يبتغي عنه محيدا.

ومعنى التعبد في هذا المقام تغليب جانب اللفظ في استثمار المعاني، والوقوف عنده ولذلك أكد الغزالي على أن معناه مستفاد بالدلالة الوضعية في قوله في سياق بيان طرق الوقوف على المراد: (ويكون طريق فهم المراد تقدم المعرفة بوضع اللغة التي بها المخاطبة. ثم إن كان نصا لا يحتمل كفى معرفة اللغة وإن تطرق إليه احتمال فلا يعرف المراد منه حقيقة إلا بانضمام قرينة إلى اللفظ)[8]. وغالب ما استفيد منه هذا المعنى الوظيفة المنهجية لمصطلح النص؛ من حيث هو معنى مقطوع به وأن المجتهد إزاءه، إذ لا يملك إلا الاعتقاد والانقياد؛ وكأنه في مقام التعبد قبولا وامتثالا. وذلك ما استفيد مما سماه ابن عقيل بحكم النص قال: (وأما حكم النص تلقيه بالاعتقاد له، والعمل به، ولا يترك إلا بنص يعارضه)[9] واقتضى منه الشرع الوقوف عند المعنى المتلقى من اللفظ. ومثال ما يقوي هذا الاختيار ما ساقه الأصوليون في باب التأويل نموذجا؛ ومن ذلك قول الغزالي في بيان سبب اختلاف أبي حنيفة والشافعي في تحديد المراد من لفظ الشاة (فهذا كله في محل الاجتهاد إنما تشمئز عنه طباع من لم يأنس بتوسع العرب في الكلام وظن اللفظ نصا في كل ما يسبق إلى الفهم؛ فليس يبطل الشافعي رحمه الله هذا لانتفاء الاحتمال، لكن لقصور الدليل الذي يعضده ولإمكان كون التعبد مقصودا مع سد الخلة)[10].

ومما يجري فيه مصطلح النص وفق اختيار هذه الورقات قضايا معرفية منتزعة مما جرى نظمه أمثالا لدلالة المنطوق والمفهوم الموافق ترجيحا وتغليبا. فنورد له من كلام الغزالي شاهدا قوله: (واعلم أن المركب من الاسم والفعل والحرف تركيبا مفيدا ينقسم إلى مستقل بالإفادة من كل وجه، وإلى ما لا يستقل بالإفادة إلا بقرينة، وإلى ما يستقل بالإفادة من وجه دون وجه. مثال الأول قوله تعالى: ﴿ولا تقربوا الزنا﴾ و﴿لا تقتلوا أنفسكم﴾؛ وذلك يسمى نصا لظهوره، والنص ضربان: ضرب هو نص بلفظه ومنظومه كما ذكرناه وضرب هو نص بفحواه ومفهومه نحو قوله تعالى: ﴿ولا تقل لهما أف﴾[11].

ونلحق به أيضا دلالة الاقتضاء على ما نبديه من دلائل مستقرها صنيع الأصوليين ومدارها على أنه نوع من المنطوق، وإن وصفوه أنه غير صريح قال الغزالي مبينا وجه دلالته في سياق نفي الإجمال عن قوله تعالى: ﴿حرمت عليكم أمهاتكم﴾ (ومن أنس بتعارف أهل اللغة واطلع على عرفهم علم أنهم لا يستريبون في أن من قال حرمت عليك الطعام والشراب أنه يريد الأكل دون النظر والمس… وهذا صريح عندهم مقطوع به، كيف يكون مجملا والصريح تارة يكون بعرف الاستعمال وتارة بالوضع وكل ذلك واحد في نفي الإجمال)[12]. ولا يرد عليه أن التعبد واقع في الظاهر أيضا؛ إذ هو معنى صحيح في ذاته، ولا يخرم ما حاولنا تأصيله. وبيانه، من جهة أن التعبد في مقام النص هو أصرح منه في مقام الظاهر؛ وأن التعليل أكثر اعتبارا في مدلول الظاهر من النص؛ وإن كان النص يجري فيه التعليل ويقع به؛ ولكن ليس بمعناه الدلالي والاحتمالي، وإنما بمعنى آخر؛ وهو متلقى من الوضع، وضع اللفظ للتعليل؛ حيث يكون اللفظ نصا في التعليل، وهو إذ ذاك يرقى إلى التعبد.

ولعل ذلك ما جعل النظام، والقاساني، والنهرواني يقولون بالقياس في المواطن التي ورد من الشرع التنصيص على العلة[13].

مفهوم التعليل

ومعنى التعليل في هذا الاقتضاء جار على وزان المعنى المشهور في الدرس الأصولي؛ ونضيف إليه ما استفيد أيضا من الوظيفة المنهجية لمصطلح الظاهر، من حيث هو لفظ ظني في دلالته يجري فيه الاحتمال. وهو مدخل ضروري لعملية تعقل المعاني من الخطاب؛ حيث يبدأ الحوار العلمي عن المراد أهو المعنى الظاهر، أم يجوز أن يكون المراد في المعنى المؤول. وتلك عملية لا يستقر لها قرار إلا على مبدإ التعليل. ومما يتلقى منه هذا المفهوم عوارض الألفاظ (الأمر والنهي، والعموم) وهي من المنطوق حين تعتبر ظاهرا على هذا الاختيار.

وشواهده ما انتهى إليه الباجي في تصوره لدلالة الكتاب على المعاني والأحكام قال وقد قسم الكتاب إلى حقيقة ومجاز واعتبر أن الحقيقة تنقسم إلى مفصل ومجمل (ثم المفصل ينقسم إلى قسمين غير محتمل ومحتمل، وأما المحتمل فعلى ضربين ظاهر وعام)؛ ومثل للظاهر بالأوامر والنواهي[14]. وأما العام فيجري على الظاهر على المشهور من عمل الأصوليين.

ونلحق بها في هذا التصور دلالة المفهوم المخالف حيث يقتضي اعتبار الظاهر نطقا ثبوت الحكم في محل النطق، ونفيه عن المسكوت عنه تعليلا بالحكمة من التعليق على الوصف أو الشرط أو الغاية… أو غيرها. قال أبو المعالي: (ومنها تلقي المفهوم من التخصيص على الشرط… والاستمساك به تعلق بالظاهر وتركه في حكم التأويل)[15].

وهذا التفريق إنما اقتضاه المنهج؛ وإلا فهما متداخلان. ونقرر هنا أننا نشتغل على مستوى تحليل الخطاب متوسلين بما تم رصفه من قواعد موئلها فطرة اللسان العربي. ولا يعترض عليه بقواعد التعميم إذ يستبد الظن بالدارسين؛ أنها متلقاة من النظر العقلي والتقدير المصلحي. والواقع أن هذا الاعتراض لا ينهض عند التدقيق في الوظيفة المنهجية لتلك القواعد. إذ يمكن أن نميز بين عمليتين منهجيتين متداخلتين: أولاهما عبارة عن بناء للقواعد العامة للشريعة؛ وتلك عملية لها قواعدها وضوابطها. وثانيهما بتحقيق للمناط تقديرا وتقريبا، وفي هذا المقام يدخل النظر المصلحي والتقدير العقلي.

وبذلك نثبت أن الخلاف في القواعد الأصولية، والوفاق فيها، مداره على هذين المصطلحين إعمالا وإهمالا؛ سواء تعلق الأمر بالقواعد المتعلقة بتدبير وجوه النظر الاجتهادي في الاستمداد؛ وهو ما جرى التعبير عنها بالقضايا المنصوص عليها؛ أو تعلق الأمر بالقواعد الضابطة لوجوه النظر الاجتهادي في القضايا التي لا نص فيها؛ إما ابتداء، وإما في محال دون أخرى.

المبادئ والقواعد

وجامع ما تؤول إليه تلك القواعد، على اختلاف أنواعها وتغاير مجالاتها، مبدءان هما: مبدأ التأويل، ومبدأ التعميم. وإليهما، في هذا التصور، ترجع كل أنواع الاستمداد.

أما مبدأ التأويل فباعتباره مفهوما منهجيا غايته ضبط عملية الاستثمار من خلال القواعد الدلالية الكلية (وجوه دلالة الألفاظ: المنطوق والمفهوم والاقتضاء) أو من خلال القواعد الفرعية (الأمر والنهي والعام والخاص) باختلاف صيغ ورودها.

ذلك أن كل المعاني التي جرى استمدادها؛ على امتداد تاريخ الاستمداد؛ إنما مردها طوعا أوكرها إلى مفهوم التأويل. وإن كل أشكال القول في كتاب الله عز وجل إنما كانت من باب التأويل أصابت أو أخطأت، وإن ترشيد الاستمداد منه إنما سبيله إحكام أدوات التأويل وبناء قواعده على نحو يظهر نسقية المنهج.

وأما مبدأ التعميم فهو أيضا مفهوم منهجي أيضا غايته ضبط عملية الاستمداد حيث لا نص أخذا من الأصل المبثوث عندهم المسوغ بقول الشاطبي: (الشريعة بحسب المكلفين كلية عامة؛ بمعنى أنه لا يختص بالخطاب بحكم من أحكامها الطلبية بعض دون بعض، ولا يحاشى من الدخول تحت أحكامها مكل البتة)[16].

وهذا العموم في الأشخاص يوازيه عموم الأزمان وقد نبه إليه الغزالي بقوله (بل عرف الصحابة عموم الحكم الثابت في عصره للأعصار كلها بقرائن كثيرة)[17].

ومن قبلهما قرر الجويني (الرأي المبثوث المقطوع به عندنا: أنه لا تخلو واقعة عن حكم الله تعالى، متلقى من قاعدة الشرع، والأصل الذي يسترسل على جميع الوقائع القياس، وما يتعلق به من وجوه النظر والاستدلال)[18].

وإذا اطرد عند الأصوليين أن الشريعة تعم زمانا ومكانا وإنسانا؛ فإن طريق العموم القياس. ولذلك اعتبره الشاطبي المستند المعرفي للقول بحجيته قال: (وهذا الأصل يتضمن فوائد عظيمة: منها أنه يعطي قوة عظيمة في إثبات القياس على منكريه، من جهة أن الخطاب الخاص ببعض الناس والحكم الخاص كان واقعا في زمن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كثيرا ولم يؤت فيها بدليل عام يعم أمثالها من الوقائع. فلا يصح مع العلم بأن الشريعة موضوعة على العموم والإطلاق، إلا أن يكون الخصوص الواقع غير مراد؛ وليس في القضية لفظ يستند إليه في إلحاق غير المذكور بالمذكور، فأرشدنا ذلك إلى أنه لابد في كل واقعة وقعت إذ ذاك أن يلحق بها ما في معناها؛ وهو معنى القياس)[19].

ولم يكن القصد التنصيص على هذا القدر من المعنى؛ فهو معلوم أو كالمعلوم على اعتبار من خالف فيه؛ وإنما كان المقصود أن نجاوز هذا النظر إلى ما وراءه وهو تصنيف القياس. إذ المشهور في الدرس الأصولي أنه عادة ما يعتبر في الأدلة المتفق عليها، ويرتب من بعد الكتاب والسنة والإجماع، ويذكرون فيه خلاف من لا يعتد به. والمنطلق في هذه المراجعة أن معيار التصنيف هو التوظيف؛ وذلك ابتغاء بناء نسق العلم، ومقتضاه أن تثبت قضاياه المعرفية على وجه ينتفي عنها التعارض ويزول عنها التناقض ويتوفر لها شرط الكفاية التفسيرية. وبحسب الوظيفة التي تسند للمفهوم في النسق العام للعلم يأخذ المفهوم موقعه في العلم.

والناظر في تاريخ مفهوم القياس يدرك أنه يمكن أن يلحق بالقضايا المعرفية المكونة لمنهج الاستثمار؛ فينتقل من كونه دليلا من أدلة الأحكام ومدركا من مداركها، إلى أن يعتبر وجها من وجوه الدلالة، ومسلكا منهجيا من مسالكها؛ يتوسل به إلى تعميم أحكام الشريعة على الوقائع والمستجدات. ولعل في عمل أبي الحسين البصري ما يؤكد هذا المنزع ويدعمه. قال وقد عقد بابا لما يفيد العموم من جهة المعنى دون اللفظ: (أما الذي يفيد العموم من جهة المعنى، فهو أن يدل على العموم دليل يقترن باللفظ. وذلك ضروب: فمنها أن يكون اللفظ مبدأ للحكم ومبدأ لعلته، فيقتضي شياع الحكم في كل ما شاعت فيه العلة)[20].

وجعل من هذا المسلك الدلالي ضربين: (أحدهما؛ تعليل من جهة الأولى، كفحوى القول… والآخر؛ تعليل لا من جهة الأولى. والدال على ذلك ضروب كثيرة نذكرها في باب القياس إن شاء الله تعالى)[21].

كان بينا أن التنظير الأصولي للقياس مرتبط بالوظيفة المنهجية التي يضطلع بها؛ وإن اقتضاه إرجاء دراسة قضاياه إثباتا ونفيا إلى محله لاعتبارات منهجية فنية. ولم يكن البصري غريبا في هذا الاقتراح؛ بل وجدنا الشيرازي يقدم تصورا جديدا نظم فيه الأدلة نظما فريدا حين قسمها ثلاثة أضرب في قوله: (وأدلة الشرع ثلاثة: أصل، ومعقول أصل، واستصحاب حال) وأدرج في الأصل الكتاب والسنة والإجماع؛ وأدرج في معقول الأصل: فحوى الخطاب، ودليل الخطاب، ومعنى الخطاب. وقد عرف معنى الخطاب بقوله: (وأما معنى الخطاب فهو القياس)[22].

وقد ورث هذا التصور من بعده تلميذه الباجي إذ انتحى هذا المسلك في كل كتبه الأصولية، قال مبينا اختياره في مفهوم الدليل (الأدلة على ثلاثة أضرب: أصل، ومعقول أصل، واستصحاب حال؛ فأما الأصل فهو الكتاب والسنة والإجماع. وأما معقول الأصل فعلى أربعة أقسام: لحن الخطاب وفحوى الخطاب والحصر ومعنى الخطاب). وفسر مراده بمعنى الخطاب بقوله: (والقسم الرابع معنى الخطاب، وهو القياس)[23].

ومن الذين ارتضوا اعتبار القياس وجها دلاليا ابن عقيل، ذلك قوله: (فالأول من الأصول، وهي الأدلة التي انبنت عليها أحكام الفقه هو الكتاب، ودلالته ستة أقسام. ثلاثة من طريق النطق، وثلاثة من جهة المعقول، فالتي من جهة النطق نص، وظاهر، وعموم؛ والمعقول: فحوى الخطاب، ودليل الخطاب، ومعنى الخطاب)[24]. وقال معرفا له (وأما معنى الخطاب، فهو القياس)[25].

وقد بلغ هذا النظر منتهاه مع أبي حامد الغزالي حين منع من اعتباره دليلا إذ لم يصنفه في الأدلة الموهومة فضلا عن الأدلة المعتبرة. وأبى إلا أن يدرجه ضمن وجوه الدلالة. قال مبينا ما ارتضاه: (وطرق الاستثمار هي وجوه دلالة الأدلة وهي أربعة، إذ الأقوال إما أن تدل على الشيء بصيغتها ومنظومها، أو بفحواها ومفهومها وباقتضائها وضرورتها، أو بمعقولها ومعناها المستنبط منها)[26] وفسر مراده بالمعقول قائلا: (وأما الدلالة من حيث معقول اللفظ فهو كقوله صلى الله عليه وسلم: “لا يقضي القاضي وهو غضبان” فإنه يدل على الجائع والمريض والحاقن بمعقول معناه، ومنه ينشأ القياس)[27].

وقد أشار ابن رشد الحفيد في قوله: (واللفظ ينقسم إلى ما يدل على الحكم بصيغته، وإلى ما يدل بمفهومه ومعقوله)[28].

ومن الذين جاؤوا من بعدهم وكانت لهم إشارات إلى هذا الإمكان الشريف التلمساني عندما أجاز أن يكون العموم في اللفظ (إما من جهة اللغة، أو من جهة العرف أومن جهة العقل) وقصد بالعموم العقلي بالقياس[29].

ومما يرد على هذا التصور على وجه الإشكال ما ألحقه الجويني بالقياس من وجوه الاستدلال حين قال: (والأصل الذي يسترسل على جميع الوقائع القياس، ويتعلق به من وجوه النظر والاستدلال)[30]. وقد أدرج فيه النظر المصلحي؛ وأصرح من هذا ما قرره الشاطبي عند إبانته مكونات الضرب الثاني من أنواع الدليل في قوله: (ويلحق بالضرب الثاني، القياس والاستدلال، الاستحسان والمصالح المرسلة)[31] وهذا النظر الاجتهادي يمكن تجاوزه من خلال ما ورد عنه من إمكان الاستغناء عن القياس بالاستقراء الباني لقواعد الشريعة العامة. وبذلك نرجع القياس وما ألحق به من صور الدليل إلى العمومات المعنوية للشريعة وذلك قوله: (وقد ترجع إلى الضرب الأول، الدليل النقلي، إن شهدنا أنها راجعة إلى العمومات المعنوية)[32].

وجامع ما تؤول إليه القاعد القاضية بالتعميم ثلاثة أنواع:

– قواعد التعميم اللغوي، على أي وجه قيل بها، أعني من جهة الوضع، أو من جهة الاستعمال، الشرعي، أو العرفي. ولا يرد عليه أنه نوع من الاستنباط الجاري تحت التأويل بقيوده وقواعده؛ إذ العموم في هذا المقام عملية في التفهم قد حصلت هنالك؛ على أن العموم مقصود للشرع، وأيضا فإن العموم إجراء اللفظ على أصله؛ فهو بذلك خارج عن التأويل محلا ومنهجا. والأصل هنا إما وضعا، وإما قصدا شرعيا، وإما عرفا لغويا.

– قواعد التعميم العقلي، وأقصد به ما يحصل من طريق التعليل الجزئي. ومسالكه النطق وهو على درجات؛ والاستنباط وهو على أنواع.

– قواعد التعميم المعنوي، وهي المعاني الكلية المستفادة بالاستقراء من بعد المرحلة الأولى القائمة على مبدأ التأويل نظريا والقواعد المستندة إليه عمليا. ويمكن أن نوسع النظر إلى ما أثاره الشاطبي في ما صنفه معرفيا تحت مسمى “محال الاجتهاد”.

والجامع بين هذه الوجوه من النظر الاجتهادي أنها تنطلق من معاني مقررة، وإن اختلفت جهات تقريرها، وتتجه إلى الوقائع لتلحقها بالأحكام المحصلة قبل؛ مع اختلاف بينها في طرائق الإلحاق ومناهجه؛ سواء ما تعلق بالقواعد أو بشروط القائمين به.

والحرص على التمايز بينهما، منعا للاضطراب، اقتضى اعتبار ما يتعلق بالنظر في الخطاب مجردا عن النظر في القيود المتلقاة من خطاب الوضع، هو المعمود المقصود في عملية الاستمداد بما هو قراءة في الوحي. تلك القراءة التي تنطلق من التعبد والتعليل إطارا معرفيا؛ وتجري وفق مبدأي التأويل والتعميم مضبوطة بقواعدهما؛ ومن ثم فكل قراءة لم تستند إلى ذلك؛ فإنها تدخل في التأويل المذموم، أو الجمود على ظواهر الألفاظ المردود بشهادة خير القرون.

الهوامش

  1. الموافقات، 3/380.
  2. نفسه، 2/301.
  3. نفسه، 2/306.
  4. الواضح، 2/8.
  5. المنهاج، 12.
  6. المستصفى،
  7. الموافقات، 2/50.
  8. المستصفى،
  9. الواضح، 2/9.
  10. المستصفى،
  11. نفسه،
  12. نفسه، 187.
  13. المستصفى، 301 – 302، البرهان، 2/774.
  14. إحكام الفصول، 190.
  15. البرهان، 1/418.
  16. الموافقات، 2/244.
  17. المستصفى، 242.
  18. البرهان، 2/743.
  19. الموافقات، 2/274.
  20. المعتمد، 1/208.
  21. نفسه، 1/208.
  22. المعونة، 139.
  23. إحكام الفصول، 528.
  24. الواضح، 1/33.
  25. نفسه، 1/37.
  26. المستصفى، 7.
  27. نفسه، 9.
  28. الضروري، 101.
  29. مفتاح الوصول، 82.
  30. البرهان، 2/743.
  31. الموافقات، 3/41.
  32. نفسه، 3/41.
الوسوم

د. حميد الوافي

 أستاذ التعليم العالي، كلية الآداب/مكناس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق